مقدمة
0.1 عمل الحكمة (1:1-3)
إن الفلسفة التي تتعلق بالإلهيات هي الحكمة بمعنى التجليل والتعظيم. فيوجد أنواع للعلوم وأنواع للحكم تختص كل واحدة منها بفرع معين، أما الحكمة العلوى هي التي توجّه إلى الحق الإلهي، الذي هو الغاية والمبدأ للجميع. وهذه الحكمة تغوص في كنه الله بمقدار ما يستطيع الإنسان أن يعرفه. ثم كما شأن الحكيم أن يتأمل في الحق الإلهي، كذلك شأنه أن يفند ما يضادّه من الكذب والبطل. فإذاً درس الحكمة فهو أفضل من سائر الدروس التي يتناولها الناس كمالاً وسمواً ونفعاً وعذوبة.
أما كونه أفضل كمالاً فلأن الإنسان كلّما أكبّ على دراسة الحكمة أصاب من السعادة الحقيقية حظّاً. فإنه مكتوب: طوبى للرجل الذي يتأمل في الحكمة (يشوع بن سيراخ 14:20). وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (البقرة، 2:269)
أما كونه أفضل سموّاً فلأنه دراسة الحكمة يُدني صاحبه بنوع أخص من الشبه بالله الذي “صنع كل شيء بحكمة” (مزمور 104:24)، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون، 23:14). ومن ثم فإن الشبه علة الحبّ فإذاً درس الحكمة يوصل صحاحبه بالله بصلة المحبة. ولهذا قيل: فإن الحكمة كنز للناس لا ينفد والذين اقتنوه كسبوا صداقة الله (الحكمة 7:14). رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (البينة، 98:8).
أما كونه أكثر نفعاً فلأن الحكمة تؤدي الإنسان إلى ملكوت الخلود. فقد قيل: أكرموا الحكمة لكي تملكوا للأبد (الكحمة، 6:21). وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (الأنعام، 6:126)
أما كونه أشد عذوبةً فلأنه ليس في معاشرتها مرارة ولا في الحياة معها غمّ بل سرور وفرح (الحكمة، 8:16). لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (مريم، 19:62).
0.2 الوحي يتضمن بعض العقائد التي يستطيع العقل أن يصل إليها (1:4)
أما الحق المتعلق بالمعقولات الإلهية فهي حقين، حقاً يتوصل إليه العقل ببحثه، وحقاً يتعالي عن مقدرة العقل الإنساني. أما بالنسبة للنوع الأول فلنا السؤال: إذا كان الإنسان الباحث يستطيع أن يتوصل إلى بعض المعقولات الإلهية بمجرد عقله، هل كان تنزيل هذه المعقولات بإلهام إلهي على الإنسان ليصدقه غير مفيداً لا طائل له؟ فنقول لو كان مثل هذا الحق تٌرك لعقل الإنسان تلمُّسه يتفرد وحده بتحصيله لحصل عن ذلك مضارّ ثلاث:
أولها أن معرفة الله لن تكون حينئذ إلاّ في تناول القليل من الناس، إذ إن أكثرهم يُرحمون ثمرة البحث المليّ التي هي وجدان الحقيقة، وذلك لأسباب ثلاثة:
- فإن قوماً ليست لهم الطاقة للعمل الجاد فلا يتمكنون بجهد من الجهود من البلوغ إلى أسمى درجات المعرفة الإنسانية التي هي معرفة الله.
- وقوم يمنعهم من ذلك الاهتمام في أمور الحياة وضرورياتها، إذ لا بدّ من أن يكون بين الناس قوماً ينكبّون على تدبير الأمور الحياتية، وهؤلاء لا يمكنهم أن يصرفوا في التفرغ للمباحث النظرية وقتاً كافياً يترقّون فيه إلى ذرى المطالب الإنسانية كما هي معرفة الله.
- وقوم يتثبط بهم عن هذا المطلب التخاذل والكسل. فإن معرفة ما يمكن للعقل أن يستطلعه عن الله إنما تتقاضي سبق معرفة أمور كثيرة، إذ إن النظر في الفلسفة كلها يكاد أن يكون جميعه موجهاً إلى معرفة الله. ومن أجل هذا نرى أن علم ما بعد الطبيعة الدائر على ما يتعلق بالألهيات جُعل بين أقسام الفلسفة آخر ما يجب تعليمه. فيتعذر، والحالة هذه، التوصل إلى استطلاع الحق المذكور إلاّ بشق النفس وجهد المطالعة الجهيد، وقلّ من الناس من يشأ أن يعاني مثل هذا العمل حباً بالعمل، مع أن الله عز وجل قد غرس في نفوس الناس شهوة طبيعية للعلم.
أما المضرّة الثانية فهي أن الذين وُفّقوا إلى معرفة الحقيقة المذكورة واكتشافها لم يكادوا يحصلون على ذلك إلاّ بعد أمد طويل من الزمان. وذلك لأن هذا الحق هو في بُعد الغور والاعتياص بحيث لا يتيسر للعقل الإنساني إدراكه من طريق الذهن والفطنة إلاّ بعد أن يكون قد وُجد متأهباً لذلك بطويل الممارسة والترويض. ثم لأن معرفة هذا الحق كما تقدم تتقاضى سبق معرفة أمور كثيرة. ثم أيضاً لأن الطبيعة النفسية للشباب إذ تتنازعها حركات الشهوات المختلفة لا تكون صالحة لمعرفة هذا الحق السامي. فإذا لو أن لا سبيل إلى معرفة الله سوى سبيل الذهن والذكاء الإنساني وحده لبقي الجنس الإنساني متخابطاً في أعمق ظلمات الجهل، إذ إن معرفة الله التي تحعل الناس في غاية الكمال والصلاح لا يفوز بها إلاّ النزر القليل من الناس، ولا يحصلها هذا النزر القليل أيضاً إلاّ بعد طويلة من الزمان.
والمضرة الثالثة هي أن أبحاث الذكاء الإنساني يخالطها البطل في الغالب الكثير لسبب ضعف قدراتنا العقلية في أحكامه ولما يتمازج فيه من الخياليات والوهميات التي تحجم قوة العقل. ويحصل البطل أيضاً من دناسة المشيئة، حتى نرى أن علماء مختلفين ممن يدعون حكماء يعلِّمنون أموراً متخالفة متباينة. ولهذا كان لا بُدّ من أن يتلقّن الناس حق الأمور الإلهية من طريق الإيمان بثابت اليقين.
ولذلك قيل: جميع بنيك يكونو تلامذة الرب (أشعيا 54:13). "فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" (البقرة، 2:239).
0.3 الوحي يتضمن بعض العقائد التي لا يستطيع العقل التوصل إليها
لما كانت العناية الإلهية قد أعدت الناس إلى خير أسمى وأبعد من أن يقوى ضعف البشر على الشعور به واختياره في هذه الحياة، وجب استدعاء ذهن الإنسان إلى معرفة شيء من هذا الخير لكي يتعلم أن يتشوقه ويسعى إليه بجهد.
أيضاً فإن معرفة الأشياء السامية مهما كانت ناقصة فإنها تولي النفس كمالاً عظيماً. ولهذا فإن الأمور التي هي فوق طاقة الإدراك الإنساني وإن استحال عليه الإحاطة بها فإنها تكسبه كثيراً من الكمال إن كان، على أقلّ الأمور، يعيرها ضرباً من التصديق اليقيني الإعتقادي.
