محمد بلو بن عثمان بن فودي
إنفاق الميسور
في تأريخ بلاد التكرورعونك يا الله
وصلا الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.قال الفقير إلى مولاه الغني محمد بلو بن عثمان بن فودي. تغمدهم الله برحمته آمين:
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس لعبادته، وشكر نعمه وأياديه وآلائه، وهو المنعم الشكور، وفتق من حكمته السموات السبع ومد الأرض ليدبر الأمر "ألا إلى الله تصير الأمور" [الشورى 53] وملأ أركان العالم بدائع حكمته مدى الأيام والدهور "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير" [الملك 1] وبعث الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى الخلق، بالزبر والكتاب المنير، ليعلموهم شرائع الديانات ويخرجوهم من الظلمات إلى النور. وخص سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بفضائل لا تعد ولا تحصى "يؤفك عنه من أفك" [الذاريات 9] وهدى إلى سبله من سلك في جميع الأقاليم وجزائر البحور.
صلى الله عليه وسلم، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين الأنصار والصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان مدى الأعصار والدهور.
أما بعد، فلما من الله علينا في هذا الزمان بظهور هذا الإمام الخليفة، مجدد هذا الدين للبرية، محيي سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ناشر العلوم، وكاشف الغموم، والدي عثمان بن محمد العالم الرباني، والغوث الصمداني، قطب الزمان، وحجة الأوان، وعلامة الدنيا، وطالق المرتبة العليا، ينبوع المعارف، ودوحة القواطف واللطائف-فالعلماء من بحر علومه يغترفون، والحكماء من مشكاة نوره يقتبسون، والأولياء بكعبة سره طائفون، والعارفون على عرفات حضرته وافقون، إلى مثله تشد الرحال، وبمثله تضرب الأمثال، وفي وصفه تفني الآجال، وعن بابه تقضي الآمان، أطال الله حياته، وجعل العقبة خيراً، وأنعم المولى علينا بالجهاد ببركاته في هذه البلاد، وأمدنا بجنوده، وأيدنا بنصره، حتى شاهدنا من سلطان قهره، وشديد انتقامه لأعدائه، وانتصاره لأوليائه، عجائب وغرائب وكرامات لأوليائه وأصفيائه، مما يزيد المؤمنين إيماناً، ويكسب الكافرين ذلاً وخيبة خسراناً-بقيت النفس تتشوف إلى تأريخ ما وقع في هذا الزمان من الخير، خصوصاً مع إضافة ما وقع قبل في هذا القطر من العجائب والغرائب، وأخبار الملوك والعلماء، وما ينخرط في ذلك من ذكر النوادر في هذا القطر، مما يستعذبه الفهم والعقل، وتستلذ عند سماعه الأسماع في النقل. فجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، علماً مني بأنه لم يستصبح أحد قبلي في هذا الظلام. فأقتبس من سراجه في هذا المرام، مع ما أنا بصدده من الأشغال وضيق الزمان، مع تحمل الأثقال.
ثم بدا لي بعد الاستخارة أن أرمي في هذا المرمى بسهم، لعل الله ينفعني به ومن وقف عليه من المسلمين. أعانني الله على تحريره وتهذيبه وترتيبه، ووفقني لإكماه، إنه خير معين.
وسميته "إنفاق الميسور، في تأريخ بلاد التكرور"
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل الأول
في تحقيق اسم "التكرور"واعلم أن هذا الاسم الذي هو التكرور، علم على الإقليم الغربي من الجنوب السوداني، على ما فهمنا من تعبيرهم في التواريخ والنقول. وهذا الاسم شائع في الحرمين ومصر والحبشة، ومندرس في محله، حتى لا يعرفه أهل هذه البلاد أصلاً، وإنما يتلقونه من الحجاج الذين سموه بالحرمين ومصر.
ورأيت لمجد الدين الفيروزبادي في القاموس أنه بلد بالغرب، ورأينا لبعضهم أنه عبر عن كنو وكاشنا وما والاهما ببلاد السودان، وعبر عن تنكيت وما والاها ببلاد التكرور. والله أعلم.
وقال ابن خلدون في التأريخ الكبير له حيث تكلم في أخبار ملوك السودان المجاورين للمغرب: شعوب السودان تاجرنت، ويليهم الكانم، ويليهم من غربيهم كوكو، وبعدهم التكرور.
ولكن القصد تأريخ هذا القطر كله، من بلد فور إلى بلد فوت وما وراءها، وما والاها، كما مر، بحسب المكنة، إذ قدمنا أن تسجيل التواريخ في هذه البلاد مهجور [=مجهول] أصلاً.
هذا وقد قال الحسن اليوسي في المحاضرات: كان شيخ مشايخنا أبو عبد الله محمد بن العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، من دأبه أنه متى لقي إنساناً يسأله: من أي بلد هو؟ فإذا أخبره قال: من عندكم من أهل العلم والصلاح؟ فإذا أخبره بشء من ذلك سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمسانيد ضعيف جدً في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاتعناء بالدراية دون الرواية. وفيما سوى ذلك لا همة لهم.
وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه "مرآة المحاسن" أنه كم في المغرب من فاضل قد مات وضاع، من قلة اعتنائهم بالتأريخ! وهو كذلك.
وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله بن ناصر، رحمه الله ورضي عنه، يوماً عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه. فقال لي: أنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني في ذلك، قال: وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم بمثل هذا، حتى أني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عنه عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الواقع فيه ذلك. إلخ.
وهذا حيث العلم والدين والعقل.
فأي شيء نقول ونحن في طرف العمارة، وفي بلاج السودان التي غلب على أهلها العجمة، وظلمات الجهل والهوى والكفر! كما قال المغيلي: والغالب على أهل تلك البلاد الجهل والهوى والكفر، وأصلهم كان ذلك. إلخ.
لكن نأخذ ما سنح وما ورد علينا من الأخبار حسب ما تيسر، وندع ما تعسر.
الفصل الثاني
في تحديد بلاد "التكرور"وأول هذه البلاد من جهة المشرق، على تعبيرهم، بلد فور، ويليه من جهة المغرب بلد وداي وبلد باغرم:
فأما بلد فور فبلد واسع ذو أشجار وأنهار ومزارع، قوت أهله الدخن والذرة والدجر، وفيه رعاة كثيرون، ويعمره عجم متعربون، وعرب متعجمون، وقد فشا فيه الإسلام كثيراً، وأكثر أهل هذا القطر حجاج، وزعموا أنهم يكرمون الحجاج، ولا يتعرضون للطريق.
ويقرب من هذا الوصف أهل وداي وباغرم، ولكن خربت باغرم، وسبب خرابها-على ما معموا-أن سلطانها أكثر من الفسق إكثاراً فظيعاً، حتى تزوج بابنته من صلبه! فسلط الله عليه أمير وداي صابور، فخرب دياره وقتله "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" [النمل 52].
وأما ما حاذا هذه البلاد من جهة الشمال، فقفار ورمال معاطيش لا يعمرها إلا الرعاة في فصل الربيع من البرابرة والعرب المذكورين.
وأما ما والاها من جهة الجنوب، فبلاد كثيرة يعمرها أجلاف السودان على اختلاف ألسنتهم، لم ينتشر فيها الإسلام كثيراً ، ولم يتفق لي من أخبار هذه البلاد، ونوادر الأمور وأخبار ملوكها وعلمائها ورجالها-ما يحق لنا ذكره وإيراده على ما شرطنا قبل.
الفصل الثالث
في تراجم بعض علماء "باغرم"من شيوخ باغرم العالم العلامة سليمان، وابنه النجيب، أعجوبة الزمان، وطريفة الأوان، العالم العلامة، الزاهد الورع الفهامة، محمد الوالي، لطف الله بهما. وزعموا أن الشيخ سليمان ذهب من بلدنا هذا إلى أهل باغرم، واستوطنها، وهو من قبيلتنا هذه.
وقد ألف ولده النجيب محمد الوالي تآليف تدل على وفور علمه، وكثرة إحاطته وتضلعه بالعلوم، منها: المنهل في علم التوحيد، ومنها نظمهه على النقاية [للسيوطي]، ومنها قصائد وأشعار.
وكان قراء هذه البلاد وما قرب منها معتنين بعلم الأوفاق والحروف وعلم النجوم، مستغرقين في طلبها، حريصين على ذلك، حتى هجروا علم الكتاب والسنة والشريعة أصلاً، رغبة في الدنيا، فقال الشيخ فيهم:
من عذيري من أناس نجموا أفسدوا الدين وأبدوا كل ضر تركوا علم الكتاب المنزل وحديث جا به هادي البشر وعلوم الشرع والفقه التي تنفع المرء وتحميه الخطر صرفوا اللهم إلى مكسبهم لحطام زائل لا يستقر آثروا الدنيا على أخراهم لم يبالوا ما يؤديهم لضر وعلى وفق ورووه حيلة لاكتساب المال والجاه المضر جعلوه وصلة تدنيهم لبني الدنيا وآبوا بضرر لقبوه علم سر كذبوا ماله والسر لكن علم شر إنما السر علوم بثها أولياء الله أصحاب النظر سلهم هل يعرفون حكمها قد تعاظوه لدي أهل البصر ولعمري هو دهليز الردى ولكفر قد يؤدي في العبر ما ترى فيمن تقضي عمره لارتصاد في شميس وقمر؟ يرتجي السؤل ودفع الضير من هذه الأشيا لبئس المنتظر يا عباد الله يأهل التقى أبغضوهم واهجروهم بالهجر أفسدوا الدين وأطفوا نوره هم عداة الدين في هذا العصر صل يا رب وسلم دائماً للنبي المصطفى هادي البشر وأخذ الشيخ عن الشيخ البكري:
وممن استوطنها قبل هذين الشيخين الشيخ ولولو. وزعموا أنه استوطن كُلُنبَرد-بضم الكاف واللام وفتح الباء المدغم فيها النون وتسكين الراء-من ناحية برن يو منجهة الشكال، هو والشيخ الولي ابن الجرمي التاركي، وجعلا يجيئان الطريق، ويقرران للناس الحق، فتراسل الناس إلى الاقتداء بهما، حتى تاب على أيديهما بعض عمال أمير برنو أمير عمر، فسعى بهما إلى السلطان سي عمر فاستحضرهما في ناديه، وسألهما عن شأنهما، فأخبره الولي ابن الجرمي، فقال: إنا ما أردنا أن نشتتت لك الرعية، وإنما نرشد الناس إلى الطريق، فقتله! فجرى دمه على كلمة الشهادة. وسرح الشيخ ولوند، فهرب إلى باغرم واستوطنها، حتى توفي بها.
وزعموا أنه ولد بطريق الحج، ذهبت أمه وهي حبلى، فضلت عن الرفقة حتى عطشت، فولدته، فماتت عطشاً! وبقي ثلاثة أيام، حتى مرت به رفقة أخرى، فحملوه إلى بلادهم حتى شب، فتعلم القرآن، ثم رحل في طلب العلم إلى أكدز، وإلى تنبكتو. ثم رجع إلى محله، حتى كان من أمره ما كان.
وتوفي هذا الشيخ بعد كمال الألف بقليل. والله أعلم.
وزعموا أنه قال لجماعته: قد أظلكم زمان ولي من أولياء الله، يظهر في هذه البلاد، يجدد الدين، ويحيي السنة، ويقيم الملة، فمن أدركه فليتبعه، فعلامته أنه يجاهد أولاً باللسان، حتى يتبعه أكثر الموقنين، ثم يجاهد بالسنان، ويملك هذه البلاد، وليخرجن أمير برنوا من داره، كما أخرجنا من ديارنا، ويملكها.
إن كانورين كانوا أهل قهر واعتلاء فالأراجيف لديهم كأراجيز الثناء والأساطير إليهم ذو أساطين البناء والأكاذيب إليهم من أكاذيب الجناء والأساطير أراجيز بساتي الغناء يا بني كانور هذا من فنون الأزدراء الفصل الخامس
في ترجمة الشيخ البكريمن علماء هذا البلد الإمام العالم العلامة المتفنن الفهامة شيخ الشيوم ذو الفهم والرسوخ، الشيخ البكري، أخذ العربية والبلاغة في جاندوت، وصدر منها عالماً متفنناً، ثم رحل لبلاده، ولقي الشيخ النجيب التكداوي الأنصمني، وتتلمذ له حتى صدر منه عالماً متفنناً فرجع لبلاده، وتصدر للتدريس، وأقام بها حتى توفي.
ومنهم العالم العلامة الفقيه الفهامة أبو بكر الباركوم، المعريف بابن آجروم، أخذ عن الشيخ البكري، له تآليف تدل على وفور علمه، منها: العقيدة المعروفة بشرب الزلال.
ومنهم العالم العلامة الفقيه الفهامة أبو بكر الباركوم، المعروف الشيخ الطاهر بن إبراهيم الفلاتي، كان نسيج وحده، عالماً بالمنقول والمعقول، صالحاً تقياً بارعاً والحاصل أنه بلغ مبلغ الرجال.
نشأ بموضع يقال له "ذات البقر" بارعاً وأخذ العلم عن الشيخ البكري، ثم رجع لموضعه، وتصدر للتدريس، ثم حمله السلطان إلى حصن برنو، وأسكنه فيها، وابنتى له داراً، وولاه خطة [=خطبة]. له تآليف وأشعار: منها نظمه على الكبرى وشرحه، ونظمه على الحكم، ونظمه الدرر اللوامع، ومنار الجامع، فيعل التصريف.
كان رحمه الله كثير الحساد في ذلك البلد، فقي من جفاء أهل البلد وجفاء السلطان أمراً فظيعا، لإظهاره النصح لهم، مع أن الظالمين لا يحبون الناصحين لهم. وأتى يوماً باب السلطان يريد الدخول عليه، فأمر السلطان البوال أن يصده ويمنعه من الدخول، فأغلق عليه البواب الباب وكر راجعاً، وأنشأ يقول:
أتركت بابا لا يحد مسافة وأأتيت بابا سده البواب باب يقول: فلا تلج، وتول من بخل وكل ضم هذا الباب وله قصيدة في النصح للسلطان من سماع أقوال الوضاة والسعاية، وقد مر منها أبيات.
وكان رحمه الله ممن يبشر بظهور هذا الإمام الخليفة، مجدد هذا الذين في رأس هذا القرن للبرية، والذي روي عنه الثقاة بسنده إلى اشيخ ولوند أنه قال: قد أظلكم زمان ولي من أولياء الله يظهر في هذه البلاد، يجدد الذين للبرية، ويفشي العلم، وينصر السنة.
ومنهم غير هؤلاء، ضاعت آثارهم لما قدمنا من عدم تسجيل التواريخ في هذه البلاد.
الفصل السادس
في بلاد أهير وسكانها، وبعض علمائهاويلي هذا البلد من جهة الشمال بلدة أهير، وهي بلا واسعة، وقيعان ممتدة يعمرها التوارك، وبقايا صنهاجة، وبقايا السودان.
وكان هذا الإقليم قبل في يد السودانيين، من أهل غوبر-بضم الغين وكسر الباء-فاستولى عليها التوارك: قبائل خمسة وافوا من الأوجل، يقال لهم: أمكيتا، وتمكك، وسندار، وأكدالا وأجدارنين. فتغلبوا على البلد ومكثوا فيها، ثم اتفق رأيهم في تأمير الأمير عليهم، ليقيم لهم أمرهم، ويرد قويهم عن ضعيفهم، فأمروا رجلاً من أهل أستفي، ثم تنازعوا بعد ذلك وعزلوه، ثم طلبوا آخر، ولم يزالوا هكذا: كلما لم يوافقوهم أميرهم عزلوه.
وكان هؤلاء التوارك من بقايا البربر الذين انتشروا أيام فتح إفريقية.
والبربر: امة من ولد إبراهيم.
وقيل: من ولد يافث.
وقيل: من يأجوج ومأجوج الذين سدهم ذو القرنين، وقد خرجت منهم طائفة يغيرون فسد من دونهم، فبغوا وتناكحوا مع الترك والتتار.
وقيل: هم من ولد الجان. ذهبت رفقة إلى بيت المقدس، فباتوا في قاع، فأصبحوا وقد حملت نساؤهم من جان تلك البقعة، فولدتهم، وهم أمة جبلوا على سفك الدماء ونهب الأموال والحرابة.
وقيل: إنهم هم الذين قتلوا النبي حنظلة، عليه الصلاة والسلام.
وقيل: إنهم الذين قتلوا النبيين: زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام. وهم الذين بغوا على بني إسرائيل، فأخرجوهم من ديارهم، حتى قاتلهم طالوت، فقتل داود أميرهم جالوت، حتى كان من أمرهم ما كان. وكانوا إذ ذاك بفلسطين، فخرجوا منها متوجهين إلى المغرب، حتى انتهوا إلى ألوبية ومراقبة، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما تشرب من ماء السماء، ولا ينالوها ماء النيل، فتفرقوا هنالك، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى المغرب، وسكنوا الجبال، وتقدمت لواته، فسكنت أرش أنطايلس وهي برقة وتفرقت في هذا المغرب، وانتشروا حتى بلغوا السوس.
ونزلت هوارة مدينة البدوة، ونزلت نفوسة مدينة صبرة، وجلا من كان بها من الروم من أجل ذلك.
وأقام الأفارق-وكانوا خدماء الروم-على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم، وهم بنو فارق بن ينصر بن حام.
ولنرجع إلى تقرير هذا الإقليم.
وزعما أنه لما افتتحت إفريقية انتشر من فيها من البربر، وساروا إلى المغرب، واستوطنوا تونس، وانتشر من تونس قبائلهم إلى المغرب، وسار بعضهم إلى الغرب الجنوبي، الضارب في بلاد السودان، فاستوطنوا الأوجل وفزان وغدامس وغات.
هذه القبائل الخمس المذكورة، وافوا من الأوجل، واستوطنوا هذا الإقليم ونفوا من بها من السودانيين.
وكان الإسلام انتشر في هذا الإقليم كثيراً، وظهر في أهله البركة والخير كثيراً، وكان منهم العلماء والأولياء ممن لا يحصيهم إلا الله، وضاعوا لعدم تسجيل التأريخ في هذه البلاد، كما قدمنا، ولكن نذكر طرف في الإشارة إليهم:
فمنهم الأستاذ الفقيه العاقب بن عبد الله الأنصمني المسوفي، قال أحمد بن بابا في "كفاية المحتاج في معرفة من ليس في الديباج": العاقب بن عبد الله الأنصمني المسوفي من أهل تكدة قرية عمرها صنهاجة، قرب السودان، فقيه نبيه، ذكي الفهم، وقاد الذهن، مشتغل بالعلم، في لسانه ذرابة، له تعاليق، من أحسنها كلامه على قول خليل: "وخصصت نية الحالف"، وهو حسن مفيد، لخصته مع كلام غيره في جزء سميته "تنبيه الواقف على تحرير: وخصصت نية الخالف".
وله جزء في جواب الجمعة في قرية أنصمن. خالفه فيه غيره، والصواب معه، والجواب المحدود عن أسئلة القاضي محمد بن محمود، وأجوبة الفقير، عن أجوبة الأمير، أجاب فيها أسكيا الحاج محمد. وله غيرها.
أخذ عن المغيلي والجلال السيوطي، وغيرهما.
وقع له نزاع مع مخلوف البلبالي في مسائل.
كان حياً قرب الخمسين وتسعمائة.
ومنهم الأستاذ النجيب بن محمد شمس الدين التكداوي الأنصمني. قال أحمد بابا في الكتاب المذكور: هو من شيوخ العصر، معه فقه وصلاح، شرح مختصر خليل بشرحين: كبير في أربعة أسفار، وآخر في سفرين.
وله تعليق على تخميس عشرينيات الفازازي لابن مهيب في مدحه صلى الله عليه وسلم.
أخذ عن أحمد سحولية، وهو الآن بالحياة، كبير السن.
ومنهم الشيخ الإمام العالم الرباني سيدي محمود البغدادي، ذو المناقب الكثيرة، والكرامة الأثيرة، فريد الدهر، ووحيد العصر، القطب، محيي السنة، وقامع البدعة، والداعي إلى الحق، المتكلم بكلام الأولياء، سلطان الطريقة، وبرهان الشريعة، مستغرق الوقت في العبادة والأذكار.
دخل بلاد آهير، مسرجاً بالنور والهداية، وهرع إليه للاقتباس من نوره وهدايته من يرى اضطراره وافتقاره إلى من ينقذه من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلم إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن التشاغل لغير الله إلى التشاغل بالله، ومن الهوا إلى التقوى، رحمهم الله وغفر لهم.
وأخذ عنه أصحابه، وتمشيخ [تمشى؟] على يده خلائق، واقتبس من نوره شيوخ جلة [جيله؟]، وبقي آثار بركاته وبركاتهم.
وكان أصحابه يجلونه، ويعظمونه تعظيماً، ويدعون له أن [أنه] المهدي المنتظر، ويروون فيه أحاديث، كلها قريب من الوضع، والله أعلم.
بيد أنه عالم رباني، وغوث صمداني، بشر به أولياء الله قبل ظهوره.
فكان من أخلاق أهل هذا البلد التجمد على العوائد الردية، وتقديمها على الكتاب والسنة، وأقبح ما يكون منها أنه إذا ظهر فيهم عالم أو ولي، ثم توفي، أقاموا من ذريته أحداً مقامه، واقتدوا به كما كانوا يقتدون بذلك العالم والولي وأشد، وإن كان جاهلاً لا يعرف شيئاً، وربما كان كافراً. ولا يستطيع أحد أن يبطل هذه العادة فيهم، لشدة رسوخها فيهم، فصدق ما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسألوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
وكانت هذه العادة حقيقاً إزالتها.
ومن أقبحها أن طائفة منهم لا يتوارثون على مقتضى الكتاب والسنة، وإنما يرث عندهم ابن الأخت.
ومن عوائدهم القبيحة المخالفة للشريعة عدم القصاص على مقتضى الكتاب والسنة، فإذا قتل منهم قتيل قتلوا من قبيلة القاتل نفساً، كما كان الأولون يفعلون.
مدينة العلم عبد الله ذاك سكا وفي التعدد خذ من بعده عسرا * * *
من علماء هذه البلاد الإمام العالم العلامة محمد الكشناوي الفلاتي، رحل للشرق، وحج وجاور الحرمين، ورجع لمصر، وتوفي بها.
ويقال أنه أقر له بالعلم والفضل علماء الحرمين ومصر.
ومنهم القاضي محمد بن أحمد بن أبي محمد التاذختي. قال أحمد باب، في كفاية المحتاج: عرف بأيد أحمد-بهمزة مفتوحة وياء ساكنة فدال مفتوحة، مضافاً لاسم أحمد، ومعناه: ابن. كان فقيهاً عالماً، فهاماً محدثاً، متفنناً محصلاً، جيد الحفظ، حسن الفهم، كثير المنازعة.
وقرأ ببلده على جده الفقيه الحاج أحمد بن عمر، وعلى خاله الفقيه الصالح علي، ولقي بتكدة الإمام المغيلي وحضر دروسه، ثم رحل للشرق صحبة سيدنا الفقيه محمود، فلقي أجلاء، كشيخ الإسلام زكرياء، والبرهانين: القلقشندي، وابن أبي شريف، وعبد الحق السنباطي وجماعة. فأخذ عنهم علم الحديث، وسمع وروى، وحضر دروس الأخوين اللقانيين، وتصاحب مع أحمد بن عبد الحق السنباطي. وأجازه من مكة أبو البركات التويري، وابن عمه عبد القادر، وعلي بن ناصر الحجازي، وأبو الطيب البستي، وغيرهم.
ثم رجع لبلاد السودان، وتوطن كاشنة، فأكرمه صاحبها، وولاه قضاءها.
وتوفي في حدود ست وثلاثين وتسعمائة، عن نيف وستين سنة.
له تقاييد وطرر على مختصر الشيخ خليل.
* * *
ومنهم الشيخ الأستاذ المكاشف المعروف بابن الصباغ، دهليز العلم، له تآليف: منها شرحه على عشرينيات الفازاري، ولكن لم يشتهر.
ومنهم الشيخ العام العلامة التحرير محمد مسنة، له تواليف تدل على وفور علمه، منها النفح العنبرية في شرح العشرينية، وبزوغ الشمسة في شرح العشماوية، وأزهار البر في أخبار يربي. أخذ عن ابن الصباغ.
ومنهم هاشم وابن تاكم، من جلة زمانهما، وفيهما يقول الأستاذ الطاهر بن إبراهيم، من قصيدة له:
أيدري زماني هاشما وابن تاكما أتاكم بريق هاشما ما أتاكما ومنهم الشيخ هارون الزكزكي، شيخ الشيوخ الفلاتي، وعنه أخذ الشيخ رمضان. ومنهم الشيخ العلامة رمضان بن أحمد، وكان أصله من فزانن، استوطن زنفر، وله قصائد وتواليف، منها: نظمه على رواة البخاري، أي رواية الفروع عن الأصول. ومنها الجوهرة في ذم علم النجوم.
ومنهم الشيخ العالم العلامة، والتحرير الفهامة، البليغ عمر بن محمد ابن أبي بكر الترودي. وكان أصله من ركب، وله بها آثار. كان فقيهاً جليلاً، عالماً صدراً شهيراً، ماجداً فاضلاً أصيلاً،من بيت علم ودين.
له تقاييد وأشعار: تخميس على الكواكب الدرية للبوصيري، وله نخميس على "بانت سعاد" وله تقاييد وأشعار.
ومن كلامه رحمه الله ما كتبه لبعض الإخوان نصحاً له، وبياناً لما لا يعتمد عليه من الكتب فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فالكتب التي لا ينبغي مطالعتها، والاشتغال بها، لكون أكثر ما فيها ضعيفاً وباطلاً، ولكون الأحاديث والآثار التي فيها موضوعات كثيرة في أيدي الناس، منها:
- كتاب وصية علي
- وكتاب وصية فاطمة
- وكتاب وصية أبي هريرة
- وكتاب وصية معاذ
- وكتاب مرضاة الرب
- وكتاب دقائق الأخبار
- وكتاب تارك الصلاة
- وكتاب غزوة خيبر
- وكتاب انشقاق القمر
- وكتاب وفاة بلال
- وكتاب شفاعة المحمود
- وكتاب أهوال القيامة
- وكتاب صفة الجنة
- وكتاب كلام البهائم
- وكتاب الجمعة
- وكتاب المعراج الكبير
- والصغير معاً
- وكتاب المرشد الذي أوله أربعة جواهر في نبي آدم يزيلها أربعة.. إلخ
- وكتاب أربعين حديثاً الذي أوله: لكل شيء مهر، ومهر الجنة ترك الدنيا
- وكتاب قصة الغلام
- وكتاب قصة القاضي مع السارق
- وكتاب قصة الجارية مع أبي حازم
- وكتاب قصة العصفور
- وكتاب العلم النافع الذي أكثر تراجمه: أيش كذا
- وكاب آداب العلماء
- وكتاب السبعيات في قصص الأنبياء
- وكتاب مناجاة موسى
- وكتاب بريد من شرح الرسالة
- وكتاب الوحشي
- وكتاب غريب، كلاهما شرح الشهاب
- وكتاب الريح الأحمر
- وكتاب شمس المعارف
- وكتاب قصة الدعاء المبارك
- وكتاب ذكر الخميس
- وكتاب الياقوتة
- وكتاب النفخ والتسوية
- وكتاب الباجي الذي أكثر ما فيها: فإن قيل لك كذا وكذا فقل: كذا وكذا
- وكتاب فتح مكة، وهو سفر كبير مجلد
- وكتاب غزوة سيسيان
- وكتاب فقه الدين
- وكتاب إفحام الخصم في إباحة الدخان
- وكتاب التبيين في المواعظ
- وكتاب سؤالات الراهب
- وكتاب من شرح البسملة
- وكتاب الطير، وما أبطله
- والكتاب المعروف بجامع الكبير
- وكتاب المنتقي، ولا أعني شرح الشهاب، بل مجلداً كثير الأسانيد
- وكتاب فضائل رمضان
- وكتاب فضائل ليلة القدر
- وكتاب الفصول
- وكتاب نصيحة إبليس
- وكتاب صلوات الليالي الفاضلة
- وكتاب فضائل سور القرآن، سورة سورة
- وكتاب الثعالبي
هذا ما به الفتوى عند العلماء.
رحل من بلده للشرق طلباً للحج، وحبسته الأعذار، وسكن برايازاكي-بفتح الباء وفتح الراء وبعدها ألف، وفتح الياء وبعدها ألف وزاء، والف بعد الزاي وكسر الكاف.
وبها قبره ظاهراً يزار، وقد زرته مراراً.
ومنهم الشيخ علي جب، العلامة المشهور المكاشف، له شرح على الكبرى، وشرح على لامية الأفعال. كان فاضلاً حسن الخلق والخلق، ساعياً في الدعوة إلى الله، مجتهداً فيها، معظماً عند الخاصة والعامة، شيخ الشيوخ. أخذ عنه العلامة النظار المحقق الأصولي المتفنن أحمد بن غار.
وأخذ عنه الأستاذ جبريل بن عمر، وأخذ عنه جلة من العلماء، وحصلت في حضرته بركة عظيمة. وتعزى إليه الكرامات.
توفي بمارنونا-بفحت اميم وألف بعده وراء مفتوحة ونون مضمومة، وبها قبره ظاهر يزار.
ومنهم الأستاذ جبريل بن عمر، شيخ الإسلام العلامة المحقق، القدوة النظار الصالح البركة الحاج، قال الوالد في شفاه الغليل في حل ما أشكل من كلام شيخنا جبريل-وهو يعد فضائله-فقال: "ليعلم أهل بلادنا السودانية هذه، بعض ما أنعم الله عليهم، ليجتهدوا في شكر الله تعالى، على وجود هذا الشيخ في هذا البلد، فيستوجبوا المزيد". فأقول وبالله التوفيق.
ومن فضائله رضي الله عنه أنه كان ممن حمل لواء العلم في زمانه، فشرف بزيارة بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.
ومن فضائله رضي الله عنه أنه بلغ الغاية في الاشتغال بالكتاب والسنة، وحض الناس عليهما.
ومن فضائله رضي الله عنه، أنه كان أول من قام بهدم العوائد الذميمة في بلادنا السودانية هذه، وكان كمال ذلك ببركته على أيدينا.
ومن فضائله رضي الله عنه أنه بلغ الغاية في العبادة والخلق الحسن، والغيرة على الإسلام. كان حليماً هيناً ليناً، حسن الكلام مع من لقيه، مبتسماً معه، ولا يحقد على أحد، ولا يعبس في وجهه، ويطيب كلامه لجميع الناس على طريق البسطة، حتى تظن أن كل واحد صديقه.
ومن فضائله رضي الله عنه أنه ذو بسط ودعابة، مشرف بلباس الهيبة، وهو من أعجب العجائب في شأنه.
ومن فضائله رضي الله عنه أنه بلغ الغاية في تعظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى أنه قل أن يذكره إلا باسمه: أفضال الخلق.
وفضائله رضي الله عنه كثيرة لا تحصى. وفيما ذكرناه كفاؤة لمن تأمل.
ونحن بالنسبة إلى مقامه نسبة الظالع مع الصليع، ونسبة دوي الزنبور مع نغمة الزبور، فوالله لا ندري هل نهتدي إلى سبيل السنة، وترك العوائد الذميمة، لو لا تنبيه هذا الشيخ المبارك. وكل من أحيا السنة وهدم العوائد الذميمة في بلادنا السودانية هذه، فهو موجة من أمواجه، ولذلك قلت فيه شعراً:
إن قيل في بحسن الظن ما قيلا فموجة أنا من أمواج جبريلا وهو رضي الله عنه كما قال في مدح شيخه مرتضى:
فريد الدهر فائق كل قرن عجيب شأنه في كل فن ولو لا لا تزال لقلت لا لا وجود لمثله في كل قرن وأنا أقول أيضاً:
شيخ الشيوخ بأرضنا جبريل بركاته ما نالها تفصيل كشفت به ظلم الضلال كأنه في كشفها ببلادنا قنديل ولأستاذنا العم عبد الله بن محمد:
جبريل من جبر الإله به لنا دينا حنيفا مستقيم المنهج شمس الضحى بزغت بغرب فانتهت للشرق تشرق للقريش وخزرج وأخذ عن هذا الشيخ الأستاذ المذكور
وأخذ عنه أيضاً العلامة المشارك، التقي النقي المتفنن الأصولي، المصطفى بن الحاج عثمان.
وأخذ عنه أيضاً العلامة المشارك الراوية محمد الفربري بن محمد، وانتفع به خلائق كثيرون. وآثار بركاته في هذه الديار باقية.
وبالجلمة فهو شيخ الشيوخ، وصاحب التمكين والرسوخ، علم صدر متقن.
وأخذ عن الشيخين النبيلين، الأخوين المتفننين، الأصوليين، العلامتين، النظارين، الفاضلين: أبي بكر وأخيه علي ابني الحاج عثمان، توفي أحدهما بفزان، وقد حج أبو بكر مرتين.
وأخذ أيضاً عن محمد بن الحاج المتفنن حسن الخط، ورحل معه إلى الحج، وتوفي هناك.
وقد لقيا: هو وشيخنا يوسف الحفناوي، وأخذا عنه، وقد أشار إلى موت أحدهما. ومات محمد بن الحاج، ورجع هو لبلده، ثم رجع للحج ثانياً، ولقي الشيخ مرتضى وأخذ عنه، ورجع لبلده، وتوفي بها.
ومنهم شيخ الشيوخ الفقيه المهيب محمد المنقوري. نقل مختصر خليل، ومهر جداً، وتصدر للتدريس، فأخذ عنه جماعة، منهم: قاضي القضاة شعيب، وقاضي القضاة محمد سنب، وقاضي القضاة البركة إبراهيم البرتاوي، والعلامة عياض إسحاق، وقاضي القضاة أبو بكر.
وظهر في طلبته البركة الكثيرة، انتفع بها المسلمون وبهم.
وبعد فاعلم أن ذا تبصرة للناس في السودان بل تذكرة فلا ترى منهم سوى من يدعي إسلامه بفمه الموسع مستترا بالصوم والصلاة عن قدحه بأقبح اللعنات فهو حقا كافر صريح لأنه محرم مبيح في الخوض دائم ومستمر في عقيدة خالفها الجمع والوفي عمٍ عن الحديث والكتاب وما له قال ذوو الألباب راض بحكم الجاهلية التي أزالها الله بوضع الشرعة حير أفكار صغار العلم فحكموا إسلامهم بالوهم ما بينهم وبين أهل الشرق [شرك؟] تفرقة لاحت لأهل الحق وذاك يستبين بالظواهر يدركه فيهم ذوو البصائر يدرك بالخبرة والتجربة بأفعال تظهر للأبصرة ما لم يكن بفعله إلا الذي كفر أنه بالإجماع يحتذي فمن أتاه كافر مرتد كذاك كفرانا بواحا عد وغالب ملوك هذه البلاد وجنودهم وأطباؤهم وعملاؤهم من هذا القبيل.
ومنهم قوم يقرون بالتوحيد، ويصلون ويصومون ويزكون من غير استكمال شروط كما مر مع أنهم مقيمون على عوائد ردية، وبدع شيطانية.
ومنهم منهمكون في المعاصي الجاهلية متأنسين بها، دارين فيها مجرى المباحات، حتى كأنها لم يرد فيها نهي، وهي خصال كثيرة أقاموا عليها، وهؤلاء أكثر عامة الفلاتيين، وبعض مسلمي السودانيين، إذ قد مر أن غالبه كفار بالأصالة، وبعضهم بالتخليط
ومنهم قوم مؤمنون عارفون بالتوحيد كما ينبغي، محسنون للوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصيام، عاملين بذلك كما ينبغي، وهؤلاء النادر القليل كما مر.
ولما قام هذا الشيخ يدعو إلى الله، وينصح لعباده في دين الله، ويهدم العوائد الردية، ويخمد البدع الشيطانية، ويحيي السنة المحمدية، ويعلم الناس فروض الأعيان ويدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعته، ويكشف لهم ظلم الجهالات، ويزيل لهم الإشكالات، وقد وجد هذه الطوائف المذكورة على هذه الحالات، فسارع إليه الموفقون، وصمد إليه السعداء المهتدون، فجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وترادفت إليه الوفود أمواجاً، ويقرر لهم الطريق، ويبين لهم الحق، وفي ذلك يقول الأستاذ أخوه عبد الله:
عثمان من قد جاءنا في ظلمة فأزاح عنا كل أسود دجدج ودعا إلى دين الإله ولم يخف في ذاك لومة لائم أو فجفج فأنصات خلق حين صات لصوته وعلا له صيت فويق الأبرج بشرى لأمة أحمد ببلادنا الســــ ودان في هذا الزمان المبهج كم سنة أحييتها وضلالة أخمدتها جمرا ذكا بتأجج وظللت في أرض عوائدها عدت وتخالفت سنن النبي الأبهج استعظمتها أهلها فاستأسدت وصدت دوين الدين باب الولج فاستنسرت بغثانها وتنمرت جرذانها ترمي بنصل سلمج من أراد دين الله يمحو عزه فقمعته قمع القوى الأولج ولكل فرعون طغى موسى سطا وقضية عاصت على تنفج فأبيض وجه الدين بعد محاقه وأسود وجه الكفر بعد تبلج والدين في عز ونهج منهج والكفر في ذل ونهج منهج والسنة الغراء صبح ينجلي والبعدعة السوداء ليل يدجي طمست معالمها وأخلق ثوبها والدين في درع يميس مدبج وتفجرت للدين من بركاته عين الحياة تذل ماء الحشرج فجرى مذانبب للمشارب أفهقت ماء يقول صفاؤه: هل من يجي حتى تبرج مثل بدر طالع بليال صحو أو صباح مبلج ثم إنه لما برز على أهل زمانه في هذا الأسلوب، أنقسم الناس فيه إلى قسمين: قسم معتقد، وقسم منكر منتقد، فأما المنكرون عليه فأشاعوا عليه ما هو المعهود من أبناء الجنس، ونسبوه إلى الأهواء والرياء وغير ذلك.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغضا أنه لدميم وهو في ذلك يصبر على جفاهم، ويتحمل أذاهم، ويعرض عن جهالتهم، ويتصامم عن سوء مقالتهم، قائماً بما هو في صدده من النصح والإرشاد، ودعوة الخلق إلى الله.
قال عبد الوهاب الشعراني في لواقح الأنوار: قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: قد جرت سنة الله تعالى في أنبيائه وأصفيائه أن يسلط عليهم الخلق في مبتدأ أمرهم، وفي حال نهايتهم كلما مالت قلوبهم لغير الله تعالى، ثم تكون الدولة والنصرة لهم آخر الأمر، إذا أقبلوا على الله تعالى كل الإقبال. إخر
ثم قال: وذلك لأن المريد السالك يتعذر عليه الخلوص والمسير إلى حضرة الله تعالى مع ميله إلى الخلق وركونه إلى اعتقادهم فيه، فإذا آذاه الناس وذموه ونقصوه ورموه بالبهتان والزور نفرت نفسه عنهم، ولم يصر عنده ركون إليهم البتة، وهنا يصفو له الوقت مع ربه ويصح له الإقبال عليه، لعدم التفاته إلى وراء. فافهم.
ثم إذا رجعوا بعد انتهاء سيرهم إلى إرشاد الخلق، يرجعون-وعليهم خلعة الحلم والعفو-فتحملوا أذى الخلق، ورضوا على الله تعالى في جميع ما يصدر عن عباده في حقهم، فرفع بذلك قدرهم بين عباده، وكمل بذلك أنوارهم، وحقق بذلك ميراثهم للرسل في تحمل ما يرد عليهم من أذى الخلق، وظهر بذلك تقاوت مراتبهم، فإن الرجل يبتلي على حسب دينه.
وقال الله تعالى: "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" [الأنعام 34]. وذلك لأن الكمل لا يخلو أحدهم عن هذين الشهودين: إما أن يشهد الحق تعالى بقلبه، فهو مع الحق لا التفات له إلى عباده، وإما أن يشهد الخلق، فيجدهم عباد الله، فيكرمهم لسيدهم. وإن كان مصطلماً فلا كلام لنا معه، لزوال تكليفه حال اصطلامه، فعلم أنه لا بد لمن اقتفى آثار الأنبياء، من الأولياء والعلماء، أن يؤذوا كما أوذوا، ويقال فيهم الزور والبهتان، كما قيل فيهم، ليصبروا على الخلق كما صبروا، ويتخلقوا بالرحمة على الخلق، رضي الله عنهم أجمعين.
وكان سيدي علي الخواص رضي الله عنه يقول: لو كان كمال الدعوة إلى الله موقوفاً على إطباق الخلق على تصديقهم لكان الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله، وقد صدقنهم قوم هداهم الله بفضله، وحرم آخرون فأشقاهم الله بعدله.
ولما كان الأولياء اوالعلماء على أقدام الرسل، عليهم الصلاة والسلام، في مقام التأسي بهم، أنقسم الناس فيهم فريقين: فريق معتقد مصدق، وفريق منتقد مكذب، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام، فحقق الله بذلك ميراثهم.
ولا يصدقهم ويعتقد صحة علومهم إلى الله، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم، ولو بعد حين.
وأما المكذب لهم والمنكر عليهم، فهو مطرود عن حضرتهم، لا يزيده الله بذلك إلا بعداً. وإنما كان المعترف للأولياء والعلماء، بتخصيص الله تعالى لهم، وعنايته بهم، واصطفائه لهم قليلاً في الناس، لغلبة الجهل بطريقهم، واستيلاء الغفلة وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد عليهم شرف بمنزلة أو اختصاص، حسداً من عند أنفسهم.
وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في حق نوح عليه الصلاة والسلام، فقال: "وما آمن معه إلا قليل".
وقال تعالى: "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون". "ولكن أكثرا الناس لا يعلمون" [غافر 57-59]. وقال تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" [الفرقان 44]. وغير ذلك من الآيات. إخر.
كلامه في لواقح الأنوار
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأنئمة، هو المعهود من أبناء الجنس من علماء كل عصر، ولذلك أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى.
ولا شك أنه ليس على العموم، ولكنه شائع معلوم.
ولقي هذا الشيخ من علماء عصره من الجفاء والأذية، ما الله يحصيه ويدريه، فنصره الله وأيده بطائفة من العلماء المهتدين، فصدقوه ونصروه. وفي ذلك يقول أخوه الأستاذ يحرض الإخوان في نصرته ويذكرهم منة الله التي أمتن بها عليهم في ظهوره منهم:
طربت فأشجاني الطيور الكوابح وفرحني منها الغيوث الروائح وخوفني منها ذئاب بوارح وأمنني منها الظباء السوانح لقول النبي: لا تزال جماعة على الحق منا أو يجيء المقارح ألا بلغن عني لحي رسالة تعيها رجال أو نساء صوالح لعالمهم أو طالب العلم رائم لإظهار دين الله فيه يناصح أقول له: قم وادع للدين دعوة تجبها عوام أو خواص جحاجح ولا تخش في إظهار دين محمد بقولة قال تأسيه كناتح ولا تخش تكذيبا وإنكار جاحد وهزء جهول ضل والحق صابح وغيبة هماز وضغن مشاحن يساعده من للعوائد راكح وليس لما تبني يد الله هادم وليس لأمر الله أن جاء ضارح وبين لهم أن العوائد بهرجت وسنتنا لاحت عليها لوائح ولهو الشباب اليوم قد بار سوقه وقامت على سوق الصلاح المدائح وأهل الدنا اليوم قد بار سوقه وسنتنا قد ظللتها الدوائح ومنكر هذا الدين قد خف وزنه ومظهره ميزانه اليوم راجح وناصره قد صار في الناس عاليا ومنكره للخاص والعام دانح وإن إله العشر قد من منة علينا ومن يشكر فذلك رابح ومن كفر الإنعام واتبع الهوى ففي بدئه بله القيامة طائح وذاك بأن قد بين الدين في امرئ لنا نسبا نعلو به ونطامح فإن نحن آويناه ننصر قوله نفز ونحز نعماه والكل فالح وإن قد أضعناه أفاد بغيرنا مصائب قوم عند قوم مصالح ولو نفعت قربي فقط فيه ماردي أبو طالب عم النبي، وتارح وما ضر شمساً إن نفى العين ضوءها وما ضر حوضاً أن أبته القوامح أطايب أرض تخرج النبت رائعا بإذن ذويها إن أفاضت دوائح ولو همعت ديما لما أنبتت ولو بسابس نبت في الأراضي البوالح فلا يمنع الإرشاد عدم قبولهم فمدخلهم مولاهم أنت فاتح فإنك إن بلغتهم ضاع عذرهم فساقيهم المولى فإنك جادح مطيع لما قد قاله سيد الورى به بلغوا عني أتته صحائح وأمر بمعروف ونهى لمنكر على شرطه للناس بالحق قارح وفهمهمو ما يلزم المرء عقده من الدين مما سهلته القرائح وغسلا وضوءا أو صلاة زكاتهم وصوما وبيعا ثم كيف يناكح وواجبها مسنونها مستحبها ومنهيها فالكل في الكتب واضح وعلم نساء سترهم بأن ترى على غير وجه والأكف القواسح وعلمهم الإحسان كيف يراقبو ن مولاهمو ذو جدهم والصمادح وكيف تراعي نية في جميعها ليرعاه ذو فهم يطيعك لائح وكيف التخلي عن صفات ذميمة وكيف التحلي بالحميدة ناصح بنفسك فابدأ حائدا عن هوى الهوى لدي سومها ترعى وإنك كابح أضر عدو من بدارك ساكن مطيع لشيطان وللدين قابح سلامة عيب النفس عزت لمالها يكون خلال المنكرات المسارح فلا تستطيع الترك عن شهواتها ولم تحتمل ذلا كذاك السبادح لجاؤك بالمولى وتقليل مطعم دواء لأداء النفوس مطحطح وبالأصغرين احفظ، وبالأجوفين والـــ جواسيس صن دوماً تطعك الجوارح تباع لقرآن النبي وصحبه وتابعهم ترياق من هو صالح عليه صلاة الله ثم عليهم كذاك سلام بالرياحين فائح وكتب تراعي سنة مثل مدخل ومستخرجات منه فيها نصائح كنياتها وكذلك إحياء سنة لباب طريق الصالحين مصالح غزاليها وكذاك زروقيها عطائيها تشفي بهذا القبائح بجائيها أو ما حذا حذوها ولا يعاملها معشوق دنياه طالح يوفقنا المولى بجاه نبيه لسنته حتى تجيء الفوادح عليه صلاة الله ثم سلامه وأصحابه مارن تال ورائح شمائله الكريمة
وآدابه العلية وأخلاقه السنية التي يتأدب بها في المجالسواعلم أنه نشأ عفيفاً متديناً، ذا خلال مرضية، نسيج وحده. انتهت إليه الإمامة، وضربت عليه آباط الإبل شرقاً وغرباً، وهو علم العلماء، ورافع لواء الدين، أحيا السنة وأمات البدعة، ونشر العلوم، وكشف الغموم، بهر علمه العقول، جمع بين الحقيقة والشريعة، فسر القرآن سنين بحضرة أكابر العلماء والصلحاء، عالماً بقراءته وفنونه من بيان وأحكام، وناسخ ومنسوخ، مع إمامته في الحديث وفقهه في غريبه، ورجاله وقنونه وفي أصول الدين، والذب عن السنة ودفع الأشكال، قائماً بالحق صحيح النظر، متدرباً في تعليم الغوامض، إماماً في النقول العقلية، متعبداً ناسكاً، تصدر للتدريس وبث العلم، فملأ القطر المغربي معارف وتلاميذ، يقف أهل زمانه عندما يقول، وكان حامل لواء التحصيل، وعليه مدار الشورى والفتوى، معظماً عند الخاصة والعامة، مجدداً على رأس هذا القرن، خطيباً بليغاً، شاعراً فصيحاً فاضلاً حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة، محققاً شديداً العارضة، مقطوعاً بولايته وقطبانيته، كثير الحياء والشفقة على الخلق، متواضعاً، يرى نفسه كأقل الحشرات، وقافاً على حدود الشريعة، آلفاً بألوفاً، لقي من المحبة والتعظيم من الخلق ما لم يعهد حتى كان أحب الناس إلى أنفسهم، يتزاحمون عليه مع طلاقة وجه، وحسن خلق وبشاشة. وكان حليماً رحيماً بالمؤمنين، وضع له القبول، واتفق على جلالة قدره الثقلان. وبالجملة فالوصف يقصر عن مزاياه، وهو شيخ علماء وقته، بل قطب الأئمة في جميع الأعصار.
وهذه أوصافه لا يحتاج لنقلها من معين، ومتى احتاج نور شمس لدليل؟
قطب الوقت في الحال والمقال [والمقام؟]، ناصر الدين بمقاله وبيانه، محيي السنة بفعاله، دائم الإرشاد والهداية، حجة الله على العالم، متمسك بالكتاب والسنة، سيد وقته وإمام عصره، وأعجوبة زمانه، ذو النورين: العلم والعمل، وكان صاحب كرامات ظاهرة ومقامات فاخرة، وأسرار زاهرة، وبصائر باهرة، وأحوال خارقة، وأنفاس صادقة وهمم عالية، ورتب سنية، ومناظر دينينة، وإشارات نورانية، ونفحات روحانية وأسرار ملكوتية، ومحاضرات قدسية.
له معراج الأعلى في المعارف، والمنهاج الأسنى في الحقائق، والطور الأرفع في المعالي، والقدم الراسخة في أحوال النهايات، واليد البيضاء في علوم الموارد، والباع الطويل في التصريف النافذ والكشف الخارق عن حقائق الآيات، والفتح المضاعف في معنى المشاهات، وهو أحد من أظهره الله إلى الوجود، وأبرزه رحمة للخلق، ووضع له القبول التام عند الخاص والعام، وصرفه في العالم، ومكنه في أحكام الولاية، وخرق له العادات، وأنطقه بالمغيبات وأظهر على يديه العجائب والكرامات.
ثم اعلم أني رأيته إذا أراد الخروج إلى الناس، يقف في زاوية الدار هنية، ويتكلم بكلام، ثم ينصرف إلى النس، فسألته عن ذلك، فقال: أجدد النية، وأعاهد الله على الإخلاص فيما أخرج إليه، وأسأله أن يفهم الحاضرين ما أحدث به، ومع ذلك كنت أجدد النية في المجلس، وأتذكر في العهد. وكان إذا وصل إلى المجلس سلم بسلام عام يسمعه جميع الحاضرين، وإذا صعد على الكرسي حياهم بتحية عامة ثلاث مرات، ببشاشة وطلاقة وجه، وحسن خلق. ثم ينصت الناس، فلا يضجر ولا يحقد ولا يسأم مع كونه مبتلى بجماعة من العوام ذوي سوء أدب، إذا استنصتهم لا يسكتون، وإذا منعهم من السؤال لا ينتهون، ثم يحدثهم بصوت عال لا يواجه بخطابه أحداً دون آخر، ولا يستحييي أحداً من الحاضرين، وإن كانوا شويخاً جلة أو علماء حسدة، بل يتكلم على الجميع، ولا يبالي بهم، بما يعم الانتفاع به، وربما ألقى سؤال وهو في أثناء كلام، فيسكت له فيجيبه.
وكان صلباً في الدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، يحكم بالقسط والعدل ولو في القربى، لا تأخذه حمية الجاهلية، بل لا يزيغ عن الحق.
وهذا طرف من شمائله الكريمة وأخلاقه السنية، أشرت إليها تعليماً للجاهل، وتذكيراً للعالم الغافل، وتوفية لما شرطنا. ولو أخذنا في ذكر شمائله الكريمة التي خصه الله بها استقصاء لاحتجنا إلى الأسفار وخرجنا عن حد الاقتصار، مع أن الاقتصار واجب في هذه الأعصار، ولا سيما في هذا الزمان الذي تقاصرت همم أهله وتشاغلت بأمر معاشها وأغراضها وأقبلت إلى الدنيا وزخارفها، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. شعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر ناموا عن المقصود لم يتيقظوا ستكون يقظتهم لخطب أعظم
ما أنت أول سار غره قمر ورائد أعجبته خضرة الدمن وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه-إن الطيور على أجناسها تقع-فيغتر الأغبياء إلا من عصم الله. وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة، فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبني خباء له، وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده واستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه. فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى، فاشتغل معه بالفاحشة-نسأل الله العافية-ثم علم أنهم قد علموا به فهرب، وبلغ الخبرإلى إخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير.
ومن أغرب ما وقع من هذا أيضاً ما وقع بسجلماسة، حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه: ما لعب بإخواننا-يعني أشراف سجلمانة-إلى رجل جاءهم بالبلد، واتسم بسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، وكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف واتفقوا على اختباره، فكمنوا فريباً منه، وتقدم إليه أحدهم-وعنده خمسون مثقالاً فقال له: يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل على نفسه، عسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون، قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضرباً وطروده [وطردوه]، ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى ناحية المغرب، فمر بعين ماء هناك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هناك-نسأل الله العافية.
فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنة، إلا من خصه الله، وقليل ما هم.
هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب، وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غير لم يبك ميت، ولم يفرح بمولود بل نقول: ليته يدوم، فإنه "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه"، كما في الحديث الكريم.
نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيساً نقضي فيه ما بقي من أعمارنا من خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان.
هذا-ولا بد مع الحذر-من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير، والتغفل عن عيوب الناس.
وفي الخبر: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله، وسيء الظن بالناس".
ومن تتبع عيوب الناس، تتبع الله عيوبه، حتى يفضحه في قعر بيته، فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية.
وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: عالم ربناني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه. وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة.
وهذا باب واسع لا يكفيه إلا ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطراداً.
"لله الأمر من قبل ومن بعد".
القسم الرابع-في إخماد البدع الشيطانية، ورد العوائد الردية.
القسم الخامس-في بث العلوم الشرعية، وتحرير المشكلات فيها، ولإفادة بالغرائب النوادر في العلوم.
هذه الأقسام هي حاصل ما يحدث به، وغالب تواليفه نافعة، ومصنفاته الشافية، وفي مجالسه بغية الطالبين، وغبطة الراغبين، من تحرير المشكلات وتهذيبها والتقاط الغرائب والزوائد من مهمات الوقت.
قال الأبسني: كان شيخنا أبو عبد الله يقول في مجالس التدريس، إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زائدة من الشيخ فلا فائدة من حضور مجلسه.
ومن شعره:
إذا لم يكن في مجلس المرء نكتة بتقرير إيضاح لمشكل صورة فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهد فلا تتركن والترك أقبح خصلة ومؤلفاته مشتملة على فوائد وغرائب عجائب، من إيضاح المشكلات وتقريب المعضلات، وتسهيل العويصات، وغير ذلك من منافعها الظاهرة، وفوائدها الباهرة.
وكان أبو عبد الله يقول: وإنما تدخل التأليف في ذلك-يعني الاتنفاع بها بعد الممات-إذا اشتملت على فوائد زائدة، وإلا فذلك تخير للكاغد، ونعني بالفائدة الزيادة على الكتب المتقدمة. والله أعلم.
ذكر ما يستفتح به كلامه في مجلسه
كان رضي الله عنه يستفتح كلاه في جلس الوعظ بخطبة إمامه الشيخ عبد القادر الديلي رضي الله عنه، وهؤ:
الحمد لله رب العالمين-ويسكت-ثم يقول: الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، ومنتهى علمه وجميع ماشاء وخلق وذرأ وبرأ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الملك القدوس العزيز الحكيم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأن محمداً عبدخ ورسوله، أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم أصلح اإمام والأمة، والراعي والرعية، وألف بين قلوبهم لاخيرات، وةادفع شر بعضهم عن بعض، اللهم أنت العالم بسرائرنا بأسرها وأنت العالم بحوائجنا فاقضها، وأنت العالم بذنوبنا فاغفرها، وأنت العالم بعيوبنا فاسترها، لا ترنا حيث نهيتنا، ولا تنقدنا من حيث أمرتنا، أعزنا بالطاعة، ولا تذلنا بالمعصية، واشغلنا بك عمن سواك، واقطع عنا كل قاطع يقطعنا عنك، وألهمنا ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ولزوم طاعتك.
ثم يشير إلى تلقاء وجهه بأصبعه، ويقول: لا إله إلا الله، ما شاء الله، لا قوة إلا باالله العلي العظيم، اللهم لا تحينا في غفلة، ولا تأخذنا على غرة "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربوا ولا تحمل علينا إصاً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وأرحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" [البقرة 286].
وربما استفتح بخطبته المشهورة في رؤوس تأليفه ورسائله، وهي: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله تعالى عن السادة التابعين والعلماء العاملين، والأئمة الأربعة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين.
وربما استفتح بسند حديث الرحمة، المسلسل بالأولية، إذا رآى الأضياف، يسرد أسانيده التي أودعها في كتابه-أسانيد الضعيف-وربما ذكر بعد الخطبة حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، ويقول: وبسندنا المتصل إلى الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بردزية البخاري الجعفي قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاره قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
ثم يقول: أصلحوا نياتكم في أموركم كلها: في العبادات وغيرها، فمن كان يصلي فليصل لله، ومن كان يصوم فليصم لله، وهكذا في سائر العبادات.
ذكر ما يحدث الناس به في فن أصول الدين
[ملتقط من "أصول الدين" له]واعلم أنه يرتب ذكر تلك الأصول، ويفسرها بلغة الحاضرين، وهو أن يقول:
العالم حادث وصانعه الله تعالى واجب الوجود، قديم لا أول له، مخالف للحوادث، ما هو بجرم ولا صفة للجرم، ولا جهة له ولا مكان، بل هو كما كان في الأزل قبل العالم، غني عن المحل والمخصص، واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، قادر بقدرة، مريد بإرادة، عالم بعلم، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مختار في فعله وتركه، والكمال الإلهي كله واجب له، والنص الذي هو ضد هذا الكمال الإلهي مستحيل عليه.
ورسله كلهم من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم صادقون أمناء، مبلغون ما أمروا بإبلاغه للخلق والكمال البشر كله واجب لهم، والنقص البشري كله مستحيل عليهم.
ويجوز في حقهم الأكل والشرب والنكاح والبيع والشراء والمرض الذي لا يؤدي إلى نقص.
والملائكة كلهم معصومون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، نورانيون، ليسوا بذكور ولا بأناث، ولا يأكلون ولا يشربون.
والكتب المنزلة كلها حق وصدق، والموت بالأجل حق، وسؤال منكر ونكير للمقبور وغيره حق، وعذاب القبر حق، وجمع الناس في ذلك حق، والحساب حق، والصراط حق، والكوثر حق، والنار ودوام النار مع أهلمها حق، والجنة حق، ودوام الجنة مع أهلها حق، ورؤية المؤمنين له تعالى في الآخرة حق، (وأن الصلاة والزكاة والصيام والحج كل منها واجب، وأن النكاح والبيع مباح)، وكل ما جاءت به الرسل حق وصدق. [ما بين القوسين ناقص في "أصول الدين"، ويتبع هذا النص زيادة في التقليد]
أدلة العقائد
ودليل حدوث العالم في العقل ملازمته للصفات الحادثة من حركة أو سكون وغيرهما، وملازم الحادث حادث.
ودليل وجوده في العقل: إخراجه المخلوقات من العدم إلى الوجود، لأن المعدوم لا يفعل.
ودليل قدمه في العقل: قدرته على إيجاد المخلوقات، لأن الحادث عاجز لا يخلق.
ودليل بقائه في العقل: ثبوت قدمه، لأن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه.
ودليل مخالفته للمخلوقات في العقل: قدرته على إيجادها، لأن من ماثلها لا يقدر أن يوجدها.
ودليل غناه تعالى بالذات في العقل: وجوب اتصافه بالقدرة والإرادة والعلم والحياة، لأن الصفة لا تتصف بها.
ودليل وحدانيته في العقل: إيجاد المخلوقات، لأنه لو كان معه ثان لوقع التمانع بينهما.
ودليل قدرته في العقل: إيجاد المخلوقات، لأن العاجز لا يوجد.
ودليل إرادته في العقل: اختلاف أنواع المخلوقات.
ودليل علمه في العقل: الإتقان
ودليل حياته في العقل: وجوب اتصافه بالقدرة والإرادة والعلم، لأن الميت لا يتصف بها.
ودليل سمعه وبصره وكلامه في العقل: وجوب اتصافه بالكمال، ولأنه لو لم يتصف بها اتصف بأضدادها، وهي نقائص، والنقص عليه تعالى محال.
ودليل جواز فعله أو تركه في العقل: لزوم قلب الحقائق في فرض وجودها أو استحالتهما، لأنه لو وجب عليه شيء من الممكنات عقلاً، أو استحال عقلاً، لانقلب الممكن واجباً أو مستحيلاً في حقه وذلك لا يعقل.
ودليل أمانة الرسل في العقل: أمر الله تعالى بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم.
ودليل تبليغهم ما أمر الله بتبليغه للخلق: أمانتهم.
ودليل جواز الأعراض عليهم في العقل: وقوعها بهم.
[هنا يستمر "أصول الدين"] وإذا عرفت هذا كله فاعلم أن جميع ما جاءوا به صدق: من عذاب القبر وأهواله والقيامة وأهوالها، من الصراط وجميع المغيبات عنا، وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الله تعالى يراه المؤمنون ويكلمهم وغير ذلك، مما هو مفصل في الكتاب والسنة. [حتى هنا أصول الدين]
ودليل ذلك كله في العقل: إمكانه، وقد أثبت الله تعالى ذلك في القرآن العظيم.
واعلم أنه تعالى أثبت الإيمان على الإجمال بقوله تعالى: "آمنوا بالله ورسوله" [الحديد 7] وبقوله: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" [الحجر 15] وبقوله: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويقعوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" [البقرة 126].
وفصل أركانه بقوله: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..." [البقرة 177].
وأثبت أن كل من أسلم لا يكفر، ولا يساء الظن به، ما لم يظهر كفره بالقول وبالفعل، بقوله: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً" [النساء 94].
وأثبت حدوث العالم بقوله: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده" [الروم 27].
وأثبت كونه قديماً بقوله: "هو الأول".
وأثبت كونه باقياً بقوله: "وتوكل على الحي الذي لا يموت".
وأثبت كونه مخالفاً لخلقه بقوله: "ليس كمثله شيء".
وأثبت كونه غنياً بقوله: "والله الغني".
وأثبت كونه واحداً بقوله: "قل هو الله أحد".
وأثبت كونه قادراً بقوله: "إن الله على كل شيء قدير".
وأثبت كونه مريداً بقوله: "فعال لما يريد".
وأثبت كونه عالماً بقوله: "إن الله بكل شيء عليم".
وأثبت كونه حياً بقوله: "هو الحي".
وأثبت كونه سميعاً بصيراً بقوله: "أسمع وأرى".
وأثبت كونه متكلماً بقوله: "وكلم الله موسى تكليماً".
وأثبت كونه مختاراً بالفعل والترك بقوله: "وربك يخلق ما يشاء ويختار".
وأثبت صدق الرسل بقوله: "وصدق المرسلون".
وأثبت أمانتهم يقوله في حكاية قولهم: "إني لكم رسول أمين".
وأثبت تبليغهم الرسالة بقوله: "الذين يبلغون رسالات الله".
وأثبت كونهم يتزوجون يقوله: "وجعلنا لهم أزواجاً وذرية".
وأثبت كونهم يأكلون الطعام ويبيعون ويشربون بقوله: "يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق".
وأثبت الملائكة بقوله: "الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة".
وأثبت كون الموت بالأجل بقوله: "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
وأثبت تثبيت المؤمنين عند سؤال القبر بقوله: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت".
وأثبت عذاب القبر بقوله: "ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون".
وأثبت نعيمه بقوله: "فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين".
وأثبت البعث بقوله: "وإن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور".
وأثبت الحشر بقوله: "وحشرناهم فلم نغدر منهم أحداً".
وأثبت إيتاء الكتب بقوله: "فأما من أوتي كتابه بيمينه" في حق المؤمنين-"وأما من أوتي كتابه بشماله" في حق الكافرين.
وأثبت وزن الأعمال بقوله: "والوزن يومئذ الحق".
وأثبت الصراط بقوله: "فأهدوهم إلى صراط الجحيم".
وأثبت النار بقوله: "إنا أعتدنا للظالمين ناراً".
وأثبت الكوثر بقوله: "إنا أعطيناك الكوثر".
وأثبت الجنة بقوله: "وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً".
وأثبت الشفاعة بقوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" وبقوله: "ولسوف يعطيك ربك فترضى" وبقوله: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى".
وأثبت رؤية المؤمنين له تعالى في الآخرة بقوله: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة".
فهذه أصول الدين إلهياتها، ونبواتها، وسمعياتها، قد أثبتها الله تعالى في القرآن العظيم، فكل ما لم نذكر منها فهو مندرج فيها.
ويجب على كل مكلف أن يعتقدها، كما جاءت، وبالله التوفيق.
في ذكرى ما يحدث الناس به في الفقه
[من رسالة القيرواني]واعلم أنه يرتب تلك الفروع بلغة الحاضرين، وهو أن يقول: الاستبراء واجب، وهو الاستنجاء، وصفته أن يبدأ بغسل يده، فيغسل مخرج البول، ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده، ثم يحكها بالأرض ويغسلها، ثم يستنجئ بالماء، ويواصل صبه، ويسترخي قليلاً، ويجيد عرك ذلك بيده حتى يتنظف من الأذى، وليس عليه غسل ما بطن من المخرجين، ولا يستنجي من ريح.
الوضوء وصفته
وهو أن يغسل يديه، ثم يدخل يده في الإناء إن كان مفتوحاً، فيأخذ الماء فيمضمض فاه ثلاثاً من غرفة واحدة إن شاء، إو ثلاث غرفات، وإن استاك بأصبعه فحسن، ثم يستنشق بأنفه الماء، ثم يستنثره ثلاثاً: يجعل يده على أنفه كامتخاطه، ويجزئ أقل من ثلاث في المضمضمة والاستنشاق وله جمع ذلك في غرفة واحدة، والنهاية أحسن، ثم يأخذ الماء إن شاء بيديه جميعاً ، وإن شاء بيده اليمنى، فيجعله في يديه جميعاً، ثم ينقله إلى وجهه فيفرغه غاسلاً له بيده من أعلى جبهته، وحده: منابت شعر رأسه إلى طرف ذقنه، ودور وجهه كله من حد عظمي لحييه إلى صدغيه، ويمر يديه على ما غار من ظهر جفانه وأسارير جبهته، وما تحت مارنه من ظاهر أنفه، يغسل وجهه هكذا ثلاثاً، ينقل الماء إليه، ويعرك لحيته في غلسه وجهه بكفيه ليداخلها الماء، وليس عليه تخليلها في الوضوء في قول مالك ويجري عليها يديه إلى آخرها، ثم يغسل يده اليمنى ثلاثاً، أو اثنتين يفيض عليها الماء ويعركهما بيده اليسرى، ويخلل أصابع يديه بعضها ببعض، ثم يغسل يده اليسرى كذلك، ويبلغ فيهما بالغسل إلى المرفقين يدخلهما في غسله-وقد قيل: إليهما حد الغسل، فليس بواجب إدخال فيه، وإدخالهما فيه أحوط، لزوال تكلف التحديد، ثم يأخذ الماء بيده اليمنى، فيفرغه على يده اليسرى، ثم يمسح بهما رأسه، يبدأ من مقدمه من أول منابت شعر رأسه-وقد فرق أطراف أصابع يديه، بعضها ببعض على رأسه، ويجعل إبهاميه في صدغيه، ثم يذهب بيديه ماسحاً إلى آخر شعر رأسه مما يلي قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ، ويأخذ بإبهاميه خلف أذنيه إلى صدغيه، وكيفما مسح أجزاه، إذا أوعب رأسه، والأول أحسن.
ولو أدخل يديه في الإناء، ثم رفعهما مبلولتين، ومسح بهما رأسه أجزأه، ثم يفرغ الماء على سبابتيه وإبهاميه، وإن شاء غمس ذلك في الماء، ثم يمسح بهما أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وتمسح المرأة كما ذكرنا، وتمسح دلاليها، ولا تمسح على الوقاية، وتدخل يديها من تحت عقاص شعرها في رجوع يديها في المسح، ثم يغسل رجليه يصب الماء بيده، ويعركهما بيده اليسرى قليلاً قليلاً، يوعبهما بذلك ثلاثاُ، وإن شاء خلل أصابعه في ذلك، فإن ترك فلا حرج، والتخليل أطيب للنفس، وأحب إلى العلماء ويعرك عقبيه وعرقوبيه وما لا يكاد يداخله الماء بسرعة من جساوة أو شقوق.
الغسل
وصفته: أن يبدأ بغسل ما يفرجه أو جسده من الأذى، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، فإن شاء غسل رجليه، وإن شاء أخرهما إلى آخر غسله. ثم يغمس يديه في الإناء، ويرفعهما غير قابض بهما شيئاً، فيخلل بهما أص3ول شعر رأسه، ثم يغرف بهما على رأسه ثلاث غرفات، غاسلاً له بهن، وتفعل ذلك المرأة وتغعث رأسها وليس عليها حل عقاصها، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر ويتدلك بيديه بأثر صب الماء، حتى يعم جسده، وما شك أن يكون الماء أخذه من جسده عاوده به، ودلكه بيده حتى يوعب جميع جسده، ويتتبع عمق سرته وتحت حلقه، ويخلل شعر لحيته، وتحت جناحيه، وبين اليتيه، ورفغيه، وتحت ركبتيه وأسافل رجليه، ويخلل أصابع رجليه، ويغسل رجليه آخر ذلك، يجمع ذلك فيهما لتمام غسله وتمام وضوئه، إن كان أخر غسلهما.
ويحذرأن يمس ذكره في تدليك باطن كفيه، فإن فعل ذلك وقد أوعب ظهره أعاد الوضوء وإن مسه في ابتداء غسله، وبعد أن غسل مواضع الوضوء منه فليمر بعد ذلك بيديه على مواضع الوضوء بالماء-على ما ينبغي من ذلك وينويه.
التيمم
وتيمم المريض والمسافر والصحيح الحاضر الذي عدم الماء، أو لم يقدر على مسه، أو خاف حديث مرض أو زيادته.
وصفته: أن يضرب بيديه الأرض، وإن تعلق بهما شيء نفضهما نفضاً خفيفاً، ثم يمسح بهما وجهه كله مسحاً، ثم يضرب بيديه الأرض فيمسح يمناه بيسراه، ويجعل أصابع يده اليسرى على أطراف أصابع يده اليمنى. ثم يمر أصابهع على ظاهر يده وذراعه. وقد حنا عليه أصابعه حتى يبلغ المرفق، ثم يجعل كفه على باطن ذراعه من طي مرفقه قابضاً عليه، حتى يبلغ الكوع من يده اليمنى، ثم يجره بباطن إبهامه على ظاهر إبهام يده اليمنى، ثم يمسح اليسرى باليمنى هكذا.
ولن مسح اليمنى بكفه اليسرى، واليسرى بكفه اليمنى، كيف شاء وتيسر عليه وقد أوعب المسح لأجزأه. والأول أحسن.
الصلاة
وصفتها أن تنوي أداء الصلاة الحاضرة وتعاونها بلفظة التكبير، وهو أن تقول: الله أكبر، مع حصول النية في القلب، واحذر أن تفعل ما يتعاطاه بعض الجهلة، وهو أن يقول: الله، ثم يسكت للنية، ويقول: أكبر، أو يقول: الله أك، ثم يسكت لذلك، ثم يقول: بر. وترفع يديك حذو منكبيك، أو دون ذلك، ثم تقرأ الفاتحة مع سورة سرأً، إن كان نهارية، أو جهراً إن كانت ليلية، فإذا تمت السورة تكبر في انحطاطك إلى الركوع فتمكن يديك من ركبتيك، وتسوي ظهرك، مستوياً، ولا ترفع رأسك، ولا تطأطئ، وتجافي بضبعيك عن جنبيك، وقل إن شئت: "سبحان ربي العظيم وبحمده"، ثم ترفع رأسك وأنت قائل: "سمع الله لمن حمده"، ثم تقول: "اللهم ربنا لك الحمد"، إن كنت وحدك أو خلف إمام، وتستوي قائماً مطمئناً مترسلاً، ثم تهوي ساجداً لا تجلس، ثم تسجد، وتكبر في انحطاطك للسجود، فتمكن جبهتك وأنفك من الأرض، وتباشر بكفيك الأرض باسطاً يديك، مستويتين إلى القبلة، تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك، وذلك واسع، غير أنك لا تفرش ذراعيك في الأرض، ولا تضم عضديك إلى جنبيك، ولكن تجنح بهما تجنيحاً وسطاً، وتكون رجلاك في سجودك قائمتين وبطون إبهاميهما إلى الأرض، وليس لطول ذلك وقت.
وأقله أن تطمئن مفاصلك متمكناً، ثم ترفع رأسك بالتكبير، فتجلس فتثني رجلك اليسرى في جلوسك بين السجدتين، وتنصب اليمنى، وتجعل بطون أصابعها إلى الأرض، وترفع يديك عن الأرض على ركبتيك. ثم تسجد الثانية كما فعلت أولا، ثم تقوم من الأرض كما أنت، معتمداً على يديك، لا ترجع جالساً لتقوم من جلوسك، ولكن كما ذكرت لك، وتكبر في حال قيامك، ثم تقرأ كما قرأت في الأولى، أو دون ذلك.
قضاء الفوائت
ومن نشي صلاة فليصلها إذا ذكرها.
السهو
ومن سها عن سنة مؤكدة كسورة، أو جهر، أو تكبيرتين غير الإحرام أو تحميدتين، أو أحد التشهدين، أو جلوس له-سجد قبل السلام، وكذا من نقض وزاد.
وفي الزيادة فقط، كجهر بمحل سر، يسجد بعد السلام.
الزكاة
فمن وجب عليه الزكاة فليخرجها من طيب ماله، مع طيب نفس.
زكاة الفطر
تجب زكاة الفطر على كل كبير وصغير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين، وهي صاع على كل نفس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربعة أمداد بمده عليه الصلاة والسلام. وتؤدي من جل عيش أهل ذلك البلد.
الصوم
وصوم شهر رمضان فريضة، يصام لرؤية الهلال، ويفطر لرؤيته، والسنة فيه تعجيل الفطر، وتاخير السحور.
الحج
وحج البيت فريضة على كل من استطاع إليه سبيلاً من المسلمين.
الذكاة
يذبح الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والحر والعبد، وهو قطع الحلقوم والأوداج، لا يجزئ أقل من ذلك.
اليمين
ومن حلف بالله ثم حنث، فعليه الكفارة. وهي إطعام عشرة مساكين من المسلمين الأحرار مداً لكل مسكين، بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كساهم، كساهم للرجل قميص، وللمرأة قميص وخمار، أو عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد ذلك ولا إطعاماً، فيصم ثلاثة أيام يتابعهم، فإن فرقهن أجزأه.
النذر
ومن نذر لله نذراً فليوفه.
النكاح
ومن تزوج فليتزوج مثنى مثنى، وثلاث ثلاث، ورباع رباع، فلا يزد على ذلك، فإن لم يستطع فواحدة.
وليعدل بين نسائه، وعليه النفقة والسكنى بقدر وجده، ولا قسم في المبيت لأمته، ولا لأم ولده.
البيع
ومن باع فليتجنب الخلابة والخديعة، وليذكر عيب سلعته.
حفظ الأعضاء الظاهرة من المعاصي
ويجب على كل مسلم أن يحفظ أذنه من استماع كل لغو وباطل، وأن يحفظ عينيه من النظر إلى الحرام والهمز والغمز، وأن يحفظ اللسان من الغيبة وكل ما لا يجوز، والتحدث بالباطل والغش والنميمة، وأن يحفظ يديه من السرقة بهما وغيرها، وأن يحفظ البطن من أكل الحرام، وأن يحفظ العورة من الزنى واللواط، وأن يحفظ رجليه من مشية المختال، ومن المشي إلى المعصية.
ذكر ما يحدث الناس به في فن التصوف
واعلم أنه يقول: اعلموا أن صفات القلب على ضربين: مهلكات ومنجيات، فالمهلكان: هي الكبر والعجب، والحسد، والحقد، والبخل، والرياء، وحب الجاه، وحب المال، والافتخار، والأمل، وإساءة الظن بالمسلمين، فهذه العشر من المهلكات من أصول مذمومات الأخلاق.
ويجب على كب مسلم أن يتخلي عنها، ويتحلي بالمنجيات، وهي: التوبة، والإخلاص، والصبر، الزهد، والتوكل، وتفويض الأمر إلى الله تعالى، وإرضا بقضائه، والتقوى، والخوف، والرجاء. وهذه أيضاً من المنجيات من أصول محمودات الأخلاق، فمن أثبتها أثبت فروعها فيه بإذن الله تعالى. [وانظر "أصول الولاية"، فيها خمس عشر صفات]
ذكر ما يذكر به من آيات الترهيب وذكر النار
واعلم أنه يرتب الآيات، وهو أن يقول:
فمن امتثل أوامر الله واجتنب نواهيه، فقد سلك طريق الجنة، ومن لم يمتثل أوامر الله ولم يجتنب نواهيه، فقد هوى في النار، والتحق بأهلها. "لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش".
وقال تعالى: "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل"، وقال تعالى: "وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقي من ماء صديد، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان، وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ"، وقال تعالى: "والذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، وصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق". وقال تعالى: "أذالك خير نزلاً أم شجرة الزقوم، إنا جعلناها فتنة للظالمين، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فإنهم لأكلون منها فمالئون منها البطون، ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم، إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون". وقال تعالى: "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم".
ويقال للملائكة: "خذوه"-يعني كل واحد من أهل النار-"فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم". "خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه". وقال تعالى: هذا فليذوقوه حميم وغساق. وآخر من شكله أزواج". وقال تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم، ثم في النار يسجرون". وقال تعالى: "إن لدنيا أنكالاً وجحيماً، وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً".
ثم بعد ذلك يذكر محاورة أهل النار، كما في حديث السهقي: "أنه كان لأهل النار خمس دعوات: فيجيبهم الله تعالى في أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً: يقولون ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل؟" فيجيبهم الله تعالى: "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم به، وإن يشرك به تؤمنوا. فالحكم لله العلي الكبير".
ثم يقولون: "ربنا أبصرنا وسمعنا فرجعنا نعمل صالحاً، إنا موقنون". فيجيبهم الله تعالى: "فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم، وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون".
ثم يقولون: "ربنا أخرنا إلى أجل قريب، نجب دعوتك ونتبع الرسل". فيجيبهم الله تعالى: "أو لم تكونوا أفسمتم من قبل ما لكم فذوقوا فما للظالميم من نصير".
ويقولون: "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين". فيجيبهم الله تعالى: "اخسئوا فيها ولا تكلمون". فلا يتكلمون بعدها أبداً.
وكثيراً ما ذكر محاورتهم التي في حديث ابن المبارك، قال: بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، وقال الله تعالى: "وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب". فرد عليهم الخزنة: "أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: فادعوا. وما دعاء الكافرين إلا في ضلال". فلما يئسوا من الخزنة نادوا مالكاً-وهو عليهم غضبان، وله مجلس في وسطها، وجسور يمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها-فقالوا: "يا مالك ليقض علينا ربك". فسألوا الموت، قال: فسكت عنهم، ثم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال: والسنة الثلثمائة وستون يوماً والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون. ثم لحظ إليهم بعد الثمانين، فقال: "إنكم ماكثون".
فلما سمعوا منه ما سمعوا، ويئسوا من قبله، قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء، إنه قد نزل من العذاب والبلاء بنا ما قد ترون، فهلم فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، وأجمعوا رأيهم على الصبر، فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا، فنادوا: "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، ما لنا من محيص". أي من منجى.
قال إبليس عند ذلك: "إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل". فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، قال، فتودوا: "لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم"، إلى قوله: "فهل إلى خروج من سبيل؟" قال: فرد عليهم "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير".
فهذه واحدة. فنادوا الثانية: "ربنا أخرجنا نعمل صالحاً إنا موقنون". قال: فرد الله تعالى عليهم: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون".
فنادوا الثالثة: "ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل". فرد الله تعالى عليهم: "أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لك من زوال، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال، وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال". هذه هي الثالثة.
ثم نادوا الرابعة: "ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل". قال الله لهم رداً عليهم: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير". ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم: "أفلم تكن آياتي تتلى عليهم فكنتم بها تكذبون؟" قال: فلما سمعوا كلامه قالوا: الآن يرحمنا ربنا، فقالوا عند ذلك: "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون". فقال عند ذلك: "اخسئوا فيها ولا تكلمون".
تصدر للتدرس كل مهوس جهول ليسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس والواجب في حق العامة ومن في معنامم الإرشاد والإنكار، فيما استوى في إدراكه العام والخاص، من غير تصدر ولا انتصاب اتفاقاً.
ومنها الإمكان، كما نبه عليه غير واحد من العلماء.
ومنها حسن السير، قال تعالى: " وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران 159]. وهذه الشروط الثلاثة لا بد منها.
ألا بلغن عني وإن كنت نائيا ولاة يروح الجور منهم ويرجع فإن تنتهوا عن غيكم قد رشدتم وإلا فحرب بيننا متوقع وإن نحن أوذينا نفر بديننا إلى الله إن الأمر لله راجع وأيضاً:
أراقبهم في كل وقت علمته أراقبهم في وقت كل شروق وإن فجأونا بالعقيرة في الضحى نجالدهم حتى تقوم بسوق ولكن يتيح الله لهم الصوت فيموتون عن قريب ثم إنه لما رأوا الشيخ لا ينتهي عما هو فيه، ولا يزداد إلا حسناً وابتهاجاً، ولا يزال عوام الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، خافوه على أمرهم، لأن أمرهم مخالف لما هو بصدده، بل مضاد لغالبه. فلا جرم أن سلطنتهم لا يوافقها الشريعة، لأنهم أخذوا من العبادات قدر ما يتنظفون به ويستترون، فيأتون بصورة الصلاة والصيام والزكاة، ويتلفظون بكلمتي الشهادة من غير مراعاة لشروط ما ذكر.
وأما الأحكام فهم متجمدون على ما وجدوا آباءهم الأسلاف الذين لم يقروا بالإسلام، ولم يدعوه لأتنفسهم، وغالب أحكامهم مصادم للكتاب والسنة وإجماع الأمة، كما هو معلوم مشهور مع أنهم مغترون بأقوال وأفعال لا تصدر إلا من كافر.
فلا جرم أن ظهور الدين، وقيام الشرع لا يوافقهم، فلذلك أجمعوا كيدهم على نصب القتال بينهم وبين الشيخ وجماعته، ولا يشكون أن الدولة لهم، لما يرون من ضعف أتباعه عن المقاتلة. فاجتمع مشورتهم على زجر الدعاة إلى الله، ومنعهم من الوعظ، وأمر كل أحد أن يرجع إلى ما وجد عليه آباءه وأجداده، فلم يرعنا إلا إنذار أمير غوبر نافانا، بثلاثة أمور:
- أنه لم يرض لأحد أن يعظ الناس إلا الشيخ وحده،
- ولم يرض لأحد بالإسلام إلا وارثه من آبائه، ومن لم يرث الإسلام فليعد إلى ما وجد عليه آباءه وأجداده،
- وألا يتعمم أحد بعد اليوم، ولا تضرب امرأة بخمارها على جيبها.
وهذا إنذاره في الأسواق، كل ذلك سعى منه في مكيدتنا، فكفانا الله كيده ومكره، فأتاح الله له الموت بعد لك عن قريب.