وعليه قد قيل: ما كشف لك يفوق إدراك الإنسان (يشوع بن سيراخ 3:23). لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (المائدة، 5:109).
إن الذين يعيرون حقيقة الوحي فلا يكون فعلهم عن خفّة وطيش، فإن غوامض الحكمة الإلهية وأسرارها هذه قد تنازلت الحكمة الإلهية نفسها التي أحاطت علماً بكل شيء، فأوحتها إلى الناس تعطفاً. وهي نفسها قد أثبتت وجودها وصدق تعليمها وتنزيلها بما يناسب من البيِّنات والحجج الدامغة، إذ إنها، توكيداً للحقائق التي تفوق طاقة الإدراك البشري، قد أتت على مشهد العين بأفعال تعجز عن الإتيان بمهلها قدرة الطبيعة كلها مجتمعة، كشفاء الأمراض بنوع عجيب وإعجاز ثم بعث الأموات. وما هو أعجب من كل هذا أن قوماً امتسكوا ديناً ينادى فيه بما يفوق كل عقل إنساني ويعلِّم فيه احتقار الدنيويات جميعها. وما هو أعجب من ذلك أنهم فعلوا رغم هول الظالمين وإرهاقهم.
ولذلك قيل: أيّدته شهادة الله بآيات وأعاجيب ومعجزات مختلفة (إلى العبرانيين 2:4). وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (الحج 22:16).
0.4 الوحي والعقل لا يتعارضان
بعض الحقائق مغروسة في طبيعة العقل الإنساني من الثابت المقرر أنها من الحقية والصدق بحيث لا نمكن تصور كونها باطلة كاذبة. والحقيقة التي نتيقّنها تيقن الاعتقاد لكون الله أكّد صدقها بأوضح البينات فلا يسوغ لنا الظن بأنها باطلة. فإذاً لما كان الباطل وحده يضاد الحق، كان من المحال أن حقيقة الإيمان تقع مضادة للحقيقة التي يعرفها العقل ببداهة الفطرة.
أيضاً إن معرفة المبادئ المعلومة عندنا ببديهات الطبيعة إنما غرسها الله فينا، إذ إن الله هو الصانع لطبيعتنا. فكل ما أتى مضاداً لتلك المبادئ فإنما هو مضاد لحكمة الله فيستحيل أن يكون من عند الله.
فيتحصل من هذا واضحاً أن كل ما تؤتى به من البراهين نقضاً لتعاليم الإيمان لا تنتج نتجاً صحيحاً عن المبادئ الأولية المغروسة في الطبيعة بل عساها تكون من الأسباب المفيدة للظن فقط أو من السفسطائيات ولهذا فيبقى مجال لحل أشكالها.
0.5 منهج الفلسفة في تعرضها لمسائل الدين
الحق المتعلق بالإلهيات نوع منه من وراء طاقة كل عقل إنساني وهو مجلة الوحي. أما نوع آخر فهو الذي يمكن للعقل أن يتواصل إليه ببحثه ونظره. وأما النوع الثاني، وهو الحق الذي يقر به الإيمان ويجيل العقل فيه نظر البحث، فهو موضوع هذا الكتاب. وسنورد من الأدلة الإثباتية والمحتملة ما اقتطفنا بعضه من كتب الفلاسفة القدماء، مما يقرر به الحق ويُقحم به الخصم.
ولما كان قصدنا سوق الكلام عن طريق العقل إلى تفحص كل ما يتسنى للعقل الإنساني إجالة النظر فيه عن الله، كان أول ما يتبادر للذهن البحث عن ماهية ذات الله، وعليه مدار الجزء الأول من هذا المؤلف. وثانياً يليه الحديث على صدور الخلائق عنه تعالى وقد علّقنا له الجزء الثاني. وأخيراً نعقّبه بالكلام على انتظام المخلوقات إلى الله انتظامها إلى غايتها، وهو موضوع الجزء الثالث
ومن المباحث الدائرة على الله باعتباره في ذاته مبحث له حق التصدر فيها على أنه الأساس الضروري لهذا المؤلف وهو البحث الذي يبين فيه وجود الله فإن أُسقط هذا البحث أو دقع تضعضعت كل المباحث الدائرة على الأمور الإلهية.
الجزء الأول: وجود الله وصفاته
1.1 الرأي أن وجود الله من القضايا الأولى التي لا تحتاج إلى برهان
إن هذا البحث الذي تُحاوَل فيه إقامة البرهان على أن الله موجود لربما خُيّل أنه بحث فضولي لا طائل فيه للذين يؤمنون أن كون الله موجوداً هو من البيان في ذاته بحيث لا يمكن لمتصور أن يتصور ضده وعليه فكون الله موجوداً لا يمكن إقامة البرهان عليه. وإنما خُيّل لهم ذلك للأسباب الأنية:
للقديس أنسلم): إن القضايا التي يقال إنها بينة بذاتها إنما هي التي إذا عُرفت أطرافها عُرفت هي للحال كما إذا عُرف أن الكل ما هو والجزء ما هو عُرف للحال أن كل كل أعظم من جزئه، وقولنا الله موجود إنما هو كذلك، لأننا نفهم بهذا الاسم الكريم “الله” شيئاً لا يمكن أن تُتصور شيء أعظم منه وهذا المفهوم إنما يحصل في ذهن من يسمع هذا الاسم ويتعقله، حتى صار من الواجب أن يكون الله متحقق الوجود، كأن ما يستدل من الاسم نفسها قد أوضحته.
- إن وجود الله هو نفس ذاته ومن ثم فالجواب على السؤال عنه تعالى “أي شيئ هو” وعلى السؤال “هل هو” واحد بعينه. فإذاً إن قيل "الله موجود" فالمحمول يكون إما نفس الموضوع أو لا أقل من أن يكون منطوياً تحت حد الموضوع. وهكذا يكون قولنا “الله موجود” معلوماً بذاته.
- أيضاً فإن الأشياء التي تُعرف بالطبع إنما تعرف بذاتها لأنها لا يُتوصل إلى معرفتها بجهد الطلب. وكون الله موجوداً معلوم بالطبع إذ إن شوق الإنسان منصرف من طبعه إلى الله انصرافه إلى غايته القصوى. فإذاً قولنا الله موجود معلوم بذاته.
- أيضاً إن ما يُعرف به جميع ما سواه يجب أن يكون معلوماً بذاته. والله كذلك، لأنه كما إن نور الشمس هو مبدأ كل إبصار حسّي فكذلك النور الإلهي هو مبدأ لكل معرفة معقولة، إذ إنه تعالى إنما هو ما يوجد فيه النور الأول المعقول بالوجه الأفضل. فيجب إذاً أن يكنون قولنا “الله موجوداً” معلوماً بذاته.
هذا فبناءً على هذه الأسباب وأشباهها قد ظن البعض أن “كون الله موجوداً” هو من كمال المعلومية بالذات بحيث لا يمكن للذهن أن يتصور خلاف ذلك.