ولما ولي ابنه-ثينف-شمر عن ساق الجد والاجتهاد على ذلك، حتى غزا قرية عظيمة من قرى الإسلام، على حين غفلة من أهلها، فقتلوا ما شاء الله من فقهائها وقرائها في نهار رمضان، وهم صائمون، ونهبوا أموالهم، وأسروا ذراريهم، وجعلوا يفترشون الكتب والمصاحف، ويحتطبون الألواح فيوقدون بها، ويستهزئون بأهل الإسلام، ويقولون لهم: "إيتونا بما تعدوننا إن كنتم صادقين".
ثم جلموا يعرضون لقرية الشيخ، حتى أرسل أميرهم إلى الشيخ أن ينحاز بأهله وإخوانه وأبنائه فإنه يريد أن يهجم على القرية. فأبى عليه الشيخ إلا أن يهاجر بجماعته،-ثم إنه أظهر الندامة فيما قال، وطلب من الشيخ المقام وترك الاتنقال، مع أن قرائن الأحوال مؤذنة بعدم الأمانة منه، وشواهد الأدلة ناطقة بذلك. فاعتذر إليه الشيخ فهاجر من وسط بلادهم عام شريج في شهر ذي القدعة، لعشر مضت منه. [1213 = 15 إبريل 1799م، ولكن اقرأ "ح" عوض "ج" فتجد 1218 = 21 فربرائر 1804م]
وقام الفقيه النبيه، الزكي الرضا المعروف بأغال التاركي [Agali]، صاحب الشيخ، وندم التوارك إلى معاونة الشيخ في الهجرة، وحمايته مما يتوقع من أعدائه. فأعان الشيخ هو وكل من استمع له وأطاع منهم، حتى وصل الشيخ إلى غد [Gudu]، ثم رجع واجتهد في إخراج المسلمين من وسط الكفار، وأعان كثيراً منهم.
وكنت عنده بعد غزو الكفار قرية المسلمين، من أهل غينا المذكورة آنفاً، ورأيته حزن لذلك جداً، ولحقه الحمية الإسلامية، ولما خرجت من عنده، وهو يريد القدوم على الشيخ وقد سمعت أن أمير غوبر أرسل إلى الشيخ أن ينحاز بأهله وإخوانه، فإنه يريد أن يهجم على القرية، كتبت مع صاحب لي كتاباً، أنقذته مع الفقيه أغال، فمن جملة ما فيه:
هلا غرضت إلى شيوخي حسبة مني رسولا فزت بالآمال أن يهجروا البلد القبيح فعاله ويبادروا التحويل في استعجال إنا سنوقع فيه غارات لها نقع يثير قتامها كالآل فالحزم شأني والمقام وركنه والبيت والعرفات ذي الأجبال كلا ولست من الدناءة حاملا إن الدناءة حمل ذي الأثقال وإذا أذيت ببلدة ودعتها أنا لا أقيم بغير دار حلال إن الإقامة في مقام مذلة عجز ولوم غير فعل كمال ولقد هممت وقد ينجز وعده فيفوز بالفوز الوفى أمثالي إن أوقع الحرب العوان لغوبر أو يرد منها أعجل الآجال فكتب إلى الوالد أن أقدم إلينا بما قدرت به من العون على الهجرة، فإنا إن شاء الله على جناح الهجرة، فسرت إلى كب. فبثثت الوثائق، وناديت بالجموع، فسرت حتى دخلت دغل، ووجدتهم في الهجرة، فهاجرنا من وسع بلادهم سالمين، وأعاننا الفقيه أغال، والشيخ محمود غردم، وعلي جيد قائد الجيوش، وغيرهم، فنزلنا بغد، فجعل المنتسبون إلى الشيخ من أهل الأطراف، يهاجرون إليه إرسالاً للشهرين، ثم حجروا الناس عن الهجرة في المحرم بأمر الأمير، فجعلوا يقطعون على المهاجرين الطرق، ويأخذون أموالهم، وأعانهم على ذلك موالوهم التوارك.
فلم نزل هكذا، يلتحق بنا طائفة مع عيالهم وأموالهم، وطائفة بعيالهم دون أموالهم، وطائفة بأنفسهم دون عيال وأموال.
ثم إن الأمير لما رأى أن الناس لا ينتهون عن الهجرة، كتب إلى الشيخ يأمره بالرجوع إلى موضعه دغل، يلتمس ذلك منه. فكتب إليه الشيخ أنه لا يرجع هناك حتى يتوب الأمير، ويخلص دينه كما ينبغي ويتفق هو والمسلمون على دين واحد، ويبسط القسط والعلد، ويرد جميع ما سلبوا من الجماعة وما أسروا منهم، ليأمن الناس منه، فحينئذ يرجع إلى محلته دغل. فسار بهذه الوثيقة بريده، ورد مع وزير الأمير القادم علينا بكتابه. فلما وصل إليه وقرأ عليه الكتاب وقد استحضر جميع وزرائه وعلمائه، جعل يسب الشيخ والجماعة، ويوغد عليهم. واستفتى من حضر من علمائه في أمر الشيخ وجماعته، فقالوا له: أنت على الحق، والشيخ وجماعته على الضلال. فكان كما قالت علماء اليهود، حين سألهم المشركون: من أهدى سبيلاً، يا معشر أهل الكتاب، نحن أم محمد؟ فقال ابن صوريا: أعرضوا علينا دينكم،. فقالوا: نحن ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج، ونفك العناة، ونحفظ بيت ربنا، ونعبد ما يعبد آباؤنا، ونصل الأرحام. فقال: وما دين محمد؟ قالوا: صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه السراق الحجيج، بنو غفار. قال: لأنتم خير منه وأهدى سبيلاً. فأنزل الله: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤)" [النساء]. -أورد هذه الرواية هكذا أحمد بن حنبل وابن جرير والن المنذر وغيرهم.
حدثني الأخ المشارك التقي العابد المتفنن، أبو الحسن بن أحمد، أنه حضر الواقعة. فكان ما حدثني أن الذي تولى القراءة-أعني قراءة كتاب الشيخ على الأمير-زور وحرف كما شاء، وذكر أموراً لا تطابق الحال، كل ذلك إغراء للأمير على غزو الشيخ وجاعته. ووافقه على ما زخرف واخترع وزور من حضر من علمائهم السوء.
والأخ التقي الصالح المعروف، بهداه حاضر-وكان قبل ممن ينصح الأمير ويوازره-وهو ساكت لا يقول شيئاً. ثم إن قال الأمير لبريد الشيخ: انفذ ولا أجد لك دليلاً، وإذا بلغك الله إلى الشيخ، فأخبره بأني على التهئ والجهاز في المسير، فليتأهب للقائي.
فخرج البريد هائماً، لا يدري أين يتوجه، ولم يجد من يشيعه، مع أن السودانيين يقتلون كل من رأوه فلاتياً. ولما خرج من عنده سلك الشمال حتى وصل إلى الطبل اغنبل، فجعل له دليلاً إلى بلدة آزر. فلما وصلها تلطف حتى وصل إلى الشيخ، فأخبره بجميع ما كان، وسائر وزرائه حاضرون.
ثم إنه لما علمنا بالضرورة انقطاع حبال الأمانة بيننا وبينهم، وقد أعانهم على عداوتنا جميع من هو على شاكلتهم من السودانيين والتوارك، ولم يبق لنا ملاذ أو ملجأ في ملوك هذه البلاد لتظافرهم على عداوتنا، وتعاقدهم على ذلك، روماً منهم لاستئصالنا، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، وقلنا إنه لا يتأتي للناس أن يكونوا هملاً من غير وال. فبايعنا الشيخ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، فبايع هو على إتباع الكتاب والسنة ليلة الخميس.
وأول ما بايعه أخوه الوزير عبد الله، ثم بايعته، ثم بايعه الوزير عمر الكموني، ثم بايعه الكافة. ثم إنه لما أصبحنا عقدت الرايات، ونفذنا إلى حفر الخندق، ونحن نتمثل بقوله:
والله لو لا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام أن لاقينا إن الأولى لقد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا حتى حفرنا قدر استطاعنا. ثم إنه كان قبل مسير البريد إلى القاضاو، مع وزير الأمير، حين أكثر السودانيون قطع الطرق للمهاجرين، هاج الجماعة يوم الخميس على السودانيين الذين في تلك الجهة، فمالوا عليهم بالقتل والأسر والنهب. فلما أصبح يوم الجمعة قام الشيخ فخطب الناس فأمر بإطلاق الأسارى ورد المنهوب، فأطلقوا ورد المنهوب إليهم.
ثم إنه كان قبل مسير البريد، كان يغزونا من عمال الأمير، يستلبون النفر ويأسرون والشيخ يعرض عن ذلك. فغزا خيل مراداوس، وغزاخيل-منتكر بزاغ ورمز-فقتلوا ونهبوا الأموال. والبريج إذ ذاك عند أميرهم. ثم إنه لما رجع البريد وأخبرنا بما جرى هناك أمرنا أميرنا وحفرنا الخندق، أنفذنا جيشنا إلى أطراف بلدهم، إلى موضع يقال له غنغ-بكسر الغين والنون-فلقي الجيش كيداً ونصراً، فقتلوا، وأسروا ما شاء الله. ثم إنه أنشأنا جيشاً آخر في اثنين من شهر الربيع الأول، وفخرجت بالرايات إلى المعسكر. فلم يفجأني إلا صائح: السلاح السلاح، واصباحاه. فغرزت الرايات حتى يأخذها أمير الجيش قائد الجيوش، فخرجت صامداً إلى الصارخ، حتى وصلنا إليه، فوجدنا الخيل التي أغارت قد ولت راجعة، فاقتفينا آثارها من الضحى، فلحقنا بهم بعد صلاة العصر بثرم-بفتح المثلثة وإسكان الراء-ونحن خمسة. فلم نلق كيداً، فرجعنا من ورائهم بعد صلاة المغرب. وقد عطشنا وعطش خيلنا. فذبحنا من البقر التي يخلفون، فمصصنا الفرش-الكرش وذهبنا راجعين، ولقينا بالجيش ناهضاً، فسار الجيش حتى غزاهم في صباح تلك الليلة.
وحدثني من حضر الواقعة أن الكفار لما سمعوا بحسهم تأهبوا واستلأموا. ولقوهم فهزمهم المسلمون حتى وصلوا إلى ديارهم، فأسروا ونهبوا. ثم مالوا إلى الماء فنزلوا فسقوا واستقوا حتى رووا. ثم راحوا واستشهد في هذا الغزو مؤذن الشيخ أحمد السوداني، والرجل الصالح بركند. والحاصل أنه لم يزل يجري بيننا وبينهم وقائع منذ قدم البريد وقبل قدومه، ولم يزالوا يرسلون إلينا بالسرايا مثل كرفيا-بضم الكاف وإسكان اراء-ونرسل إليهم بالسرايا، حتى كانت هذه الوقعة المتقدم ذكرها.
ذكر وقعة كن [Konni]
-بضم الكاف وتشديد النون-وهي قرية جيل من السودانيين. ويقال أن أباهم غوبري، وأمهم من مماليك التورد. قبيلتنا هذه. ويقال أن قبيلتنا هذه ساكنوهم أول دخولهم في هذه البلاد مدة طويلة، ثم تسلط عليهم أمير كن، محمد دمك-بفتح الدال وإسكان الميم-فأغار عليهم غدراً، وذبح من القراء والعلماء نحو أربعين نفساً في مساجدهم، وأسر الذراري، ونهب الأموال، فجلا من ذلك الرجل الصالح محمد بن سعد، مع من التحق به، ونزل بمرت-بفتح الميم والراء وتشديد التاء-في بلد غلم-بفتح الغين وإسكان اللام-ووال أمير غوبر، ونزل بنوعال، بقلب-بضم القاف واللام-والتحق بنو تحند-بفتح التاء وإسكان الحاء وضم النون-مع من معهم بأرض زنفر، واستوطنوا تواغام-بفتح التاء والواو والغين.
ومنهم الأستاذ الأديب، العلامة التحرير، الفهامة المعروف بشيخ، أخذ عن قاضي العسكر يكنو، الفقيه المحدث موسى غير، وهو عن الإمام اعلامة محمد البعاوي، وهو عن عند الله اثقة. ثم رحل لأكدز، وأخذ عن العلامتين: الشيخ والدرفان، وسعيد باش. وأخذ أيضاً عن الشريفة آمنة، وعنه أخذ أخوه الأديب المتفنن المحدث المعروف ببل سميح، والد الأديب النبيه الجهيذ، العلامة المحدث إبراهيم بل. ثم إنه تخلف آخرون في غربي آذر، وخلو أرض كن.
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر وقعة كن. وكان من حديثها أنه لما رجع غزو متنكر-بفتح الميم والتاء وإسكان النون وفتح الكاف-اجتمعنا للتخميس وقسم الأربعة الأخماس على الغنمين عسر علينا وتعذر، لانشار الأمور وعدم ضبطها، وكثرة الخلائق، حتى لا يمكن كتبهم في ديوان، مع انتشارهم حين رجوعهم، أخذ كل فريق إلى ناحيتهم وجمعنا ما قدرنا عليه، ووضعناه عند الخازن، عمر الكمون، وفكرنا في قسمه، فلم يتفق لنا. ثم خمسناه، ورددنا إلى الغنمين الذين قدرنا عليهم ما بقي، فصالحوا فيما بينهم، ولما انفصلنا من هذا الأمر أنشأنا جيشاَ، فخرج يوم الاثنين في الربيع الأول، وقد سمعنا بخبر مسير أمير غوقبر إلينا، وأنه بالمعسكر، فشاورنا في أمر الغزو فاتفق رأينا بمسيره وتعجيله، فخرج الجيش وعليه من أصحال الشيخ، محمد غير-بفتح الغين-فسار به عشية الأربعاء وليلة الخميس، فصبح الحصن صبح الخميس، فقاتلوه أشد قتال. واستشهد من المسلمين خلق كثير. ثم فتح الله عليهم الحصن في العصر من اليوم، فقتلوا رجاله وسبوا نساءهم وذراريهم، واحترق أكثر عيالهم في النار التي رموها، وقتلوا أمير البلد. ثم إنهم لما فرغوا من الخصن أتاهم تاركي، فقال لهم: أدركوا عيالكم، فقد خلفكم فيهم أمير غوبر، فإنه خرج من معسكره يوم الثلاثاء، وبات ببور-بضم الباء-ثم رحل وحل بغنب-بفتح الغين وإسكان النون-فنهض بالجيش محمد غير بغنب-فتح الغين-ورجعوا يومهم. ثم إنه قمنا غاية جهدنا ذلك اليوم وطلبنا القسم نكما ينبغي، فتعسر لأجل ما ذكرنا قبل، مع ضيق الوقت.
ذكر وقعة كتو
-بضم الكاف والتاء-وهي أعظم وقعة بيننا وبينهم، وهي بمثابة يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان.
وكان من حديثها أنه لما خرح بريدنا من عند أمير غوبر، أخذ الأمير في التأهب والجهاز وأرسل إلى أطراف بلاده، وكانت إخوانه أمير كاشنة، وأمير كنو، وأمير زكزك، وأمير دور وأمير أزبن، فأجابوه كلهم بما التمس منهم من مساعدته ومعاونته على كل من انتسب إلى الشيخ. وأذنوا له في الغزو، وأخذ كل واحد منهم يتأهب لغزو من انتسب إلى الشيخ في بلده.
ثم إنه لما أجابوه وأذنوا له في المسير ، وعاهدوه على المعاونة، خرج يوم الأحد إلى معسكر له من داخل الحصن، وبات ليلتين أو تسع ليال، ثم خرج وسلك اليمين، وبات بنور، ثم رحل ونزل بغنب، كما تقدم، ثم رحل وحل بمكد-بفتح الميم والكال-ثم رحل ونزل بشار، ثم رحل ونزل بجان سرك-بفتح الجيم وإسكان النون وفتح السين وإسكان الراء-وبات ليلتين ينتظر بعض جنوده. وأقبل بجنود لا يحصى دععهم إلا الله، وانضاف إليه أكثر التوارك مشمرين. ثم إنه لما بلغنا مسيرهم إلينا بالتواتر، خرجنا صباح السبت، فعسكرنا قريباً من ديارنا، وعلينا الوزير الأكبر، أخو الشيخ عبد الله، فنزل بنا قريباً. وظللنا يومنا ولم نسمع عن خبرهم شيئاً، فرحنا إلى ديارنا فبتنا فيها. ثم إنه غدونا صباح الأحد إلى حيث ظللنا أمس، فإذا خيل من إخواننا الفلانيين خرجوا من عسكر الجيش مهاجرين، وقد خلفوا عيالهم في ديار الكفار، وهم أبو بكر قائد الخيل الآن، ودمي-بضم الدال وكسر الميم-ويدمام-بكسر الياء والدال-وابن يمي-بكسر الياء الأولى وتشديد اياء الثانية.
وأخبرونا أن الجيش لما نهض من جان سرك، نزل ميداج-بفتح الميم وإسكان الياء-وأنه نهض من ميداج إلى أغ-بفتح الهمزة والغين مع التشديد-أو إلى أيامي، يلدتان. فرجعنا إلى الديار فوجدنا الشيخ خارجاً. فدعا لنا وبشرنا بالنصر على الكفار، وشجع قلوبنا. ثم إنه أمرنا بالخروج ليلاً لما سمعنا بنزولهم أيامي. وكانت أيامي فريباً منا مسيرة نصف يوم. فخرجنا ليلاً وبتنا قريباً من ديارنا، وانتظرناهم يومنا متأهبين، بين جبلين بموضع يقال له ملب-بفتح الميم وكسر اللآم. فظللنا كلما طار أعصار طرنا إلى مراكزنا، وكلما رأينا دخاناً حتى أمسينا، فرجعنا إلى رحالنا. وفي هذا اليوم التحق بنا جموع المسلمين الذين في آدر مع الفقيه، آغال، ومحمد بن الأستاذ جبريل، وجود بن محمد وغيرهم، وفرحنا بقدومهم.
ثم إنه لما نزلوا أيامي ليلتهم، باتوا متعبئين. ثم لما أصبحوا نهضوا إلينا، فتلقاهم جموع الأعراب بجنبهم، فاقتتلوا ساعة. ثم هاجت سحابة فأمطرت فرجعوا إلى معسكرهم واستكنوا، ولما انكشف السحاب نهضوا إلى جموع الأعراب فاقتتلوا هم وإياهم أشد قتال. فهزموا الأعراب. ولكن لم يكن يومئذ بأس، وهؤلاء الأعراب رغبوا عن الدخول فينا وأخذوا جانبهم، فساق الله الجيش حتى نزل بساحتهم، وهم في عيال، فجرى ما جرى. ثم إنهم لما أصبحوا، وقد انحاز الأعراب وهربوا بعيالهم وبقرهم وسلكوا الغرب، ولم يتوجهوا إلى الشمال حيث كنا نهض الجيش. واتبع آثارهم فجعلوا يقتلون ويأسرون يومهم، حتى نزلوا بعد الغروب بكتوا وهوما، ليلة الخميس.
ثم إنه لما خرجنا يوم الأربعاء، وانتظرناهم إلى الزوال، فلم نسمع بحسهم، فخرجت في خيل فضربت حتى وصلت معسكرهم، فوجدت بعض الأعراب الذين اختفوا في الغيال، فخبروني بأن الجيش نهض وتبع آثار الأعراب، وهو الآن بقرب عيالكم. فكررت راجعاً، فلقيت بالوزير وقد نهض بالجيش، ونزل ببراغم-بفتح الباء والراء مع الغيا المعجمة-فخبرته بما جرى فكر راجعاً ومعه ما لا يحصيه إلا الله، فرجعنا إلى ديارنا فعسكرنا يقرب الديار، وبات أكثر الجند في ديارهم. ثم إنه لما أصبح انتظر قليلاً، حتى تلاحق الناس، فنهض بالجيش إلى كنو، ونحن بديارنا نشاهد الدخان، فسرنا إليهم صباح الخميس، وعبأنا في السير حتى وصلنا غردم-بضم الغين وإسكان الراء وفتح الدال. ثم ضربنا حتى نزلنا بقريب من مائهم الذي هو كتو، والجيش عليه فاستقينا من حياض، ثم نهضنا إليهم، وقد سمعوا بحسنا، ورأى خيلهم جمعنا، وسبق الفقيه أغال في خيل، فذاد جموعهم عن الحوض، واستلب منهم خيلاً. ثم إنه لما قربنا منهم أخذنا في التعبئة، وجعلنا نسير زحفاً زحفاً، وهم متعبئون واقفون على مراكزهم، قد استلاموا في جلائهم نحو مائة، وصفوا الدرق والمجن وتهيئوا، فبارزناهم فتراءينا، واكتحلت الأحداق باالأحداق، فكبرنا ثلاثاً، ثم نهضنا إليهم، وقد أنطقوا طبولهم، ونهضوا إلينا فالتقينا ساعة فحملت ميمنتهم على ميسرتنا حتى خالطوهم وألجأوهم إلى القلب. وحملت ميسرتهم على ميمنتنا كذلك، فثبت القلب منا، فرموا ورمينا، وكان قتالنا إذ ذاك بالرمي، فالخيل لا تعدو عشرين ومعهم من الجياد ما لا يحصيه إلا الله. فلما ثبت قلبنا تلاحق به الميمنة والميسر، وقامت الحرب على ساق، وتخالط الصفان، وهزم الله الكفار، فولوا هاربين، وتفرقوا أبابيد وحل المسلمون على أكتافهم يقتلون وينهبون فقتل منهم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فهرب أميرهم، وقتل صديقه، بيد ومتاج وغيرهم.
ثم إنه لما منح الله المسلمين أكتافهم تبعوهم ليلهم ويومهم، ورجع أميرنا الوزير على الماء فنزل فاستقينا، ثم رجعنا إلى معسكرهم فنزلنا حتى صلينا العصر، ثم رحلنا إلى ديارنا فبتنا، "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". وفي ذلك يقول الوزير عبد الله:
بدأت ببسم الله والشكر يتبع على قمع كفار علينا تجمعوا ليستأصلوا الإسلام والمسلمين من بلادهم والله في الفضل أوسع توارك مع غوبر ونيف سفيههم محزبهم والله يرأى ويسمع فلما أتوا غنغنغ ما فيه أفسدوا بحرق وتخريب وأشياء تقطع وجاسوا غياضا في نجوى فقتلوا جموعا من اعراب والمال يجمع فزادهم كفرا وزادوا تكبرا عليهم جلال والقوانس ترفع ولبس شفوف يزدهيهم وخيلهم لها خيلاء والزوابل شرع فقلت وفألي مثل أمر محقق لدي سينفي نيف بالذل يرجع وكنا انتظرناهم موضع بيننا ثلاث ليل ثم أخرى نربع ولما رأينا جبنهم عن جموعنا رحلنا إليهم واللواء مرفع فقيل لنا: ساروا إلى كت غربكم لكي يرجعوكم نحو شرق فتجمع فقلت: النجا لا يسبقونا لجمعنا بعشر ربيع بدرها يتطلع وصلنا لأهلينا فجاوزت منزلي بغير دخول فيه والناس هجع وليس معي إلا قليل أطاعني على السير بعد الأين والجوع يلذع ولما رأينا الفجر ضاء عموده نزلنا فصلينا إلى أن تجمعوا فسرنا إلى غردم وقد تم جمعنا قبيل زوال اليوم والجمع يوزع فذدنا جموع الكفر عن حوضه وقد رأوا جمعهم مثلي جماعتنا فعوا فظنوا محل الغيل ينصر جمعنا وأن الربا من ناصريهم ستنفع ففروا إليها ثم صفوا وأنطقوا طبولهم والجمع يدنو ويتبع إلى أن تراءينا وزاد اقترابنا رموا فرميناهم فولوا وأقشعوا فلم يك إلا أن رأيت جهامهم قد انكشفت عن شمس الإسلام تلمع بنصر الذي نصر النبي على العدا ببدر بجمع بلملائك يجامع وكم من كمي جدلته أسهامنا وأسيافنا وأراه طير وأضبع وكم ذي جلال صرعته أكفنا فجزّت فئوس رأسه يتقطع طردناهم وسط النهار فلم يكن لهم غير غيل في دجى الليل مفزع فجمع ظهري مع عشائيه ينفهم بريم على الإيماء والشمس تطلع لكل الجهات قد تفرق جمعه بداداً ليوم الجمع لا يتجمع فخلوا لنا أموالهم ونساءهم على رغمهم والله يعطي ويمنع ونحن علىالإسلام جمع تناصروا ولسنا بشيء غيره نترفع قبائل إسلام فتورب قبيلنا فلاتينا حوسينا الكل مجمع وفينا سواهم من قبائل جمعت على نصر دين الله كان التجمع بنو تور أخوال الفلاتين إخوة لعرب فمن روح ابن عيص تفرعوا وعقبة جد للفلاتين من عرب ومن تورب كانت أمهم هي يجمع فسل عنهم من حاربوا بمتنكر وكن وريم نص الأخبار يسمع فيا أمة الإسلام جدوا وجاهدوا ولا تنهوا فالصبر للنصر مرجع فقتلاكم في جنة الخلد دائما وراجعكم بالعز والمال يرجع فليس لما تبنى يد الله هادم وليس لأمر الله إنجاء مدفع وله أيضاً قصيدة أخرى:
ألا من مبلغ عني لدادي وزيد وكل ثاو في بلادي ولاة الكفر خوف فوات مال وطمع سلامة من ذي فساد بأن لم يبق بين المسلمين وبينكم علامات الوداد خذلتم جمع إسلام جهارا رضا منكم موالاة الأعادي نسيتم ما قرأتم في الكتاب لذا أخطأتم سبل الرشاد ألما يكفكم أن يثفقوكم ولا يألونكم في ذا المراد كذلك لا تجد لَا تَتَّخِذُوا لا.. إلى بُرَآَءُ مِنْكُمْ يا عباد [الممتحنة 1-3] لواسعة وَلَوْ كَانُوا وبدأ [المائدة 81] بَرَاءَةٌ فافهموا صوب السداد [التوبة 1] وليس لنا كلام في خليط لهم ود كبد وذاك بادي ولا تسأل عن أصحاب الجحيم كصاحب ناقة أهل الفساد تولى كبره يغضاً لدين فكان قدارهم وهم كعاد وإنا في بلاد ليس فيها سوى حكم الإله على العباد أمير المؤمنين لنا أمير وصرنا كلنا أهل الجهاد نجاهد في سبيل الله دوما فنقتل أهل الكفر والعناد سلوا عنا مصادمنا بغنغ متنكركن أيام الجلاد سلوا شيطان غوبر وهو ينف وهل لم ينف من بين البوادي وقد جمع الجموع لقطع دين ونادى في المدائن كل نادي وفوقهم السوابغ من دروع وتحتهم العتاق من الجياد فساروا يقتلون ويأسرون ذوي الإسلام روماً للفساد فلاقيناهم يوم الخميس يغردم قبل ظهر في النجاد وقد ركزوا لحوماً حول نار وحازوا في الخيام علا العتاد ثاباً من شفوف في صوان وأنواع البساط مع الوساد ولا تسأل عن الكعك الخليط بسمن مع عسول في المزاد نياما في النعيم فلم يرعهم سوى همس الرجالة والجياد وقاموا واستعدوا كل شيء لحرب ثم صفوا في عداد فسار لواؤنا يدنو إليهم وعاد لهم كغول في البجاد فراميناهم ورموا نفوطا فصارت نارها مثل الرماد كأن سهامهم لا نصل فيها وأسيفهم بأيد للجماد كأن رماحهم بيدي عمي فولوا هاربين بغير زاد تشتت جمعهم وهم عطاش حياري مثل غوغاء الجراد قتلناهم وحزنا كل مال لهم تركوه منثوراً بواد قتلنا قابغي وكذا تمدغي كذا ورو القياه في المبادي كذا أمثالهم تترى وكل شياطين وأشقاهم مغاد ففر بلا التفات ينف يعدو أمام خيوله تعدو بداد فأنفه من الموت المتاح تعلقه على عرف الجواد سواد الليل صار له حصونا فبات ولم يذق طعم الرقاد فوارسه عوابس في مروط عضضن على خيول كالقراد غياض بجو ظنوها قصورا فما بالوا بشوك أو قتاد فلم يرجع لهم ثوب صحيح وكل قد تمزق في الوهاد فليسوا راجعين إلى قتال لنا فيها إلى يوم المعاد ألا أبلغ أنا الحسن بن أحمد مغلغة تبين بالمراد بأنا سوف نجمع للجهاد جموعا من كوار إلى وطاد تحل ببركها غار وتخشى جناحاها رديف إلى غلاد تفرح كل ذي قلب سليم وتحزن كل كفار الفؤاد فإن الله ينصر ناصريه بوعد جاء من رب العباد فوعد الله تم بنصر دين وليس لنا سوى شكر الأيادي تمام الخبر عن واقعة كتو
ولما هزم الله المشركين بكتو، وهرب أميرهم ينف، وخلى من الأموال ما لا يحصيه إلا الله وغنمها المسلمون، فنزل بموضع يقال له تَنبَغَرك-بفتح التاء وإسكان النون وفتح الباء والغين المعجمة وإسكان الراء-ولقي من تخلف عن الوقعة من بعض أقياله أمير غم-بضم الغين المعجمة-وهو الذي سبب له غزو عبد السلام وجماعته بغنبنا-بكسر الغين وفتح الباء-حتى هاج هذا الأمر وكانوا يجلون هذا القيل، فأمره على من التحق به من الفل، فعسكر هذا القيل بشمولا-بكسر الشين وضم الميم مع التشديد، والتحق به من جموعهم خلق كثير، وقد انحاز قومهم من أهل ذمتهم من السودانيين، ومواليهم من الفلاتيين والتوارك، وهربوا إلى أقاصي البلد، وعسكروا هناك، أطمس قومهم بذلك، ورجعوا إلى ما حولهم.
ثم إنه لما رحعنا نحن إلى ديارنا، وقد رد الله عنا عدونا، أقمنا أياماً ننظر في شأننا وندبر في أمورنا، ونجبر كسرنا، ونحتال في طلب القوت إذا أنهم ضيقوا علينا وضن عندنا القوت، لظافرة السودانيين كلهم على عداوتنا، فلا نمتار في أي بلدة من بلادهم، ونحن مهاجرون، ليس عندنا إلا عيالنا ومواشينا، ولا نقتات إلا بما استلبنا من عدونا.
ذكر الطلب بعد الهزيمة والفل
ثم إنه اطمأنا أياماً. خرجت بالراية في طلب القوم، فسلكت الشمال، حتى نزلنا قريباً من مهاجرنا، ثم إنه أتى إلينا خيل أغاروا على أرض العدو، فخبرونا أن العدو كلهم رجعوا بعيالهم ومراكبهم، يحملون المعيشة، وأغتروا بالعسكر الذي بجنبهم، وكان بيننا وبين العسكر حين خبرونا نصف يوم.
ولما أصبحنا عبأنا الجيش، وأرسلنا بالسرايا والغارات على أرض العدو، فقتلوا وغنموا ما شاء الله، واحتملوا القوت، فسرت بهم حتى وصلت محلتنا التي هاجرنا منها، وعبرت حتى نزلت قريباً من عسكرهم. ثم إنهم لما سمعوا بنا أنفذوا خيلاً، فلقيت بالسرايا فرجعت مذعورة إلى أمير غم، وأخبروه بكثرة الجيش وجده فانتقل بهم من شمولا هرباً، حتى نزل كوتا-بفتح الكاف والواو مع التشديد.
ولما سمعت بهروبهم رجعت بالقوم، وقد غنموا فلقينا بغندو-بضم الغين المعجمة وإسكان النون وضم الدال-طائفة من العدو، وخرجوا من كنب، وهم من فل كتوا، فتوجهوا لبدهم، فجالدناهم واستأصلناهم، ثم سرنا حتى وصلنا ديارنا، بحمد الله وحسن عونه.
ذكر غزوة مني
وكان من حديثها أنه لما رجعنا من الطلب، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا فاتفق رأينا في إنفاذ الجيش إلى عسكرهم إن أمكن لنا، فخرج الجيش حتى نزل بمتنكر، بجنب مائها، فإذا خيل من العدو غزت على أطراف بلادنا، فقتلوا وأسروا قريباً من معسكرنا، ثم إنه نهض الجيش على آثارهم واقتفى آثارهم، حتى صبح عسكرهم كوتاو-بفتح الكاف وتشديد الواو. ولما أبصروا بالجيش انحاز أكثرهم وسلك طريق مكد، وتبعهم الجيش يوم ذلك، فنزل جيشنا بمكد، ونزلوا بكرار. وقد جرى بينه وبينهم محاورات، ثم نهض الجيش صباح ذلك اليوم إليهم وسلك الطريق حتى وصل إلى كرار، وبها جمعهم، فحسهم عنها، فنزل الجيش على مائها يستسقي، فتبعهم الخيل وبعض الرجال، حتى وصلوا بهم إلى جنب الجبال. فثبت لهم العدو، فاقتتلوا ساعة، فانحاز المنافق ثنب-بفتح المثلثة وإسكان النون، كابش-بفتح الكاف والباء-في خيل له.
ولما رأى العدو اكشافه ثابت خيل المشركين، فمالوا على بقية الخيل والرجالة، فكانت الهزيمة فاستشهد جماعة من القراء والصلحاء، حتى انتهى الفل إلى الجيش، فنهض قائد الجيش، وثبت لهم وسار الجيش إليهم، فهزمهم حتى وصل بهم إلى المعركة، فحسهم عنها، فتفرقوا عباديد، ثم إنه عبأ بالجيش إلى مني، ونزل بها ساعة من نهار، وقد أغار الجيش على نواحيها، وأصاب غنائم وحمل قوتاً، فراح وبات قريباً منها، وكان المشركون لما سمعوا بالجيش أرسلوا إلى أميرهم يطلبون منه المدد، فأمدهم بكل من تخلف منهم، وكانوا في هذه الأيام ينتظرون المدد.
ولما راح الجيش من مني، لحق بهم مدد، فجاءوا بجمع لا يحصيه إلا الله، وحملوا من عددهم معهم كثيراً.
ولما أصبحوا نهضوا إلى جيشنا وتبعوا آثاره، وكان الجيش لما انتقل افترق ثلاث فرق فأخذ المنافق طريقه مع جمع، وسلك اليمين، وتوجه لبلاده، وأخذ أهل آدر من جماعة الفقيه أغال طريقهم فسلكوا الشمال، وأخذ قائد الجيش الطريق المتوسط، ونحى بلادنا "غد". فلما وصلوا إلى هذا المحل سلكوا طريق قائد الجيش، فلحقوا بهم بعد الضحى، وسار الجيش وهم يقاتلونه يميناً وشمالاً وخلفاً إلى الظهيرة، ولم يكن يأس فامتنع الجيش عنهم كلما صالوا عليه ثبت لهم رجال، وثبتوا حتى أيسوا منه، فرجعوا خائبين خاسرين حتى وصلوا غد، في عافية.
تمام الخبر في مقامنا بغد
ثم إنه لما سار الجيش إلى "مني" في مدة قليلة، ورد علينا بريد "غد" و"لغ" وأمير "دنك" وأمير "برم" وأمير "مفر" كلهم بالتهنيئة، وكان أمير "برم" و"مفر" و"دنك" قبل هذا الجهاد بغاة على أمير "غوبر"، ولما وصل إليهم الخبر بما صنع الله للمسلمين فرحوا بذلك جداً، ورغبوا فينا لعدواتهم له، لا رغبة في الإسلام، فداريناهم على ذلك لشدة احتياجنا إلى الميرة فأطلقوا إلينا عيرهم وتجارهم، وانتفعنا بذلك.
ولما رجع إلينا الجيش وقد اشتد بنا الجوع، وبلغ كل مبلغ حتى لا تكاد تتجمع الميرة من بعيد، أرسلني الواللد إلى الأخ محمد مويج أمير "كب" وهو ببلدة "ياب"، أنه يريد اللحوق بجماعته بها ليتسعوا في الميرة، فأجاب إلى ذلك، وشرع في جهاز الشيخ، ووجدته أنه قد نصر على ما يليه من بلد العدو، ووسع كثيراً، ثم ذهبت راجعاً فلقيت بالشيخ والجماعة، فسرنا حتى وصلنا بجنب البحر، فتأخر هناك أياماً.
وكان العدو لما رجعوا من وراء الجيش، ساروا إلى حصن لهم يقال له "دان غيد"-بفتح الدال وإسكان النون وكسر الغين-وأنشأوا جيشاً فغدوا إلى أطراف جماعتنا في "ركن"-بكسر الراء والكاف وفتح النون فأصابوا بقراً وسبوا، فخرج إليهم الطلب فأنقذ بعض ما أصابوا وغنموا من خيل العدو نحواً من سبعين، وذهبوا بالبعض، ثم إنهم لما وصلوا إلى حصنهم، سمع أمير "غم" قائدهم أن أمير "دنك" خلفه في عياله فقسم الجيش قسمين، وخلف بعضه في الحصن، وسار بالبعض حتى هجم على أمير "دنك" وجنوجه فشتتهم، وسكن بالجيش هناك.
ثم إنه لما تأخر الشيخ أنشأ جيشاً إلى حصنهم وبقية عسكرهم، فخرج المنافق "ثنب كابشي" فسار بالجيش حتى وصلنا الحصن بعد صلاة العصر، فخرج عسكرهم وكمن في ناحية. فسار الجيش وأخذ يقاتل الحصن، ونحن نظن أنهم في الحصن. ثم خرجوا على الجماعة، فكانت الهزيمة حتى انتهت إلى قائد الجيش، وتلاحق الناس وغنمنا منهم، فغربت الشمس فنهضت بالجيش ونزلت به قريباً من الحصن فبتنا.
ولما أصبحنا عبأنا للقتال، فغرونا بالصلح والأمانة، وطلبوا منا الانصراف حتى يتأتي لهم الإرسال إلينا، فانصرفت بالجيش راجعاً، فلم ينقض ذلك اليوم حتى غدروا بنا وقتلوا من تأخر عن الجيش قليلاً، فذهبنا إلى محلنا في عافية.
ثم رحل الشيخ وجماعته حتى نزل "بمغبش"-بفتح الميم والغين وإسكان الباء-بقية فصل الربيع، وبها كاتب ملوك بلادنا السودانية. فمن جملة ما في وثائقه أن بين لهم ما هو فيه من نصر الحق على الباطل، وإحياء لسنة وإخماد البدعة، وطلب منهم أن يخلصوا لله دينهم وأن يتبرأوا من كل ما يخالف الشرع ويصادمه، والتمس منهم أن يساعدوه على جهاد عدوه، وألا يغتروا بكلام عدوه فيه، فيساعدوا العدو عليه فيعمهم الله بالهلاك بسبب ذلك، لأن الله أقسم: لينصرن المؤمنين وليخزين الكافرين، فسار بالوثائق عبد الرحمن بن العلامة، زمنوا والمصطفى. فلما أوصلوا وثيقة أمير "كاشنة" ونظر إليها أخذته العزة فمزقها، فمزق الله ملكه.
ولما أوصلوا وثيقة أمير "كنوا" كاد أن يقبل، ثم أبى وسلك ما سلك إخوانه.
ولما أوصلوا وثيقة أمير "زكزك" قبل وتاب، وأبى عليه قومه، فقاتلهم فقام على ذلك مدة عمره. ولما مات بغوا على المسلمين، وارتدوا، وكان من أمرهم ما كان.
وفي هذا العام أنشأ منها سرايا إلى أرض العدو، منها سرية محمود إلى "كيمي"-بفح الكاف وإسكان الياء وكسر الميم.
تمام الخبر من اتنقالنا من غد
ثم إنه لما انتقلنا من "غد" وخلفنا الذين بشمالنا من جماعة الشيخ الأستاذ أغال، صاحب الشيخ، والفقيه محمدان، والوالي الكاشف محمد تكر-بضم التاء والكاف-و"جود"، واجتمعوا، وحلوا ثنية بين "آدر وغوبر" وكان العدو علموا بمقامهم هناك، فنصب لهم أمير غوبر عسطراً آخر بجنبهم وجعل يمدهم بالأمداد، وكلما وصل اليهم مدد نهضوا إلى الجماعة فيدرهم الله عن الجماعة، فينهزمون، ولم يزالوا هكذا نحو سبع غزوات، حتى أفنى الجماعة أكثرهم، فحينئذ نهض الجماعة إلى غزوهم، فغزوا أرض "غدو"--بفتح الغين المعجمة وضم الدال-و"غلم"-بفتح الغين وإسكان اللام-و"زنغلم"-بكسر الزاي وإسكان النون وكسر الغين المعجمة-و"تاكس"-بضم الكاف، فاستصعب عليهم "تاكس" وهزمهم بعض الهزيمة ولم يكن بأس، وغزوا حتى وصلوا "كرفي"-بضخ الكاف وإسكان الراء-نصف يوم من "الغاضا"، ورجعوا لمحلهم، وكان إذ ذاك لا يسمعون بأخبارنا، ولا نسمع بخبرهم لإحاطة الأعداء بهم وكثرة المياه.
رجوع الشيخ إلى أرض العدو من أهل غوبر
ثم إنه لما حان وقت الخريف اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا في الرجوع إلى أطراف بلاد العدو بعيالنا، ليمكن لنا غزوهم، فانتقل الشيخ من "مغبش" ونزل إلى "سيف"-بكسر السين وإسكان الياء وفتح افاء، ثم خرج فنزل "بركن". فخرج سرية عليها عبد السلام، فاحتملوا قوتاً، ثم خرجت سرية أخرى فالحتملت أيضاً قوتاً، ثم انتقل ونزل "بسكت"-بضم السين والكاف مع التشديد، وتأخر هناك أياماً.
ذكر غزوة "دن غد" افثانية
ثم إنه كان أمير "غم" أرسل إلى الشيخ وطلب أن يصلح بينه وبين أمير "غوبر". فأجاباه الشيخ إلى ذلك، فأرسل أمير "غم" إلى أمير "غوبر" أن وجه إلى الشيخ من وزرائك بريداً، واصطلح مع الشيخ، وأعطه ما يريد منك، فإنا لا نقدر على أمره، فوجه وزيره الأكبر "غلاديم"، وكان بينه وبين الشيخ موافقة وهو رجل عاقل يحب الشيخ، فضيعوه [فضيفوه؟ فضيقوه؟].