1.2 الرد على هذا الرأي
إن الرأي المذكور إنما ينشأ جزءاً عن العادة التي ألفوها منذ النشؤ في أن يسمعوا اسم الله ويستدعوه فإن العادة وخصوصاً ما كان منها حاصلاً في الصغر تستفيد قوة الطبيعة. فيحصل عن ذلك أن ما أُشربته النفس منذ سن الطفولية تستمسك به استمساكاً وثيقاً كأنه طبيعي لها وبيّن بذاته.
ويصدر جزءاً عن عدم التفرقة بين ما هو معلوم بذاته بمعنى الإطلاق وبين ما هو معلوم بالقياس إلينا. فإن كون الله موجوداً إنما هو معلوم بذاته بمعنى الإطلاق إذ إن هذا نفسه أي “ما هو الله” هو عين وجوده. ولكن لما أن هذا، وهو “ما هو الله”، لا يمكننا أن ندركه بالذهن فإنه يبقى مجهولاً عندنا.
أما جواباً للحجة الأولى فلا يلزم عن معرفة معنى هذا الاسم الكريم، أي الله، معرفة كون الله موجوداً معرفة معيّة وفي الحال. وذلك أولاً لأن هذا أي “كون الله شيئاً لا يمكن أن يتصور أعظم منه” ليس معلوماً عند الجميع حتى عند الذين يسلمون بأن الله موجود فإن كثيراً من الأقدمين قد زعموا أن هذا العالم هو الله. ثم لأنه ولو سلمنا مجاراةً أن هذا الاسم “الله” إنما يراد به عند الكافّة مسمّى لا يمكن لمتصور أن يتصور أعظم منه، فلا يلزم عن ذلك ضرورةً أنه يوجد في طبائع الأشياء شيء لا يمكن أن يتصور أعظم منه، فكون الذهن يتصوره لا يلزم عنه إلاّ أن يكون في الذهن. وكونه في الخارج يلز أن يُبرهن.
أما جواباً للحجة الثانية فكما كون الكل أعظم من جزئه هو بيّن لنا بذاته، فكذلك الذين يشاهدون ذات الله نفسها كونه موجوداً هو عندهم في غاية البيان من أجل أن ذاته عين وجوده ولكن لإنه ليس بإمكاننا أن نرى ذات الله، كنا أننا نتوصل إلى معرفة وجوده لا بذاته بل بمعلولاته.
وجواب الحجة الثالثة فواضح أيضاً. فإن الإنسان إنما يعرف الله بالطبع على النحو الذي يميل إليه بالطبيعته. والإنسان يشتاق إلى الله بالطبع من حيث يشتاق بالطبع إلى سعادته التي هي شبه من أشباه جودة الله وخيريته. ومن ثم كان الواجب على الإنسان أن يتوصل إلى معرفة الله بطريق الاستدلال والبرهان من أشباهه التي يجدها في مخلوقاته.
وأما الحجة الأخيرة فسهل حلها. فإن الله إنما هو ما يُعرف به كل شيء ولكن لا بمعنى أن ما سواه لا يعرف إلاّ إذا عُرف هو كما يحدث ذلك في المبادئ التي هو بيّنة بذاتها، بل لأن كل معرفة فينا إنما هي مسببة عن فعله وفيضه.
1.3 الراي أن وجود الله لا يُعرف إلا بالإيمان، والرد على هذا الرأي
لقد ذهب البعض الآخر مذهباً مضاداً للمذهب المتقدم شأنه أيضاً، بأن جعل دأب الجاهدين في إثبات وجود الله لغواً لا فائدة فيه إذ يقولون إن كون الله موجوداً حقيقة لا يمكن للعقل تحصيلها ولكنه يتلقنها بطريق الإيمان والوحي. وهذا الرأي أكثر مشهور عند فلاسفة الدين في العصر الحديث.
وبعض هؤلاء قد حملهم على هذا القول ضعف الأدلة التي كان يوردها البعض لإثبات وجود الله. وقد حملهم أيضاً على هذا القول الشك العام في امكانية العقل أن يعرف أي شيء باليقين. فينفي الفلاسفة المثاليون قدرة العقل أن يعرف ذات أي شيء أو أن يعرف ارتباط السبب والمسبب. فنفيهم امكانية استدلال وجود الله ليس إلاّ تطبيق واحد لموقفهم العام الذي هو نفي قدرة العقل أن يعرف وجود أي شيء أيما كان أو أن يتبرهن أي شيء على العالم.
ويقول بعضهم أيضاً، إن كانت مبادئ البرهان الإثباتي تستمد مصدر معرفتها من الحواس، فيشبه أن يكون ما يفوق جميع الحواس والمحسوسات غير قابل البرهان. وكون الله موجوداً هو كذلك. فإذاً لا يقبل الإثبات.
والبعض الأخر، موافقون الفلاسفة واللاهوطيين في أننا لا نستطيع أن نعرف ما هو الله ولا نستطيع أن نحدده، يستنتجون أننا لا نستطيع أن نستدل وجوده. وهذا لأن مبدأ كل برهان حد الشيء.
وأما فساد هذا المذهب فإنه يتبيّن لنا أولاً من صناعة البرهان فإنها تعلّمنا استنتاج العلل من المعلولات. فلو لم يكن فوق الجوهر المحسوس جوهر معلوم لما كان يوجد علم فوق العلم الطبيعي. ولكن كان فلاسفة من الزمن العتيق يحاولون إثبات كون الله موجوداً. وكذلك نقرأ: منذ خلق العالم لا يزال ما لا يظهر من صفاته، أي قدرته الأزلية وألوهته، ظاهراً للبصائر في مخلوقاته (إلى أهل رومة 1:20). وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (الفرقان، 25/21-22).
أما المخلوقات فإننا نعرفها وكيف هي علل بعضها لبعض أو معلولات. ولا نستدل وجود الله من ذاته وماهيته التي نجهلها، بل تُتخذ المعلول حداً وسطاً في البرهان. وهكذا نعرفه معرفة صحيحة ولو مكتملة، لأن جميع الأسماء الإلهية الحسنى إنما مأخذ وضعها إما من رفع نقصات المعلولات وسلبها عنه وإما عن نسبة من نسب الله إلى معلولاته.
وإن كان الله يفوق كل المحسوسات وكل حس فمعلولاته التي يستمد منها البرهان لإثبات وجوده تعالى إنما هي مع ذلك واقعة تحت الحواس وعلى هذا النحو تكون معرفتنا من الحس مصدر معرفتنا حتى في الأشياء التي تفوق الحواس.
1.4 استدلالات ناقصة في مسألة وجود الله
حجة القديس أنسلم
حجة القديس أنسلم بأن وجود الله معلوم من نفسه ك الشيء الذي لا يمكن أن تُتصور أعظم منه قد عرضه بعض الفلاسفة من جديد، مثل ديكرت وليبنتز وهيغل، تحت اسم “الحجة ذات العلاقة بالوجودية”. وكفى تفنيده عن القديس توما. أما اليوم فلا يدعم هذه الحجة أي مفكر جاد.
الحجة الأشعرية
وعرض المتكلمون الأشاعرة حجة أخرى، تستند على المقدمة أن العالم يلزم أن يكون له بداية وقتية. وإذا حدث بعد العدم فيجب أن يُحدثه بارئ أزلي على كل شيئ قدير. وحاولوا أن يستدل حدوث العالم من استحالة سلسلة غير متناهية من أدوار الليل والنهار وتولد الإنسان والحيوانات. وبذلك يستنتجون أن العالم حادث.