ولما ضيقنا عليهم راجعوه ووازروه، ولذلك وجهوه إلينا. فلما نزل "بسكتوا" عازماً على إنشاء الجيش إلى "دار غد" ورد علينا يوم ذلك، وأخبر الشيخ أن أمير "غوبر" ندم وعزم أن يقبل على الشيخ كل خلة طلبها منه. فاجتمعنا وشاورنا في أمرهم، فاتفق رأينا أن يجتهد الأمير ويسير إلى الشيخ بنفسه، ويأخذ من الشيخ كل ما يريد، ولم نتكتف بقدوم الوزير علماً منا بأحوالهم، ومكايدهم. فقبل منا ذلك الوزير، فضرب له الشيخ مدة يسيرة، وأمنهم ما خلا "دان غد"، فقبلوا ذلك منا. فخرج الجيش إلى "دان غد" يوم الخميس، فصحبهم بكرة الجمعة، فلم يكن بأس أن فتح الله علينا الحصن، فقتلنا وأسرنا ونهبنا، ولم تكن غنيمة مثلها، ثم كففنا أيدينا عن أرضهم، على ما شرطناهم وعاقدناهم. فذهب ذلك الوزير حتى وافى الأمير، وأخبره بجميع الأمور، فكاد أن يقبل منه، فجمع أهل مشورته، فاتفق رأيهم على عدم مسيره وإنفاذ البرداء، فأنفذوا الشيخ الشريف "باب"، وكان محصوراً عندهم مع قومه، فوافى. وقد نزل الشيخ "بتبر"-بفقتح التاء واإسكان الباء. فأخبره بإباء الأمير عن المسير، وطلبه المصلحة هكذا، فلم نقبل علماً منا بمكائدهم وخيانتهم "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" [الأنفال 58]. فنبذنا إليهم عهدهم. فرجع الشيخ الشريف "باب" واحتال. فخرج منهم إلى الجماعة، ثم إن الشيخ أنشأ غزوة إلى "كيمي" لرجوع الأعداء إليها، وأنشأ آخر إلى "غنغرم"-بضم الغينين المعجمتين مع إسكان النون. فخرجت بهم إلى "غنغرم"، وقد اجتمع فيها العدو، وتحصنوا في عيالها، ففتحها الله علينا، وغنمنا أكثر من غنيمة "دان غد". ورجعنا وقد رجع غزو كيمي بالنصر والغنيمة، وعليهم محمود غردم. ولما رجعنا ورجع غزو محمود انتقل من "ثبر [تبر]" إلى "كرار". فنزل بها. وانضم إلينا جماعة الفقيه أغال، ومن معه، وجماعة الكشناويين.
وكان من حديثهم أن سلطان كاشنة، لما سمع بما وقع لأمير غوبر بعد ما عاقدوه وأذنوا له، أمر عماله بغزو جميع من انتسب إلى الشيخ واستئصالهم. فجعلوا يقتلون ويأسرون، فنفر أولئك الجماعة يأوي بعضهم إلى بعض حتى صاروا جماعة، فجعلوا يدافعون عن أنفسهم، ووصل بعضهم إلى "مستماطي"، فتحصنوا بها. ووصل بعضهم إلى "مدب"-بفتح الميم والدال. ثم توجهوا إلينا حتى دخلوا بلد "زنفر". ثم خرجوا ووصلوا إلينا "بكرار". وقد قطعوا الفيافي مسيرة شهر، ولقوا من العدو الزحوف الكثيرة، ثم إنه اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا على إنقاذ العزو إلى ضواحي "حصن القاضاو" ليتمكن الوصول إليه.
ذكر غزوة بور
وكان من حديثها أنه لما اجتمعنا وشاورنا في غزو ضواحي القاضاو، واتفق رأينا على إنفاذه، خرجنا، وعلينا علي جيد، قائد الجيوش، حتى نزلنا "مني". ثم سرنا وأغرنا غربي الحصن، ووجدنا الكفار متحصنين في "غيال"، ففتحها الله علينا. ولم نرجع حتى وصلنا "بور"-بضم الباء ون-نصف يوم من "القاضاو". وكان إخواننا من أقيال الفلاتيين الذين مع الكفار بجنب الحصن من ناحية اليمين، قد أرسلوا إلينا بإسلامهم، وقد التحق بهم من المسلمين المهاجرين والفرارين الذين تسلط عليهم العدو، وممن له نسبة إلينا، أو كان فلاتياً. فأغاروا في ذلك اليوم حتى وصلوا إلى "جرو" فريباً من الحصن جداً. فرجعنا ورجعوا.
ذكر غزوة القضاو الأولى
وكان من حديثه أنه لما رجعنا من غزو ضواحيها الغربية، وغزو إخواننا ضواحيها اليمانية-وقد التحق بنا الأخ الصالح "نمود" بجماعته، وأغار على شرقي الحصن وأبلى-اجتمعنا وشوارنا في أمرنا. فاتفق رأينا على قتاله والمسير إليه، مع أنه اجتمع فيه من جنودهم وقومهم ما لا يحصيهم إلا الله، ونحن قد التحق بنا كل من تخلف عنا من إخواننا، ممن كان محصوراً فيها، فخرجنا مستهل شعبان، فنزلنا "بمني"، ثم رحلنا وعلينا الوزير الأكبر عبد الله، حتى نزلنا "بور"، وأخرنا حتى تلاحق الناس. ثم سرنا حتى نزلنا "غاذك"، فأعجل قائد الجيش حتى لحق بالمقدمة، فوجدناهم قد أعدوا لكل ناحية طائفة، وخرج عسكرهم فحمل على ميسرتنا فثبتت، فاقتتلوا ساعة وأهل الحصن يرمون بالسهام من ناحية والعسكر يقالت من ناحية، فأعاننا الله عليهم فهزمنا عسكرهم، وقد أصيب العم في رجله فمنحنا الله أكتافهم، فاستحر القتل فيهم، ثم إن ميمنة الجيش بقيت على مقاتلة الحصن يوم ذلك واتبعنا نحن آثارهم، ثم رحنا إلى المعسكر الذي أتينا منه، وأرسلنا إلى الميمنة فلحقونا فخرح خيل المشتركين لما رحلنا، فكمنت في خيل من ناحية، حتى أدركوا مؤخرة الجيش، فحملنا عليهم فردهم الله، وكانت خيلاً عظيمة فوافينا الجيش وقد نزل بالمعسكر. ولما أصبحنا بعثوا إلينا خيلاً عظيمة وظننا أن أميرهم خرج إلينا. فثار الجيش إليهم، فتلقناهم خيلنا فانهزموا وتبعت آثارهم، فسار جيشنا حتى نزل "زغرب"-بضم الزاء والغين-بجنب الحصن من ناحية اليمين، وبتنا ثلاث ليال، ثم سرنا لقتال الحصن، فنزلنا وعبأنا للقتال يوم الأحد، وقاتلناهم أشد قتال، حتى كاد أن يفتح لنا، واستشهد من جماعتنا خلق كثير، وقتلنا منهم كذلك حتى الغروب، فرجعنا إلى المعسكر.
ثم إن التوارك كانوا ينافقون يأتون ويقولون: آمنا وإذا خلوا إلى الكفار السودانيين قالوا: إنا معكم، ولما حضروا الوقعة الأوولى رجعوا إلى رحالهم واجتمعوا وخلفوا في عيالنا يغيرون. فكتب إلينا الأخ الصالح منهم، أحمد بن حيدرة، وأنذرنا منهم وأخبرنا بما هم فيهم، فنهض بالجيش الوزير إلى عيالنا، وتخلفت في الإخوان الذين بجنب اليمين لئلا ينتشروا، فبقينا نجاهد العدو، يغيرون علينا، ونغير عليهم حتى سار الجيش والتحق بالعيال.
وفي ذلك المقام أنشأت سرية إلى "أكي"-بفتح الهمزة وضم الكاف وتشديد اياء، فأصابت غنائم كثيرة ورجعت سالمة. ثم انتقل الشيخ بالجماعة، ونحى ناحية القاضاو، حتى نزل "ببور". ولما سمعنا بمسيره خرجت حتى لقيته. ثم إنه كتب أولئك التوارك كتاباً غرونا به، مع أنهم يجتمعون. فلما تم جمعهم ساروا إليها، وقد نزلنا "ثنثو"-بضحم المثلثتين مع إسكان النون-وانتشر الناس في طلب القوت، وبقي الأشراف في الديار. فلم يفجأنا إلا العدو وبجنبنا، فخرج الأشراف ومن معهم فعسكرنا بجنب رجالنا. ثم إنه أتى إلينا الأخ الصالح أخو الشيخ سعد، ومعه الراية، وقال: انهضوا إلى عسكرهم فتقدمت إليه، وقلت: دعهم حتى يدنوا منا، فأبى وسار بالناس، وأنا إذ ذاك مريض، فقعدت عنهم لذلك حتى وصلوا إلى العدو، وقد تهيئوا وتعبوا فالتتتلوا ساعة، فكانت الهزيمة واستشهد من خيار الجماعة طائفة كثيرة، وانتهى الفرارون إلى حيث عسكرنا دون رحالنا. فخرج الأخ الوزير إلينا، وخرج بأثره الشيخ، وهو يدعو الله فهزم الله عدونا، ووضعنا فيهم السلاح، وتفرقوا عباديد، ثم رجعنا لدفن الشهداء، وقد استشهد منا نحو ألفين واستشهد من خيار القوم رجال، ومنهم:
- قاضي القضاة، محمد ثنب
- وصاحب اللواء، سعد
- ومحمود غردم
- ومحمد حم
- والعالم النبيه المحدث، زيد
- وأبو بكر بنغ-بكسر الباء وإسكان النون
- والمكاشف الصديق والصديق السوداني
- وغيرهم.
واستشهد فيه من القراء نحو من مائتين، فدفنا ما استطعنا، ثم رجعنا وبتنا في رجالنا، ثم غدونا ودفنا ورابطنا، وهذه الواقعة كانت على الميلين من القاضاو.
ثم رجعنا وبتنا، ثم غدونا ورابطنا، ثم رجعنا فبتنا، ثم رحنا إلى "برايزاك"، فنزلنا بها بقية شهر رمضان.
وفي هذا المحل غزا إلى أطراف جاعتنا العدو وأصابوا بقراً. ثم عادوا مرة أخرى، فهزمهم الله وأخزاهم، وفيه خرجنا إلى عسكرهم، وهم "بجرو" و"توارك" و"غوبر"، فعبأنا في لمسير، وكانت تعبئتنا إذا صدق الحرق، تقدم الطلائع، نحواً من مائتي خيل، ونقفيهم بالمقدمة من الرجالة الأقوياء، ونؤمر عليهم. ثم تجمع الرجالة إلى القلب، ويجتمع في القلب الأشراف، أهل الرايات مع راياتهم. ثم نجعل الخيل في الميمنة والميسرة، ونؤمر عليها، ثم نجعل على المؤخرة طائفة، وهكذا سرنا متعبئين، حتى وصلنا "جرو". فوافيناهم قد هربوا حين سمعوا بمسيرنا واتبعنا آثارهم، فقتلنا منهم ما نلنا، ثم رجعنا لمحلها. وفي هذا المقام خرج بالراية محمد بن المصطفى، أمير "أدو" وغزا "فوم" وغنم وسلم.
ذكر المقام بجرو
-بفتح الجيم وضم الراء-ثم إنه لما صلينا الفطر "ببرايزاك"، وقد رزئنا بموت الفقيه أغال، وموت علي أخي الشيخ الأكبر، مع كثرة الخوف وشدة الجوع والأمراض، ونقص الأموال والأنفس، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا. فاتفق رأينا في الانتقال إلى "جرو"، وكانت "برايزاك" على نصف يوم. وأردنا أن نقرب إلى "القاضاو" للحصار، فنزلنا "بجرو" على ميلين من القاضاو، من جانب الشرق مستهل شوال، فأقمنا بها مع عيالنا مرابطين محاصرين لهم، والغوابر والتواراك كانوا علينا يداً واحدة، مجتمعين في الحصن، وبعض عسكرهم بشرقينا. فلم تزل خيل أهل الحصن يغيرون علينا من جهة الغرب، وخيل عسكرهم الشرقي يغيرون علينا من جهة الشرق، وأهل الشمال منهم يغيرون علينا من جهة الشمال، ونحن كذلك يخرج إليهم السرايا والغارات، لكن أكثر ما يكون منا الحراسة والرباط.
وفي هذا المقام خرج إلينا العدو عازمين على الغزو، وقد أخرجنا الراية عازمين على عزوهم، وعلينا مجيد بن داود فلقيناهم قريباً من رحالنا، فحملت عليهم خيل المسلمين، فانهزموا وركبت على أكتافهم، فقتل منهم ما شاء الله. ثم رحنا فنزلنا قريباً من حصنهم من جهة الشرق. ثم رحل الجيش صباح الليل، وغزا "كرف" فأصاب الغنائم واحتمل القوت، ورجع سالماً غانماً.
وفي هذا المقام خرج أبو حامد بالناس للغزو وطلب القوت إلى الجانب الشرقي، ولما وافوا "دباو"-بضم الدال-وجدوا بها عسكر العدو، فاقتتلوا ساعة، فكانت الهزيمة.
ولما وصل إلينا الفل خرجنا ولقينا بهم وقد رجع عنهم عدوهم وأصاب منهم ما أصاب.
ذكر غزوة دباو
ولما رجع هذا الجيش منهزماً، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا على إنقاذ الجيش إلى عسكر العدو، فخرج بالراية علي قائد الجيش إلى "دباو" فباتوا "بفوم". ثم لما أصبحوا عبأوا للقتال حتى أتوا "دباو" ووجدوا العدو خارجين ينتظرونهم، فحملوا على العدو فهزمهم الله، وركب المسلمون على أكتافهم وقتلوهم قتلاً ذريعاً، وأسروا ونهبوا، واحتملوا القوت، ورجعوا منصورين.
ثم إنه لما رجع الجيش خرج بالراية محمد بن الحاج بالناس لطلب القوت. فسمع العدو بمسيرهم، فخرجوا من الحصن ليلاً، وباتوا قريباً منا. فغدوا إلى محمل رباطنا، فوافو [فوافى] الأستاذ الوزير عبد الله، قد سبق الناس إليه في طائفة يسيرة، فحملت خيلهم، وكانت قريباً من الألف في رجالنا، وقد خرجت ولقيت بهم، وأنا مع رجلين قريباً من عند الله. فانحازوا عنا وحملوا في الرجال. ثم حمل قلبهم على الطائفة التي مع الوزير عبد الله، وقد التحقت بهم فحملوا علينا. ونزل الأستاذ عن فرسه-فأحاطوا بنا، ونحو لا نعدو عشرة-فانحمنا قريباً وثبتنا لهم، حتى رد الله خيلهم خائبة منهزمة من الرحال. فحمل عليهم رجال منا فردوهم عن الرحال، وتلاحق الناس، وهم ونحن واقفون، وقلبهم واقف علينا، فأصابوا منا رجلين، وقتلنا منهم طاغية.
ولما نظروا إلى خيلهم منهزمة انحازوا عنا، فرجعوا هاربين. وتلاحق الناس، وخرجنا إلى طلبهم حتى وصلنا قريباً من حصنهم. ثم لم نزل هكذا نحن وإياهم، حتى انتقلنا إلى شاطئ البحر الغربي قريباً من القاضاو، بموضع يقال له "جرو"، فبتنا ليالي. وقد أشتد بنا الجوع، فاتفق رأينا على إنشاء الغزو إلى الحصن. فخرج الناس وعليهم علي قائد الجيش، حتى وصل الحصن، ولم يكن بينهم كبير قتال، فرجع بالناس.
ذكر انتقالنا إلى نزفر
ولما أصبحنا بعد رجوع هذا الغزو، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، واتفق رأينا على الانتقال إلى زفر لطلب القوت، ولم يكن معنا أهل بلد من السودانيين غيرهم لمكان عداوتهم لأهل غوبر، فانتقلنا إلى زنفر بعيالنا، وخلينا بلد غوبر، وسرنا يومنا فنزلنا "برون"-بضم الراء. ثم لما أصبحنا سرنا ونزلنا "بشنكاز"-بكسر الشين وإسكان النون، فبتنا ليلتين. فلحق بنا طلب العدو، فكررنا عليهم، وهزمناهم أشد الهزيمة، وقتلنا منهم رجالاً. ثم غدونا وسرنا إلى "موداش" ونزلنا بها. ثم سرنا حتى نزلنا "دمني"-بضم الدال. وعندما سمعنا بخبر مسير الأخ أحمد بن حيد إلينا مع بعض جماعتنا الذين لاذوا به-وهو مع بعض التوارك يلتمس لهم الأمان-فأمرنا الشيخ بالنتظاره. فانتظرته في خيل حتى الظهر. ثم إنه خرج الطلب من أعدائنا، وفجأونا، ونحن منتظرون الأخ أحمد بن حيدرة. فلما رأيناهم حملت الخيل عليهم، فهزمهم الله. فقتلنا منهم قتلاً ذريعاً. ثم سرنا حتى لحقنا بالناس وقد نزلوا "بهرغرم"-بفتح الهاء وإسكان الراء. ثم رحنا ونزلنا "بمرادم"-بفتح الميم وضم الدال، وبتنا ليلتين. ثم رحلنا "بدفومفر"-بضم الدال والفاء وفتح الميم والفاء، فبتنا ليالي، وبها وجدنا العمارة والذي قطعناه في هذه المدة المذكورة فيافي وقفار.
وفي هذا الموضع تلقانا وفود الزنافرة من السودانيين، وقد اشتجروا في أمر الولاية، فأصلح بينهم الشيخ. ثم رحلنا فنزلنا "رمرا"-بكسر الراء وضم الميم، وأقمنا بقية شهر ذي القعدة، وكنا خرجنا من غوبر مستهله.
وفي هذا المقام خرج على قائد الجيش بالراية، فلم يتفق له جمع فرجع، وفي هذا المقام خرجت بالراية إلى أطراف بلاد غوبر، فلم يتفق لي جمع-كما كان لعلي-فمضيت في طائفة يسيرة، فسرنا بهم خمس ليال، حتى وصلنا قريباً من العدو، فسرت بهم ليلة كاملة، فصبحنا "رازفي"-بفتح اراء وضم الزاي، وبها من قومهم كثيرون. فأغار الجيش عليهم، وغنم غنيمة عظيمة. فخرجنا راجعين، فلحق بنا الطلب، فكرت إليهم خيل المسلمين وردوهم. فسرنا يومنا حتى نزلنا بمحل الأمن، فخمسنا. ثم رحلنا إلى رجالنا، فوجدنا الأستاذ الوزير انتقل بعياله إلى "سابنغر"-بفتح السين وضم الباء وفتح الغين، وبقي الشيخ ينتظر رجوعنا. فرجعت مستهل ذي الحجة. فلما صلينا العيد رحلنا إليهم، فوجدنا علياً قائد الجيش خرج بالراية إلى ناحية "كاشنة" وغزا "دل"-بفتح الدال، وأصاب غنيمة ورجع. ثم إنه نزلنا "سابنغر"-مع أن أهل البلد من السودانيين كلهم تعاقدوا على عداوتنا، واتفقوا على طلب استئصالنا، ولا ينفذ عيالنا في طلب القوت إلى بلدة من بلادهم إلا وأكلوهم ما خلا "زنفر" لما ذكرنا-رجع محمد بن الحاج بجماعته إلى "غرباي" والتحق بمن تخلف عنهم من الجماعة. فجعل أمير "كاشنة" ينفذ إليهم جيوشاً، وهم يهزمونهم مرات.
وسيأتي نسق أخبر ما وقع في "كاشنة" و"كنو" في محله إن شاء الله، ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر غزوات جماعة الشيخ خاصة.
ذكر غزوة كب
وكان من حديثها أنه لما نزلنا "سابنغره"، ومعنا جموع أهل "كب" ممن أعانونا على جهاد "غوبر"، وفيهم عثمان مسي بن سلطان "كب"، وكان الشيخ ولاه على من سمع له من أهل "كب"، وكان له جهة من بلد "كب" قبل هذا باغياً على سلطان "كب". فاجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاجتمع رأينا في غزو "كب". فخرج بالراية قائد الجيش، علي جيد، مع الوزير الأكبر، وخلفوني في العيال مع الوالد. فسار الجيش حتى وصل "غنم" فغزاها. ثم مر يغزو حتى وصل حصن "كب"، فنزل قريباً منه، وبات ليلي. ثم نهض إلى الحصن، ففتحه الله عليهم، وقتلوا وغنموا غنيمة عظيمة لم يغنم مثلها، وأسكنوا عثمان مسي فيه، وخرج أمير "كب" محمد بن سليمان إلى ناحية الشمال، ومات منهم أكثر من ألف عطشاً حتى وصلوا "دمان" وسكنوا فيها. ثم انتقل إلى "أوغ".
ولما فتح الله الحصن للمسلمين أعنى الحصن الكبير، من حصون "كب"-وكانوا فتحوا حصوناً قبل ذلك-اجتمعوا وتشاوروا، فاتفق رأيهم على إنفاذ الخيش إلى "غنب". فأنفذوه إليه ففتحه الله عليهم. وقد كر علي جيد والأستاذ الأكبر راجعين بمن معهما قبل وصول جيش "غنب"، فأنفذوه إليه، ففتحه الله عليهم. وفي ذلك يقول الأستاذ عبد الله:
تذكرت والذكرى تثير لذي النوى هموماً وفي الذكرى تهب صبا الهوى أخلاي ماتوا في الجهاد وغيره وبعدي عن شيخي فأرقّني الجوى فمن مبلغ عني بني وإخوتي وأهلي وجيراني ومن معهم ثوى؟ بأني ودندا مع علي وجمعنا وبولل له في الفتح والعز والروى فتحنا حصونا بين كندا وكندتا تزيد على عشرين بالقهر والقوى وسالمنا رغما سواها فأسلمت بظاهرها والله يعلم ما انطوى ثلاثة كنداليم ماسو وكلكلوا وزلم فلم حصنين دنكا الذي حوى وبانذ وحصني غنبنا روم غنفر وحصني معاذ كادما طاط في الهوى وزورغلي رندال ثم عظيمها وليلاب منه فركندط فانزوى وفي اثنين مع عشر المحرم فتحنا عظيم الحصون حصن فود الذي غوى قدار كباوا ثم فر ظهيرة بفرسانه ذات الشمال على الصوى فغادر في ذا الحصن مالا كأنه لقارون لم يأخذ بزاد إلى القرى ولو لا شباك الشرع ثم سلاسل الــ سمروات لاستغنى الذي كلنا نوى سما جيشنا جيش الفتوح فكلنا حوى من فتوحات الغنائم ما حوى وليس لنا أمر يهم قلوبنا من الدين والدنيا سوى وحشة النوى وفقد أحباء كرام تتابعوا لجنات عدن في كراد وثنثوى متى ما تذكرت الإمام وحزبه تموج في قلبي بحور من الدوى فإن سر غوبر والتوارك، ذلك الـــ قتال سجال ليس مرجعنا سوى فمن قتلوا هم في جهنم دائماً ومن في جنان الخلد ليسوا على استوا ومع ذا فكم يوم بكن متنكري وغردم ودار غدا ويوم لتاغوى وديم جميعا ثم بمبرم بعده وبورى به ذاقوا ضروبا من التوى فوالله لو لا خندق وممرد عميق طويل لاستحالوا هبا الكوى رحلنا إليهم بالعيال وما لنا حصرناهم شهرا ببابهم الحوى ولم يبق بيت بين ريم وحصنهم ومازم ومازوزى لذلك ما خوى فخلوا لنا أقواتهم وبلادهم ونحن غواد بين جرو ويانروا ويوم أتونا للقتال فأدبروا نقتلهم من تل ماتوا لدمبوى قتلنا به جانز ومن كند بعده ومثلهما ممن على كفره انطوى وكم مرة جاءوا بياتا فأقشعوا وما فيهم من صوب صاحبه ضوى وأخرى أتوني فيه خامس خمسة فولوا وما نالوا الذي جمعهم نوى وطورا أتوا جمعا وجينا توزعوا بشرق وغرب ثم خاب الذي غوى وما ساعة إلا يصكّ سماعنا صراخ فنلقاهم سراعا بلا توى على كل جرداء وأجرد شيظم تراه كصفراء الجراد إذا استوى قد اعتاد غارات الصباح تخاله إذا ما جر فوق الربا طار في الهوى فلما رأونا لا نمل جهادنا لقتل وأسر جلهم خاف فارعوى ففروا إلى البلدان شتى وجمعهم كجمع أناس كان في سبأ بوى فلله حمد أولا ثم آخرا فقد تم نظمي وهو حال لمن روى ثم إنهم لما خلفوني في العيال، بت ليالي قلائل، فخرجت متوجهاً نحو أطراف غوبر، فأعرض لنا أهل قرية ثلاثاُ، فتقاتلنا، فاصطلحنا. ثم إنه لما رحعنا منها بقية ذي الحجة خرجت بالراية مستهل المحرم متوجهاً إلى جانب "كاشنة"، حتى وصلت "تنفافي" بضم اتاء. ثم بدا لي التوجه إلى أطراف بلاد غوبر، فسرت بهم ثلاث ليال، حتى وصلت قريباً من أرض العدو، فسرت الليل كله، فصبحنا "غودا" بضح الغين المعجمة، وقد وجدنا عسكر العدو، فتلفونا. فهزمهم الله، وقتلنا فيهم قتلاً ذريعاً، وغنمنا منهم غنيمة عظيمة، وقد فتح إخواننا الذين ساروا إلى "كب" حصنها يوم السبت لاثني عشر من المحرم، وفتحنا نحن "غودا" يوم الأحد، لثلاثة عشر منه بينهما ليلة واحدة. ولم نخل للعدو في بلده "رايا وريم" دياراً، فرجعنا سالمين منصورين إلى رحلنا. واتفق قدومنا بقدوم إخواننا الذين غزوا في "كب"، والحمد لله رب العالمين.
غزوة فاقت
ثم إنه لما رجعنا من غزوة غودا-ورجع إخواننا من "كب"-خرجت بالراية بأمر الشيخ إلى ناحية أمير "زنفر" لما سمعنا أنه والى عدونا من أهل غوبر والتوارك، فسرنا في آخر المحرم إليه ليالي، حتى نزلت ببابه. وقد أغار على أرضه الخيل، فرددنا جميع ما أخذوا إليه، وطلبت منه المكالمة، فأبى. وطلبت منه موالاتنا دون عدونا، فأبى.فنهضت بالجيش إلى حصون قريته، ففتحها الله لنا وغنمنا، وأغرنا على التوارك الذين وجدناهم عنده. ثم عبرنا إلى ناحية "زرم"، والتحق بنا إخواننا الذين كانوا هناك. ثم ذهبنا إلى ناحية الشمال من ناحية "زنفر"، فغزونا "فاقت" و"ساموا" و"زكوا"، فتح الله علينا حصونها. وقد انتشر باقي الحصون نحواً من خمسين. ثم رجعنا إلى معسكرنا من ناحية "زرم". ثم انتقلنا إلى "جنفار"-بضم الدال-وعبأنا لقتالها. فوجدناهم قد هربوا إلى الجبال. فمررنا واحتملنا القوت. ثم سرنا ونزلنا "كرتوا" وخربناه. ثم ذهبنا راجعين، فلحقنا طلب جوند "زنفر" كلها. فالتقينا "بمالكوا" فأعاننا لله عليهم، فردهم الله عنا. ثم سرنا حتى لحقنا برحالنا بحمد الله وحسن عونه.
غزوة كنوما
وكان من حديثها أنه لما نزلنا "بزنفر"-وقد انتشر رعايانا في الآفاق-لطلب المعاش، فسار جماعة إلى ناحية "كاشنة". فأكلهم أمير "كنوما"، فقتل وأسر ونهب. ولمااطمأننا وساعدنا الحال في غزوهم اجتمعنا وشاورنا، فاتفق رأينا في غزو "كنوما"، وكانت بلدة ممتنعة. فخرج بالراية قائد الجيش علي، فسرنا ليالي حتى وصلنا "كنوما". فتلقونا، فقاتلناهم ساعة. وقد أنزلوا ميمتنا واكشفوا، وثبت الميسرة، وكنت في الميسر في خيل عظيمة، فحملنا عليهم فهزمهم الله، واتبع آثارهم الخيل. ولما تلاحق الرجالة-وكان "قد" تأخر صاحب الراية-صعدنا بهم الجبال، حتى انتهينا إلى حيث لا يتأيي للخيل المسير، فنزلنا وسرنا على أقدامنا حتى انتهينا على ظهرها، فعسكرنا هناك. وقد تحصن أميرهم في حصنه مع خواص دولته، فقالتناهم بقية النهار.
ولما جن الليل رجعنا إلى المعسكر فبتنا. فلما أصبحنا غدونا إليهم، فوجدناهم قد هربوا، واتبعهم الخيل فأصابوا منهم. فأقمنا بها أياماً واحتملنا القوت. ثم رجعنا إلى رحالنا بحمد الله وحسن عونه.
غزوة بنغ
وكان من حديثها أنه لما رجعنا من "كنوما" وجدنا أن أمير "زنفر" أرسل السرايا في عيالنا. فاجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا على عزوه. فخرج بالراية قائد الجيوش علي، فسرنا ليالي. وقد انتشر بعض حصونهم، واحتملنا القوت منها. فسرنا حتى نزلنا بحصنهم، فقاتلناه أشد قتال أياماً. فلحق بالجيش الجوع، فغدونا إلى "قنبر"-بكشر القاف، فتقالتلنا نحن وإياهم سائر النهار، ثم رحلنا فنزلنا "فوش"-بضم الفاء. ثم رجعنا لرجالنا بحمد الله وحسن عونه.
غزوة صيلام
ثم إنه لما رجعنا من غزوة "بنغ"، وقد سمعنا باجتماع بقية أهل "كب" في "أوغ" مع أميرهم الطريد الشريد في "صيلام"، وإغارتهم على نواحي الجماعة، اتفق رأينا في غزو "صيلام". فخرج بالراية قائد الجيش فسار ليالي حتى وصل "صيلام" فقاتلها. ففتحها الله عليهم، فقتلوا وأسروا وغنموا. ورجعوا لرجالنا بحمد الله وحسن عونه.
غزوة جاتو الأولاى
وكان من حديثها أنه لما غزونا "بنغ" واستصعب، وبغي علينا سائر أرض "زنفر" من أجل ذلك ومن أجل فساد المحاربين منا، سطوا عليهم وأضروا بهم. ولما بغوا علينا واجتمع أكثرهم في "جاتوا"، جعلوا يغيرون على أطراف الجماعة، فاجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا في غزو "جاتوا". فسرنا ليالي، فأصابني حمى الربع فرجعت، فسار الجيش حتى وصل رحالنا بحمد الله.
غزوة بين
ثم إنه لما رجعنا من غزو "جاتوا" اجتمعنا وشاورنا، فاتفق رأينا على غزو "بين" لنقضهم العهد. فسار بالجيش علي حتى صبحهم، فقاتلهم، ففتح الله عليهم، فأصابوا غنيمة عظيمة. ورجعوا بحمد الله وحسو عونه.
تلخيص ما وقع في كاشنة
مع جماعة المسلمين هناكثم إنهم لما رجعوا من هذا الغزو-ونحن نسمع بخروج أمير "كاشنة" إلى الجماعة، وقد اشتد بحضرتنا الجوع-فانتقلنا إلى "كب"، ونزل الشيخ "بغاد"-بفتح الغين المعجمة. وخلفنا إخواننا من فلان "زنفر" في بلدهم مع شدة الجوع والخوف. ووجهت عمر دلاج بريداً إلى جماعات "كاشنة" و"كنوا" ليخبرهم بشأننا ومكاننا وما جرى فينا. فخرج من عندنا حتى وصل "كاشنة"، وكان من أهلها، فوجدهم "بستماك". وعبر بالوثائق إلى "كنو" ووافى قدومه "كاشنة" بمسير أمير "كاشنة" الكافر، متوجهاً إلى "كنو"، هو وأمير "دور" الكافر. وكان أمراء هذه البلاد قبل هذا الجهاد، لا يتلاقون ولا يغزون مجتمعين، ولما قام الجهاد عليهم صاروا يداً واحدة، ولذلك خرج أمير "كاشنة" وأمير "دور" معاً، ومعهما من الجنود ما لا يحصيه إلا الله. ولما انتهوا إلى أطراف جماعة "كنوا" تلقاهم قبيل من الفلاتيين تابع الدين وتاب، يقال له "دان ثنك" في نفر يسير، فهزمهم، فرجعوا خائبين.
ولما وافى قدوم البريد عمر دلاج هذه الوقعة، نهض بالجيش، وفتح بلاداً كثيرة وأنجع. ثم إنه لما غزوت "جاتو" واجتمعنا نحن وهم وأهل كنو، عقدت لهم الراية إلى "رنك"، وفتحوها. وعقدت لمحمد بن الحاج الراية إلى "رنك"، وفتحها وسكنها. وكان قائد أمير كاشنة الكافر، منذ هزموا خرج بالجيش ونزل "جاندك" وجعل يقاتل أهل روم، ويغير على أطراف الجماعة، وهزم من روم ثلاث هزيمات. ولما سمع بمكان محمد بن الحاج وجماعته، سار إليهم فهزمهم الله، فرجع خائباً إلى حصن كاشنة، فكان سبب ضعفهم.
ولما رجع لحصن كاشنة، وتمكن أهل الجهاد منهم، سار محمد بن الحاج، ونزل بغربي الحصن. وسار عمر دلاج، ونزل قريباً من جهة ليمين، فجعل يغير عليهم، وحصروهم. وغزاهم محمد بن الحاج، فسالموه دون عمر دلاج. فأرسلوا إلينا في ذلك، فأمرتهم بالغزو، ولم أجبه إلى إمضاء الأمانة لما في ذلك من خوف الخيانة والتفريق للجماعة. فوافى البريد، وقد مات محمد بن الحاج. ولما ألح عليهم عمر دلاج بالغزو، وخرج إليه أمير كاشنة وسار حتى وصل بمحله، فعبأ للقتال، فتلاقاهم الجماعة، ولم ينجعوا فيه شيئاً. فرجعوا إلى حصنهم وتحصنوا. فسار إليهم أمير كاشنة بالجيش، حتى وصلوا إلى الحصن، وقاتلوه. فرجعت إليهم خيل الإسلام من ناحية، فهزموهم، وقتل أمير كاشنة.
ثم إنه لما هزمهم الله انتقل عمر دلاج حتى نزل قريباً من حصنهم، فألح عليهم أياماً حتى فتح الله عليه القرية. فسار أمير كاشنة الكافر الذي ولي بعد المقتول إلى "دنكم" وكان الأخ المظفر محمد محمود من أهل الحفاظ، من أعان جماعة كاشنة على جهادها، وغزا فيها غزوات، وأبلى: فمنها إعانته لأهل روم على قائد خيل أمير كاشنة، ومنها غزوة سور، ومنها مقاتلته مع أهل "كمن"، ومنها غزوة فو، ومنها غزوة مراد ثلاث مرات، وغيرها.
ولما أخرجوا عمر دلاج، خرج بالراية. وقد اتفق خروجه بخروج جماعة "كنو" لنصر عمر دلاج، حتى احتمعوا قريباً من حصن كاشنة. فساروا، وعليهم الأخ المظفر، إلى "دنكم". فقاتلوها أشد قتال، ففتحوها بإذن الله، وقتلوا أمير كاشنة الكافر وصناديد قومه. فرجع عمر دلاج، وسكن حصن كاشنة.
ثم إنه بعد ذلك بقليل قدم أميرآهير محمد الباقر. ونزل بجيشه وكاد التوارك، وأمروا أمير كاشنة آخر. فقام عليه أمير آهير وعمر دلاج فقتلوه.
هذا تلخيص ما وقع "بكاشنة" باختصار، خوف الملل.
وأما تلخيص ما وقع في "دور"، فاعلم أنه قدمنا أن أمير دور وأمير كاشنة هزما يوماً واحداً، ولما رجع لبلده قام عليه جماعة أهل دورا المنتسبون إلى الشيخ. وأعانهم دار تشك وموسى أمير "زكزك" الآن. فأكبوا عليهم وألحوا عليهم، وقاتلوهم حتى هرب إلى أطراف بلده، وفتح حصنه. ثم إنه لما سمع ما صنع أمير آهير محمد الباقر بأمير كاشنة الذي ولاه التوارك، هرب إلى "برنوا" إذ كان طمعه قبل فيه. ولما سمع أنه سالم الجماعة هرب إلى "برنوا، وهو بها الآن.
تلخيص ماوقع في كنوا
وقد قدمنا أن أمير غوبر لما همّ بغزو الشيخ، أرسل إلى إخوانه فطلب منهم المساعدة، فأجابوه إلى ذلك. ولما قام أمير كنوا على المنتسبين إلى الشيخ، وقد خافوه على أنفسهم، وهاجروا من وسع بلادهم إلى أطراف البلد وتلاحقوا، أرسل إليهم بالغزوات: غزوة بغزوة، والله تعالى يعين المسلمين عليهم ويهزمهم. وجرى بينهم وبين الجماعة حروب عظيمة، ووقائق جسيمة، حتى خرج أمير كنوا الكافر بنفسه، ونزل محصن جان يحيى. فسار إليه الجماعة بعيالهم، وأحاطوا بهم، فقاتلوا الحصن، حتى فتحه الله عليهم، وقتلوا من جنود كنوا كثيراً. وهرب الأمير إلى حصنه الكبر. ثم انتقل الجماعة إلى "حبركد" فقاتلوه أشد قتال، وأقاموا عليه شهراً. ثم انتقلوا ونزلوا قريباً من الحصن الأكبر، فلم يلبثوا إلا أياماً قلائل، ففتحه الله عليهم. وهرب أمير كنوا إلى "رنو"، وتفرق أموره. فسكنوا الحصن.
ثم إنه لما سمع بإخراج أمير كاشنة الكافر لعمر دلاج من حصن كاشنة، طمع في إخراج جماعة كنو. فرجع بمن معه، ولما سمع بمسير الجماعة، خرجوا فقتلوه "ببرمبرم"-بضم الباشئين والرائين وإسكان الميم. فقتلوه وشتتوا جنوده، والحمد لله.
انتقال الشيخ من سابنغرة إلى غواند
ثم إنه لما اشتد بنا الجوع في نزفر-وقد بغى علينا أهلمها-انتقلنا إلى أطراف بلاد "كب" فنزل الشيخ "بغواند"-بفتح الغين المعجمة وفتح الواو-وانتشر جماعته في سائر البلد لطلب القوت.
ذكر غزو كروفي
وكان من حديثها أنه لما نزلنا "كب" أنشأ الشيخ الغزو إلى "القاضاو"، فخرج بالراية علي جيد وتخلفت عن هذه الغزوة لمرض أصابني. ولما فصل بالجند وعلم ضعفه عن المسير إلى القاضوا سلك الشمال، فشن الغارات على التواري "بكوفي"، فأصابوا غنيمة. ورجعوا سالمين غانمين بحمد الله وعونه.
ذكر غزوة جات الثانية
وكان من حديثها أنه لما انتقلنا من "زنفر" وخلفنا بضع قومنا فيها بين ضيق الجوع والخوف، أرسل أهل "زنفر" إلى أمير "غوبر" يستمدونه، فخرج جندهم، فجال في زنفر، وأغار على بقية قومنا وأصاب ما أصاب. ولما وصلوا إلى "زنفر" أرسل قومنا إلى الشيخ يطلبون الإغاثة منه، فأمرني بالمسير. وخرجت بالراية، فسرنا ليالي حتى وصلنا "الجواني" من بلاد "زنفر" فشننا عليهم الغارات، وفتحنا بإذن الله من حصونهم "باك" و"تانو" حتى وصلنا "جات" وقاتلناها قتالاً شديداً، وفتح منها تسع قرى، فرجعنا إلى العسكر. ثم رحنا إلى بلادنا سالمين غانمين. وفي ذلك قلت:
ألم تر أن الله أبلى عباده بلاء غزيزاً والحروب تسعر بما أنزل الكفار دار بوارهم فلاقوا هواناً والحوادث تخطر وعزز أهل الدين من بعد يأسهم فهم في بلاد الله أقوى وأوفر وقد رام أهل الكفر أن يستفزنا أولو طولهم من أرضهم فتناصروا فرد الإله كيدهم في نحورهم وأوقعهم في كل ما قد تحذروا فسل عن حروب بيننا واقتنع بها على صنع مولانا لنا حين تشكر فسل عن قريب يوم أحمل راية إلى "جاب" والأنباء تجري فتذكر قتلنا جموع الكفر والله عالم ويدريه والتقريب فيه مسطر "فبأكي" قتلناهم و"ثانوا" بأرضها و"باناع" قتلنا، وفي "جاب" أكثر ففي "بال" أربعة وخمسون قتلوا وفي "ثانوا" أربع وعشرون يذكر ثلاثون عدة أهل" باناع" أمة على الشرك أرديناهم فتعسفروا وفي "جاتو" قتلنا بها مائة وشيء وأبنا "لكانكي" هناك معسكر ثلاث ليالي ثم أبنا لدمرها فدمرها المولى وإياه نشكر فرحنا كأنا من جواثي عشية بغالي الغنائم والجموع تكاثروا ولله حمد أولاً ثم آخراً ولله در المصطفى حين يذكر ذكر غزوة زورار
-بضم ازاي-ولما انفصلنا بالجند إلى "جات"، وتأخر من تأخر، طلب العم إنفاذ الجيش إلى ناحية الشمال. فخرج بالراية قائد الجيش، وقد أمره الشيخ بغزو "فولكم"-بضم الفاء، ولم يأمره بغزو التوارك، إذ كانوا أرسلوا إليه بطلب الأمانة، فأجابهم إلى ذلك، وكتبت إليهم. فسار "بوثابغر" البريد. فلما انفصل قائد الجيش بالجند نحو التوارك من غير علم منه، فشن الغارة عليهم، وبريد الشيخ عندهم. فأغاروا إبلاً كثيرة وبقراً و سبوا سبايا. ثم رجعوا. فخرج الطلب في إثرهم، فلحقهم "بكرفي، فاقتتلوا. فكانت الهزيمة، واستشد الأخ الصالح هداه.
ذكر غزوة أوغ
وسببها أن أمير "أوغ" كان تابع حين فتح حصنهم الأكبر، ولكن كان ينافق. فأرسل إلى أمير "غوبر" يستمده علينا. فخرج العدو من أهل "غوبر" فغزوا على أطراف الجماعة، حتى وصلوا إلى "اوغ"، ثم رجعوا لبلادهم. ولحقهم بعض إخواننا بالليل، واستلبوا منهم بعض الغنيمة، وأكلوا منهم كثيراً. ثم إنه لما سمعنا بمسيرهم إلينا، خرجنا للرباط، ثم أنشأنا غزواً، فسرنا، وعلينا "مويج". فنزلنا "أوغ" فقاتلناه قتالاً شديداً، وأقمنا عليهم أياماً. ثم رحلنا راجعين لما سمعنا بمسير الأحزاب إلينا.
ذكر وقعة ألوس
ثم إنه لما أقمنا على "أوغ" محاصرين لها، وأبطأ علينا الفتح، ورد علينا بعض الإخوان، وأخبرنا بتحزب التوارك والغوابر وسائر أهل أحوس إلينا، فتحولنا إلى رحالنا، فلم نلبث إلا يسيراً حتى سمعنا بمسيرهم إلينا بالأحزاب. فانحاز من كان في جهة الشمال. ثم إنه بلغنا أنهم عسكروا قريباً منا فاجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأي ساداتنا على الخروح إلى لقائهم، ورأي البعض على انتظارهم حتى يصلوا إلى رحالنا، فصدر الكل على الخروج إلى لقائهم بعد ذلك. فخرج بالراية قائد الجيوش، ومعه الوزير عبد الله، حتى وصلوا "كنبر"-بفتح الكاف والباء، وتخلفت في الديار، فأمرني الشيخ باللحوق بهم، وقال: سر معهم لئلا تقع الهزيمة، فيقولوا: تخلفت وتخلف الناس، فتبعت آثارهم ليلاً ووجدتهم بالمعسكر، وطلبت منهم الرجوع والانتظار في الرحال، فقبل مني الوزير، وأبى قائد الجيش. ولما أصبحت رجعت إلى رحالنا. ولما وافينا "لغ"-بكسر اللام والغين، تأخرنا هناك، حتى صلينا الظهر والعصر. ثم تشاوروا فاتفق رأيهم بالمسير إلى العدو. فسرنا حتى نزلنا "بكولد"-بضم الكاف، وهو حصن فيه أهل الذمة وبعض الجماعة. فأكله الجيش ونهبوا ما فيه. فقام الوزير فنهاهم ووعظهم فلم يسمعوا. فقمت ودخلت الحصن لأنهاهم فكادوا أن يقتلوني فخرجت. ولما رأينا ما فعلوا وخفنا عاقبة ما صنعوا، طلب منا الوزير الرجوع، ولم يساعده بعض الرؤساء. فمضينا حتى انتهينا إلى جمع التوارك صباح السبت. ولما سمعنا بحسهم ورأينا آثارهم عبأنا للقتال. فسرنا على التعبئة حتى وصلنا إلى صفهم. فرموا ورمينا، فحملت ميمنتهم على ميسرتنا، فكانت الهزيمة. واستشهد من الجماعة نحو من ألف رجل، وانتهى الغل إلى الرحال.
ثم إنه لما أصبحنا يوم الأحد أرسلوا إلينا غارة، فانحاز الناس ولجأوا إلى الحصن. وخرج الفرسان وكنت ممن خرج متمثلاً بقول القائل:
أنا الذي بررت يوه الحره والحر لا يفر إلا مرة للأجزين فرتي ذي كرة فحملنا عليهم فهزمهم الله، وقتلنا منهم كثيراً واستلبنا منهم إبلاً كثيرة وأتراساً وسيوفاً، فولوا خائبين خاسرين، وكذلك يوم الثلاثاء. ثم لما أصبحنا يوم الأربعاء بعثوا إلينا خيلاً، فخرجت في خيل فتلقيناهم وطاردناهم سائر اليوم. وقد نزل عسكرهم قريباً منا، ولما كان وقت العصر هزمنا خيلهم حتى انتهت إلى عسكرهم. فركب كل من تخلف عنهم، وهي خيل عظيمة. فتلقيناهم في نفر يسير، فحملوا علينا ومعهم سودانيون كثيرون، فثبتنا لهم فردهم الله عنا. ثم ركب إلينا من تخلف عنا من جيشنا. ولما صلينا المغرب سرنا إليهم لنصيب منهم كيداً. فلم نلق كيداً، فرجعنا إلى ديارنا. ولما أصبحنا يوم الخميس تحولوا قريباً منا، وقد خرج الشيخ في المسجد يعظ الناس، ويأمرهم برد التبعات، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحرضهم على القتال ويدعو لهم بالنصر. ولما نزلوا قريباً منا عبأوا للقتال، واشرأبوا إلى الحصن، فتلقاهم المسلمون، وكنت ممن خرج مع الفرسان. ولما نهضوا إلينا، وأتونا من فوقنا ومن أسفل منا، وكانت خيلهم سلكت من أسفل منا، وقلبهم من فوقنا وطائفة من خيل عظيمة سلكت أيضاً من فوقنا من جهة الشمال، فتلقينا خيل الميمنة، فحملت علينا ونحن عشرون، وهم ينيفون على عشرة آلاف، فثبتنا لهم فخالطونا فانحزنا قليلاً وكررنا إليهم، وثبتنا لهم وأنا أقول:
أنا ابن عثمان مقوي ساعده أدافع الكفار عن مقاصده والبر يحمي عن حريم والده والعاق مغبون ولو في تالده ولما رأوا ثباتنا وقفوا، فحملنا عليهم فرددناهم إلى حيث انحزنا. ولما وصل قلبهم إلى حيث وصل ثبت له رجال صادقون فرموهم ورماهم المسلمون. فهزمهم الله، وحملنا على ميمنتهم فتضعضعوا فتبعتهم الخيل والرجال إلى "غنباي"-بضم الغين. وكان أمير "كب" فيها، وكان قبل مجيئهم حين فتح حصنه تابع هو ومجوس "كب". ولما كانت وقعة ألوس، ارتدوا كلهم، ودخلوا في الجيش ، وكانت الحصون الغربية منا كلها كذلك مرتدة.
وتشاغل الناس بالنهب حتى أمعن العدو ولم يتبعهم إلا قليلون، أنجعوا بعدوهم. وفي هذه الوقعة يقول الوزير أبو عبد الله:
الهفي لقلب شابه الهم والأسا بليل التمام والصباح إلى المسا لفقد أخلاء مضوا في جهادهم بثنثي وبعض في كوار والوسا هم عدتي في نصر دين محمد فمن كان فيهم في الجهاد تنفسا فكلهم قار فقيه وتابع أولي العلم قارئ الضيف في الحرب أحمسا وناصر دين الله لازم مسجد ومجلس وعظ لا يفارق مجلسا لمظهر دين الله عثمان كلهم بالأقوال والأفعال منه قد اكتسى وخلفت في خلف أضاعوا صلاتهم وطاعوا على نيل اللذيذات أنفسا وغالبهم شار بدنياه دينه بإيثار ما يهواه والقلب خليسا جرئ على أكل الحرام وأكله كما تأكل الأنعام يأكل بولسا ولا يسمع المأمور يعصي إمامه فمن قام ينهاه عن السوء أخفسا وإن كان ذا جاه يمهد عذره وأول ما قد قيل فيه ودلسا وليلة نحش بت في كلد حائرا بأخلاط غوغاء الرعاء مدنسا فقلت-وفينا بنت بيس بظلمهم لصبح عست هذه الصحيفة أبؤسا فسرنا وذاك الجمع يأتي وراءنا فلما رأوا جمع التوارك أركسا وخلفت في الأخرى أنادي: ارجعوا كأني أنادي أو أكلم أخرسا وقد كنت أرجو كرهم لمقامنا فخاب رجائي في لعل وفي عسى سري بعض أحبابي وولدي وإخوتي حموني وبعض حين فندس قندسا ومنا رجال لم يزالوا بصفنا وهم صدقوا ما عاهدوا لله في المسا قضوا نحبهم فيها كفار وحمدا فنالوا جنانا والحسان وسندسا ومنا رجال الله ينتظرونه وكل إذا ما صيح للحرب بلهسا وما بدلوا قولا وفعلا كمن عدا وصار إذا ما صيح في البيت دنكسا وقد لقي الكفار منا بالوسا سهاما تقد الترس لم تك خنسا فاقصد سهم ابن برهي وطرفه فولى إلي أصحابه متألسا فلسنا نخاف الحرب من قتل بعضنا وذاك المني من نال ذلك قرطسا فمنذ بدت منا حروب توالدت فما زال فينا من على الحرب خرسا وتكثير قتلانا إذا سر غيرنا فنحن نرى تلك الشهادة ملبسا ومع ذا فكم يوم بكن-متنكرا وغر دم ودان غندا وجوه العدوسا وبمبرم مازوزي لازم أن بهم كنوم ودوش دل سل من تحدسا وما نيل من جيش والفتوح ونحوه دليل يكون النصر فيه مؤسسا ويوم أتونا واشرأبوا لحصننا فولوا وجل بالسهام تخفسا فقتل منهم نحو خمسين طاغيا وزادت لدي النسوان وجها وشمسا فشتتهم رب السماء وبعضهم إلى الليل لا يدري إلى أين طسسا فخابوا لما لاقوا وبالسلم أرسلوا وذو شدة من قيل منهم تأيسا ولا تأمنوا إسلام أو سلم كافر بشرق ولا غرب وحسبكم مسا كلوا سلمهم لله ثم ثقوا به فماخاب من رب البرية أنسا ولما انفصلنا من أمر "ألوس" اشتد فيث بلادنا الجوع لانتشارها، فخرجت بالعير إلى الأطراف الغربية، وخرج قائد الجيش إلى "أوغ" وقد اجتمع فيها العدو حتى انتهى إليهم، وشن الغارة فخرجوا في عدد كثير-وهو في نفر يسير، فكانت الهزيمة، واستشهد يعقوب المجاهد. ثم أنشأ جيشاً آخر، فأرسل به إلى "كرر"-بفتح الكاف، فأصاب غنيمة. ثم أنشأ آخر إلى "أرغنع" فكانت الهزيمة، ولم يكن بأس.
ثم إنه خرج العدو من الغوابر إلى أهل "كب" وأغاروا على جماعة محمد غابن ولادان، واستشهدوا محمد غابن وأوجعوا، ولما رجعت من الميرة وجدت هذا الأمر قد تفاقم، واتقض جميع من كان معنا من السودانيين من أهل "كب" حتى أميرهم، عثمان مسي، فخرجت بالراية حتى انتهينا قريباً من حصن "سوّ"-بفتح السين وتشديد الواو، فشننا عليهم الغارة، فقتلنا ما شاء الله وغنمنا، ومضيت إلى محمد تكر لأرده إلينا بأمر الوالد.
ثم إنه خرج قائد الجيش بعد هذا إلى "دمان"-بفتح الدال فلقي بحمد الله العدو، فهزمهم الله عليه، ورجع سالماً غانماً، والحمد لله. ثم أنشأ جيشاً آخر، فمضينا إلى "غلم"، فأغرنا عليها وصالحنا أهلها، ومضينا إلى "ززعا"، فصالكنا أهلها، ومضينا إلى "غور"، ففتحها الله علينا، وقتلنا رجالهم وسبينا ذراريهم. ثم عبرنا إلى "كاد" فلقيننا جمع العدو فهزمهم الله، فقتلناهم وقطعناهم من دابرهم ولم ينفلت منهم أحد، واستشهد صاحبي محمد غين. ثم لما أصبحنا مضينا إلى حصنهم. ولما وافيناه وجدناهم قد تحصنوا فيه، فعبرنا فنزلنا فبتنا. ولما أصبحنا فإذا صارخ: اركبوا اركبوا، فلقينا خيل العدو ورجالهم خلطونا، فكانت الهزيمة، لكن لم يكن بأس. ولما تلاحق الجيش وقفنا لهم، فردهم الله عنا، فأقبلنا على قوتهم فأحرقناه، ومضيت لبلدنا، والحمد لله.
فتح سوّ
ولما رجعنا لبلادنا خرج بالراية قائد الجيش ومضى حتى انتهى إلى "سو"، ففتحها الله عليهم، وقتلوا "مسي"، وأصابوا غنيمة.
عزوة جاندوت
وكان من حديثها أنه أرسل الشيخ إلى سائر جماعته بالمشرق من أهل زنفر وكاشهة وكنو ودورا كلهم أن يردوا عليه، فلقيناهم بمغم ليخبرهم ما يخبرهم. ولما حان وقت الخريف وأقبلوا أرسلني مكانه، وأخبرني بما أخبرني. ثم أن خرجت فسلكت أرض زوم وزنفر، وكانت زنفر إذ ذاك باغية علينا، حتى انتهيب [انتهيت؟] إلى معسكرنا بكاركي فالتقيت أنا وإياهم هناك ببررغد. فوافى أهل كنوا وقد فتحوا بلادهم، فأمرت عليهم الفقيه العادل سليمان بن الجم، وأخبرت الكل بأن الوالد حياهم وأمرهم بالمبايعة على السمع والطاعة، واتباع السنة قولاً وفعلاً، ظاهراً وباطناً، وحركة وسكوناً، ليلاً ونهاراً، فسمعوا وقبلوا، وأخبرتهم بأن يبشرهم بأن الله يفتح عليهم البلاد ويمكنهم في الأرض فليحذروا بعد ذلك أن يتحاسدوا فيتفرقوا، أو يبدلوا شرائع الإسلام، كما بدل هؤلاء. فاستبشروا وقبلوا النصيحة. وأخبرتهم بما بشرهم به من قرب ظهور المهدي، وأن جماعة الشيخ طلائعه، ولا ينقضي بإذن الله هذا الجهاد حتى يفضي إلى المهدي. فسمعوا واستبشروا، ودفعوا إلي ما قدروا عليه من مال الله.
ثم أنشأنا جيشاً إلى جاندوت، وبها من بقايا الطلبة، وكانت قرية اشتهرت بسكنى العلماء، وكان من بها من الطلبة يضللوننا ويغرون بنا السودانيين، وقد طردوا منها من انتسب إلينا من صلحائها كالحاج عمر والأخ المظفر محمد بن الشفاء، ولقيا منهم جفاء وإذاية، وضرراً عظيماً. ولما اتفق رأينا على غزوهم سرنا إليهم حتى نزلنا بإزائهم. فقدمت إليهم الأخ محمد بن الشفاء، وقلت له: أخبرهم بأني ما أتيت لأغزوهم وإنما نزلت بإزائهم لأناظرهم في هذا الأمر، فإن كنا على الصواب تابوا وتبعوا، وإن كانوا على الصواب تبنا وتركنا ما نحن فيه. ولما قال لهم ذلك قالوا: لا نناظره في شيء، ولا نحب رؤيته، ولا جمع الله بيننا وبينه وبين أبيه في الذنيا والآخرة. فرجع ووجدني أصلي العصر. فلما قضيت الصلاة أخبرني، فركيت [=فركبت] إلى الحصن بعد صلاة العصر، وأقبل الجند إليهم، ففتحه الله علينا في الساعة والحمد لله. وبتنا هناك ليالي. ثم رحلنا إلى الغرب. وقد انتشر من حصون كاشنة نحو خمسين حصناً، وأغزرنا على فلاتيهم، إذ كانوا على شاكلتهم، ورجعنا سالمين غانمين. فصدر الجموع إلى بلادهم وصدرنا إلى بلادنا بحمد الله.
غزوة ياور
ولما فصلنا بالجند إلى جاندوت من بلادنا، أنشأ الشيخ جيشاً إلى ياور. فخرج بالراية قائد الجيش فغزا ياور وفتح منها قرى كثيرة وخرج إليه أهل ياور فهزمهم الله، وقاتل حصنهم الكبير ولم يفتح عليه، فكر راجعاً.
غزوة بنا الأولى
ولما رجعنا من جاندوت ورجع على قائد الجيوش من ياور فلم نلبث إلا أياماً، فخرج بالراية الوزير الأكبر، فسار إلى بنا وكانوا بغاة علينا، فقاتلهم قتالاً شديداً، ولم يفتح عليه، فكر راجعاً.
غزوة باس
وكان من حديثها أنه لما رجعنا من جاندوت ورجعت قائد الجيش من ياور اجتمعنا وشاورنا فاتفق رأينا في غزو باس. فخرج بالراية سلطان كب مويج، حتى وصل باس ولم يلق كيداً، ورجع وقد مضى عليهم شهران.
غزوة فافر
وكان من حديثها أنه لما هزم الله التوارك من غواندر ورجعوا لبلادهم خرجوا وتوجهوا إلى أرض زنفر للميرة فأنشأوا هنالك غزواً من السودانيين، فغزوا حصن غد بفتح الغين المعجمة، فهزمهم الله. وكان بها الفقيه الأستاذ دنب ولما هزمهم الله رجعوا لأرض كيا ولما تهيأوا للرجوع ورجعوا لبلادهم تلقاهم الأخ المظفر نمود بجنب البحر فاقتتلوا ساعة فهزمهم الله، واستاق أبقارهم، ونهبوا جميع ما معهم.
ولما رجعوا لبلادهم أخذوا بالتأهب إلى غزو زوم فمكثوا طويلاً، ثم جاسوا إليها وكنا خرجنا لما سمعنا بمسيرهم، ونظن أنهم توجهوا إلينا حين سلكوا طريق الغرب، ولما نحوا نحو زوم رجعنا لبلادنا. فحينئذ دعوت الله بهذه القصيدة المباركة المستجابة إن شاء الله تعالى:
أناديك يا مولاي في السر والجهر بأسمائك الحسنى السنية كالدر وبالمصطفى الهادي الرشيد محمد وأصحابه والآل والتابع الغر وبالأنبيا والرسل والملك الرضى وبالأوليا والصالحين أولي الأمر لتكفينا من كل سوء وفتنة وترزقنا رزقا كفافا مدى العمر إلهي ومولاي ترى من العدا سعوا وكادوا به فينا من الكيد والمكر فكد يا إلهي كل من رام كيدنا وخذه إذا يبغي علينا على قدر فنصرا عزيزا يا إلهي لقومنا فمنك نرجي الفوز باللطف والنصر أغنبل فاحص جمعه ثم فله فيقرع سنا بالندامة والخسر فلا تجعلنا فتنة للذين هم عتوا واعتدوا بالظلم والفجر والكفر وأتمم لنا نورا أرادوا خموده ولو كره الكفار من ذلك النور وأسق بلادا كان فيه مقامنا ومن بركات الأرض أخرج على الفور أغثنا أغثنا أنت مالك أمرنا وعجل بيسر لا يعقب بالعسر فقد مسنا ضر فضاقت فجاجنا فمنك نبغي الكشف من ذلك الضر ونسألك التأييد بالروح في الذي نريد فمن أيدته باء بالخير نعوذ بوجه الله من شر نفسنا إذ المرء مطبوع على الشؤم والشر ومن شر وساوس رجيم مطرد ومن سوء أقدار المهيمن في الأمر ومن سوء قهر الخلق والدين والهجا فلطفك نرجو في الأمور مدى الدهر وفينا إلهي ما ترون من العدا يضاهون قول الكافرين بلا نكر وهم عرفاء الناس ثم رعاؤهم فلا يرتضون الحكم من شرعة الأمر فلا يهنهم إلا اتباع ضلالهم وأهوائهم ظلما وكفرا على كفر فما زادنا إلا خبالا سوادهم فتعلم ما هم فيه يا رب من مكر فبددهم يا رب فل سوادهم ولا تبق ديارا يجاهد بالغدر ويسر لنا فتح الخصون بأسرها وقلع عماد الكفر في ذلك القطر ويسر لنا يا رب نصب دعائم من الشرع في هذي البلاد على الفور إلهي ومولاي من النار نجني ومن كل سوء في القيامة والحشر وبلغ سلامي للنبي محمد وأصحابه والآل والتابع الغر وبلغ لموتانا السلام بأسرهم وآثرهم باللطف والعفو والغفر إلهي رجائي لا تخيب دعوتي إليك رفعت البث فاشفعه باليسر ولما بلغوا أرض ركب ونهضوا إلى زوم صبح الأربعاسء. فوافوا زوم وقت العصر، التقاهم المسلمون فهزمهم الله. واستحر القتل فيهم، وقتلهم قتلاً ذريعاً. وفي ذلك قلت:
ألا هل أتاها أن غزوة فافرا شفا شقما في القلب من حين أخبرا شفا النفس أدبار التوارك يومها فخابت ظنون غنبل ثم أدبرا تصيح الردينيات في حجباتهم وتسقيهم كأس المنايا المخمرا ومن قبل كانوا يحشرون محاشهم وأوباشهم من أهل غوبر وزنفرا ولما توافي جمعهم وزهاؤه ثلاثون ألفا أو يزيدون أكثرا إلى زوم كم قد أجمعوا الكيد كلهم ليستأصلوهم أو ينالوا الأكابرا يقودهم طاغوتهم وخبيثهم أغنبال أفاك ردي فشمرا وخامد رأس الكفر ثم قدارهم أمير كيا وأبرش طاغوت زنفرا دنوا وتدانوا زوم ثم تذامروا وجعم أولي الإسلام قد كان أنفرا فلما التقاهم جمعنا فتضعضعوا فولوا على أقعابهم حين كبرا فلم يك إلا راية الدين مشرع بنو الحرب في حافاته حين شجرا تداعي أولو الإسلام حين تذامروا بكل حسام يفرق الهام مشهرا وكل رديني وأسمر معضب على كل جهد من نجائب بربرا ورجلهم يحمي سهاما كأنها ندى صاب في جو النهار وأمطرا فغادر خيل الله للنصر هامهم بمعترك والكف والرجل قد فرى فخلوا لنا أزوادهم ومتاعهم وأموالهم نفلا ورزقا ميسرا وكانوا قديما يعرفون لقاءهم كريها بغيضا قبل غزوة فافرا فسل يوم ثنتوا حين ولوا بأسرهم وشنشن رهن خلفوه مجزرا وعن يوم ألس حين دارت رحي الوغا فنالوا ونلنا واحتملنا المفاخرا وإن سرهم ما نالنا من شهادة فتلك المنى منا نخب المآثرا فمن قتلوه بلغوه مراده فطوبى له واللطف والمسك أذفرا وروح وريحان وجنة خلدة وورث حورا من نساء حرائرا ومن حلل الفردوس يكسي جميعها حريرا وديباجا وتبرا منضرا فسبحان من رد العدو ذريعة إلى درك مأمول لنا قد تعسرا فأبلغهم أن قد قتلنا بغوبنا سراتكم قتلا فخلوا التفاخرا فعادوا إلى صدق بجامعة الدجى فباتت على جنب وساق تكسرا وسيد بن برهي قد ثوى ثم طرفه وأمثاله ممن هوى الكفر أشهرا إلهي إليهم أنهم حذروا الوغي فإن لنا في كل ضد بواكرا وفي ذلك قلت أيضاً:
ألا أبلغ توارك أهل أزبن علانية فقد ذهب السرار بأنا قد نزعنا خصيتيكم فليس لكم إلى زحف نفار فأين سراتكم سيد بن برهي ونجل كجير مشؤوم قدار وأي صدي تركناه صريعا وفي لحييه والقحف ازورار ضربنا قرن كبشكم فأضحى أجم كأنه فيكم حمار فحزنا يا توارك أهل أزبن ففروا كي يخلصكم فرار فسيروا أربعين ونصف عام ففروا كي يخلصكم قرار فلم يك قولكم أن تشتمونا وتفتخروا إذا جد الفخار وللوزير عبد الله:
أمن طلل خلا أم فقد قوم ألفتهم تبيت بغير نوم فكم خل فقدت رضى تقي شجاع قارئ سراد صوم وكم طلل علمت بريم خال وشحغل كوكي وغلم غلم فتلك ديار غوبر والتوارق ولاة الكفر خاوية بظلم وكم يوم بكن لنا عليهم ودارغد وغردم أي يوم بأيدينا هلاك جميع غوبر هلاك توارق يرماح زرم غداة يقودهم للحين جهلا طبيلهم أغنبل دون علم يؤازره الغوابر والكوابش كيا وزوافر غوغاء برم فأوردهم يعافر حوض موت ففر بأهله بلباس نوم وسابق خامد شيطان آزر وزدي قدارهم أصحاب لوم ففروا عن جماعتهم وجازوا مسيرة خمسة في نصف يوم فما بالوا بآبال وخيل وأعبدهم وأثوبهم وطعم وأحرار ثووا في زرم نحوا ثلاث مئين تؤذنهم بحزم فثاب جميعهم عن جمع جيش لزرم وصلبوا طلاب سلم فنعم الجمع جمع نمود يوم اللــ تقي الجمعان في أرجاء زرم شفاء صدور كل المؤمنين وغيظ صدور كفران وجرم ألا من مبلغ عني لعادر إذا بقيت بها أصحاب حزم بدار تداركوا بطراد خامد قواكم قبل تشتيت وهدم فخامد خامد لا تتركوه ليوقد ناره فيكم باثم وكل محارب لا تتركوه بها ليدوم فيكم نيل سلم فلله المعز وللرسول وجمع المسلمين فتم نظمي وكان أهل غرسا وردوا علينا وأشرافهم عندنا وأهل ميرتهم.
ولما جاش الجيش ذهب فتيانهم وأشرافهم عندنا يقولون: نحن معكم، لا نوالي الظالمين. وفي ذلك قلت:
أصحبني بلغوا عني الجوابا إلى العذال قولا مستطابا بأني لا أزال إلى المعالي أرقى لست من يهوى الربابا وأني ماجد سمح جيي وضرغام إذا سمت الضرابا فأبلغ زد مع هودا يهودي توقع وارتقب مني سبايا ومغزاه فبات إلى تكره فاوقع في بلادكم الخرابا بجند يملأ الأركان طرا ويكسو السهل والحزن النشابا تلف الخيل يومئذ نساء أوانس قد أصبن لها نهابا فلا يحجبن يومئذ بخدر ولا يوقين من شمس عتابا ولا يبقى بأرضكم عدوا ولا يبقى لكم إلا الترابا عللت وفي التجارب كل علم بأن أتيسر أعلى ركابا وهم أولى التوارك كل يوم عهد وأعلاهم إذا انتسبو شعابا ولا تثقوا بعهد غرس فإني رأيتهم نعاجا أو ذئابا ولو وزنت شيوخ غرس جميعا علا الميزان ما وزنوا ذبابا ولما هزم الله التوارك وأخزاهم رجعوا إلى بلادهم، وكانوا أنفذوا لأهل ميرتهم من السودان كثيراً فأكب الجماعة على عيرهم، فأكلوا ما شاء الله من أموالهم، وتقووا بذلك، وضعف بذلك شوكتهم. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
غزوة برغ
ولما كان الربيع خرج العم الوزير بالراية، حتى وصل راغم بضم الغين المعجمة. فكاد أن يفتح عليهم، فكر المشركون، ولكن لم يكن يأس.
غزوة دفو
ثم بعد خروج العم إلى الغزو، خرجت بالراية حتى وصلت سكت، روماً لغزو دفو، فرجعت ولم ألق كيداً.
وقد انتشر أهل دفو وهربوا لما سمعوا بمسيرنا، وهناك أرسلت إلى أخينا الظفر داون-بفتح الوا وإسكان الثاني، وهو من أقيال الفلاتيين، وأمرته بغزو ضواحي القضاو ليجلب إلى أخبارها، ليتمكن لنا غزوها في الخريف. فخرج حتى شن الغارة بباب الحصن، واستاق بقرهم فخرج الطلب، فكروا عليهم، فقتلوا منهم، فرجعوا بالغنيمة سالمين بحمد الله وحسن عونه، وأتوا بقص الخبر.
غزوة القضاو الثانية
ثم إنه لما حان الخريف احتمعنا وشاورنا، فاتفق رأينا في غزو القضاوا وعلينا قائد الجيش حتى وصلنا غندم-بضم الغين المعجمة والدال المهملة، فلحق بنا جموع أهل زرم فسرنا حتى صبحنا أرض العدو، فأغارت الخيل عليهم والرجل، فاتفق أن علم العدو بمسيرنا فخرجوا إلينا. فلقيناهم فلم يكن كبير أن هزمهم الله تعالى، فقتل من أشرافهم خمسة رجال، كل واحد منهم يعدل مائة عندهم، كأمير غلم، وغيره.
ثم نزلنا بعسكرنا الأجنفي وبتنا ليلتين، وأمرت على الخيل الأخ الظفر نمود فسار للحصن، فرجعوا سالمين.
ثم رحلنا فنزلنا قريباً من الحصن، فبتنا، ثم سرنا لمعسكرنا زغرب فنزلنا بها. وقد اتفق قدومنا بصلاح قوتهم، فاشتغلنا بفساده وتحريقه، فأحرقنا معظمه. ثم خرج إلينا العدو حتى صبح عسكرنا يوم الخميس، فلم يك بأس أن هزمهم الله وقتل من صناديدهم نحو من عشرين أو أكثر، ولا تسأل عن الأوباش، ففرح المسلمون، وذل الكافرون، والحمد لله رب العالمين.
ولما أصبحنا غدونا إلى الحصن، لننظر حاله، فقاتلناه ساعة، فرجعنا عازمين على قتاله. فنهضنا بالجيش ونزلنا قريباً منهم، حيث نزلنا عازمين لقتال الحصن، فاجتمعنا وشاورنا، فاتفق رأينا في غزو التوارك فسرنا إلى معسكرنا لنعبر إليهم، فلقينا أشرافهم وافوا يلتمسون الصلح، فصالحناهم على عهود ومواثيق. ثم رجعنا لبلادنا بحند الله وعونه.
ذكر بناء غواند
ولما رجعنا لبلادنا-وقد وجدنا الشيخ مريضاً-اشتغلت ببناء الحصن الذي هو فيه، فبينناه. ولما صح خرجت بالراية إلى دند. وكانوا بغة يخرجون إلى أطراف بلادنا ويغيرون عليها. ولما وصلنا إلى أطراف بلادهم القريبة منا شننا عليهم الغارات. ولما وصلنا حصن كيم وزكو قاتلناهما يوم الاثنين، ففتحهما الله علينا، فرجعت من هناك. فمر قائد الجيش وقاتل هناك حصناً فاستصعب. ثم مر فقاتل حصنهم الأكبر عند أميرهم الباغي، ففتحه الله عليه، وقتل الكافرون من أصلهم ومن عند آخرهم. ثم سار بالجيش على كنب-بفتح الكاف، وكان بها طاغية منهم، ففتحها الله عليهم. ثم رجعوا لبلادنا سالمين غانمين، والحمد لله.
سائلوا عنا وعن أعدائنا يوم دار الحرب في كنوا الحفر قد تركناهم بها مثل الهبا أو كأحطام الهشيم المحتظر ولكم كر به فرساننا في صناديد كياوا المنكسر إذ رجعنا لهم وقت الضحى بجنود كجراد منتشر وكأن الخيل في أرجائها جدأ تخطف أشلاء البقر فلقيناهم وأوغلنا بهم برماح وسهام كالمطر وأشرأبوا فرمونا مثلها فأقمنا هكذا حتى الظهر فدعونا: يا نزال للوغي فدخلنا حصنهم وقت العصر فسقيناهم منايا فرأوا سهم أمثال جذع منقعر ثم رحنا غانمين كأننا قد رجعنا من جواثي للحفر فأحمدوا لله على إحسانه لأولي الإسلام يأهل العبر فهو أهل الحمد والشكر معا وثقوا بالله في صرف الدهر فهو مولانا ووالي أمرنا حبذا المولى ونعم المنتصر ولما رجعنا لبلادنا خرج المظفر نمود فغزا كرياً من أهل كياو، ففتحها الله عليه، ولقي بجنود كيا، فهزمهم الله وأبلى بهم. ثم إنه لما حان الربيع خرج المظفر "واون" فغزا شراً حصن القضاو، فخرج الطلب فلحقهم، فمالوا على الطلب، فقتلوا من صناديد المشركين نحواً من عشرة. فكان سبب ضعف شوكتهم في تلك الجهة. ثم غزا سائر الجهة المذكورة الأخ المظفر نمود، وأبلى. وكذلك عمر دلاج سلطان كاشنة غزا هو ناحية منها، فكانت هذه الغزوات سبب بلد غوبر، والحمد لله رب العالمين.
ذكر غزوات ارغنغ
وكان من حديثها أن أهل أرغنغ سالمونا. ثم رأينا منهم إخلافاً، فنبذ إليهم الشيخ عهدهم. ولما سمعوا بذلك وجهوا من أشرافهم ليطلبوا لهم الأمان، فقتلهم أغيلمات، فثار الحرب ومضى الجند، وفيهم الوزير الكبير عبد الله، وقائد الجيش علي جيد وعبد السلام، فقاتلوا أرغنغ أشد قتال، وحاصروه ولم يفتح عليهم فرجعوا.
ثم اجتمعنا وشاورنا، فاتفق رأينا على غزوهم وغزو أوغ. فسار الجيش وعليه قائد الجيش، فشننا الغارة على أهل أرغنغ فأصبنا غنائم، ثم مضينا ونزلنا أرغ، وأفسدنا بساتينهم كثيراً، فرجعنا بحمد الله وحسن عونه.
ثم إنه لم تزل السرايا منا غادية عليهم ورائحة، حتى استلانوا، فاجتمعنا وشاورنا في أمرنا فاتفق رأينا على غزو أرغنغ فمضينا بالجند حتى نزلها عليهم، فطلبوا منا الصلح، فصالحناهم. فحينئذ استقام لنا بلد كب، ورجعنا بحمد الله وحسن عونه.
غزوة فتح القاضوا الثلثة
ثم إنه لما حان الربيع أرسلت إلى أطراف البلاد كلها، وأمرتهم بالتهيأ إلى غزو أطراف القاضاو. فانتدب المسلمون كلهم، وقد جردوا على الكفار من أهل غوبر. ولما حان الخريف سرنا وعلى الجنود الغربية قائد الجيش، وعلى الجنود الشرقية القائد المظفر نمود وجماع أمرهما عندي. فخرجنا حتى نزلنا معسكرنا الأجنفي، فبتنا ليالي، ثم سرنا يوم الأحد، فنزلنا قريباً من الحصن. ثم بتنا، ثم غدونا وعبأنا للقتال. فأخذ الأخ المظفر ناحية الشمال، فقاتل هناك، وأخذنا جهة الشرق، فقاتلنا هناك، وقاتل سلطان كاشنة بين الغرب واليمين، ففتح الله علينا الحصن طرفة عين. فمال المسلمون عليهم بالقتل والأسر، وقتل أميرهم ينف وأقنى رجاله حوله، والحمد لله. فوجهت البريد إلى الشيخ، فوافى أن سبقه الجن وأخبروا بجميع ما يكون حتى خرج الشيخ وبشر الناس. وذكر أهل السير أن الجن تسير بأخبار الوقعات قبل أخبار الإنس، ويحتمل أنه رأى ذلك كشفاً. ولما فتح الله على المسلمين هذا الحصن، فرحوا فرحاً شديداً، وذل المشركونه ذلاً كثيراً، وكان المسلمون أينما كانوا يتوقعون وقعة القاضاو، والكفار حيث كانوا يرون ثبات ملكهم وزواله بها. وكانوا في كل بلدة مصيخين إليها، ينظرون ما يكون من أمرها. فلما كانت الوقعة وسارت بها الركبان سقط في أيديهم، وانكسر ظهورهم، فتاب بعضهم، وتابع آخرون، فاستقام أمر البلاد، واطمأن جوانبها، والحمد لله رب العالمين.
غزوة بنا الثانية
وما يتصل بها من غزو تندثم إنه لما رجعنا من غزو القاضاو، اجتمعنا وشاورنا في غزو البغات من أهل "بنا"، فلم يكن بأس أن فتحها الله علينا. فمال الجند عليهم بالقتل حتى أفنوا مقاتلتهم فلم ينفلت منهم أحد، فسبوا نساءهم. ثم مررنا وصالحنا "بنغ". ثم مرنا وصالحنا "كي". ثم سرنا حتى وصلنا "نتد" بجنب البحر الذي يقال إنه النيل، فقاتلناه أشد قتال في أربعة أيام، فلم يفتح علينا، فرجعنا لبلادنا. فاتفق أن غزا إخواننا أرض "برنو" من ناحية "سوس باد"، فكانت الهزيمة، ولم يكن بأس. فلما رجعنا خرجت فعسكرت بسكتوا مرابطاً ومرتقباً ما يؤول إليه أمر التوارك، فوافى نزولي بها قدوم أمير أهير الأخ الناصح أمير آهر الباقري لبلاده آدر، فجرى بيني وبينه مراسلات، وكانت وعقت قبل هذا.
ولما اطمأن أميرهم في بلد آدر بين التوارك أنه يريد القدوم على الشيخ للزيارة والتبرك به والانخراط في سلكه، فأبوا عليه. فأبى وسار فتبعوه بعد ذلك، حتى وصل بعسكرنا، فبات ليالي، ثم سرت معه فزار الشيخ وتبرك، وتحمل ما تحمل، وبايع على اتباع الحق ونصرته، وأقام شهراً. ثم سار فنزل بمعسكرنا، وأقام أياماً، وخلف عندي أولاده، ثم خرج إلى بلاده.
ولما وصل إلى أكرز كتب إلى ما جاوره يعلمهم بما سمع ورأى من أمور الشيخ، ويحضهم على متابعته. ثم رجع إلى بلده آدر عازماً على غزو المحاربين من أهل بلده، وغزوا برنو معنا، فتوفي بها، رحمة الله عليه، وفي رثائه قلت:
إذا ما تذكرت الحبيب الذي توى تموج من عيني دموع وتسكب ويرثي له قلبي مدى الدهر كله ومن قبلك قالوا في الرثاء وهذبوا: "أخلاي لو غير الحمام أصابكم عتبت ولكن ما على الموت معتب" ذكر ما كان من أخبار آدر
وكان التوارك من أهل آدر حين خرج أميرهم إلى غزو زرم ورد عليهم كتاب من محمد الباقري يأمرهم بعزله وتولة محمد بن المصطفى لمكان، محبته للجماعة، فعزلوه وولوا محمد بن المصطفى. ثم نكصوا على أعقابهم، فعزلوا محمد بن المصطفى، ورجعوا إلى أميرهم الخبيث خامد. وأعانهم على ذلك توارك أهير من أهل تنبسي. وفي ذلك قلت:
لعمري لقد طاشت عقول بتونكت وضلت حلوم أليون وتقصر يرمونا فيما بيننا نقض عهدهم وتهيج أضغان بها الحرب تسعر إلا صالحونا وأقصدوا السلم تسلموا فأنتم إلى الصلح أو السلم أفقر فخامد إن أوفدتموه يكن لهم بعاد حريقا مستطيرا فتحسر ألا أبلغن عني ألمت رسالة وقد يحدث الأمر الكبير المحقر لئن كان غوغاء التوارك غركم كما غر قوما قبلكم ثم أدبروا ستعلم أن لفت أناها وضرست بمن أنت في آدر أتقى وتصبر وقد خذلتك أننسين تباعها وحلوا ثنايا انصما وتقهقروا أو التحقوا في واجل وطرابلس وجازو بأحمادو خلفوها وفرفروا ثم إنه لما قدم إليثهم أمير المؤمنين محمد الباقري، روماً لزيارة الشيخ، أمرهم أن يتوبوا عن عداوة المسلمين والسعي في محاربتهم، فسمعوا له، وانقادوا. فلما زار ورجع لبلاده، توفي خامد وولوا بعده أخاه إبراهيم، وكان أخبث من خامد. وفي ذلك قلت:
لعمري لقد زادت شقاوة ليسن وخف لواها حين ولوا برهيما فتلك ثلاث في الديار تمتعوا كميعاد قدار فالياس أعلما ذكر غزوة كنب
ولما حان الربيع خرج بالراية الوزير، ولما بلغ دب انتشر من بها من العدو، ثم إنه لما سمع بمسيرهم أهل تند خافوا وهربوا.
ولما وصل بالحيش إلى جانب البحر عبر بهم على حصن كنب، فشنوا الغارات على ضواحيها الغربية، وأبلوا هناك بلاء عظيماً. فجاء أهل كنب من بني كرباس، فصالحوه على سائر بلدانهم، فكر راجعاً بحمد الله وحسن عونه. وفي ذلك يقول الوزير عبد الله:
فحمدا وشكرا طيب الأنفاس لله ذي الآلاء رب الناس يعطي ويمنع من يشاء بفضله وبعد له لا يهتدي بقياس فيعز من والاه في آلائه يذل من عاداه بالأرجاس ومن الدليل عليه سوط عذابه في الأربعاء على بني كرباس نصرا لنا برماحنا وسهامنا وسيوفنا ببطونهم والرأس أولادهم ونساؤهم مسبية ورجالهم مقتولة بالفأس بعد انتشار فراشهم بزروعهم وتطاير الفرسان بالأتراس من بعد هدم وحرق دلب وطردهم فارتاع تند وهل له من آس؟ قولوا لهم: توبوا فلا ينجيكم هرب لبرغ ولا إلى كنياس تروى وكنب رأوا ترى فتعوذوا بالله والإسلام خوف البأس فنجوا وقد أخذ الهلال حلوقهم بغيوث عفو جاء بعد اليأس ظنوا بأن البحر يمنع جمعنا فيه يغرهم أخو الوسواس رأوا الجموع يمينهم وشمالهم شرقا وغربا وهو جمع رأسي فيهم دعاء الشيخ يحدث في الفلا سبلا فجاجا عالي الأجراس يا سائلا أخبارنا عن بحرهم خذ فضلها واكتب على القرطاس لما أتينا البحر طاع تفلقا بعصا المعونة طائع الأجناس حتى رجعنا ثم خضنا ثانيا وورودنا وصدورنا في فأس صدق الرسول رأى جموع غزاته في البحر كالأملاك فوق كراسي سرنا زيوم تواصلا لجموعنا والبعض منهم جاء من كراتاس ثم انصرفنا آئبين ونرتجي أجرا يزول به أسي الأفلاس ما منا سهم ولا رمح ولا سيف كمن آبوا من الأعراس؟ لله حمد والصلاة على العلا خير الورى والآل والأكياس ولما حان الخريف بنيت للشيخ حصناً بجنب معسكرنا بسيفاو، فانتقل إليه، متعنا الله ببقائه وجلع العافبة خيراً. وبنيت على معسكرنا حصناً، فكانت قرية سكت عمارة إسلامية. وفي ذلك قلت:
لسعدي ديار يا لها من منازل بسكت فذات التل دون المناهل بلاد تمناها ذوو الرأي قبلها وجاد عليها كل أسحم هاطل ذكرى غزوة غوار
ثم إنه لما حان الربيع وقد رجع جموعنا الذين وردوا "نفي" لنصر عبد الرحمن النفوري على عسكر "نفي" وقد أصابوا من الأمانات فقمنا غاية جهدنا، ورددنا ما أمكن رده، ونحن نسمع بعتو أهل غوار وصيالهم على أطراف بلادنا، فخرجت ونزلت في المعسكر شهرين.