أما ضعف هذه الحجة هو المقدمة أن سلسلة حركات غير متناهية مستحيلة. فتلك السلسلة ليست لامتناهة بالفعل بل بالقوة فقط. في أي وقت لا يوجد إلاّ عدد متناه من الأشياء. فإننا لا نستطيع أن نبرهن أن العالم حادث أم لا، وإنما نعرف حدوث العالم من الوحي، كما سنبينه في الجزء الثاني من هذا الكتاب، في الحديث عن الخلق.
الحجج من الحركة والسببية الفعالية
يقول القديس توما أن حجة الحركة، التي عرضها أرسطو، هي أوضح الحجج، وهي كما يلي: إن كل ما يتحرك إنما يُحرَّك عن غيره. والحس يشهد لنا أن شيئاً يتحرك كالشمس مثلاً. فإذاً هو محرَّك عن محرِّك آخر. فهذا المحرِّك إذاً إما أنه متحرك أو لا. فإن لم يكن متحركاً، فهذا هو الغرض المقصود، أي أنه لا بدَّ من وضع شيئ محرِّك غير متحرك. وهذا نسميه الله. وإن كان يتحرك فهو إذاً متحرك عن محرِّك آحر. وحينئذ فإما أن يجري التسلسل إلى ما لا ناية، وإما أن يجب الوصول إلى محرِّك غير متحرك. والتسلسل ممتنع. فإذاً لا بدَّ من وضع شيئ أول محرِّك غير متحرك.
وفي هذا الاستدلال قضية أن كل متحرك فإنه محرٌّك من غيره. وحاول أرسطو أن يثبتها مشيراً إلى أنه، إن كان شيء يحرِّك نفسه، مثل الحيوان، إنما يتحرك عن جزئه والجزء الواحد يتحرك عن الآخر، كما يتحرك الحيوان بحركة رجله، وأخيراً بالنفس التي هي الصورة المحيية للحيوان. والحركة الطبيعية تختلف عن الحركة بالقسر التي مصدرها فاعل خارجي. إنما الحركة الطبيعي، كسقوط الثقيل عند رفع العائق، من الصورة الجوهرية للشيء الذي هو مبدأ الحركة الذي حصل للشيء من ولادته. أما فاعل الحركة فهو المولِّد الذي أوجد الشيء بصورته. وبعد الولادة لا يتوقف حركة الشيء عن الفاعل ولكن يتحرك ذاتياً. وأما القضية العامة فهي صحيحة أن الحركة “فعل ما هو موجود بالقوة من حيث هو كذا”. فكل ما يحرَّك إنما هو بالقوة، وكل ما يحرِّك فمن حيث هو محرِّك إنما هو بالفعل. ولذلك كل ما يحرَّك يحرَّك عن غيره.
ولاستدلال أرسطو قضية ثانية وهو أن يمتنع التسلسل في المحرِّكات والمحرَّكات، لأنها جارية على ترتيب ونظام، يعني الواحد منها يتحبك عن اللآخر على ترتيب منتسق. فإذاً إن رُفع المحرِّك الأول أو توفق عن التحريك فلا يعود ولا واحد منها يحرِّك ولا يحرَّك، لأن الأول فيها هو علة لتحرك جميع ما سواه. ولو كانت سلسلة لا متناهية لم يكن فيها محرِّك أول فإذاً يمتنع على كل واحد من الباقين أن يحرِّك أو يحرَّك، فلا يكون شيء متحركاً في العالم.
ويظهر سياق هذا الاستدلال من كتاب أرسطو “السماء والعالم”، حيث يبيّن أن كل أشكال الحياة الموجودة على الأرض تعتمد على الشمس، فحركتها من مواضع مختلفة تسبب الريح والمطر والحرارة، وعن طريق هذه يحصل كل الحركة على الأرض. ولأن أرسطو اعتقد أن العالم أزلي، درّس أيضاً أن الشمس غير فاسدة، فتحرِّر ولكن ليست هي بحارّة أو متوقدة. ودرّس كذلك أن حركة الشمس حول الأرض (تابعاً للبطولمايس) ليست بطبيعية مثل حركة الثقيل، بل تحتاج الشمس إلى تحريك متجدد لتواصل تتحرك. ولم يكن أرسطو يتفكر البتة في قوة دافعة (أو القصور الذاتي) منشأة في القذيفة. فهذه القوة صفة عرضية، مشابهة للثقل الذي هو صفة باقية، والاثنتان مبدآ الحركة، فالثقل صفة باقية، أما القوة الدافعة فهي عرضية تعيقها العوائق. (ويتكلم القديس توما عن القوة الدافعة في شرحه على السماع الطبيعي لأرسطو، ولكن لم يطبقها على أجرام السماوية). فأيقن أرسطو أن لا وجود قوة كافية أن تحرِّك الشمس وسائر الأجرام السماوية إلى الأبد إلاّ إذا كانت لامتناهية. ولكن يستحيل أن تحصر قوة لامتناهية في أي جرم. فإذاً يجب أن تكون المحرِّكات للأجرام السماوية أرواح. وهذه الخدمة للأرض تحملها هذه الأرواح تبعاً لمبدأ العالم، الله.
وعالم أرسطو هو سلسلة محرِّكات متوافقة على روح يأثرها دائماً. أما بإدخال فكرة القوة الدافة، فنفهم أن لا فرق بين حركة الجسم السماوي وبين حركة القذيفة. فإن الأقمار الطبيعية والصناعية لها منتجهان، واحد من دفع القذيفة والآخر من الثقل. فاستواءهما يقضي إلى الحركة الدورية. وليس لها حاجة إلى أي تحريك بعد القذف الأصلي، فإذاً ليس حاجة إلى افتراض محرِّكات روحية تطرد الأجرام السماوية، لأنه بعد تحريكها الأول تتحرك بأنفسها كالكرحة الطبيعية التي لا تحتاج، بحسب تعليم أرسطو وتوما الأكويني، إلى أي علة فاعلة هنا والآن.
والمبدأ “Quidquid movetur ab alio movetur” ليس معناه أن “كل ما يتحرك إنما يحرَّك عن غيره”، ولكن :“كل ما يحرَّك يحرَّك عن غيره.” والعلم الطبيعي العصري يظهر أن الأجرام السماوية قد حُرّكت في الماضي البعيد ولا تحتاج إلى قوة إضافية لتواصل في الحركة. فإذاً استدلال وجود الله من الحركة، كما بناه أرسطو، ليس له قيمة برهانية. وإذا حاولنا أن نتبع سلسلة المحرِّكات تمتد في الماضي، لن نصل إلى شيء يقين.
أما حجة توما الأكويني الثانية لاستدلال وجود الله فهو أنه لا يمكن لسلسلة علل فاعلية أن تمتد إلى ما لا ينتهي، ولكن يجب أن يكون مصدرها العلة الفاعلة الأولى، وهي الله. وهذه الحجة ليست إلاّ عبارة أخرى للحجة من الحركة تستعمل أفكار ما بعد الطبيعة في قول أوسع الامتداد. ولها نفس الضعف كالحجة من الحركة، لأن كل سلاسل العلة التي نعرف في العالم الحسي فيها معلولات معتمدة عرضياَ عن علل ماضية، كما يعتمد الطفل على والديه للكون ولا للوجود المستمر.