ولما حان الخريف نهضت حتى نزلت القاضاوا، فسعيت جهدي في الإصلاح، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد المظالم، وأمرت الأخ محمد فجلس لها، وحضر الفقهاء، فبسطوا العدل والقسط ما شاء الله أن يبسطوا، ونصروا المظلومين. ثم رحلنا حتى نزلنا بمعسكرنا "دايو"، فبتنا ليالي، فلحق بنا الجنود. وكنا ننتظر وقع الحاج الأمين وأمير برنوا لما سمعنا بمسيرهم إلى أطراف بلادنا. وقد كتبوا إلي كتاباً فيه من السب واللعن، وفحسن [فحش؟] القول وبذاءة الكلام والتوعد والتهديد ما فيه. وستأتي الإشارة إليه.
ولما سمعنا بموقفهم بسيكو، وقد ردهم الله خائبين، نهضنا إلى قار لمكان قربها، فسرنا حتى وصلنا إلى "مدود" ففتحها الله علينا. ثم سرنا حتى نزلنا بحصن "قار" وقاتلناهم ساعة وفتحها الله علينا. فأسرنا أميرهم، وهو عندنا الآن. فشننا الغارات على بلادهم، والحمد لله رب العالمين. وفي ذلك قلت:
خبرن يا نسيم أهل الديار خبر الحرب حين دارت بقار قد تركناهم بها كهباء أهلكوا في غيابة وغبار وغشينا بيوتهم بعد هذا وأسرنا أميرهم في الأسار فاحمدوا لله واشكروا نعماه وعليه توكلوا في الغيار وفي ذلك يقول الوزير:
حمدا وشكرا لربي الواحد الباري على هلاك طغاة من بني غار على حشود جنود من جماعتنا مهاجرين وفيهم جمع أنصار أمامهم دعوات القادري لنا أمامنا راجمات جمع كفار يخربون بلاد الكفر إن نزلوا بدار كفر فساءت حال ذي الدار يقودهم "بل" في خيل وفي رجل بين الليوث كليث ثائر ضاري حتى أناخ على ساحات دارهم فأصبحوا مثل عصف حط في النار فأصبحوا لا نرى إلا حصونهم وليس فيها جميعا صوت ديار وأسر طاغوتهم قد زاد ذلهم مقيدا بينهم في ملبس العار يأهل غار ألما يكفكم كشنا والجار يسمع ما قد حل بالجار كذا كنو مع زكزك وهي قربكم وزنفرا مع غوار نسل بابار تلكم بيوتهم بالظلم خاوية منهم فصاروا أحاديثا لسمار بقدرة الواحد القهار قاهرهم فالحمد لله في جهر وأسرار غزوة نف
فذاك كالعير لا يسعي تناظره دع الحمير على أمثالها تصل واعلم أيها الكانمي أولاً: أنا ما حاربنا الناس بما أجابوك أصلاً، وإنما حاربناهم دفعاً عن أنفسنا وديننا وأهلينا، لما آدونا واستفزونا وطلبوا منا أن نعود إلى ما لا يحل لنا، وقد بين لنا الشيخ الحق ورأيناه واتبعناه، فأغروا بنا سفهاءهم يؤذوننا وينهبون أموالنا ويقطعون طرقنا ونحن نجتهد في إصلاح ديننا، وننشر ما عندنا من العلم وإرشاد من وصل إلينا، وهذا دأبنا ودأبهم، فلما رأونا أنا لا ننتهي عما نحن فيه ولا نزداد إلا حسناً وابتهاجاً، ولا يزال عوام الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، غاظهم ذلك، فأجمعوا كيدهم على نصب القتال بينا وبينهم، ولا يشكون أن الدولة لهم، لما يرون من ضعفنا عن المقاتلة، فلم يرعنا إلا إنذار من أمير غوبر نافات بثلاثة أمور:
أنه لم يقض لأحد أن يعظ الناس إلا الشيخ وحده، ولم يرض لأحد بالإسلام إلا وارثه من آبائه، ومن لم يرث الإسلام فليعد إلى ما عليه آباؤه وأجداده، وألا يتعمم أحد بعد اليوم، ولا تضرب امرأة بخمارها على جيبها. وهذا إنذاره في الأسواق. كل ذلك سعى منه في مكيدتعنا. فكفانا الله شره وضيرة وصرف عنا كيده ومكره، فأتاح الله له الموت بعد ذلك عن قريب.
ولما ولي ابنه ينف شمر عن ساق الجد والاجتهاد على ذلك، حتى غزا قرية عظيمة من قرى الإسلام، على حين غفلة من أهلها، فقتلوا ما شاء الله من فقهائها وقرائها في نهار رمضان وهم صائموهن، ونهبوا أموالهم، وأسروا ذراريهم، وجعلوا يفترشون الكتب والمصاحف ويحتطبون الألواح يوقدون بها، ويستهزئون بأهل الإسلام، ويقولوون لهم: "إيتونا بما تعدوننا إن كنتم صادقين". ثم جعلوا يعرضون لقرية الشيخ، حتى أرسل أميرهم إلى الشيخ أن ينحاز بأهله وإخوانه وأبنائه، فإنه يريد أن يهجم على القرية، فأبى عليه إلا أن يهاجر بجماعته. فهاجر بها إلى موضع يقال له غذ، فلما وصل بها جعل الناس ممن آثروا الإسلام يهاجرون إليه إرسالاً، والكفرة تتعرض لهم وتقطع عليهم سبلهم بأمر أميرهم. ثم جعل بعد ذلك يرسل إلينا بالسرايا والغارات، والشيخ يكاتبهم، فأبوا عليه، مع أن الأمير يتأهب إلينا. فلما وصل إلينا هزمه الله، وشتت شمله، فنجا بنفسه. فلما رجع إلى داره أرسل إلى إخوانه أمير كاشنة، وأمير كنوا، وأمير زكزك، وأمير دورا، وأمير أهير، ينذرهم بأنه أهمل نويرة شبت في بلده، حتى انتشرت فوق طاقته وغلبته أن يطفئها حتى أغرقته، فليحذر كل أن يصاب في بلدته بمثل ما أصيب هو به. فقام كل واحد منهم على من ينتسبون إلى الشيخ يقتل ويأسر، ففروا في البلاد عباديد، يأوي معضهم إلى بعض، حتى صاروا جماعات. فجعلوا يدافعون عن أنفسهم حتى صار الأمر إلى ما صار إليه في تلك البلاد. وهذا ما نعرف عندنا في بلادنا حقيقة. وأما في بلادكم فليس عندنا علم ما أوقد المحاربة فيها، إلا أنه قدم علينا في بعض الأعوام الماضية رجل يقال له آدم الحاج، وزعم أنه أرسله إمام برنوا أحمد بن علي إلى الشيخ يسأله عن سبب هذا الأمر، وأن يمنع الشيخ الفلاتيين من الهجرة عليه من بلده، وأنه أمير المؤمنين، فأمرني الشيخ بكتب الرسالة، فكتبت إليه ما هو السبب، وبينت له أحوال أمراء حوس. وأنهم كفار، وأن مظاهرتهم من مسلم ارتداد، وكتبت إلى الفلاتيين الذين في بلده، ما يقتضي المواصلة بينهم وبين أمير برنوا، ويوجب الموافقة ويمنع المخالفة.
فلما رحل من عندنا الرسول ومضى لسبيله راجعاً لم نلبث إلا قليلاً بلغني أنه بلغ وأن أمير برنوا قتله في معسكره في توجهه إلى ابن عبدور، ووالله أعلم بحقيقة الحال.
ثم نرجع الآن إلى الإجابة عنا في تشنعك علينا بجوار أمثالك، مع ما دسست في ذلك من مغالطاتكم، وقد سبق في قلبك ما سبق، فأنقضها عروة عروة، فلله الحمد في الآخرة والأولى. فأما الإجابة عنا فيما شنعت علينا بجواب من قال لك: أنا نجاهد أهل برنوا وغيرهم بالكفر، وأستمسك في تفكيرهم بركوب الأمراء لبعض المواطن قصداً للصدقة بها، وانكشاف الحرائر وأخذ الرشوة وأكل مال اليتيم والجور في الحكم-فمعلوم أن المعتمد عند تكفير فرق النحل: من قدرية وجبرية وغيرهم، ما خلا المجسمة ومنكري علم الله بالجزئيات. وهذا في أهل الإيمان، فكيف بما تقرر "عند كل" أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، يا عجباً منك! كيف تقر لنا بالتقدمة في العلم والدين، ثم تشنع علينا بجهل أشباه هذا! فكلامك هذا متناقض ويا عجباً! كيف يقال: أنا نقاتل الناس لهذه الخمس، ففي تعمل عندنا الآن كثيراً، فلو عليها نقاتل ما منعنا أن نقاتل عامليها عندنا! ويا عجباً منك لو كنا نكفر عامة المؤمنين لم نتخذ مساجدهم لنا مساجد كما زعمت فكلامك هذا متناقض.
ثانياً، ويا عجباه منك! كيف يقال: أنا نكفر عامة المؤمنين بهذه الخمس، ونحن نفك كل ما ثبت إسلامه عندنا، ونطلقه ونخلي سبيله، كما هو معلوم عندنا، فلم يبق إلا أن جميع ما ذكرته فينا مغالطات مشاغبات، اتخذتها ذريعة إلى الجرح والقدح على المسلمين، وسولت لك نفسك وخيلت أن ذلك يستقيم لك حجة في مذهبك الفاسد. وهيهات ذلك، إنما سبق في قلبك ما سبق، وكاتبت أمثالك فسمعت منهم بقالات غير لائقة، إما لقصور بيانهم عن الحقيقة، أو لسوء فهمك، والله تعالى أعلم، وإليه ترجع الأمور.
وأما دعواك أن نهينا عن المنكر أدى إلى منكر أكبر، فليس الأمر كذلك، فمعلوم بالضرورة عندنا أنا لم يتعرض لنهي الملوك عن عوائدهم المخالفة للشرق، وإنما نرشد من آتانا يطلب من يدله على الطريق، والملوك هم الذين بدءونا بالنهي عن ديننا والمحاربة، وضيقوا علينا كما ذكرت آنفاً.
وأما ادعاؤك أن هذا الأمر والنهي أدانا إلى ما يضر بديننا، وهو الخروج على الإمام بعد البيعة، وقد ثبت عند كل حرمته، وإن طرأ عليه فسق، فإن كان كلامك هذا يتناول ملوك بلادنا هذه فلا عبرة به، كما ثبت عندنا من كفرهم بجهل الأصول والذبح للأحجار والأشجار وإنكار البعث والنشور، هذا ما نعرفه في بلادنا هذه. وأما في بلادكم فليس لنا علم بأحوال أئمتها وسلاطينها، إلا أنه إذا كان فيها قيام أميركم على إذابة المجاوريين لكم من الفلانيين الذين لهم الاقتداء بالشيخ، حتى الجأتموهم إلى الهجرة، تعصباً لملوك حوس ونصرة لهم، ومعلوم أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، كما أن المؤمنين كذلك-علمنا بالضرورة أنه حينئذ راض بدينهم، حين قام يواليهم دون المؤمنين، ويظاهرهم عليهم، ولا جرم أن الرضا بالكفر كفر-فعلى الحازم أن يفر منه إذ ذاك بدينه،. ثم لا أعظم منك جهلاً حيث أضفت إلينا لازم أقوال لم نقلها. وإنما صدرت عن بعض من لا يحسن التعبير عما عندنا، وذكروا لك الحق على وجهه، فجاء الخلل من سوء فهمك، كيف يمكن تكفير جميع الأمة وعلمائها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجتمع أمتي على ضلالة، وتضافرت الأحاديث على هذا المعنى، ويحك أن كفرنا جميع الأمة وعلماءها كما زعمت، فكيف نستدل بأقوالهم.
ثافثاً كلامك هذا متناقض. لا يصدر عن عاقل فلم يبق إلا أنك مغلط لنا مشاغب، وإنما سبق في قلبك ما سبق.
سلمنا أن قائل هذا الجواب يلزمه ما عددت عليه، ألم تعلم أن لازم المذهب ليس بمذهب عند المحققين كما قدمنا.
وأما قولك: رأينا منكم الخ، فاعلم أيها الكانمي أني شهدت بعض الوقائع، ففتح حصن من حصون كاشن، فركبت لأنظر حاله، فرأيت الورقات تتطاير وتقع في المواضع المستقذرة، فسعيت جهدي في إخلاصها فلم أقدر لكثرتها، فرجعت ولم أقض حاجتي، فظللت يومي واجماً. ثم جمعت الناس وبحثت عن فاعل ذلك لأزجرهم، فلم يتفق لي علم بأحد صدر منه ذلك. فشاورت ذوي الرأي فيه، فقالوا: إن سبب ذلك اتفاقي لا يقصد فعله أحد، وإنما يكون عند المناهبة والمجاذبة للأمتعة، فتنحل الربط أو تنقطع، ثم تنتشر القراطيس وتطيش، فلا يختلج في خاطرك أن ذلك يكون من أهل الدين منا، أو برضى منهم، والعياذ بالله. اللهم إلا أن يكون ذلك الإلقاء-إن كان من السفهاء السفلة، ولو أطلعنا على من يلقي الورقات في المزابل والطرقات من السفهاء لأوجعناهم وأخذناهم بأشد تأديب. فإن كان بهم تعيرنا فانظر إلى بني إسرائيل، فقد عبدوا العجل، وقال بعضهم لموسى: أرنا الله جهرة، إلى غير ذلك، فيلزمك إذ ذاك تنقيص الرسل بأتباعهم، والعياذ بالله! وهكذا القول في نقض العهود والمواثيق فإن ذلك لا يصدر إلا من السفلة الذين لا يعرفون قدر العهد والميثاق وحفظ الأمانة وأن الغادر ينصب له لواء غدره يوم القيامة، وإن الشافع المشفع هو خصيم من غدر في ذمته.
وأما قولك: فيا عجباً منكم بعد أن كانت لكم التقدمة الح، فهو كلام متناقض، لا يتكلم به عاقل، كيف تشهد لنا بالعلم والدين، ثم تنسب إلينا الجهل والفسوق؟ أحين أحببنا الملك انتزع العلم منا والدين؟ حتى رجعنا إلى تسويلات النفوس وتخييلاتها، واستدللنا بظواهر لا تقوم حجة، أم عرفنا الحق، ثم نبذناه، اتبعنا التسويلات والتخيلات بدله؟ فإن قلت: انتزع منكم العلم والدين وانعكس بكم الحال فكيف أنت والحديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه-الحديث.
فإن قلت: قد عرفتم الحق ونبذتموه ورجعتم إلى ما رجعتم إليه مما ذكر، قلنا: فأنتم إذاً من باب أحرى، إذ شهدت لنا بالتقدم في العلم والدين وإنما نبذناهم حين أحببنا الملك، وإذا كنا كذلك فأنتم لنبذهما أحرى، ومن لباس العلم والتقوى أعرى.
وأما قولك: فإن كان هذا صدر عن رأيه فكلام غلطه ظاهر، فكيف نبادر إلى أساءة الظن بمن قاضت محسن سيره فيجميع الأقطار، فاستطلق بالثناء عليه ألسنة العوام والخواص أولى الأبصار. فكيف تأخذنا بشيء سمعته من بعض مجاوريك الذين لا يكاد يبلغهم من خبره إلا آحاد الأخبار، فكيف يؤخذ بما صدر منهم؟ فكفى به غلطاً، أم كيف تستدل بقوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقوله تعالى "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها" ثم تأخذنا بعد ذلك بشيء بلغك من بعض مجاوريكم، ولعلهم ممن لا يحسن التعبير عن حقائق الأمور، أم هم يحسنون ولكن أعرضوا عنك من إلحادك فذكروا لك ما ذكروا، فكلامك هذا متناقض رابعاً-هيهات هيهات لما تظنون، ونعوذ بالله أن نرد على أعقابنا بعد أن هدانا الله، "هذا بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليه وما أنا عليكم بحفيظ"، والسلام.
ثم أجبته بجواب آخر، ونصه:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد، فمن محمد بل نجل أمير المؤمنين عثمان بن فودي إلى الحاج الأمين جواباً لما ورد من سؤاله. أما قولك: فأخبروني عن قتالكم لنا واسترقاقكم أحرارنا... إلى كلام متناقض، فالجواب-والله الموفق للصوال-اعلم أن سبب قتالنا لكم فلأنكم واليتم كفار حوس دوننا بغير تقية منهم، وتعلمون أن من والى الكفار دون المؤمنين بغير تقية فهو مثلهم، كتاباً وسنة وإجماعاً، ولقيامكم أيضاً على إذاية المجاورين لكم من الجماعة حتى ألجأتموهم إلى الهجرة، وبدأتموهم بالمقاتلة، تعصباً لملوك حوس ونصرة لهم، ولا يخفى أنه ما أقمتم لمظاهرتهم على المؤمنين إلا لرضاكم بدينهم، ولا جرم أن الرضا بالكفر كفر، وتعلمون على هذا أن معرفة الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وعمارة المساجد ولا يمنع من قتالكم، ولا ينفعكم في الدنيا والآخرة، لشبوت ارتدادكم، إن كان سبق لكم الإسلام الصحيح. فإذا لم يكن موالاة في الدين يصار إليه في العقليات ولا الشرعيات حينئذ.
وأما قولك: واسترقاقكم أحرارنا، فلما علم من الخلاف في استرقاق المرتدين، انظر أجورة "المغيلي" لأسئلة أسكيا الحاج محمد، والنوازل للبرزلي، تجد ذلك.
وأما قولك من أعظم حججكم.. إلى ولا قال أحد بكفرهم، فلا نسلم دعواك أنهم ما يريدون بذلك إشراكاً، فإذا لم يكن الذبح للأحجار والأشجار كفراً وإشراكاً ضرورة، فما الشوك؟ والعتر والنصب والأصنام والأزلام-كفى بهذا غلطاً.
وأما قولك ومن مارس كتب الفقه.. إلى آخر الكلام، فجهل منك صريح، فذلك إنما هو لمن أهدى للفقراء والخدم لحضرة القبور صدقة عليهم، أو لأصحاب القبور لا تعود عليهم بركاتهم، لا لمن قصد الذبح للقبر نفسه، فإذا لم يكن الذبح للقبور نفسها إشراكاً فما الإشراك؟ وأما قولك: هذه دمياط.. إلى آخر الكلام، فلا نسلم أن العلماء لم يتعرضوا لقتالهم، ولم يقولوا بكفرهم، فهذا عبد الرحمن بن يوسف الشريف تعرض للشجرة التي بسجلماسة فقطعها، وقال: إنها مثل ذات أنواط، وتعلم أن ذا أنواط من الأوثان في الجاهلية.
وقال الحسن اليوسي: وبقرب "تاغية" مقام الشيخ ابن يعزي شجرة أخرى من هذا المعنى، وغرس من أحجار، وكان ذلك حقيقياً بالإزالة، غير أن العالم سيفه لسانه، وما وراء ذلك فإنما هو لأولي الأمر، ممن به قدرة على الأمر. انظر المحاضرات.
وأما قولك: وأما كشف الرأس.. إلى "بذنب"، فلا نسلم أن أحداً قال بالتكفير بالمعاصي، فإنما ذلك مغالطة منك ومشاغبة وزور وبهتان علينا، فالله حسيبك.
وأما قولك: فلو أمرتم.. إلى أخروياً، فلا نسلم أنا جاوزنا الحدود في شروط الأمر والنهي، بل وقفنا عند الشروط كما ينبغي. فالمقاتلة الحادثة فيما بين ذلك إنما هو من اعتدائكم علينا، فإنا لم نتعرض لنهي الملوك عن عوائدهم المخالفة للشرع، فهم الذين بدءونا بالنهي عن الدين، وألجأونا إلى الهجرة، وبدأونا بالمقاتلة، "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".
وأما قولك: أدخل عليك وعلى المسلمين.. الخ، فلا نسلم أن ذلك أدخل ضرراً، فإنه معلوم عندنا بالضرورة أنه إنما أدخل خيراً كثيراً علينا وعلى المسلمين وأورثهم أرضكم ودياركم وأموالكم، وكفاهم شركم وكيدكم، وهم اليوم في صلاح دين ودنيا، والحمد لله على ذلك.
وأما قولك: سلمنا.. إلى النظر الفاسد-فكلام زور وبهتان ومشاغبة، فمن قال منا بالتكفير بالمعاصي يلتزمه ماعددت عليه، هذه جرأة منكم وتسلط في أعراض المسلمين، "وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم".
وأما قولك: رأينا منكم الكلام.. إلى الإبقاء، فمشاغبة ومغلطة، وتعلم أن هذه الأفعال لا يمكن أن تكون من الأخيار، وإنما تكون-إن كانت-من السفهاء منا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الجهاد ماض، لا ينقصه جور من جار".
وأما قولك: يا عجباً... إلى فعلكم، فكلام مختلط، أو كلام من تخبطه الشيطان من المس، تشهد لنا بالخير، ثم تشهد لنا بالشر، كفى بهذا خبالاً وخبطاً، وكيف تقول: إننا أحببنا الملك،وتعلم أن الحب من أفعال القلوب؟ فهل شققت قلوبنا، فرأيت ما فيها، أم اطلعت على الغيب؟ كفى بهذا منك زوراً وكذباً. وهكذا قولك في الشيخ عثمان بن فودي: شهدت له بالخير، ثم ألممت إليه بالشر، خبطاً منك وخبالاً في قلبك، كفى بهذا منك نقيصة.
فاعلم يا كانمي أننا براء من جميع ما رميتنا به، راجعون إلى الله تعالى مما ألممت به إلينا، والله المستعان على ما تصفون، والسلام.
ثم قام الفقيه إبراهيم ذادا وجاهد حتى غزا أمير برنو وأخرجه من الحصن إلى كانم، ولقي الحاج الأمين، وقد نفر بالجند فاستقبلوا إبراهيم زادا فوجدوه قد كر راجعاً فتبعوه إلى داره، فوافوه وقد انتشر الناس فنالوا منه ما نالوا، ثم كروا راجعين. ثم أقبل محمد منغ بن الماهر المختار على غزو برنو هو وأهل "علو".
ولما رجع الكانمي غزا أهل علو ولم ينجح فيهم فهزموه بعض هزيمة، ثم نهض محمد منغ فأخرج أمير برنو عن داره بعد ما رجع، وهرب لكانم، ثم إنه قام الحاج الأمين، ونفر بالجند إلى علو فأغاروا، وانحاز محمد منغ وأهل سيكو ولم يلق كيداً فرجع.
ثم إنه رجع أمير برنو لداره، فقام محمد منغ فأخرجه من داره، فهرب لكانم، فقام الأمير الكانمي ونفر بالجند حتى وصل دماتر وجاوز، وقد وجدهم انحازوا وجرى بينهم وبين الجماعة قتال فلم يك كبيراً، وكروا راجعين ولم يلقوا كيداً، وكنت أكاتبهم كل عام وأطلب منهم أن نصالح فتضيع الوثائق فيما بين ذلك، ولم يبلغهم إلا وثيقة واحدة. وكان في أنثاء ذلك ورد علينا من الحاج الأمين كتاب، سمح فيه بعض المسامحة، جواباً لوثيقة أخينا غوادير ليم الذي بعث به إليه يطلب منه أن يصالح بينهم وبين الجماعة، فلما ورد علينا كتابه أجبته ولكن لم يصل إليه-على ما بلغنا. ونص الجنواب:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين، وأمرهم بموالاة بعضهم بعضاً، ونهى عن موالاتهم للكافرين، والصلاة والسلام على من آخى بين الأنصار والمهاجرين، وعلى آله وأصحابه الذين هم أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين والفاجرين، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
من الفقير إلى مولاه الغني: محمد بلو نجل أمير المؤمنين عثمان بن فودي إلى الحاج الأمين بن محمد الكانمي، يقرأ عليه السلام.
أما بعد فإذا كان المولى جل وعلا لطف بك، ونظرت إلينا بعين الإنصاف، وبدا لك أن نترك المجادلة في الدين إلا بالتي هي أحسن وأحب، والكف عن التعصب أسلم للعواقب، لأنه يؤدي إلى اتساع الخرق وامتداد الفتق، ويوجب إنكار الحق جملة، لأن الجدال في الدين دغل، والتعصب فيه خطر ودخل، إلا أن يكون بإظهار الحق باللين والرفق، وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. ولذلك اقتصرنا على الإجابة عنا في نقض عري الجدال الصادر منك خاصة، فأضربنا عن ذكر ما عندنا صفحاً، خوفاً من التعرض لما ذكر، وإذا حققنا أنا معذورون فيما نحن فيه، إذ الدفع عن الدين والنفس والأهل والمال واجب عند جميع أهل الملل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك، فينبغي لك أن تنظر إلى المجاورين لكم من الجماعة بعين الإنصاف كذلك، لأنك ذكرت في كتابك الأول أنك لما ساقتك المقادير إلى إقليم برنوا وجدت هذه النار موقدة فسألت عن السبب فقيل: بغي، وقيل سنة. وتحيرت في الأمر، فاللائق أن تتبين هذا الأمر وتثبت فيه حتى تقف على العلم بالسبب، ولعلهم كانوا معذورين كما كنا.
أما قولك: وإنما كلامنا في أرض برنو وأهلها، إذ هي مدينة من مدائن الإسلام، وسلطانها معدود من كبار سلاطين المسلمين... إلى ولا حاجة به-فاعلم أنا ذكرنا لك في كتابنا الأول أنه ليس عندنا علم حقيقة أئمتها وسلاطينها، لكن يبلغنا الأخبار عنها بما هو أكثر مما ذكرت فيهم، وهل هم باقون على ما يؤثر عن أوائلهم أم غيروا، كما هو المعهود في أذناب الدول، والله أعلم.
فإن قلت: إنهم باقون على الإسلام، ولم يداخلهم خلل يناقضه إلى الآن، فذاك إليك، والعهدة عليك.
وأما قولك: اعلم أيها الأخ أن الذي مات فات والصلح بين المسلمين خير، وفي السعي في ذلك أجر عظيم، ولا يكون الصلح إلا بأن تتحمل أمراً وأتحمل أمراً الخ- فاعلم يا أخي أن الذي أشرت إليه أمر سديد، ورأي رشيد، ويمكن نفوذه كما ذكر، ولكن أيها الأخ ينبغي لنا ولك أن نسعى في هذا الصلح، ولا نريد فيه إلا الخير والإصلاح، ولا نقيده يقيد ما، ولا نعلقه على شرط، بل امتثالاً لقوله تعالى: "واتقو الله واصلحوا ذات بينكم"، وقوله: "وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما" الآية وأمثالهما. ونعتمد فيما نسعى إليه أن يوفقنا الله إلى ما فيه رضاه، وما يكون لنا ولكم مصلحة، قال تعالى: "إن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما".
وتعلم أيها الأخ أن ما ذكرته من أن منازعته غير جائزة شرعاً-مغالطة، فأين تجد اليوم من الأمراء الأقدمين من استكمل الشروط، وتمسك بالكتاب والسنة، واشترط لرعيته طاعته على طاعته لهما، حتى لا يجوز الخروج منه والحروب، ولذلك قدمنا أولاً أن نأخذ في الإصلاح وحقن الدماء وحفظ الأموال وعصمة الأعراض، نابذين في ذلك لكل قيد، ربما كان سبباً لسد باب الخير، إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا.
هذا، وأنا نضرع إلى الله أن يأخذ بأيدينا وأيديكم ويسلك بنا الصراط المستقيم ويوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه ويؤلف بيننا وبينكم ويجعل بيننا وبينكم مودة ورحمة ويغفر لنا ولكم، إن ذلك على الله يسير، "وما ذلك على الله بعزيز"، والله على كل شيء قدير، والسلام.
فسار بهذه الوثيقة بريدنا، فضاع فيما بيننا وبينهم، ولم نزل هكذا، كلما كتبنا إليهم لاتصال إليهم وثائقنا، فحينئذ تجشمت في إنفاذ البريد إليهم. وكتبنا إليهم ما يقتضي المواصلة بيننا وبينهم، وطلبنا منهم الموادعة والمتاركة، وبينا لهم حقيقة أمرنا، وقبل وصول بريدنا إليهم ورد علينا من الحاج الأمين كتاب آخر، فيه من الجدال والتعصب ما فيه، فأجبته، ونص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على من لا نبي بعده، الحمد لله اذي حفظ دين الإسلام بإحكام آياته للمؤمنين المسترشدين، ونسخ ما يلقي الشيطان في قلوب مواليهم الظالمين الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم المشركين، وضمن حفظ الرآن لما اشتمل عليه من الشرائع بقوله: "إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون". والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين، القائل: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تخريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فمن محمد بلو نجل أمير المؤمنين عثمان بن فودي إلى الحاج الأمين بن محمد الكانمي، يقرأ عليه السلام، ويحييه بأطيب كلام.
أما بعد، فقد وقفنا على كتابك الذي كتبت إلى مجاوريكم من الجماعة، لتستبين الحق والحقيقة، وتأملنا حق التأمل، وفهمنا منه ما انتهى إليه فهمنا وحاصل ما فيه: أنك طلبت منا امتثال قوله تعالى: "وإأن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما". ثم استدللت في الشأن بما استدللت به، وشرطت في ذلك ما شرطت في وقوع الصلح، حتى يخرج المهدي-إن كان-أو ينزل عيسى عليه السلام، وأكدت الاحتجاج بما أكدت، ثم رشحت الكلام بما ذكرت في بلادنا هذه، وما نويت بعد وقوع الصلح، ورشحت بما ذكرت فيّ وما ساءك مني، ومما أنكرت على محمد الدليل.
فاعلم أيها الأخ إذا كان المولى لطف بك، ونظرت إلينا بعين الإنصاف، فاللائق بك أن تلقي هذه المغالطات والمشاغبات التي أكثرها حجج داحضة، وغالب قضياتها مزورة علينا باطلة، فاللائق الإعراض عن إجابتها، ولكن حملني على الإجابة قوة الشفقة على جهلة الطلبة، كيلا يغتروا بكثرة الصخب والشغب، فيظنوا أنك على دليل في هذا المذهب، وليس قصده الصيال ولا الجدال.
هذا لتعلم أولاً أنا ما ساغ لنا الأذن لمجاوريكم من الجماعة في قتال برنو إلا لما تواتر من الأخبار، وتضافر منها ممن خالطوهم وعرفوا أحوالهم، أنهم يذبحون للأحجار والأشجار ويعملون للبحر كما كانت القبط تفعل للنيل أيام الجاهلية، وأن لهم بيوتاً معظمة فيها أصنامهم، ولها سدنة، ورأينا مقتضى ذلك في كتابك الأول، حيث قلت: ومن أعظم حججكم على تكفير عامة المؤمنين ركوب الأمراء لبعض المواطن قصداً للصدقة، ثم تأولت أنهم لا يريدون بها الإشراك، ولا يعتقدون فيها التأثير، وإنما قصارى دعواهم أن الصدقة أفضل من غيرها. ولا يخفى على كل من له أدنى بصيرة أن هذه الدعوى لا عبرة بها، لأن الحكم منوط بالظاهر، والله يتولى السرائر، فمن رأيناه ذحب للأحجار كفرناه بقطع، ووجود هذه الأمور من جملة ما كفرنا به أهل برنو لأنه ما بعث أمير برنو-على ما بلغنا-على إذاية المجاورين لكم من الجماعة المنتسبين إلى الشيخ، حتى ألجأهم إلى الهجرة، وبدأهم بالمقاتلة، إلا التعصب لملوك حوس ونصرتهم، ولا يخفي أنه ما نهض لنصرتهم إلا لرضاه بدينهم، ولا جرم أن الرضا بالكفر كفر، وقتالنا إياهم سائغ، إذ جهاد الكفار على كل من قدر فرض، وقد تبين بما ذكرناه على أمير برنوا أنه علم على كفره، وتعلمون أن حكم البلد حكم سلطانها، فإن كان مسلماً كان البلد دار إسلام، وإن كان كافراً كان البلد دار كفر، ولا ينكر هذا إلا جاهل بأقوال العلماء، وإذا تقرر ما ذكرنا فاعلم أن المسلمين المقيمين بدار الحرب على ثلاثة أقسام: قسم خالطوهم وتولوهم، ورضوا بما هم فيه، فهؤلاء كفار مرتدون مثلهم بإجماع، وليس في هذا نزاع، وقسم ساكنوهم اختياراً لكن غير راضين بفعلهم وإنما حبسهم معهم غرض دنيوي، فهؤلاء فساق بإجماع، وليس في ذلك نزاع، فإذا غزا المسلمون دار الحرب وعثروا عليهم، وقبضوا خلي سبيلهم هم وذراريهم اتفاقاً. أما أموالهم ففي ردها لهم وجعلها في الفيء خلاف تقرر في علم الفقه، وقسم ساكنوهم اضطراراً، فهؤلاء ليس بهم بأس، فإذا عثر عليهم وقبضوا خلي سبيلهم هم وذراريهم اتفاقاً، ورد إليه أموالهم اتفاقاً.
هذا ما نعرف في هذه المسألة حسبما وعيناه من أقوال علماء السنة، وحشونا به كتبنا، فلتراجع، فلو اقتصرت على قولك: أنهم تابوا وأقلعوا عما كانوا عليه لكان أولى من هذا الإسهاب، وأحرى من كثرة الاصطخاب، إذ هو أقطع حجة عند كل من يعترف بالحق في قتالهم، وهذا الأمر لم نعرفه قبل، ولم يبلغنا قط، لكن في خريف هذا العام وردت علينا وثائق منسوبة إليكم يدل على ذلك، ولذلك وجهنا نحن بريدنا إليكم لنستوثق الخبر، ويأتينا بالحقيقة، فإذا كان الأمر كما قيل فسنوجه بريدنا مخداد بن ليم ويحضر معه سادات المشرق من الجماعة، فتوجهون أنتم من ترضونه لأموركم وتأمنونهم وراء ظهوركم، فيكون الموعد بسيكو، فيتعاقدون على عهود ومواثيق يتوافقون عليها ويتراضون فيوضع القتال ويثبت السلم، ولأجل ذلك تأخرنا هذا العام عن غزو برنوا وقد عزمنا عليه، فإذا كان الأمر كما ذكرت من أنهم تابوا وأقلعوا فوضع التقال إذ ذاك عما بيننا وبينهم واجب، والصلح فيما بيننا وبينهم لازب.
وأما قولك: وقد علمتم أنه لن يأتي آخر هذه الأمة بأفضل مما كان عليه أولها-سمعته من شيخي سيدي معاوية، ولا ندري أحديث أم أثر. وتعلمون أننا في آخر الزمان-وقد مضى اثناعشر قرناً فكلام صحيح، لكن المراد به بيان فضل السلف الصالح، وخصائصهم-وهم من هم-إذ هم الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضيلة بقوله: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وفي المدخل: انظر إلى حكمة الشارع صلوات الله وسلامه عليه في هذه القرون، كيف خصهم بالفضيلة دون غيرهم من القرون، في كثير منهم البركة والخير، ولكن اختصت تلك القرون بمزية لا يوازيهم فيها غيرها، وهي أن الله عز وجل خصهم بإقامة دينه، وإعلاء كلمته. فالقرن الأول منهم خصهم عز وجل بخصوصية، لا سبيل لأحد أن يلحق غبار أحدهم فضلاً عن عمله، لأن الله عز وجل قد خصهم برؤية نبيه عليه الصلاة ولاسلام، ومشاهدته، ونزول القرآن عليهم غضاً طرياً يتلقونه من في النبيء صلى الله عليه وسلم، حين يتلقاه من في حبريل عليه السلام، وخصهم بالقتال بين يدي نبيه ونصره وحمايته، وإذلال الكفر وإخماده، ورفع منار الإسلام وإعلائه، وحفظهم آي القرآن الذي كان ينزل نجوماً، فأهلهم لحفظه حتى لم يضع منه حرف واحد، فجمعوه ويسروه لمن بعدهم، وفتحوا البلاد والأقاليم للمسلمين، ومهدوا لهم وحفظوا أحاديث نبيهم في صدورهم، وأثبتوها على ما ينبغي من عدم اللحن والغلط، والسهو والغفلة، ثم قال بعد كلام: فلما أن مضوا لسبيلهم طاهرين عقبهم التابعون رضي الله عنهم، فجمعوا ما كان من الأحاديث متفرقاً، وبقي أحدهم يرحل في طلب الحديث الواحد، وفي المسألة الواحدة الشهر والشهرين. ضبطوا أمر الشريعة أتم ضبط، وتلقوا الأحكام والتفسير من في الصحابة-رضي الله عنهم- مثل علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عهما. كان علي رضي الله عنه يقول: سلوني ما دمت بين أظهركم، فإني أعرف بأزقة السماء مما أنا عارف بأزقة الأرض. وقال عليه السلام في ابن عباس: "ترجمان القرآن"، فمن لقي مثل هؤلاء كيف يكون علمه؟ وكيف حاله وعمله؟ فحصل للقرن الثاني نصيب وافر أيضاً في إقامة الدين ورؤية من رأى بعين رأسه صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك كانوا أفضل من الذين بعدهم. ثم عقبهم التابعون لهم، وهم تابعوا التابعين، رضي الله عنهم، وفيهم حدث الفقهاء المقلدون والمرجوع إليهم في النوازل الكاشفون للكرب، فوجدوا القرآن والحمد لله مجموعاً ميسراً، ووجدوا الأحاديث قد ضبطت وأحرزت، فجمعوا منها ما كان مفرقاً، وتفقهوا في القرآن والأحاديث، على مقتضى قواعد الشريعة، واستخرجوا فوائد من الأحاديث، واستنبطوا منها فرائد وأحكموا، وثبتوا على مقتضى الأصول والمعقول، ودونوا الدواوين، ويسروا على الناس، وأزالوا المشكلات باستخراج الفروع من الأصول، ورد الفرع إلى أصله، وتبيين الأصل من فرعه، فانتظم الحال، واستقر أمر دين الأمة المحمدية بسببهم، فحصلت لهم مع إقامة هذا الدين خصوصية أيضاً بلقائهم من رأي من رأى صاحب العصمة، ومع بذلك يزيد في حكم من الأحكام التي تقررت، أو ينقص منها، فذلك مردود بالإجماع.
وأما ما استخرجه من بعدهم من القوائد غير المتعلقة بالأحكام فمقبول لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق مع كثرة الرد". فعجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة. كل فرن لا بد له أن يأخذ فوائد جمة خصه الله بها وضمها إليه، لتكون بركة هذه الأمة مستمرة إلى قيام الساعة. قال عليه الصلاة والسلام: "أمتي مثل المطر لا يدري أيه أنفع. أوله أو آخره". أو كما قال عليه السلام يعني في البركة والخير، والدعوة إلى الله تعالى، وتبيين الأحكام، لا أنهم يحدثون حكماً من الأحكام، اللهم إلا ما يندر وقوعه مما لم يقع في زمان من تقدم ذكرهم بالفعل ولا بالقول ولا بالبيان، فيجب إذ ذاك أن ينظر الحكم فيه على مقتضى قواعدهم في الأحكام الثابتة عنهم، البينة الصريحة. فإذا كان كذلك على مقتضى أصولهم قلناه فلما أن مضوا إلى سبيلهم ظاهرين، أتى من بعدهم فلم يجد في هذا الدين وظيفة يقام ويختص بها بل وجد الأمر على أكمل الحالات، فلم يبق له إلا أن يحفظ منه ما دونوه واستنبطوه واستخرجوه وأفادوه. فاختص إقامة هذا الدين بالقرون المذكورة في الحديث-ليس إلا-فلأجل ذلك كانوا خيراً ممن أتى بعدهم، ولا يحصل لمن يأتي بعد هذه القرون المشهود لهم بالخير-خير إلا باتباع من شهد له صاحب العصمة صلوات الله عليه وسلامه. فبقي كل من يأتي بعدهم في ميزانهم، ومن بعض حسناتهم. فبان ما قاله عليه الصلاة والسلام: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". ا ه.
وهذا الذي ذكره هو معنى قول شيخنا: "لن يأتي آخر هذه الأمة بأفضل مما كان عليه أولها"، لا مثل محمد الوالي والطاهر وأمثالهما من علماء برنوا، كما أشرت إليه في كتابك الأول. فقولك: أحديث هو أم أثر، ثم قلت: إن غالب ظنك أنه حديث، لكن لم تقف له على سند، ونحن لم نقف عليه، ولكن الحافظ حجة على من لم يحفظ، والذي عرفناه-كما رواه غير واحد من الحافظ-أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، يعني القرآن والسيف-كما قال العلماء-والعجب منك أنك لم تزل تستدل في جميع رسائلك وكتبك بالآي والأحاديث على وجه الاستدلال والإفحام، مع أن المقلد إنما يسوغ له إيراد الآي والأحاديث على وحه التبرك والاستئناس، وكان حقه في الاستدلال أن يسرد أقوال العلماء، ويستدل فقط، وهذا هو خليقة المقلد وليس له أن يتعاطي وظيفة المجتهدين.