والبعض من شارحي توما الأكويني يحاولون أن يفصّلوا حجته الأولى من سياقه الطبيعي ويفسّرونه بمعنى متافيسيقي أوسع، كأنه “التحريك الأولي الإلهي” الذي يسابق ويرافق كل حركة. وإنما عند توما كلام عن هذا النوع من التحريك في غير هذا الموضوع. وأما حجته لاستدلال وجود الله من الحركة فإنما هي نظرية تنيب إلى العلم الطبيعي بحسب ما فهمه في عصره.
1.5 استدلالات برهانية لوجود الله
حجة من الامكانية
أما حجة توما الثالثة لإثبات وجود الله فإنها مبنية على التمييز بين ما هو واجب الوجود وبين ما هو ممكن الوجود. فإننا نجد أشياء تتكون وتفسد، وهذا يدل على أنها ممكنة الوجود وممكنة العدم. ولا يمكن أن تدوم إلى الأبد لأن ما يمكنه أن ينعدم سينعدم يوماً ما. ثم إن كان كل شيء ممكن الانعدام فقد لم يكن شيء يوماً ما. وفي هذه الحالة يُمتنع كون أي شيء، لأن كل ما يتكون يجب أن يصدر من شيء آخر. فإذاً لأنه الحال أن يوجد أشياء، يلزم أنها تتوقف على شيء واجب الوجود. وبعض الأشياء، مثل الملائكة وأنفس البشر، ليس لها مبدأ الفساد لأنها لا هيولانية، ولكن وجودها، لأنه ليس ضروري، يلزم أن يتوقف على ما هو واجب بالإطلاق، وهذا نسمّى الله.
وهذه الحجة تتوقف على قضية التمييز الواقعي بين ذات الشيء ووجوده عموماً إلاّ في الله. وهذه القضية معروفة عند ابن سينا، كما كانت متواجداً أيضاً قبله عند بويثيوس وأرسطو، ولو أقل وضاحة عند هذا الأخير. أما كل الأشياء التي نعرفها فذواتها في القوة إلى فعل الوجود، والوجود قد يكون وقد ينعدم. فإذاً كل هذه ممكنة الوجود، تتوقف دائماً ومباشرة على تأثير الفاعل الذي يتواجد بذاته، يساندها في الوجود. وهذا التوقف المباشر على الواجب الوجود لا ينفي توقفها على على علل طبيعية لكونه، ولكن العلل الطبيعية لا تسبب إلاّ كون الذات الفردية، مثل القطوس فهو يكثّر ذاته في أنساله ولكن لا يعطيها وجودها ولا يساندها في وجود. أما الوجود فإنه أعمّ الصفات فيلزم أن ينتسب إلى أعم العلل وهو الله.
ووجود كل شي يتوقف مباشرة على الله، لا في جوهره فقط بل في جميع صفاته وأعراضه وحركاته وتأثيره في أشياء أخرى. وهكذا الله يعطيه القوة للفعل ويحفظها ويُعمِلها ويدخل العمل نفسه بتأثيره. ولكن تأثير الله لا يحل محل الطبيعة في مستوى تأثيرها الخاص لها، وإنما يستعملها كآلته.
والفرق الأصلي بين الممكنات وبين واجب الوجود هو القوة التي توجد في الممكنات. أما الله فهو فعل تامّ. وينتج من هذا أيضاً، كما حاولت أن تظهر الحجة من الحركة، أن الله غير متغير وغير متحرك على الإطلاق، لأن كل تغير أو حركة تصدر من القوة إلى الفعل.
وحجة الامكانية تفترض إنّية العلية وإمكانيتنا أن نعرفها على مستوى الطبيعة الحسية وعلى مستوى ما بعد الطبيعة، وهذا ضدّ موقف الفيلسف هُوم الذي ينقض كل علية و ينسبها إلى الترتيب الزمني للأشياء.
الحجة من ترتيب الكمالات
مسلك توما الرابع لاستدلال وجود الله مخهوذ من مستويات الوجود. فتختلف الأشياء في الجودة والكرامة وغيرها من الكمالات. أما الأكثر والأقل في أي نوع يدلاّن إلى ما هو أكثر بالإطلاق. فإذاً يجب أن يكون ما هو جيد وحق وكريم بالإطلاق، وهو إذاً الوجود بالإطلاق، لأن الجودة والحق والوجود مترادفة. وإنما ما هو الأكثر في الجنس هو علة ما هو أقل في نفس الجنس. وهكذا يجب أن تكون علة للجودة والحق والوجود التي توجد في كل الأشياء. وهذه العلة نسمى الله.
بينما الحجة الثالة تُبنى على فعل الوجود، هذه الحجة تبنى على الكمالات الذاتية المنتشرة في أنواع الوجود المختلفة. فلكل أنواع الموجودات كمال محدد، وهذا يدل لا إلى إمكانية وجوده فقط ولكن أيضاً إلى توقفه على الذات الكاملة وإلى مشاركة في كمالها، لأن الله تعالى له كل هذه الكمالات بالمستوى الأعلى (ولا مفرقة عن وجوده). ولهذا الله فاطر كل نوع الطبيعة وواضع تصميمه، وإن أفراد كل نوع علل تكثّر أفراد ذلك النوع بالتناسل الطبيعي.
حجة التصميم
ومسلك توما الخامس مخهوذ من التصميم. وقد استعمله القديس يوحنّا الدمشقي وكرره ابن طفيل (في حي بن يقظان) وابن رشد (في تهافت الفلاسفة وفي مناهج الأدلة). فإن الأشياء الطبيعية، بالرغم أنه ليس لها عقل، تعمل لغرض. وتعمل هكذا دائماً أو عادة وفي نمط واحد، وهذا يدل على أنها لا يعمل بالاتفاق بل بالسليقة. ولأنه ليس لها عقل يرشد نيتها، بقي أن يهديها عقل خاجي يوجّه كل شيء إلى غرضه الخاص. وهذا نسمى الله.
وهذه الحجة مبنية على نوعين من التصاميم ليس لنا سهل أن نقول أيهما الأعجب. فالأول هو ترتيب أجزاء الشيء الواحد الطبيعي، فإذا فحصنا جسم الإنسان أو حشرة أو اسطاقساً، نجد ترتيباً معقداً للأجزاء والعناصر والجسيمات، كلها تعمل معاً لسلامة الكل. وأكثر ما يدرس فلان علم الأحياء وعلم الكيمياء فأكثر ما يندهش من التصميم الموجود في الطبيعة.
ونوع التصميم الثاني هو تنظيم اشياء العالم ليخدم بعضها ويكوّن نمط الحياة على الأرض. فإنه من طبيعة الموز مثلاً أن يعطي ثمره، ولكن ليكون هذا الموز طعام القرد والإنسان، هذا غرض ثاني. فتظهر الدراسات العصرية أكثر فأكثر ميزان أشياء العالم، وهو نظام منعقد بين أنواع الكائنات الحية وغير الحية، حتى يتعجب الناظرون. فلاحظ توما الأكويني أن الأشياء المتضادّ والمتعارض لا تستطيع أن تعمل في نظام واحد إلاّ تحت حكومة رئيس يرشد كل واحد إلى هدف معيّن. وهذا ما نجده في هذا العالم. فإذاً يلزم أن يكون الله الذي يحكم العالم بعنايته الحكيمة.
وقد صارع هذه الحجة بعض المفكرين بمعارضتين. والأولى هي نفي وجود الأغراض في الطبيعة ونفي فائدة استعمال الغية في البرهان. فإن تابعي داروين يرفضون وجود العلة الغائية وأي هدف أو غرض في الطبيعة، يشرح كل ما يحدث كبقاء الأقوى في تطور الأنواع الطبيعية ونظام العالم. أما ردّاً على هذه المعارضة، فنظام العالم بيّن أكثر من أن يقدر أن يُنفى. وعمل العلم الطبيعي هو أن يبيّن المحسوسات بأكثر الدقة، لا أن ينفيها.
والمعارضة الثانية من وجود الشر في العالم. فإن الأفراد يقاسون المرض والتشوه والموت، وفي العالم زلازل الأرض وكثير من الكوارثت، حتى كانت الحياة الإنسانية موضع الاتفاق. أما ردّاً على هذه المعارضة فكفانا أن نقول الآن إن اعتراف كل هذه الأشرار يفترض أن السلامة والصحة هما النموذج. وسنناقش مسألة الشر في ما بعد، في مسألة العناية الإلهية.
1.6 صفات الله السلبية
بعد أن بيّنا أنه يوجد الله فيتعين علينا أن نبحث عن أحواله. وهنا علينا أن نتخذ خاصة طريق السلب، لأن جوهر الله تترفع عظمته عن كل ما نعرف. لا نستطيع أن نتقرب من معرفة ما هو في ذاته. ولكن كلما تيسّر لعقلنا الإكثار من السلوب عنه ازددنا تقرباً من معرفته، فهكذا نميزه أكثر فأكثر عن غيره. وهذا طريق السلب يختلف عن معرفتنا للأشياء الدنيوية حيث نبتدأ من جنسها ثم ننقدم إلى معرفة الفصول بأكثر فأكثر الدقة.
وصفة الله السلبية الأصلي هي أنه لا يلحقه تغير البتة. وهذا ما يأيّده السمع: إني أنا الرب لا أتغير (ملاخي 3:6). هو لا تبدل فيه ولا شبه تغير (يعقوب 1:17). كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ (القمر 55-56).
ومن هذا يتضح أيضاً أن الله سرمدي، وهذا لأنه لا يتغير، فلا نحدث وجوده ولا يتبدل ولا ينعدم. ولأنه ينتزه عن الحركة والتغير ينعزل كذلك عن الزمان الذي هو عدد الحركة. فإذأ ليس يجوز أن يُعتبر فيه متقدم ومتأخر. وله وجوده كله معاً بلا أي تعاقب، وهذا إنما هو حقيقة السرمدية. وهكذا نسمع: وأنت يا رب جالس للأبد وذكرك باق إلى جيل فجيل وأنت تبقى.. وسنوك لا تنتهي (مزمور 102). كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (القصص 88).
كذلك ليس في الله القوة المنفعلة، وهي إمكانية التغير. وإنما الله الأول الواجب الوجود، وكله فعل، وليس بقابل الانفعال والتغير البتة.
ويتضح أيضاً أنه تعالى ليس بمادة، لأن المادة ما هي إنما هو كونها بالقوة وإمكانية التغير. ولذلك يُمتنع أن يكون الله مادة أشياء أخرى أو جوهرها، كما تفتكر كل تيارات وحدة الوجود. واليوم نجد عدداً الحركات الدينية تدرس أن الإله قوة تتخلل العالم، وأنها أكثر تأثيراً حيث يوجد وعي، وخاصة في العقول المطهَّرة من الاضتربات الحسية والتي تنظر إلى داخل أنفسها لتشاهد الإله الذي هو نفس الناظر. وبحسب تعليم هذه الأديان الهدف الحقيقي للإنسان هو أن يعود إلى أصله الإلهي ويفنى فيه. أما ردّاً على هذا الفكر نقول إن الله خلق العالم كعلة فاعلة وغائية فقط، لم يخرج منه أي مادة لتصبح جزء المخلوق.
ويمكن أن يُستخلص مما تقدم أن الله لا تركيب فيه، لأن أجزاء المركَّب إنما هي في القوة لفعل الاتحاد الكلي، وأيضاً إنما الكل هو في القوة أن يحل إلى أجزاءه. وإيضاَ فلو كان الله مركباً لكان له مركِّب إذ لا يمكنه أن يركِّب نفسه إذ ليس يكون شيء علة لنفسه وإلاّ لكان متقدماً على نفسه وهذا محال. ولذلك يجب أن يكون الله في أقصى درجة من البساطة الكاملة، يوجد كل كماله في جوهره غير المتجزأ ولا مبدد في أجزاء ناقصة بالنسبة للكل.
وكذلك ليس في الله شيء قسري ولا ما هو دون الطبيعة، لأنه لو كان كذلك لكان شيء مزيد عليه، لأن ما كان من جوهر الشيء فيستحيل أن يكون قسرياً أو دون الطبيعة، وما من شيء بسيط له في نفسه شيء مزيد عليه إذ يلزمه حينئذ التركب منه. فإذاً لما كان الله بسيطاً كان من المستحيل أن يكون فيه شيء قسري ودون الطبيعة. وأيضاً فإن القسري ما كان مبدأه من الخارج، وهو واجب الوجود غير قابل الحركة البتة.
وهو ليس بجسم، لأن كل جسم مركب وله أجزاء، والله ليس مركباً وهو فعل محض صرف ليس له أي قوة انفعالية. وأيضاً إن كل جسم إنما هو متهاه ومتحرك، والله ليس كذلك. وأيضاً فإن الجسمية أقل الكمال وفوقها الحياة والعقل، ولا يليق أن يكون لله مرتبة الشرف الدنيى. فإننا نسمع: إن الله روح فعلى العباد أن يعبدوه بالروح والحق (يوحنا 4:24). لملك الدهور، الإله الواحد الخالد الذي لا يُرى، الإكرام والمجد أبد الدهور (1 طيموتاوس 1:17). ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى 10-11).
ولا اختلاف بين الله وماهيته، فإنه نفس ذاته ونفس ماهيته. ونحن لسنا كذلك، لأننا لسنا نفس إنسانيتنا ولكن شخصيتنا الفردية زائدة على الإنسانية المشتركة لكل الناس. وفرديتنا تُبنى على مادتنا العديدة. أما الله فليست له مادة وليس له شيء زائد على ذاته لأنه غير مركب. وأيضاً إن ما ليس عين ذاته فنسبته إليه باعتبار شيء منه نسبة القوة إلى الفعل ولكن الله ليس فيه شيء من القوة. فإذاً يجب أن يكون الله عين ذاته.
ولا اختلاف بين وجود الله وذاته، ولو كان كذلك لم يكن واجب الوجود ولتركب من القوة والفعل ولتوقف على فاعل تركيبه، ولكن هو العلة الأولى. فإذاً الله هو نفس وجوده. فنسمع: فقال الله لموسى: أنا هو من هو، وقال كذا تقول لبني إسرائيل: أنا هو أرسلني إليكم (الخروج 3:14). اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (البقرة 255).