قال الجلال السيوطي: "فإن الاستدلال إنما يسوغ للمجتهد العالم بطرق الاستدلال، فأما غيره فما له ولذلك؟"
قال الغزالي في كتاب التفرقة: "شرط المقلد أن يسكت، ويسكت عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج، ولو كان أهلاً كان متبعاً لا تابعاً وإماماً لا مأموماً، وإن خاض المقدل في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به ضارب في حديد بارد، وطالب لإصلاح بائد، "وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟" هذه عبارة الغزالي. والعجب منك تصديك لذكر أدلة ولو أرد عليك أدلة مخالفة لما ذكرت، لم تدر كيف تصنع فيها! قال الجلال السيوطي: "كيف يحل لمن لم يتقن واحداً من العلوم المشترطة في التكلم في القرآن-وعدتها خمسة عشر-أن يجرؤ على الاستدلال بأيات القرآن والأحاديث على حكم من الأحكام وعلى واحد من الأمور جاهلاً بطريق الاستدلال، عاجزاً عن تحصيل مشروطه، ومثل هذا هو الذي ورد فيه الحديث: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"، وفي رواية: "فقد كفر".
وقد أوجب أهل الأصول على المجتهد المستدل-هل معه قرينة تصرف الدليل عن ظاهره أولاً؟-فهذا نطح مع الناطحين من غير تأمل ولا مراعاة لشرط من الشروط، فلو استحيى هذا الرجل من الله لتوقف عند مرتبته، وهي التقليد وترك الاستدلال لأهله. قال الله تعالى: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"-وأولو الأمر هم المجتهدون-كما قال عبد الله وجابر وابن عباس ومجاهد وأبو العالية في قوله: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ومعلوم أن لفظ الفقهاء والعلماء إنما يطلق على المجتهدين. وأما المقلد فلا يسمى فقيهاً ولا عالماً، كما نص عليه أهلا فقه والأصول. وامتناع إطلاق الفقيه والعالم على المقلد كامتناع إطلاق المسلم على اليهودي، خصوصية من الله: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".
وأما قولك: "ومضى من العلماء والمجددين من الأئمة السلف والخلف من مضى، وما فيهم من احتج بهذه الحجج وكفر عامة المؤمنين وشهر سيف العدوان هكذا-مع أن هذه البدع والمناكر موجودة في كل قطر وفي كل عصر. والآيات التي أوردتموها، واستحللتم بها محارم الله لا تخفي يومئذ على العجائز والصبيان، فضلاً عن فحول العلماء فليسعكم ما وسع الأولين-وهم لعمر الله سادة، ما عليهم مزيد، يقطع العقل أن هذا القرن لا يوجد أفضل من الصدر الأول ولا أقوى ولا أعلم."-فالجواب: أنا ما قاتلنا أهل برنوا إلا لما ذكرناه قبل ليس إلا، وهذا الذي ذكرته في هذه المقدمات وما استخرجته منها من الاستنباط والنتيجة فحجة داحضة. كيف يقال: إنه لا يجوز لمن قدر أن يغير المناكر ويزيل المفاسد، لا يصح له أن يتكلم فيها لكون من تقدمه من العلماء لم يغيرها أو لم يتكلم فيها. وهذا لعمري باطل. قال الحجة المغيلي في أجوبته لأسئلة أسكيا الحاج محمد: "فاكتسب لنفسك ما ترجى بركته، وتحمد لك عاقبته في الدنيا والآخرة، ولا تقل في باطل، قدرت اليوم على إزالته: هذا لا يلزمني لأني مافعلته، إنما فعله غيري. وكل ما فعله غيرك، ثم صار إليك إن كان خيراً فأثبته، وإن كان شراً فأزله، ولو طال زمنه، لأن الملك كله لله، وأنت عبد الله. واحب عليك أن تصلح ما وصل إليك." ا ه قال ولي الله ابن أبي جمرة في بهجة النفوس: "ثم بعد هذا البيان الواضح يحتجون على الجواز، لكون بعض تلك الأشياء الفاسجة كانت في زمن من تقدمهم من الفضلاء ولم يتكلموا فيه، ويرون أنهم لا يتكلمون. وإن ظهر الفساد بالدليل الشرعي، لكون من تقدمهم لم يتكلم فيه، وهذا غلط آخر أيضاً، لأن من كان قبلهم-وكان هذا الواقع في زمانهم-محتمل أن يكون الواقع على هذه الصيغة الفاسدة، ومحتمل أن يكون وافق الاسم، ولم يكن على هذه الصيغة الفاسدة، فلا حجة لهم فيه، لأنه كان في زمانهم صالحاً، فلم يكن لهم فيما يتكلمون-وهو الآن فاسد-فوجب الكلام حين الفساد.
ولهذا المعنى قال رزين رحمه الله: ما أتى على بعض الفقهاء المتأخرين إلا وضعهم الأسماء على غير مسميات، لأنه كانت تلك الأسماء في الصدر الأول على صيغ جائزة بوجوه شرعية، وهي اليوم على غير وجه جائز، فأجازوا غير الجائز، لاشتراكه في الاسم مع الجائز. وإن كانت في زمانهم على تلك الأحوال الفاسدة، فهو محتمل أيضاً لأن يكونوا غفلوا عنها، لشغلهم عما كان عندهم آكد وأهم، فلم يلقوا إليها بالهم، أو نظروا إليها وغلطوا فيها، لأنه لا أحد معصوم من الغلط. وإذا غلط أحد فكيف يتبع في غلطه؟ هذا من الغلط، والظاهر في هذا الوضع أحد الوجهين. والثالث مرجوح، لأجل أنه لا يحمل على المؤمنين إلا الوجه الأصلح، سيما من تقدم، والوجهان هما ما تقدم من أنها كانت صالحة، أو فاسدة ولم يلتفتوا إليها لشغلهم بغيرها، لأنهم لو التفتوا إليها لتكلموا عليها وعللوها: أما بالجواز أو بالمنع، لو فعلوا ذلك لنقل عنهم، ولم ينقل عنهم شيء في ذلك. فإذا لم يتكلموا فيها فكيف يعطي الحكم للساكت ولا قائل بذلك، مع أن الأصل تطرق الفساد إلى الأحكام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقض الحكم وآخرهن نقض الصلاة". فيتطرق الفساد إلى الأحكام شيئاً فشيئاً، ولا يشعر به، كما أخبر بذلك الصادق عليه السلاة والسلام، فالعاقل يكون ممن جبر ما نقض، ويحذر أن يكون ممن أعان على النقض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت، فكأنما أحياني، ومن أحياني كان معي ف الجنة". فحذر أن تكون مع الخلق، وكن مع الحق حيث كان، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا يكون أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا نظلموا".
وأما قولك: "وأطلب منكم أحد أمرين، إما أن تقولوا: فعل فلان في الإقليم الفلاني في العصر الفلاني مثل هذا من علماء السنة المعتبرين"-فالجواب: فاعلم أن من فعل مثل هذا لا يحصى كثرة، بل السؤال عن هذال تعنت، فهذا محمد بن أبي بكر المعروف بأسكيا، قريب منا قطراً وعصراً، لما ولى بلد سنغي بعد سر علي، فاستفتى محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني بما نصه: ما جوابكم عن سر علي من ملوك سنغي؟ قال: كانت أمه من بلد فار، وهم قوم كفار يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار ويتصدقون لها ويسألون حوائجهم عندها، فلا يغزون حتى يشاوروها، وإن قدموا من سفر قصدوها ونزلوا عندها، ولتلك الأصنام سدنة يخدمونها، فيهم كهان وسحرة يقصدونها كذلك، وكان سر علي من صغره إلى كبره كثير الإقامة عندهم، حتى نشأ بينهم، وتطبع بطبائعهم في شركهم وعوائدهم. ثم بعد مون أبيه طلب السلطنة، فقام على سنغي وقاتلهم حتى غلبهم وتسلطن عليهم، كما كان أبوه من قبله من ملوك سنغي، إلا أنه لما نشأ من صغره إلى كبره بين أخواله وتطبع بطبائعهم، كان من صفته أنه ينطق بالشهادتين ونحوهما من ألفاظ المسلمين، ويصوم رمضان ويتصدق كثيراً بالذبائح وغيرها عند المساجد ونحوها، ومع ذلك يعظم بعض الأشجار والأحجار بالذبح عندها والصدقة والنذر لها والتضرع وطلب حوائجه منها، ويستعين بها وبالسحرة والكهان في أموره كلها أو جلها. ومن صفاته أيضاً أنه لا يتوقف في النساء بلا نكاح ولا غيره من الشروط الإسلامية، بل كلما أعجبته امرأة في جميع مملكته أخذها، وأدخلها في بيته. ومن صفاته أيضاً أنه حلل دماء المسلمين بقتل القراء والعلماء والعباد والنساء والصبيان الرضع وغيرهم، ولم يزل علي ذلك مدة عمره حتى مات. ثم ولى الأمر بعده أسكيا، فملك البلاد ورد العباد عن الشرك والفساد، فما الحكم في سن علي وجميع أعوانه من الظلمة، الذين كانوا بعملون بعمله، هل هم كفار أو لا؟ وهل تسترق أولادهم من بعدهم، وتباع أمهات أولادهم أو لا؟ فأجاب بما نصه:
إن سن علي وجميع أنصاره وأعوانه لا شك أنهم من أظلم الظالمين الفاسقين الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض. فجهاد الأمير أسكيا فيهم وأخذه السلطنة من أيديهم من أفضل الجهاد. وأما هل هم كفار أو لا؟ فلا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، فالذي ذكرتموه من حال سن علي، علم على الكفر بلا شك. فإن كان الأمر فيه كما ذكرتم، فهو كافر، وكذلك من عمل بمثل عمله، بل يجب التكفير بما هو أقل من ذلك. وأما استرقاق أولادهم فلا أراه، وإن ثبت عليهم موجب الحكم بالتكفير، لأن الكفار ثلاثة أصناف: الأول من هو كافر صريح بالأصالة، كالنصارى والمجوس ونحوهم ممن ورث الكفر الصريح من آبائه. والثاني من كان مسلماً ثم ارتد عن دين الإسلام ارتداداً ظاهراً وصرح بأنه خرج عن دين الإسلام ودخل في غيره من دين الكفر. الثالث من يزعم أنه مسلم وحكمنا بكفره لأجل أنه صدر منه ما لا يقع في الظاهر إلا من كافر، كما ذكرتم عن سن علي. فالكافر بالأصالة في الكفر تسبى ذراريهم ونساؤهم وتقسم أموالهم، ولا خلاف في ذلك بين العلماء. وفي الكفار بالارتداد خلاف: قال ابن القاسم في أهل حصن من المسلمين ارتدوا عن دين الإسلام إلى الكفر: لا تسبى ذراريهم ونساؤهم، وأما أموالهم فهي فيء للمسلمين. قال ابن رشد: وهذا هو الصحيح من جهة النظر، لأن المرتدين أحرار من أصلهم. قال: وإلى مذهب ابن القاسم في المرتدين ذهب عامة العلماء وأئمة السلف وإذا علمت هذا، وكل من فعل شيئاً من تلك الأفعال الموجبة للتكفير يستتاب، وإن تاب ترك، وإن لم يتب قتل بالسيف كفراً، ولا يسترق أولادهم، وإنما يجبرون على الإسلام. وأما بيع أمهات أولادهم التي استولدوها من أموال بيت المال، فلا أرى به بأساً ، وإن كانوا لا يسترقون. ا ه
وفي المختصر: وإن ارتد جماعة وحاربوا فكالمرتدين، قال الشبرخيتي في بيان معنى ذلك: يستتاب الكبير ويجبر الصغير، ويوقف المال ولا تسبى العيال، وهو فعل عمر رضي الله عنه، وعليه جماعة العلماء وأئمة السلف إلا قليلاً. وقال أصبغ: كالكفار الحربيين يسترقون هم وأولادهم وعيالهم، ولعمري إنه أمر خالف فيه عمر أبا بكر في أهل الردة من العرب، فجعلهم أبو بكر الناقضين للعهد، فقتل الكبار وسبى النساء والصغار، وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم، وهو فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والله ولي التوفيق والهداية.
ثم استفتاه عن سلطان من المسلمين بجانبه، بما نصه: ما جوابكم عن سلطان يعمل الحرام، فإذا قيل له في ذلك قال: كل ما نعمل حلال، أنا أعلم منكم، ودأبه: تلبيس الحق بالباطل، وله فقهاء اتخذهم لذلك، فكلما أراد أن يعمل شيئاً من غرضه أحضرهم، وقال لهم: أليس هذا حلالاً؟ فيقولون: بلى، لك ذلك، فيوافقونه على غرضه ويستتر بهم من الطعن عليه بالظلم والجور. فهل مثل هذا السلطان ظالم أو كافر لأجل تحليل ما حرم الله؟ وكذلك أولئك الفقهاء؟
فأجاب بما نصه: فمن ثبت عليه أنه حلل المكس ونحوه من أكل أموال الناس بالباطل وجب الحكم بكفره، وكذلك من أنكر الحق المبين ولبسه بالباطل.
وسأله بأشياء غير هذا، فأجابه بما أجاب، فلما أوصل عند هذا الأمير الجواب، وحصل عنده العلم بالصواب، قام فمهد البلاد، وبسط العدل بين العباد، واشتهر عدله في سائر الأقطار، حتى زاره من الفقهاء والعلماء جماعة، منهم الحجة المغيلي، ثم حج ولقي العاقب الأنصمني والجلال السيوطي وغيرهم من شيوخ الإسلام، وكتبوا له من النصائح ما كتبوا، وشهدوا له بالعدل والاستقامة.
ولا يخفى أن أحوال زمانه وبلاده كأحوال زماننا وبلادنا هذه وبلادكم، وحسبك به وبمن أفتونه في جهاده قدوة وأسوة حسنة. فإذا علمت هذا علمت بأن جهادنا هذا جهاد صدق صحيح. فإنه موفق لما عليه الآي والأحاديث وأقوال علماء السنة، ولسنا في الخبط البتة.
وأما قولك: حتى يخرج المهدي-إن كان-أو ينزل عيسى، وكلاهما ليس ببعيد-فالجواب: إن كنت عنيت بكلامك هذا أن زمان المهدي، وهو زمان العهد وظهور الحق فواضح. وإن كنت عنيت به نفي الفاطمية عن شيخنا هذا، من أجل ما يبلغك أنه يكثر تقرير أمر العهد-فاعلم أنه لم يتظاهر أنه المهدي ولا ادعيناه له قط، وكيف يتظاهر بذلك أو ندعيه له، وبعض علامات المهدي التي وردت في شأنه لم توجد فيه؟ فمن وقف على كتاب البرهان في علامات المهدي آخر الزمان، والعرف الوري في أخبار المهدي وأمثالهما، كيف يتصور أن يدعى الفاطمية لمن لم يكمل له شروط المهدي، عند كل من يعترف بوجوده آخر الزمان؟ وسيظهر عن قريب إن شاء الله.
وأما قولك: ومن أراد أن يتخطى رقاب علماء الأمة المتقدمين، ويدعي اليوم أنه فاتهم باستنباط، أو أكمن له ما عسر عليهم، فقد زلت به القدم، وسقطت منه المكالمة، ووقع في مهواة العجب نسأل الله السلامة- فالجواب: أن هذا الكلام مشاغبة، وقد مر الجواب عنه.
وأما قولك: واحتجاجي ودفعي كله عن أهل برنوا لما شاع وذاع من إسلامهم في سائر الأقطار والأمصار، وشواهد آثره عليهم، وإن كانت ملوكهم تفعل أموراً مخالفة للشرع، فإنا لا ننكر ذلك، ولا نرضى بفعلهم، لكن حيث سلطكم الله عليهم سوط عذاب وأدبهم بكم، وأقلعوا عما كانوا عليه، فتوبتهم تنفعهم، ولا تبيح لكم أن تفعلوا بهم هذا الفعل- وقد مر الجواب عن مثل هذا آنفاً.
وأما قولك: وأما أهل السودان فلا علم لي بها، ولا تكلمت في أمرها، وما أنا بداخل بينكم وبينهم إن لم تتعرضوا لأرض برنوا، وها هو برسولي العالم الأمين، بعثته إليكم ليأتي بالخبر الصحيح فإن كان صلحاً وافقاً، فليأت به، سوء وقع في جميعكم أو من بعضكم، وإن كانت حرباً فليأت به. - فالحواب، والله الموفق للصواب: أنا ما تعرضنا لبرنوا إلا لما ذكرنا قبل، وهذا الصلح الذي دعوتم إليه قد بدأناكم به مراراً، فلم نزل نكاتبكم به كل عام. وغالب ظننا أن رسائلنا لا تبلغكم ولا تصل إليكم أخبارها، لعدم رؤيتنا جوابكم فيها، وهو إن شاء الله صلح موافق، وفقنا الله وإياكم إلى الخير.
وأما قولك: وأنا منتظر لأوراق بعثتها لعلماء المشرق في هذا الأمر، وبينت لهم حال الفريقين، فإن جاء الجواب موافقاً لكم سلمت وأذعنت، وإن جاء مخالفاً لكم بعثت به إليكم، إن شاء الله. - فالجواب، وبالله التوفيق للصواب: كيف تحاجنا بجواب استفيته مع أنك لم تنصفنا في السؤال، وتعلم أن الجواب إنما يأتي على وفق السؤال. وقد رأينا في رسائلك التي ترسل بها إلينا أنك ما أنصفتنا فيها، ولا ذكرت الأمر على حقيقته، بل ترمينا بقضيات مزورات علينا، وأمور موضوعات، فحيث ذركب الأمر على خلافه، ووشحت الكلام حيث شئت، وذكرت في السؤال الصادر منك ما ذكرت، فلا حاجة لنا في الكلام على السؤال الوارد منك إلا إذا رجعت وأنصفت، وذكرت في حال الفريقين ما يحق ذكره، ويثبت أمره، وعدتك الحمية والتعصب.
وأما قولك: ثم إذا ثبت الصلح، واطمأن كل أحد في موضعه ووضع السلاح وترك الغزو، وسافر التجار، وحج الحجاج، وانتشر الأمن، فعند ذلك-إن كان الشيخ سيدنا عثمان بن فودي حياً، وسمعت بصحيح خبره-سرت إلى حضرته، أو من أرضاه كنفسي، فإني ظني به جميل واعتقادي فيه حسن. - فالجواب والله الموفق للصواب: أن الصلح إن شاء الله، فيما بيننا وبينكم واقع، ولنضرع إلى الله أن يصرف عنه كل مانع. والذي ذكرت أنك تريد بعد حصوله القدوم على الشيخ، فكلام حسن، لأن مثله جدير أن يسعى إليه، بل حقيق أن يسافر إليه، كما قال المغيلي: يجب عليك أن تطلب عالماً من علماء الذكر حيث كان، لأن علماء الذكر كالأنبياء في الأمم الماضية يجب الاعتماد عليهم، والسعي إليهم، وإن بعدوا، فالشيخ-متعه الله-بأتم العمر، وأعلى الأمر، وجعل العاقبة خيراً، مناقبه أجل من أن تحصى، بل هو كما قال القائل
ما في علاه مقالة لمخالف فمسائل الإجماع فيه تسطر وأما قولك: وإن لم أسمع بخبره-وكان الأمر من ابنه محد بل-فهو في موضعه وأنا في موضعي، ما أنا بطالب منه خيراً ولا شراً، إن لم يطلبني. وإن ابتدأني وجد ما أراده خيراً كان أو شراً، فلقد فهمت في أول مكتوب منه ما يدل على أن أمره أمر سلطنة وملك، وحيث كان الأمر هكذا، فلا أخشى سطوته، ولا أخاف شوكته. ومع ذلك فأمره لله، ما أنا بذاهب لجهته، ولا قاصد أرضهم بسوء ما لم يظهر منهم ما يوجب ذلك. والله حسبه فيما تكلم به فينا، وما أقرب الوقوف بين يدي أحكم الحاكمين، والانتصاف لمن ظلم من الظالمين. والسلام. - فالجواب، والله الموفق: فما ذكرته من أنك لا تطلب مني خيراً ولا شراً فأنا، إن شاء الله، أبتدأك في طلب الخير، ولا أريد الشر البتة. "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".
وما ذكرت من أنك فهمت من أول مكتوب مني بأن أمري أمر ملك وسلطنة، فلا تخشى سطوتي، ولا تخاف شوكتي، إلى ما يوجب ذلك، ذلك-فلا يخفى على كل ذي بصيرة ما في هذا الكلام والذي قبله من الجهالة وسخف المقالة، والله على ما نقول وكيل.
وما ذكرته مما ألمحت به في الكلام الذي رددت به عليك في الجواب الأول والثاني من كتابك الذي شنعت به علينا، وزورت كما شئت، فلك منكم عدم إنصاف، لأنا ما رددنا عليك إلا على وفق ما رميتنا به، "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، مع أنه ليس في جوابنا سب ولا فحش القول أصلاً: ما للكريم على البذاءة من يسد. ولو أنصفتم ما اختلفتم علينا، بل ورد منكم وثيقة فيها من السب واللعن وفحش القول، وبذاءة الكلام وسوء المقال والتوعد والتهديد ما فيها، لكن الله يعلمه ويحصيه. فما منعني الإجابة عنها والالتفات إليها والتفجع بما فيها إلا علمي بأن ذلك إنما يصدر عن الجهلاء، فأعرضت صفحاً امتثالاً لقوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً". ولذلك كتبت في إجابتها بعد الحمد والثناء بما كتبت. "أما بعد، فقد رأينا كتابكم الذي فيه خطابكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين". وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام.
وأيضاً إنما أعرضنا عن إجابتها، والتأذي بما تصفون والتوجع به، علماً بأنه لا يضر السحاب نبح الكلاب. قال حسان بن ثابت:
لا تسبنني فلست بندى إن ندى من الرجال الكريم ما أبالي أنب بالخزي تيس أم لحاني بظهر غيب لئيم وقال آخر:
ما يضر البحر أمسى زاخرا أن رمي فيه غلام بحجر وقال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع والعجيب منك أنك لم تزل تنسبني إلى إذايتك في الكلام، وتنحلني إلى الجدال، كما في وثيقتك الثانية، لا جرم أن من تأهل كلامك في وثائقك هذه، على ضرورة أنك المجادل، ومن وقف على كتابكم الذي أشرنا إليه علم بالضرورة أنكم القائلون بالفحش والعيب والإذاية. شعرا:
رماني بنو عجل بذاء أبيهم وأي عباد الله أنوك من عجل "والله المستعان على ما تصفون".
وأما قولك في الرد على محمد الدليل في تشبيه عمل الشيخ بعمل رسول الله، فتعنت، وعلم على عدم اتفان (علم البيان)، لأن المعلوم من المشبه أن يكون دون المسبه به، وإن كان يختلف باختلاف الأحوال والنكت، فليعلم الواقف على هذه الورقات، بأن قصدي النصح للإخوان لئلا يغتروا بكثرة صخب هذا الإنسان. وليس قصدي الجدال ولا الانتصاف، فمن وقف عليها، وأمعن النظر علم قطعاً أن الحق بخلاف ما يذكره، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد قدمنا أنه لما علمنا عدم وصول وثائقنا إليهم، تجشمت في انفاذ البريد، فسار بوثائقنا. وحاصل ما في وثيقة الوالد، الذي كتبته له:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً. الحمد لله وحده ولا إله غيره والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. - فمن أمير المؤمنين وسلطان المسلمين سيدنا ووسيلتنا إلى ربنا عثمان بن فودي إلى العالم العلامة محمد الأمين الكانمي، بألف تحية وألف سلام. - أما بعد، فباعث الرسالة إليك إعلامك بما نحن فيه، إذ أكثر المجاورون لكم من جماعتنا رفع شكايتهم منكم إلينا، وألحوا بالانتصار بنا عليكم، فتعين النظر في شأنهم، والتوجه إلى صوبهم. فاعلموا علم يقين بأن طريقتنا طريقة أهل السنة والجماعة، من إيثار الحق واتباع السنة، حنفاء عن طريق التفريط الذي هو الركون إلى العوائد، والتسامح في المعاصي، وعن الإفراط الذي هو إنكار ما ليس بمنكر، فأحرى ألا نكفر الناس بما ليس كفراً. فيطلب منكم أن تأمروا أمير برنوا وقومه أن يتوبوا إلى الله، ويتبرأوا من كل عادة ردية، مخالفة للشريعة، وليتفق هو ومجاوروهم من الجماعة على طريق واحد، فيوضع القتال، ويثبت السلم، أو يتاركونا ولا يتعرضوا لنا، فيكون الإصلاح بينه وبين الجماعة بعهود ومواثيق، ويتوافقون عليها ويتراضون فيوضع القتال عما بيننا وبينهم. وإن آثروا الطريقة الأخرى، ورغبوا في بقائهم على حالتهم الألى، فلا يسعك المقام معهم ومعاونتهم. قال الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". والسلام. - هذا حاصل ما كتبته للشيخ - إلى الحاج الأمين بأمره، وكتبت إليه بما حاصله:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً-فمن محمد بل إلى الحاج الأمين بألف تحية وألف سلام-فباعث الرسالة إليك إعلامك بأني لم أزل كل عام أنفذ الوثائق في طلب الإصلاح فيما بين ذلك، فتضيع الوثائق ولا تبلغكم، لذلك أنفذت هذا إليكم مع هذه الوثائق وكنت قلت شعراً، فإن بلغك فاذكره، وإن لم يبلغك فانظره:
ألا من مبلغ عني الأمينا رسالة ناصح يبدي اليقينا تعلم أننا مما رمينا به براء فأوف العذر فينا وأنا ما تغلبنا عليهم علوا أو فسادا قاصدينا ولكن حين أخرجنا اعتداء وبغيا صاح قمنا دافعينا تبين أمرنا هذا أخانا وفتشه ولا تعجل علينا فدع عنك الركون إلى الأعادي ونصر الظالمين الفاجرينا تعلم أنهم أهل اعتداء ووال أخا الصلاح المؤمنينا وخاللهم وظاهرهم عليهم فإن الله مخزى الكافرينا فالحاصل أن من يتحرى السلامة، و يتورع من الملامة، فلا بد أن يجتنب مالاً يكاد يتضح حلاله من شبهته، فاسعوا في الإصلاح جهدكم، فإنا نسعى فيه، وفقنا الله وإياكم إلى الخير والإصلاح. أ ه ما مر في الوثيقتين.
فسار بهذه الوثائق بريدنا عثمان، حتى وصل عنده، فرحب بالبريد وأكرمه، وأجاب بما نصه:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله من العبد الذليل محمد الأمين بن محمد الكانمي، إلى العالم العلامة الشيخ عثمان بن فودي، سلك الله بنا وبه سبيل السداد. السلام التام ورحمة الله وبركاته-أما بعد، فقد بلغنا كتابك وتأملناه حرفاً حرفاً. أما قولكم: إذ قد أكثر المجاورون لكم من جماعتنا رفع شكايتهم.. الخ ما ذكر في ذلك، فاعلم أنه لم يصدر منا إليهم ما يوجب الشكوى البتة، إذ هم يغيرون على أطراف بلادنا ويستلبون الأموال ويسترقون الأحرار ويسفكون الدماء ويحرقون الديار، فنقوم لدفعهم واستخلاص ما أخذوه، ونتبعهم إلى حيث قدر الله تعالى، فتارة نجدهم وننقذ منهم ما استلبوه، وتارة يعجز وننّاً هرباً. هذا دأبنا معهم حتى اليوم ثلاثة أعوام. وما غزوت عليهم قط مبتدئاً طالباً منهم نفعاً أو قاصداً ضرراً، فهل ألام على ذلك شرعاً أو عرفاً؟ وإن كان هذا أوجب عليكم التوجه لصوبنا، فما نحن بتاركين الطلب إن أغاروا لأجل تهديدكم، ولا نعطي بأيدينا للطغاة لأجل وعيدكم، فإن المجاورين لنا أناس غلب عليهم الجهل والتقليد. همتهم ملك البلاد وقهر العباد بأي وجه، ولسنا نعطيهم ذلك اخياراً. وإن توجهتم إلينا بعد ما أطلعناكم على الموجب، فنحن على اللقاء-إن شاء الله-صابرون، وبعون الله، لكل صائل دافعون، ولمن جاءنا في ديارنا مقاتلون، "وما النصر إلا من عند الله".
وأما قولك فاعلموا علم يقين بأن طريقتنا طريق أهل السنة والجماعة.. إلى قولك: "وتعاونوا على البر والتقوى"-فهذا كلام مستقيم لا ينكره ذو لب سليم، إلا أن المجاورين ليس هذا الحالهم. ولو كانوا كذلك ما اختلفنا ولا تقاتلنا. وقد أمرنا الناس باتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الأمر، وما زلنا آمرين-إن شاء الله-حتى يجف اللسان، أعانني الله وإياكم على طاعته، واتباع سنة نبيه.
وأما قولك: إن آثروا الطريقة الأخرى، ورغبوا في بقائهم على حالتهم الأولى... الخ-فاعلم أني لست ممن ينصر الباطل، إن شاء الله، ولا ممن يدنون حول حماة، لكني ابتليت بأناس أتاح الله أن يجعلني فيهم، وأكثرهم مرضى القلوب، وأنا فيهم كطبيب يعالج الأمراض المزمنة، ولا معين له، وجاورني من جماعتكم أناس لا خلاق لهم، كلما أطفأت ناراً أوقدوا أخرى، وشغلوني وغيري عن دين الله فضلاً عما سواه، والآن حيث جعل الله المراسلة بيننا، يرجى خمود نار الفتنة، إن شاء الله، فمر جميع الفلاتيين يكفوا عن قتال برنوا وعن الغزو عليها أصلاً، ولا يطمعوا في شيء سوى وجود العافية والأمن في ديارهم على دينهم وأموالهم. فإن بلغوا ذلك فبها ونعمت، وإن أبو ذلك، وجعلوا يخوضون في القيل والقال وإيراد الأدلة المقابلة بأدلة مثلها، مدندنين حول طلب الملك، فلا صلح ولا أمن، وطرق الأدلة متسعة لنا، كما هي عند ظنهم متسعة لهم، ولكن الأسلم والأحوط والأصلح وضع القتال إن وجد إليه سبيله، ومع هذا كله لا أغزوهم ولا أقصدهم ابتداء، إلا إذا أغاروا وأفسدوا، فلا بد من الطلب ولا بأس به، إن شاء الله.
وأما المسافر والحاج فليأت لا يخف من جهتنا شيئاً، فإني لا أظهر لفلاتي عداوة إلا إذا جاء غازياً، وإن خالفني أهل برنو فيما آمرهم به من الأمور الشرعية والمصالح الدنيوية، أو تعدوا على ابن سبيل طالباً فضل الله أو حاج لبيت الله، فعند ذلك أسل يدي من أمرهم، كما تسل الشعرة من العجين، ورجعت لموضعي الذي جئت منه وتركت ما بينهم وبين جيرانهم، ينتقم الله من الظالم بالظالم، ثم ينتقم منهم جميعاً. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعل خير أيامنا يوم نلقاه. والسلام.
وجاوبنا بنا نصه:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، إلى محمد بل بن الشيخ عثمان بن فودي السلام التام عليك ورحمة الله وبركاته-أما بعد، فقد بلغنا كتابك، وفهمنا من مقتضاه أنك تجتهد في كل عام في إنفاذ الكتب والرسائل إرادة الإصلاح، فها قد من الله تعالى بوصول بريدكم إلينا، وشاهد أحوالنا وأخبرنا بأحوالكم، وقد ختمت وثيقتكم التي أرسلتها معه بما لا مزيد عليه من قولك: والحاصل أن من يتحرى السلامة ويتورع من الملامة فلا بد أن يجتنب مالاً يكاد يتضح حلاله من شبهته.. إلى آخر كلامك. فإن الأمر كما ذكرت طرق الأدلة متسعة، وأوجه الشبه بينة. وكلنا في غرر وخطر، والأسلم والأحوط ترك القتال، لكن قدر الله أن مجاورينا من المنتسبين إليكم أناس ليسوا مثلكم، ولا هم على مثل حالكم، وهم السبب في تأجيج نار الفتنة بيني وبينكم. وإن أردتم ثبوت الصلح وفتح الطرق وانتشار الأمن، فمروهم أن يكفوا عن الغزو على أرض برنوا وقتال أهلها، ويكتفوا بالعافية والأمن عما أرادوه من الملك والسلطنة. ثم إذا كفوا عما ذكرته وظهر غدر وخلاف من أهل برنوا تركتهم ورجعت لأرض التي جئت منها، وليفعلوا عند ذلك ما أرادوا. هذا، وإني ما ابتدأتهم بالقتال قط فيما سبق، ولا أبتدئهم فيما يأتي أيضاً، إلا إذا أغاروا على أطراف البلاد، فعند ذلك لا بد من الخروج للطلب، كعادتي الأولى، وذلك جائز بل واجب حيث لم أقل بكفر أهل برنوا ولم أر لتكفيرهم وجهاً. وما قل وكفى خير مما كثر وألهى. أحسن الله لنا ولكم العاقبة، وجعل حظنا من نعمه نعم الإخوة. والسلام. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ألا عم صباحا واحضر الذهن أنني حريص على من يقبل القول بالفهم فإني أرى نفسي على الحق والهدى وما زغت يوما عن طريق ذوي العلم وما كنت مختارا لما قد سمعتمو من الغزو والغارات والسفك للدم ولست بعات في قتالى ومعتد عليهم ولكن دافع الجور والظلم كإنفاذ غرقي والحريق ومن ظلم وذا واجب لا خوف فيه من الإثم وفي الصلح خير أن رضيتم جوابنا لننجو من التأويل والقول بالرجم ولكن جيراني الذين يلونكم ذوو خبط لا يرتضون بذا السلم فنسأل رب العرش يجمع امرنا على البر والتقوى ويحسن بالختم أ ه. كتبت الأبيات بعد أن ركب الأصحاب على عجل، وألحقتها، فلا تنظروا ما فيها من خلل، والمقصد صحيح. والسلام.
ولما وصل عندنا جاوبه الشيخ بجواب مقنع، بين فيه الحق ورفع الأشكال، ونقض بالكلية عرى الجدال، فماذا بعد الحق إلا الضلال. وإن لطف الله بالحاج الأمين وفعل ما فيه وعمل بمقتضاه، فسنقول له من أمرنا يسراً، ولا يلقي منا إلى سروراً وخيراً. وإن تولى بعد ظهور الحق وخاض في القيل والقال، وأتى بالتمويهات الداحضة، والشبه الباطلة في الاستدلال، فضرب الأعناق حتى تضع الحرب أوزار القتال. إن الحكم إلا لله. "وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم".
وقد فهمنا من رسائله ما يدل على أنه صاحب نخوة وتكبر وتعصب، وقد سبق في قلبه ما سبق، وقل أن يرجع متكبر ولو ظهر الدليل وأوضح السبيل، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من ينيب، أحسن الله عاقبتنا وعاقبته وسلك بنا الصراط المستقيم. إنه ولي التوفيق.
ونص الجواب المقنع المذكور الذي أغنى عن كل جواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. - من أمير المؤمنين عثمان بن محمد المعروف بابن فودي، متع الله الإسلام والمسلمين ببقائه وأيامه وجعل العاقبة خيراً-إلى الشيخ العالم الجاج محمد الأمين بن محمد الكانمي، يسلم عليه وعلى من كان معه من المسلمين. وسبب الوثيقة إعلامك خمسة أمور: وهي تغني عن جواب وثيقتك التي وصلت إلينا على يد بريدنا عثمان.
الأول، إعلامك سبب القتال الذي وقع بيننا وبين سلاطين حوس.
فاثاني: إعلامك سبب القتال اذي وقع بيننا وبين سلطان برنوا وأهله.
الثالث: إعلامك أنا لا نكفر أحداً من أهل القبلة.
الرابع: إعلامك أننا نكفر كل من يخلط أعمال الإسلام بأعمال الكفر وأقواله.
الخامس: إعلامك حكم إقامتك في بلد برنوا.
أما الأول، الذي هو سبب القتال الذي وقع بيننا وبين سلاطين حوس فقد كفاك في ذلك ما كتبه إليك أخي عبد الله، فإني قلت له ذا يوم: اكتب له سبب القتال الذي وقع بيننا وبين سلاطين حوس، فيعذرنا بذلك كل من وقف عليه، إن كان من أهل الإنصاف. فأجابني بكتابة ذلك في قرطاس، ونص كلامه:
بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد فمقصودي في هذا المكتوب بيان هجرتنا من بلد غوبر وسبب جهادنا الذي وقع بيننا وبين سلاطين حوس ليعذرني في ذلك كل من وقف عليه إن كان من أهل الإنصاف.
اعلموا أن شيخنا عثمان بن محمد بن عثمان بن محمد أمير المؤمنين-أطال الله حياته في طاعته-إنما نشأ على دعوة الخلق إلى دين الله في كل مجلس حضر فيه، يبين فيه لأهل كل مجلس بلغتهم ما هو فرض عين عليهم وغيره، ويأمرهم بمكارم الأخلاق، مجتهداً في إزالة الشبهات عنهم في فن التوحيد وغيره، وفي تخليهم من الصفات المهلكات، والتحلي بالصفات المنجيات، وإحياء السنن وإخماد المدع. فأجابه خلق كثير، ونصروه حتى اشتهر بذلك.
وكان يسير في جماعته يطوف في البلد لتبليغ الدين فيها، حتى تاب أكثر الجهال فيها من الكفر والفسق والبدع، وكان يداني علماء زمانه الذين يخالفونه وينكرون عليه، ولا يتعرض للسلاطين أصلاً، حتى كثرت جماعته واشتهروا باسم الجماعة في حوس وكانوا يتركون بلادهم وينتقلون إليه، وكان بعض من كان في جنوج السلاطين يتوب وينتقل إليه مع ماله ويترك سلطانه، فكان ذلك مما يغيظ السلاطين حتى يقع بينهم وبين سلاطينهم ما هو معروف، وهو لا يتعرض لهم، بل يتغفل عن ذلك، ويقول: لا أدخل بين أحد وبين سلطانه، ولا أفرق بينهما، دفعاً للفتن، والأمر مع ذلك لا يزداد إلا عظماً، فكان حينئذ يداري السلاطين بالسير إليهم وإظهار المواصلة بينه وبينهم. ومع ذلك ما يرون من كثرة الجماعة وعزة الإسلام عنده وتألفهم يغيظهم، وشياطين الجن والإنس تهيجهم، ويقولون: إن لم يفرقوا هذه الجماعة فلا ملك لكم، يفسدون لكم الأرض باجتماع الناس عندهم ويتركونكم، حتى أرسل إلينا سلطان غوبر يريد الغدر بنا، على ما سمعنا وتبين لنا بقرائن أحواله وأقواله وأفعاله. فوقانا الله شره، وسمعت منه ما أعلمنا أنهم لا يريدون إلا إهلاكنا، فرجعنا إلى مكاننا.
ثم بعد ذلك غزا سلطان غوبر جماعة من جماعة الشيخ، وقد كانت هربت منه لما خافوه. فاتبعوهم بالجيش حتى أخذوهم وقتلوهم وسبوا أولادهم ونساءهم وجعلوا يبيعنهم بيننا، ويخوفوننا بمثل ذلك، حتى أرسل إلى الشيخ ذلك السلطان: أن اخرج من بلدي أنت وأولادك ونساؤك وإخوتك، ولا تخرج مع أحد غيرهم من جماعتك، وفارقهم.
فأرسل إليه الشيخ أني لا أفارق جماعتي، ولكن أخرج معي كل من أراد الخروج، ومن أراد المكث فليمكث.
فهاجرنا من وسط بلادهم سنة شريح، سنة 1218 ه لعشر مضين من ذي القعدة إلى أطراف البلاد في البراري، فجعل المسلمون يهاجرون ويتبعوننا، ويصلون إلينا: بعضهم مع أهله وماله، وبعضهم وحده، وقد أمر سلطان غوبر سلاطين بلاده أن يِأخذوا من هاجر ويمنعوهم من الهجرة، فأخذوا أموال كثير من المسلمين وقتلوا بعضهم.
ثم جلع سلاطينه الذين هم أقرب إلينا من جهة شرقنا يغيرون علينا ويقتلون وينهبون ويأسرون، فاضطرب أمر الناس لذلك، وجئنا إلى الشيخ وقلنا له: إن هذا الأمر قد عظم، وانتهى إلى شهر السلاح، فلا بد أن نربط بالسلطان الذي يرجع أمر الناس إليه، مع أنه لا يجوز للمسلمين أن يكونا هملاً. فبايعناه لتلك الضرورة على اتباع ما قال، على الكتاب والسنة وبايعناه على الجهاد. وقمنا لدفع الغارات عنا، لأن الدفع عن الأموال والأنفس والأهل واجب إجماعاً. فسرنا إلى الذين يغيرون علينا، وهم خيل متنكر، فتلقونا بالقتل، فهزمناهم وأحرقنا بيوتهم وقتلنا رجالهم وسبينا نساءهم وأولادهم، فتفرقوا، وكنا نسمع أن ملكهم سلطان غوبر يجمع لنا جموعاً ليستأصلونا، فحفرنا لذلك خندقاً اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أهل حصن سلطان كن ممن يغير علينا من جهة الشرق. فسرنا إليه، وفتحنا حصنهم وقاتلناهم وقتلنا سلطانهم. ثم رجع جيشنا وانتظرنا سلطان غوبر ينف، فجاء إلينا بجيوشه، فتلقيناه بكتو، فهزم الله جنوده، فهرب إلى حصنه ذليلاً مغلوباً، وذل بذلك جميع الكفار في حوس. فتيقظوا لذلك، وجعل كل سلطان يقتل المسلمين في بلاده، فوقع الحرب بينهم، فاستأصل الله الكفار، إنجازاً لوعده في نصر دينه وناصريه.
وكنا بعد طرد سلطان غوبر أرسلنا إلى جميع ملوك حوس أن ينصوا دين الله ويعينونا في إقامة الدين. فتكبروا وأبوا، فاستأصلهم الله. "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". والسلام. ا ه كلامه.