وليس في الله عرض، لأنه نفس وجوده وفعل تامّ، فيستحيل أن يشترك في شيء زائد كعرض. وأيضاً تفترض الأعراض قوة قبولها والتركيب والتغير والتوقف على فاعل خارجي. وأيضاً فكل ما هو في الله فهو على أسمى نوع من الشرف، وما هو نفس الشيء فهو موجود له على أكمل نوع من الوجود. فبقي إذاً أن الله إنما هو كل ما هو له. ثم أجمع على هذه الحقيقة ابن سينا وابن رشد وغيرها من الفلاسفة المسلمين وكذلك المعتزلة من المتكلمين. أما الأشاعرة فإنهم يزعمون أن في الله بعض معان أي صفات زائدة على ذات الله، وإن كانت غير منفصلة عنه.
ولا يمكن أن يزاد على وجود الله شيء يعينه كما يتعين الجنس بالفصول، فالإبارتان: “الله الوجود الأعلى و“الإنسان حيوان، ناطق” ليستا مقارنتين، لأن “ناطق” فصل، ولكن “الأعلى” ليس بفصل. ولو كان وجود الله يتعين بفصل لكان جوهره ناقصاً وبالقوة بالنظر إلى الفصل الذي يعيّن ذاته ويقوّم حقيقته.
والله ليس مندرجاً في جنس ما، مثل الموجود إذا فهمناه كمعنى مشترك على السواء في لله وكل الأشياء الأخرى. فإنما لا يوجد أي جنس بنفسه، مثل الحيوان، ولكن يحتاج إلى فصل يعيّنه لهذا أو ذلك نوع الحيوان. أما الله فليس له فصل. وأيضاً لا يستطيع الموجود أن يكون جنساً لأن الموجود لا يمكن أن يُقصر شموله على النوع إلاّ بالموجود ويمتنع أن يكون الفصل غير داخل في مفهوم حقيقة الموجود. ولا يمكن أن يندرح الله في جنس الجوهر أو الذات، لأنه لا ماهية ولا جوهر له سوى وجوده. فإذاً لا شيء مشترك في ذاته تعالى وذوات الأشياء الأخرى.
ومن هذا يهتج أيضاً أن الله لا يمكن تعريفه، لتركب التعريف من الجنس والفصول. ويتضح أيضاً أنه لا يمكن أن يُقام على الله برهان إثباتي ما لأن مبدأ التبرهن إنما هو تعريف نفس الشيء الذي يُقام عليه البرهان، خلا البرهان من المعلول.
والله ليس الوجود الصوري لجميع الأشياء، كما يقول الذين يزعمون أن كل شيء الله، وبعضهم ثنائيون، يقولون أن الله هو القوة الفعّالة في العالم أما المادة فتخففها ويُضعفها، فيلزم على الناس أن يطهِّروا أنفسهم مما هو مادي لكي يتقوّوا بالقوة الإلهية.
ولو كان الله وجود العالم أو قوته الفعّالية لكان جميع الأشياء واحداً بلا تميز بعضها عن بعض، لأن التميز من الذوات الخاصة. ولا يمكن أن أشياء العالم تكون الوجود نفسه لأنها تحدث من صورها وعن فاعلات من الخارج. وأيضاً لو كان وجود الله صورة الكافّة لكان إذاً إما كون وفساد في الله أو لم يكن كون وفساد البتة لأن الله فعل تامّ. ولكن نسمع: أنت يا رب علي على الأرض كلها، متعال جدّاً على الآلهة جميعهم (مزمور 97:9). فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون 116).
ومما حمل بعض الناس إلى هذا الضلال أوله هو سوء فهم بعض نصوص المقدسة، مثل: فيه حياتنا وحركتنا وكيانتنا (أعمال الرسل 17:28)، ليكون الله كل شيء في كل شيء (1 قورنتس 15:28). أما تفسير هذين النصين هو أن الله العلة الفاعلية والغاية لكل شيء لا تفارق معلولها البتة، وله كل شيء مبين.
وثانياً فإن لبعضهم ارتباك في فهم مبادئ العالم الأساسية. فبعضهم يخلطون بين الوجود الإلهي، الذي هو الفعل التامّ، والوجود المنطقي الذي هو فكر عامّ مشترك للكل، وهذا مفهومنا الأبسط الأولي الأفقر يحتاج إلى زيادة الجنس والفصل ليدل على شيء وجودي. أما البعض الآخر فيطلبون المبدأ الأبسط للطبيعة، ويفهمونه كقوة فاعلية ما، تفترق بحسب المادة التي تقبلها. وهذا الرأي لا يحترم منصب صور الأشياء الخاصة في تعيين ماهية طبيعة الشيء، ولا تميّز قوة الله الفعلية القائمة بنفسها وقوة جسيمات الاسطقسات القابلة للانفلاق والصهر.
أما الله فلو كانت الألوهية هو الوجود الصوري لجميع الأسياء لم تكن فوق جميع الأشياء بل بين جميع الأشياء، أو شيئاً منها. ولكن وجوده إنما يتميز عن جميع ما سواه بهذا نفسه وهو أنه يستحيل أن يزاد عليه شيء.
وكذلك الله ليس بصورة جسم ما، كأنه نفس للعالم، لأنه هو نفس الوجود الذي لا يقبل زيادة من الخارج. وأيضاً فإنما الصورة ليست إلاَ جزءاً للمركب من المادة والصورة.
وكذلك الله ليس برقم، كما يزعم تابعو حركة غريل، قائلين إن جوهر كل شيء هو رقم يشتق من الوحدة والثالوث حيث يكون أصل الإلهية. فهذه النظرية تكرر ضلال أفلاطون والفثاغوريين، الذين يختلطون الوحدة التي ترادف الوجود ووحدة الكم التي هي صفة عرضية للموجودات المادية.
ولكن يسمع: ألعلّك تسبر غور الله، أم تبلغ إلى كمال القدير؟ هو علو السموات فماذا تفعل؟ (أيوب 11/7-8). وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الروم 26-27).
أما صفات الله السلبية الأخرى، كوحدة الله ولاتناهيه، فستُذكر في قسم الصفات الذاتية (1.8).
1.7 صفات الله الإيجابية
إن الله بوجه الإطلاق الموجود الكامل الذي لا يفوته شرف جنس من الأجناس أياً كان ذلك الجنس. وهذا لأن له من الوجود كل قوة الوجود فلا ينقصه شيء من الشرف الذي يصلح لشيء ما. فإذاً له كل الخير الذي يوجد منتشراً وناقصاً في سائر الأشياء وليس له نقائصها لأنه فعل محض. وأيضاً فإنه علة سائر الموجودات، فيمكن المفعول أن ينقص من كمال الفاعل وأن يكون أقل شرف، وليس العكس، فالمفعول إنما يشترك كمال الفاعل على قدر مخصوص. فإذاً نسمع: قال موسى: أرني مجدك. قال: أمرّ بكل حسني أمامك وأنادي باسم الرب قدّامك (الخروج 33:19). وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (عمران 180). وهذا يشير أن الرب الذي هو نفس الوجود له كل الكمالات.