واما الثاني الذي هو سبب القتال الذي وقع بيننا وبين سلطان برنوا وأهله، فاعلم أنا ما قتلناهم لكفرهم بالأصالة، وإن كان يؤثر عنهم تواتراً ما يوجب الحكم بالتكفير، مثل ما يفعلونه في مكان يسمى بيكو، لعدم علمنا بذلك حقيقة. وإنما قاتلناهم لابتدائهم لنا بالقتال واعتدائهم علينا موالاة للكفار وتعصباً لهم ونصرة لهم، ولا جرم أن ذلك يوجب الحكم بارتدادهم، إن كان سبق لهم الإسلام الصحيح. قال المغيلي في مصباح الأواح في أصول افلاح: مما يدل على عدم الإيمان بنص القرآن موالاة الكافرين، لقوله تعالى: "ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون"، لأن الدليل المذكور بين أن من لازم الإيمان عدم موالاة الكفار، فلمز بشهادة رب العزة تكفير كل من تولى أحداً منهم كائناً من كان في كل زمان ومكان، وموالاتهم نصرهم، ولأن المولى هو الناصر وكل من تولى أحداً منهم يكفر بما ظهر عليه من الموالاة. ولا يعذر بما ظهر عليه من قصد المنفعة، فيستتاب باسيف. فإن مات أو قتل مات كافراً فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإن كان مدة حياته ينطق بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويحج، ويعمل بأعمال البر،لأنه لا عمل إلا بالإيمان، وواحدة من خصال الكفر تحبط ألفاً من خصال الإيما... ثم قال:
وكيف لا يكفر بموالاة الكفار، وقد نص العلماء على التكفير بواحدة من خصال لا تحصى، كالاستخفاف باسم من أسماء الله تعالى، أو بشيء من وعده أو وعيده، أو برسول الله في شيء من شأنه، كتصغير عضو من أعضائه أو تكذيبه في شيء مما جاء به،أو قوله: لو أمرنا الله أو النبي بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها، أو لو شهد ملك أو نبي بكذا ما صدقته، أو لو كان فلان نبياً لم أؤمن به، أو قصعه من ثريد خير من العلم، أو ضحك على وجه الرضا بكلام كفر، أو قال لمريد الإسلام: اصبر حتى يفرغ المجلس، أو أشار على كافر بألا يسلم، أو مسلم بأن يكفر، كفتواه لامرأة لتكفر لتبين من زوجها، أو استهزأ بشيء من الشريعة كجماعة جلس منهم واحد بمكان مرتفع، وجلسوا حوله يسألونه مسائل ويضحكون، ثم يضربون له بالوسائد مثلاً، وكمن قال عند شرب الخمر أو الزنى: بالله، أو صلى لغير القبلة متعمداً-فإن صادفها، إلى غير ذلك من الفروع. ا ه كلامه في مصباح الأرواح في أصول الفلاح.
وأما الثالث الذي هو إعلامك أننا لا نكفر أحداً بذنب من أهل القبلة فهو كقولك: لإجماع أهل السنة على عدم التكفير بالمعاصي، وفي ترجمة صحيح البخاري باب المعاصي من أمور الجاهلية، ولا يكفر صاحبها. وفي درر القلائد:
ومن عصى بكبير أو أصر على صغيرة فاسق بالإثم مجدول وفي الرسالة: وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة.
وأما الرابع الذي هو أننا نكفر كل من يخلط أعمال الإسلام بأعمال الكفر وأقواله، وهو كذلك، لإجماع أهل السنة على تكفير من كان كذلك. وفي القصيدة الجزائرية:
ومثلهم كل ذي شرك، وإن نسبوا للدين أنفسهم كفر ولا تغسل وفي بدء الأمالي:
لفظ الكفر من غير اعتقاد يطوع رد دين باغتفال وفي المختصر: والجاحد كافر. وفي الكوكب الساطع: جاحد مجمع عليه علماً ضرورة في الدين ليس مسلماً. وفي إذاء الدجنة:
وجاحد المعلوم بالضرورة باء بكفر وانتحى غروره وأما اخامس: وهو إعلامك حكم إقامتك في بلد برنوا، فاعلم أن إقامتك فيها محرمة، لأنا قد بينا لك أنهم مرتدون بموالاة كفار بلادنا الحوسية ومظاهرتهم علينا، فصارت بلدهم بلد حرب، فوجبت هجرتك منها لى غيرها من بلاد الإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إني بريء من مسلم ساكن بين المشركين"، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن والكافر لا تتراءى نارهما". أوردهما سيدنا المختار الكنتي في النصيحة الكافية، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله"، رواه أبو داود عن سمرة.
وأما قولك في وثيقتك: فمر جميع الفلاتيين أن يكفوا عن قتال برنوا وعن الغزو عليها، فلا يمكن بل لا يجوز، بعد أن علمنا أنهم كافرون بمظاهرتهم أهل حوس علينا. وفاعل ذلك كافر، كما بينه المغيلي في مصباح الأرواح في أصول الفلاح، كما مر بيانه.
والإصلاح لا يكون بيننا إلا بأحد أمرين: إما أن يرجعوا إلى الإسلام الصحيح، أو يطلبوا منا وضع القتال ودخولهم في السلم، ولا نظن أننا نكفرك ونكفر جماعتك الذين كانوا معك من المسلمين بمظاهرة أهل برنوا علينا، والعياذ بالله من ذلك، لأننا لا نكفر المبتدع المتأول، وكيف نكفر العالم السني وهو على التأويل في كلامه، إذ قد رأينا تأويلك في جميع وثائقك. وفي الدرر والقلائد:
من خالف الحق منا فهو مبتدع ولا نكفره ما دام تأويل ومرادنا أنك على تأويل، أنك لم تعلم أنهم كفروا بمظاهرتهم الكفار علينا قبل مجيئك إليهم، لكنك تعتقد أنهم مسلمون، والفلاتيون المجاورون لهم مسلمون فوقعت الفتنة بينهم، ولم تعتقد أن قتال الفلاتيين جهاد، ولا أن بلادهم دار حرب.
ثم إن الفلاتيين كانوا يبتئدون لجمع الجيوش إليك، ثم تقوم للدفاع عن الأنفس والأهل، لما عرفت أنه واجب شرعاً، هذا مراد كلامنا أنك على تأويل، إذ لو عرفت أنهم كفروا بمظاهرتهم الكفار علينا قبل مجيئك إليهم، وكنت ولياً لهم دوننا لاشترك الإلزام، والعياذ بالله من ذلك.
ولا يقال: إنهم على تأويل لاشتراك العلة، إذ حالك مغاير لحالهم لأن إسلامهم غير محقق ولا مثبت عندنا، لما يؤثر عنهم تواتراً ممن خالطوهم وعرفوا أحوالهم، بأن لهم مواطن يركبون إليها، ويذبحون ويتصدقون ويرشون الدماء على ابواب قريتهم، وأن لهم بيوتاً معظمة فيها أصنامهم، ويفعلون للبحر كما تفعل القبط للنيل أيام الجاهلية. وكل هذا كفر في ظاهر حكم الشرع، وإن كانوا لا يعتقدون التأثير فيها، فهو إشراك تقليد. فلا يعذرون بما ظهر عليهم من مقاصد أخرى، كمن سجد لصنم مثلاً بمائة ألف درهم. فقد بان الفرق بين أمرك وأمرهم لأنك مسلم محقق إسلامه، بل عالم سني، وما سمعنا من عوام والخواص ممن عرفك، إلا من يحدث أنك عالم صالح. والسلام.
ذكر قدوم امير المؤمنين محمد كما
ولما توفي أخوه محمد الباقر، وولي بعده، كتب إلى الشيخ أنه ثابت على ما عليه أخوه قبل. ثم سار لبلدة أكوز ورجع لزيارة الشيخ والانسلاك في سلكه وتحمل ما تحمل أخوه قبل. فقدم إلينا بسكت. ثم سرت معه إلى محل الشيخ. ولما بلغ ومعه وزراؤه وأعوانه، أقر أنه ما جاء إلا ليتحمل ما تحمل أخوه، ويستفيد من الشيخ، ويواصل الجماعة ويعاونهم على البر والتقوى، ويتبرك بالشيخ ونؤكد المحبة والأمانة له ولجميع عيالهم القاطنين ببلاد السودان، فأجابهم الشيخ لما دعوه، وقرر لهم بما عنده.
فمن جملة ما قرر لهم أن دعاه أمير المؤمنين محمد كما ناصر الدين إلى معاونته ومساعدته إلى اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحيائه والتزام الورع والتقوى في خاصة النفس، مع عدم الإنكار، إنكار الحرام على كل ما فيه خلاف، ولا سيما إن قلد فاعله في ذلك بعض العلماء، وترتب على فعله مصلحة شرعية، وأمره بالبراءة من كل عادة ردية وبدعة شيطانية، لأن كلا منهما مما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ولا قول عالم من علماء السنة، أو حيث لا يعتقد به قول مخالف من العلماء ففي هذين الإنكار الكلي واجب، والسكوت عليه حرام.
ثم دعاه الشيخ إلى محاربة من حارب الشيخ، ومسلمة من سالمه، لأنه لا يحارب إلا من حارب الله ورسوله، ولا يسلم إلا من سالم الله تعالى.
ثم قال له: إن أجبتني إلى متابعة الحق والشرع، فأنا وجماعتي من أوليائك وأنصارك. فاحكم بالعدل والشرع، ولا تخف في الله لومة لائم، ولا تتوقف. فكل من خالفك فإني لا أزال أدعو الله أن يكفيني وإياك عن كل من خالف الحق وأراد نصر الباطل واتباع الهوى-ومتى دعوت جماعتي إلى جهاد فرقة خالفتكم في الدين، ومنعت حكماً من أحكام الله، أو حقاً من حقوقه، فإنهم يجيبونك وينصرونك، وتكفي أمر الفتنة إن شاء الله.
ثم التفت إلى الوزراء والأعوان، وأمرهم بالسمع والطاعة له ومعاونته على ما تحمل ومساعدته، وأمرهم أن يحمدوا الله ويشكروه على ما خصهم بدعوته، فإنه لم يزل يدعو الله تعالى أن يؤيده بأحد ملوك هذه البلاد ووزرائه وأعوانه، فينصرونه، وعلى ما خصهم به دون غيرهم من أهل الأقاليم، مع أنهم لم يفوقوهم، وهم قد هلكوا وتشتتوا حين قاموا على المسلمين. وعليهم أن يساعدوه على اتباع الحق والسنة ونصرتهما على الباطل والبدعة، فقد سعدوا بهذا الزمان، وأنهم حينئذ خير من آبائهم وأجدادهم، حيث لم يوافقوا مثل هذا الزمان، وعملوا مثل ما عملوا. ثم أجابهم إلى ما دعوا إليه من تأكيد المحبة والأمانة كقومهم، فرفع أسماء وزرائه عن قومهم، وخلي شأنهم لهم، وأمنهم في تجاراتهم مع أنهم آمنون، وطلب منهم أن يؤمنوا سبلنا، ويخلوا بلادنا لمن والاها. فأجابوا وأذعنوا.
ثم دعونا نحن وإياهم على هذا العهد والميثاق. ثم لما رحلوا عشية قررت لهم كلام الشيخ، حتى فهمه كل من لم يفهمه قبل أو لم يحضر.
ثم لما رحلوا من عندنا شيعناهم إلى حيث ودعناهم وألقيت إلى من حضر من علمائهم سؤالات، وقلت لهم: قد قال لنا الشيخ: إن الإنكار فيما أجمع على وجوبه أو تحريمه.
وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه إنكار الحرام، ونحن نرى أموراً ترتكب من جهتكم، وهي عندنا مما أجمع على وجوبها أو تحريمها، فما عذركم في عدم القيام لها والإنكار عليها؟ حتى يشتهر عند كل وجوبها أو تحريمها، فلو كان لكل مستند صحيح فعلمونا:
السؤال الأول: إيتاء الزكاة، فهو عندنا واجب إجماعاً، مثل الصلاة، وقد استفاضت الأخبار أن أكثر أصحاب الأموال عندكم يقرون بالإسلام ويصلون، ولا يؤتون الزكاة، ولم يبلغنا أن علماء آهير اتفقوا على الإنكار عليهم وضللوهم في ذلك، وإنما يبلغنا من الآحاد. وكيف يصح إسلام من فرق بين الصلاة والزكاة؟ وكيف لا يجب القيام على مانع الزكاة للإمام إن وجد، وللجماعة إن فقد، وقد روي على ذلك.
السؤال الثاني: التوريث على مقتضى الكتاب والسنة، فهو عندنا واجب إجماعاً، وعدمه بدعة شنيعة مخالفة للكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة.
السؤال الثلث: القصاص على مقتضى الكتاب والسنة واجب إجماعاً، وعدمه شرع لم يأذن به الله، وبقية من بقايا الجاهلية.
السؤال الربع: عزل الإمام لغير كفر، وهو حرام عند جميع أهل السنة، ومن يعتد به من علماء الأمة.
فإذا ثبت هذا عندكم، كما ثبت عندنا، فكيف يسوغ لكم معاشرة من لم يظهر التوبة والإقلاع عنها، والركون إليهم وإظهار الرضا عنهم، وتعلمون أن هجران الفاسق واجب، وصحبته حرام. قال تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار".. الآية. وقال تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون".
قال القرطبي: والفرق بين المداورة والمداهنة: أن المداورة بذل الدنيا لإصلاح الدين أو الدنيا أو كلاهما معاً، وهي مباحة، وربما استحبت، وأما المداهنة، فهي ترك الدين لإصلاح الدينا. وفسرها ابن بطال بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه. وفسر المداورة بأنها الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق بالنهي عن المنكر فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل سيما إذا عدت الحاجة إلى تأليفه أو كان لا ينجع فيه إلا مثل ذلك أو نحوه. أليس من الواجبات على أمير المؤمنين ناصر الدين وجماعته أن يحملوهم على العمل بالكتاب والسنة وأقوال علماء الملة، ويخرجوهم من كل عادة خالفت ذلك أو صادفته إن قدر هو وجماعته المؤثرون لاتباع الحق، أو ينحازوا عنهم ويهجروهم، ليرتدعوا بذلك، أو يهاجروا إلى جهة يتمكنون فيها من إقامة الدين ونصرة الحق، وينعزلوا عنهم وعن أمرهم، إذ الهجرة من بلد الكفر والمعصية والبدعة إلى دار الإيمان والطاعة والسنة متعين بل واجب إن دقر عليه ووجد المهاجر. نص على هذا ابن جزي في القوانين، وصاحب المدخل وغيرهما.
ومقصودنا بهدا الكلام النصح والتنبيه، ولكن أنتم أعرف بأحوالكم فيما تأتون وتدرون، وما تبدون وما تكتمون، وإعذارنا إياكم في أحوالكم وجميع أموركم أولى وأحرى، إذ أنتم أعرف بها منا، وصاحب البيت بما فيه أدرى، وأنتم لا تغفلوا عنا في النصح والتنبيه.
فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي الحديث الوارد عنه صلى الله عليه وسلم: "لن تهلك أمة مع التناصح". فبقاء الدين وقيام ما درس من معالمه، إنما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمناصحة والتواصي على الحق والصبر عليه والمرحمة والمعونة على البر والتقوى. جعلنا الله وإياكم ممن حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيا، وجعلنا من الشاكرين، والأئمة الهادين المهتدين. ونتضرع إلى الله وندعوه بكرم وجهه وجلالة قدره وإحاطة علمه وقدرته وبكلماته التامات وكتبه المنزلة وبالقرآن العزيز وبالرسل والأنبياء وبمحمد عبده ورسوله، أن يتولى أمورنا ويحسن عواقبنا ويرشدنا إلى ما فيه سعادتنا ديناً وأخرى بحوله وقوته. الله أكبر، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. "ربنا عليك توكلنا وإليك أننا وإليك المصير". والسلام.
ذكر ورود وثائق السلطان
مولانا سليمان سلطان المغربةوقد قدمنا أن أمير آهير محمد الباقر لما قدم على الشيخ زائراً ومنسلكاً في سلكه أقام شهراً متصفحاً أحوال الشيخ ويأخذ منه. ثم إنه لما رجع لبلاده كتب إلى مجاوريه بأحوال الشيخ مما رأى وعمل، فسار البريد بالوثائق فورد بعد وفاته البريد لسلطان المغارب بوثيقتين كريمتين مختومتين، وكان البريد من أهل توني، وهو رجل صالح عالم صوفي ونص الوثيقتين:
بنسم الله ارحمن الرحيم، بسم الله وبالله، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله". الحمد لله الذي هدانا للإيمان والإسلام، وأزكى الصلاة والسلام على سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم، وعلى آله وصحبه وكل من انتصر به.
ومن تكن برسول الله نصرته أن تلقه الأسد في آجامها تجم وبعد السلام التام المحفوف بمزيد الإكرام، على أخينا في الله سلالاة السلاطين، والخلفاء الأساطين سلطان أهير، السلطان السيد محمد الباقري بن السلطان محمد العدال.
فلتعلم أنه أتى حضرتنا العلية باليد صحبة هديتك الدالة على حسن طويتك، كتاب منك كريم، فتلقيناه بالتبجيل والتكريم، وفتحناه فإذا هو مخبرنا عن حسن حالكم وما فتح الله به عليكم من بلوغ آمالكم، ومخبر عن حال الفقيه النبيه الصالح السيد عثمان بن محمد ابن فودي، صالح الذي أقام ببلادكم منار الإسلام، وأحيا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأخمد البدعة والضلالة، وهدم أركان الجهالة، وشن الغارات على بلاد الكفرة، حتى كسر شوكتهم وأضعف مملكتهم، وقهر أهل الطغيان والفساد، وعلا به الإيمان وساد. وزاد في شرح حاله عندنا حامل كتابكم إلينا الشيخ عثمان بن محمد بن منصور، بلسان طلق غير ذي عي وقصور، وأطال لسانه بالثناء عليكم وعلى وزيركم، حتى خلنا أن العدل عليكم مقصور، فحمدنا إليكم الله الذي يتوكل عليه المتوكلون، وبه نستعين، وهو سبحانه القوي المعين، ونسأله تعالى أن يسبل عليكم مننه ومنحه ويديم على أعاديكم نقمه ومحنه، وحسن طويته، وتصديق فعله، وقد ذلل قطوفه لناظره تذليلاً.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومما زاد غبطة فيه وميلاً إليه ثناؤكم الجميل الدال على حسن سيرتكم وخلوص سريرتكم، وأن القصد وجه الله والعمل بقوله جل وعلا: "وتعاونوا على البر والتقوى" الذي هو معتمد المؤمن في التمسك بحبل الله الأقوى، وها نحن-إن شاء الله-لا ننساكم من الدعاء في الخلوات والجلوات، وفي مظان الإجابة وأدبار الصلوات. فلا تنسونا أنتم من مثل ذلك أيضاً في أوقات الاستجابة وحالة الرجوع إلى الله والإنابة، وأن يعيننا على ما كلفنا به من أمور الرعية. وإن الأمير أحوج إلى صالح الأدعية، سيما في هذا الزمان الذي انتشرت فيه المفاسد، وطار به صيت كل فاسد، ولم يوجد من ببذل للأمير النصح المجرد ولو رجلاً واحداً تفرد.
وإذا صفا لك من زمانك واحد فاشدد عليه وأين ذاك الواحد وقد صفا لك في هذا القائم-فيما ذكرت لنا-وكتبت به إلينا، فاشدد بيدك عليه، وأدم إحسانك إليه. ختم الله لنا ولك بالخاتمة الحسنى، وجعلنا جميعاً من أهل المقر الأسنى، بجاه النبي وعترته، وكل من هو ناصر لملته، ويصلك الطابع الذي بعثت عليه على الوصف الذي أشرت في كتابك إليه، صحبة رسولك الشيخ عثمان، الذي وصفتموه بغية الوصف والأمان، ولم نجد بداً من إسعافك لما طلبت توفية بحق مالك في جانبنا من المحبة التي عليها طبعت، فنسأل الله أن يلهمنا ما يبيض محيانا ومحياك، وأن يغفر لنا من فضله ما جنيناه، ويجعل خير أيامنا وأسعدها يوم نلقاه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. وبتأريخ أواسط جمادي الآخرة عام خمسة وعشرين ومائتين وألف، وهنا انتهى نص الوثيقة الأولى.
ونص الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد المصطفى الكريم، وعلى آله وصحبه الذين اتهجوا نهجه القويم، إلى السيد الذي فشا في أقطار السودان عدله، واشتهر في الآفاق المغربية ديانته وفضله، العلامة، النبيه العديم في زمانه الشبيه، ذو النورين: العلم والعمل الذين هما منتهى الأمل، السيد عثمان بن محمد بن عثمان بن صالح الفلاني، نفع الله بعلومه القاصي والداني. وسلام منا عليه، ما الشتد شوقنا إليه، ورحمة من الله تغشاه، حتى لا يخشى إلا الله "والله أحق أن تخشاه".
وبعد فقد بلغنا من الثناء عليك والتعريف بأحوالك وأفعالك وأقوالك ما أوجب محبتنا عليك وتسلمنا إليك، وذلك على لسان سلطان محبتنا للسلطان ناحيتكم وأمير الطوائف الإسلامية بساحتكم المقر في كتابه بفضلك، وأنك ناصح لله، وعليه مدار محبتنا للسلطان محمد الباقري بن محمد العدال، فإنه أخبرنا بما قمت به من الأمر الواجب: من الأمر المعروف والنهي عن المنكر الذي له نصب الرسول والأمير والوزير والحاجب، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً وترادفت عليك وفود الإسلام أمواجاً وصرت يلطف شمائلك إنسان العين من عين الإنسان.
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ما لم يروا عنده آثار إحسان وهذا من أعظم منح الله وأتم النعم، كما يشهد الحديث: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم". فالله تعالى يجازيكم عن الإسلام خيراً، ويقيكم ضيراً ويديم دولتكم محفوفة محفوظة وبعين العناية ملحوظة وفي حصن الله الحريز آمنة. قال الله سبحانه: "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور". والسلام. معاد على جنابكم الذي صار للإسلام بخلوص نصيحتكم كالبيت المعمور، وفي الثاني عشر من جمادي الآخرة عام خمسة وعشرين ومائتين وألف.
ما في علاه مقالة لمخالف فمسائل الإجماع فيه تسطر تتتمة
وينبغي أن نسوق الكلام هنا في حكم استرقاق أهل هذه البلاد، وقد قدمنا أن أقسام أهل هذه البلاد ثلاثة أقسام:
قسم مؤمنون مخلصون، وهؤلاء النادر قبل ظهور الشيخ، وقسم مخلطون أعمال الكفر بأعمال الإسلام، وهؤلاء غالب ملوك هذه البلاد وجنودهم وعلمائهم السوء، وقسم كفار بالأصالة لم يدخلوا في الإسلام أصلاً، وهؤلاء عامة السودانيين الذين يقال لهم "ماغذاو". وإذا فهمت ما قدمناه علمت أن المجلوب إذا كان من ماغذاو يسترق، لأن الكفار بالأصال تسبى ذراريهم ونساؤهم وتقسم أموالهم، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.
وأما الذين ارتدوا عن سبيل الإسلام ارتداداً ظاهراً، وصرح بأنه خرج عن دين الإسلام ودخل في غيره من دين الكفر وكانوا يزعمون أنهم مسلمون، وحكمنا بكفرهم لأجل أنه صدر منهم ما لا يقع إلا من كافر، كغالب ملوك هذه البلاد قبل الجهاد وجنودهم وعلمائهم الذين يجعلون لهم المكس، ويلبسون لهم الحق بالباطل، أو يعينونهم على غزو المسلمين بنصرهم، وهؤلاء يستتابون، فإن تابوا تركوا، وإن لم يتوبوا قتلوا بالسيف كفراً، وفي استرقاقهم خلاف. وفي المختصر: وإن ارتد جماعة فحاربوا فكالمرتدين. قال الشبرخيتي في هذا المحل في بيان معنى ذلك: يستتاب الكبير ويجبر الصغير ويوقف المال ولا تسبى العيال، وهو فعل عمر رضي الله عنه، وعليه جماعة العلماء وأئمة السلف إلا قليلاً، وقال أصبغ: كالكفار الحربيين يسترقون هم وأولادهم وعيالهم. ولعمري إنه أمر خالف فيه عمر أبا بكر في أهل الردة من العرب، فجعلهم أبو بكر الناقضين للعهد، فقتل الرجال وسبى النساء والصغار، وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم، وهو فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وأما قول من قال: إن السودانيين من أهل هذه البلاد-ممن مر-مماليك البربر من أهل برنوا، فإن صح فهم فيء. والسلام.
فصل في الإشارة إلى مصنفاته الشريفة ومؤلفاته المنيفة
فمنها كتاب نور الأولياء
وكتاب عمدة البيان
وكتاب علوم المعاملة
وكتاب عمدة العلماء
وكتاب عندة المتعبدين والمتحرفين
وكتاب مرآة الطلاب
وكتاب حصن الأفهام من جيوش الأوهام
وكتاب أسانيد الضعيف
وكتاب السلاسل الذهبية
وكتاب عمدة العباد
وكتاب كف الطالبين عن تكفير عوام المسلمين
وكتاب عمدة دعوة العباد إلى كتاب الله
وكتاب أصول الولاية
وكتاب ترغيب عباد الله في حفظ علوم دين الله
وكتاب رجوع الشيخ السنوسي عن التشديد في التقليد
وكتاب تمييز المسلمين من الكافرين
وكتاب التصوف
وكتاب تلخيص كتاب الحارث المحاسبي
وكتاب نصائح الأمة المحمدية
وكتاب الفصل الأول
وكتاب سوق الصادقين
وكتاب إحياء السنة وإخماد البدعة
وكتاب شفاء الغليل في كل ما أشكل من كلام شيخنا جبريل
وكتاب المسائل المهمة
وكتاب الجهاد، وغيرها مما نف على مائة مؤلف، وفي القدر المذكور
كفاية لمن تأمل
فصل في كرامات الشيخ رض الله عنه
وللشيخ كرامات لا تعد ولا تحصى، ولا يحملها إلا ديوان وحده. ولو لا أن الحال ضيق علينا لأوردنا منها بعض ما شاهدناه بأنفسنا، ولكن إذا أذن الله لنا فسنفرد لها إن شاء الله تأليفاً مستقلاً. والحمد لله.
فصل في الإشارة إلى أولاد الشيخ رضي الله عنه
وله من الأولاد: محمد سعد، وعلي، ومحمد ثنب، ومحمد بل المؤلف، وأبو بكر، وعمر، ومحمد البخاري، ومحمد حاج، والحسن، وآخرون صغار، وله من البنات: خديجة، وعائشة، وفاطمة، وخفصة، وعائشة أخرى، وسودة، وأسماء، وحنة، وأخر متن صغيرات، وأخر موجودات.
ونجب من أولاده: الكبير محمد سعد، نشأ فتعلم القرآن والعلم وقرأ النحو والتصريف، وفسر القرآن والحديث. والحاصل: إنه نقل فأوعى، وظهر فيه البركة والنجابة. وعليه قرأت النحو: قرأت عليه الألفية حتى انتهيت إلى باب جمع التكسير، فأهل رمضان، وفأقبلنا إلى استماع التفسير، وتوفي في الآخر من الشهر في صباح الفطر، وتوفي معه صاحب الشيخ الفقيه المحدث المتفنن الصالح التقي الرضى أبو محمد محمود، رحمه الله، وعليه قرأت الرامزة حتى انتهيت إلى أثنائها.
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر أولاد الشيخ.
وممن نجب من أولاد الشيخ: محمد ثنب العالم العلامة الجامع بين الشريعة والحقيقة الصوفي، لكنه يتوحش عن الخلق أحياناً وينقبض، ثم يفيق أحياناً.
وممن نجب منهم: المؤلف محمد بل، وستأتي ترجمته في الوزراء وباقي أولاده الموجودين لا بأس بهم، فيهم البركة، ويرجى لهم صلاح الحال والنجابة.
فصل في الإشارة إلى وزرائه
وله من الوزراء صاحبه التقي الرضى الصوفي عمر الكموني، صاحب الإشارات السنية والعبارات الجميلة. صحب الشيخ أولاً، وآزره وخدمه، وله عند الشيخ مكانة.
ومنهم: وزيره الأكبر وركنه الأبهر شقيقه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن فودي، العالم العلامة النظار الفهامة شيخنا البركة، المصنف المفسر المحدث الراوية الحافظ المقرئ المجود النحوي اللغوي البياني المتفنن الآخذ من كل فن بأوفر نصيب الراتع من كل علم في مرعاه الخصيب الشهير الرحالة آخر السادات الأعلام وخاتمة النظار ذو التحقيقات البديعة والأبحاث الأنيقة الغريبة المتفق على شرع. له القدم الراسخة والرحب الواسع في كل مشكل، سيف الله على ذوي البدعة معدن الصدق والعلم وزناد الفهم، كان آية في تحقيق العلوم مفرط الاطلاع على المنقول في الفنون جامع شتات العلوم فاضل وقته وأعجوبة أوانه. له تواليف: منها نظمه على النقاية، ومنها سلالة المفتاح.
وحاصله أنه رمى بسهام في كل فن وأصاب، وهو العجب العجاب. صحب الشيخ من صغره، وقرأ القرآن وتعلم العلم منه، وأخذ عن الشيخ جبريل والشيخ أحمد بن غار وغيرهم.
ووازر الشيخ وخدم له، وكفاه المهمات من أمره، وجاهد في الله، وقام بأمواله، لا تأخذه في الله لومة لائم، وسار بمسيرة حسنة ووصل الأرحام وشفى الأسقام، فالله يجزيه عن الإسلام خيراً، وكفاه من كل شر وضير.
ومنهم العالم العلامة الفقيه النبيه إمام المسجد محمد ثنب، من أصحاب الشيخ، ولي أمر خطة الإمامة والقضاء واستشهد بننشو.
ومنهم المؤلف، كنت منذ نشأت وقرأت القرآن وتعلمت العلم لازمت الشيخ أتصفح أحواله وأستمع إلى مقاله، وأنا غلام حدث حتى حصل لي من بركة الشيخ ما سار به الركبان، وحدث به المسار في العمران. أخذت العربية والبلاغة عن العم المذكور، وقرأت عليه الأصلين، وقرأت عليه إضاءة الدجنة والكوكب الساطع، وقرأت عليه الألفية ولامية الأفعال يشرحها الجامع بين اللغة والتصريف، وقرأت عليه في البلاغة تلخيص المفتاح والجوهر المكنون، وأخذت عن الشيخ الوالد التفسير وأصول الدين والحديث، وقرأت عليه الإنسان الكامل في الحقيقة، وأخذت عنه علوماً جمة وفوائد كثيرة، واشتهرت بين الطلبة مع الملل والكلال. وصحبت الشيخ ووازرته وقمت بأموره، وجاهدت العدو وأنجعت، وأنفقت بقدر الطاقة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
فصل في الإشارة إلى خدامه
وله: كر منغ وسليمان وثنب وسليمان آخر، يقال له بلغبه، وود وغيرهم.
فصل في الإشارة إلى عماله
ولما فتح الله له البلاد ولى أخاه الوزير سائر بلاد الغرب، واستعمله عليها ليرعى له فيها ويعدل، وولاني سائر بلاد الشرق واستعملني عليها لأراعي فيها بالعدل، وقام كل واحد منا على قدر ما اتطاع، وبسط العدل في كل من حضره، وأقام كل واحد منا على ما يعد فيه نائباً على كل إقليم من بلادنا.
ومن العمال الذين من جهتي: أبو حامد على زنفر، وعمر دلاج على كاشنة، وسليمان بن أبحم على كنوا، ويعقوب على ياوش [باوش؟]، وإسحاق على دور، وإبراهيم على برنوا جميعها، ومحمد منغ على برنوا الشرقية، وأيوب على ما والاه من بلاد ياوش.
فصل
بلغ شريف شريف أصل كاسمه عنى لشيخ كاسمه المختار أزكى سلام شيب مسكا تمه ريح النسيم تهب في الأسحار أخباره في علمه وصلاحه سارت به الركبان في الأمصار بل في القرى بل في البرايا كلها بل في البحار الكل والأشجار شمس المشارق والمغرب كلها قطب الكرام وجلة الأبرار أخبره أنا لا ندين بديله أبدا وإن كنا بذي الأقطار متعلقين به نروم دعاءه ونشيم منه سحائب الأمطار أنا وإن كنا بأرض لم تكن للمسلمين نقيم في الكفار لسنا نخالطهم بشيء بل لهم دين، لنا دين النبي المختار ومرادنا أن يسر المولى له تأليفه لنراه بلأبصار نريد من إسناده ما ناله من شيخه في العلم والأذكار فالله ينفعنا به وينيلنا بركاته بنبينا المختار صلى عليه الله مع أصحابه ما سارت الركبان بالأخبار وفيه يقول القطب الوالد عثمان:
بلغ تحياتي إلى المختار سراجنا في هذه الأمصار وقل له ليدع بالخيرات في هذه الدنيا وفي الممات وفي حلول القبر والقيام بلغه يا شريف بالسلام يا رب زد لشيخنا المختار كرامة التوفيق في الأخيار وانصره يا رب على الأعداء وأعطه بأحسن الجزاء وقدر لقاءنا في الجنة يوم النشور يا عظيم المنة بجاه سيد الورى محمد وصحبه ومن إليه يقتدي صلى عليه ربنا وسلما ثم عليهم بالسلام عمما وفيه قلت:
يا قاصدا نحو الهدى يعتام بي ويفودني في ليلتي ونهاري أبلغ تحياتي لكنت بأسرها لا سيما للسيد المختار أبلغ تحية مشتك زلاته للغوث مع أقطابه الأخيار واطلب لنا منه الدعاء فإنه بدعائه نرجو قضا الأوطار وكنت مرة جالساً عند الشيخ، فورد رجل يستأذن، فأذن له. ولما دخل على الشيخ قال له: اشهد بأني رأيثتك ثلاث مرات. والشيخ يقول: قد شهدت. ثم قال للشيخ: هل تدري ما سبب مقالتي هذه؟ فقال: إلا أن تخبرني. قال: قال كنت من خدام سيدنا المختار،فقدمت هذا القطر مبتغياً فضل الله، ثم رجعت لبلادنا، وقدمت على الشيخ سيدنا المختار، فسألني عن سفري وعن البلاد التي اتجرت فيها. فقلت له: إلى بلاد الشيخ سيدنا عثمان بن فودي. فقال: هل وصلت إلى الشيخ ونظرت إلى وجهه؟ فقلت نعم، كاذباً. فقال: اشهد بأني رأيتك وأنت رأيت عثمان بن فودي ثلاث مرات. فقال: لا ألفينك يوم القيامة، وقد لذت بك، وأنا أقول: إني رِايتك وأنت رأيت الشيخ عثمان بن فودي. فقلت له: يا شيخي إني كذبت عليك فاعف عني. فهذا هو سبب مسيري إليك لأشهدك بِأني نظرت إليك، وأرجع إلى سيدي المختار فينظر إلي. فبات عند الشيخ ليلة واحدة، ثم رحل لبلاده.
وللشيخ سيدنا المختار أوراد وأحزاب، أخذتها عن الإمام الصوفي فاضي [=قاضي] "أمودي" الحاج محمد العافية، وهو أخذه عن الشيخ سيدنا المختار، والورد هو:
ورد الطريقة القادرية وفوائده
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ورد السلسلة القادرية. وهو من أجل الأوراد، لأنه يغني عن كل ورد، ولا يغني عنه ورد، ومن قوائده أن صاحبه لا يموت إلا على أحسن حال. ولو فعل ما فعل، وهو أن تقول دبر كل صلاة مكوبة.
"حسبنا الله ونعم الوكيل" مائتين، "أستغفر الله" مائتين، "لا إله إلا الله" مائة، "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم" مائة.
ثم تزيد بعد المغرب والصبح: "اللهم أرض على روح غوث الثقلين سيدي ومولاي عبد القادر الجيلي وأشياخنا وأشياخهم، أولهم وآخرهم" ثلاثاً، "لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين" سبعاً، "اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير" سبعاً، "يا الله يا واحد يا موجود يا جواد، انفحني منك بنفحة خير، تغنيني بها عمن سواك، إنك على كل شيء قدير" سبعاً، "اللهم بارك لي في الموت وفيما بعد الموت" أربعاً وعشرين. ثم تقول بعدها: "يا الله" ثلاثاً، "يا رب" ثلاثاً، "يا رحمن" ثلاثاً، "يا رحيم" ثلاثاً، "لا تكلني إلى نفسي في حفظ ما أملكتني مما أنت أملك به مني، وامددني بدقائق اسمك الحفيظ الذي حفظت به جميع الموجودات، واكسني بدرع من كفايتك، وقلدني بسيف نصرك وحمايتك وتوّجني بتاج عزك وكرمك، وردني برداء منك وركبني مركب النجاة في الحياة وبعد الممات، بحق فجش" ثلاثاً، "وأمدني بدقائق اسمك القهار الذي تدفع به عني من أرادني بسوء من جميع المؤذيات، وتولني ولاية العز التي يخضع لها كل جبار عنيد، وشيطان مريد، يا عزيز يا جبار" ثلاثاً، "اللهم سخر لي جميع خلقك كما سخرت البحر لموسى، ولين لي قلوبهم كما لينت الحديد لداود عليه السلام، فإنهم لا ينطقون إلا بإذنك، نواصيهم في قبضتك، وقلوبهم بيدك، تصرفهم كيف شئت. يا مقلب القلوب ثبت قلبي على الإيمان، يا علام الغيوب" ثلاثاً، "أطفأت غضب الناس بلا إله إلا الله، واستجلبت مودتهم بسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأيته أكبرته وقطعن أيديهن حاش الله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم، يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً. وألقيت عليك محبة مني، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين. أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس، كم مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين. قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيما تدعوا فله الأسماء الحسنى. ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً، وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل، وكربه تكبيراً، الله أكبر مما أخاف وأحذر".
وتصلي بين المغرب والعشاء ست ركعات، تنوي بالأوليين قضاء الحوائج، وتقرأ في الأولى منهما الفاتحة و"أنا أعطيناك" ستاً، وفي الثانية بالفاتحة و"قل يأيها الكافرون" ستاً، وتقول في سجودهما: "رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري"، وتنوي بالوسطيين حفظ الإيمان، وتقرأ في الأولى منهما الفاتحة و"الإخلاص" ستاً، وفي الثانية الفاتحة والمعوذتين مرة، وتقول في سجودهما: "اللهم إني أستودعك ديني وإيماني فاحفظهما علي في حياتي وعند وفاتي وبعد مماتي"، وتقول بعد السلام منهما:
"اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك به من هذه الساعة إلى مثلها في حقي وقي حق غيري خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فأقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه من هذه الساعة إلى مثلها في حقي وفي حق غيري شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان. ثم أرضني به، إنك على كل شيء قدير"، وتنوي بالأخيرتين النجاة من هول المحشر، وتقرأ في الأولى منهما الفاتحة وآية الكرسي، وفي الثانية الفاتحة مع "لو أنزلنا هذا الرآن" إلى آخر سورة الحشر، وتقول في سجودهما: "ربنا لا تزغ قلوبنا..." الآية. وتدعو بعدهما بدعاء الاستخارة المتقدم.
وتصلي في جوف الليل ركعتي التهجد، تقرأ في الأولى الفاتحة وسورة الكهف، وفي الثانية الفاتحة وسورة الدخان أو "يس" في الأولى و"الملك" في الثانية، أو قل "يأيها الكافرون" في الأولى، و"قل هو الله أحد" في الثانية، بقدر الحفظ واتساع الوقت. وتقول في سجودها: "اللهم ارحم ذلي، وضارعتي إليك وآنس وحشتي بين يديك وارحمني برحمتك، إنك على كل شيء قدير"، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعدهما.
وتصلي عند الضحى ركعتين، تقرأ في الأولى بالفاتحة وسورة الشمس، وفي الثانية بالفاتحة وسورة الحضى، وتقول بعد السلام منهما: "يا منور يا فتاح، نور قلبي بنور معرفتك، واحفظ لي أبواب حكمتك، وانشر على خزائن رحمتك، إنك على كل شيء قدير" عشر مرات.
بنو تور إخوان الفلاتين أخوة لعرب فمن روم بن عيصو تفرعوا وعقبه أبو كل الفلاتين من عرب ومن تور كانت أمهم هي تجمع لم يكن وراء هذا الإقليم إلا إقليم دمل، ولم ينتشر فيها الإسلام، وهي على شاطء البحر المحيط. وزعموا أنهم يسمعون وجبة الشمس في بلاد دمل، وبعدهم السافرة في إقليم البحر بحنب جابلص.
وفي هذه البلاد أخبار عجيبة، وطرائف غريبة، أعجلتنا عن الإكثار منها محاولة الخاتمة، فنسأل الله أن يجعلها جميلة.
وقد انتهى والحمد لله ما عملنا عليه في هذا الكتاب من قصد الإشارة إلى تاريخ بلاد التكرور. وذكرنا من ذلك ما تيسر، وأعرضنا عما تعسر، وسلكنا مهيع المؤرخين، من ذكر الغث والسمين. وألتمس من الناظر في هذا الكتاب أن يسامحني ويعذرني من كل هفوة لفظية أو معنوية، لقيام العذر، إذ قدمنا أنه لم يستصبح أحد في هذا المرام، فألتمس من سراجه في هذا الظلام، مع ما أنا فيه من التقلد المحتوم، وحمل كل الرئاسة المعلوم، ومكابدة الفتن المارجة، وجهاد العدو والفئة الخارجة. فعملت هذه الكلمات على عجل، اغتناماً للإمتاع وإفادة للقلوب والأسماع، والله المسؤول في دفع كل شر وضير، وجلب كل نفع وخير. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ووافق الفراغ من هذه النسحة يوم الأحد لأربع عشرة خلت من المحرم، عام ستة وثلاثين بعد مائتين وألف. تم الكتاب بحمد الله وحسن عونه، وتوفيقه الجميل، وصلى الله على سيدنا محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.