وفي المخلوقات مشابهة ما لله، لأن كل معلول يشترك في كمال علته. أما المشابهة فتفترق بحسب نوع العلة، فإنما المعلولات الطبيعية لها نفس طبيعة كعلتها، مثل الأولاد لوالديهم. ولكن عمل الصناعة ليس له نفس الطبيعة كالصانع وإنما يشابه صورة ذهنه. فهكذا تختلف المخلوفات عن طبيعة الله وبالرغم من هذا لها مشابهة له ناقصة. فتارة نسمع إثبات الشبه، مثلاً: وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا (التكوين 1:26)، وتارة نسمع نفي الشبه لنقصانه: فبمن تشبّهون الله، وأي شبه تعادلونه به ؟ (أشعيا 40:18). لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى 11). وباعتبار هذا النحو من الشبه يكون القول بأن الخليقة شبيهة بالله أولى من عكسه، لأن الله هو المثال الكامل وتعكس المخلوقات كماله عكساً ناقصاً.
فكيف نسمى الله؟ في تكلمنا عن الله يستعمل عبارات مأخوذة من معرفتنا للمخلوقات. ولأنه لما كان كل كمال في الخليقة إنما يجب أن يكون في الله ولكن بوجه آخر أفضل وأشرف كثيراً كان أن كل الأسماء التي تدل بالإلطلاق على كمال لا يشوبه نقص تحمل على الله وعلى سائر الأشياء، كالخيرية مثلاً والحكمة والوجود وما شاكلها. وأما ما كان من الأسماء يدل على مثل تلك الكمالات مع وجه خاص بالخليقة، فهذه لا يقال على الله إلاَ على سبيل التشبيه والمجاز، كما يقال عن رجل إنه صخر لجمود عقله. فإذاً لا يقال إن الله حجر أو إنسان أو ماشٍ. ولكن الكتاب المقدس، وخاصة المزامير، يستعمل الاستعارة في وصف الله، تسميه الحجر والقلعة ونحو ذلك. وهذه العبارات المجازية يجب أن تُفهم كرموز الكمالات اللامادية.
وأما الأسماء التي على كمال بلا نقص فتعرج هذه أيضاً في وصف الله. وهذا لأنه يبتدئ فكرنا من المحسوسات حيث نميز الشيء المادي المركب من المادة والصورة (مثل الإنسان) عن الماهية (مثل الإنسانية) التي هي صورة بسيطة ولكن لا قائمة بنفسها. والاثنتان ناقصتان، فإن “الخيرية” مجردة ولا قائمة بنفسها، و“الخير” مادي ومركب. فإذاً يمكن أن تُنفى هذه الأسماء عن الله باعتبار وجه الدلالة، ويمكن أن تُثبت له باعتبار الحقيقة التي وُضع الاسم للدلالة عليها. ولتصليح نقصان هذه الأسماء نضيف تارة اسم الكيف سلبياً كان (مثل “لا نتناه”) أو نسبياً (مثل “العلة الأولى” أو “الخير الأعلى”). فإننا لا نستطيع أن نمسك ما هو الله ولكن ما ليس هو وكيف تنتسب إليه الأشياء الأخرى.
ولله أسماء كثيرة، لأنه لما هو علة الكل، ولا من كل معلولاته ما يشبه ذاته ولا ما يحمل عليه بالتواطؤ، بل بالتشكيك وبأنواع مختلفة كانعكاسات منتشرة. والأسماء التي تحمل على الله بنحو لائق تنتسب إليه لا لأنه مجرد علة، ولكن لأنه أيضاً تشبه ذلك الكمال، مثل الحكمة ويشترك فيه بأنحاء مختلفة. ولو كان في وسعنا أن نتعقل نفس ذاته كما هو عليه لكفانا اسم واحد، كما وقع الوعد به للذين سيشاهدونه بذاته، إذ قيل: وفي ذلك اليوم يكون ربٌّ واحد واسمه واحد (زكريا 14:9). ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (الإسراء 110).
فلا يجوز حمل شيء من الأشياء على الله وعلى الأغيار حملا بالتواطؤ، لأن الأشياء التي الله علتها فصورها أبعد من أن تبلغ نوع القوة الإلهية، إذ إن هذه الأشياء إنما تأخذ على سبيل التقسيم والتخصيص ما هو في الله على وجه البساطة والتعميم. وأيضاً فإن الله ليس بجنس أو نوع أو فصل أو عرض أو خاصة أو حد، فبقي إذاً أنه لا يُحمل شيء على الله والأغيار بتواطؤ. وأيضاً إن ما يقال على بعض الأشياء قولاً بالتقدم والتأخر فمن المحقق أنه لا يقال بالتواطؤ لأن المتقدم يدخل في حد المتأخر، كما يدخل في حد العرض الجوهر من حيث هو موجود. وليس شيء يقال على الله وعلى غيره من الأشياء قولاً سوياً في المرتبة بل فولاً بالتقدم والتأخر إذ إن كل ما يقال عليه تعالى فإنما يقال عليه قولاً بالذات. فإذاً من المحال أن يقال شيء على الله والأغيار قولاً متواطئاً.
ومن جانب أخرى ليس كل ما يُحمل على الله وعلى ما سواه يُحمل بالاشتراك المحض، لأن الأسماء المشتركة بطريق الاتفاق لا يعتبر فيها نسبة الواحد منها أو قياسه إلى الآخر. وليست كذلك حال الأسماء المقولة على الله والخلائق، إذ إن مثل هذه الأسماء إنما يٌعتبر في عموم دلالتها ما بين العلة والمعلول من النسبة. ولكن بين الله وبين المخلوق ضرب من التشابه، حتى معرفة المخلوق ترشدنا على معرفة الله، وإلاّ لم نعرف شيئاً عنه البتة، فيكون إذاً قولنا عن الله إنه موجود ضرباً من العبث والمجازفة.
فإذاً الأسماء التي تطلق على الله وعلى الخلائق تطلق على وجه المناسبة أي التشكيك، من حيث قياسها أو نسبتها إلى شيء واحد. ومثل التشكيك الصحة التي هي أولاً في الحيوان وثانياً في الدواء بحسب ما هو علة الصحة. ولكن يجب أن نتجنب القول أن الله موجود أو خير لأنه علة الوجود والخير الحقيقي في الخلائق. فهذا ضلال، وبالعكس الوجود والخير يوجدان أولاً فيه تعالى وثانياً فيما سواه. فإن هذه الصفات نعرفها أولاً من الخلائق ولكن توجد أولاً في الله لأن هذه الصفات توجد في العلة بنحو أعلى منه في معلولاته. فهنا ما هو متقدم من جهة الطبيعة متأخر من جهة المعرفة.
وكذلك إن الأسماء المقولة على الله وإن كانت تدل على شيء واحد فليست مع ذلك مترادفة، لأنه بالرغم أنها تدل إلى شيء واحد، فإنها لا تدل على وجه واحد. فإن بعض الأشياء يمكنه أن يشابه الله بصور متعددة، والعقل يجد للتعبير عن تصوراته المختلفة أسماء مختلفة بحسبها فينسبها إلى الله. فإن الاسم يدل على تصور العقل أولاً وثانياً على الشيء المعقول. وكذلك القضايا التي يقولها عقلنا على الله البسيط تأليفاً بالتركيب والتفصيل لا تكون باطلة لا فائدة فيها، مثل “الله خير” أو “الخيرية هي في الله”، لأن الاختلاف الذي يوجد بين المبتدأ والخبر فمرجعه إلى العقل وأما الوحدة فمرجعها إلى الشيء المدرَك أي وحدة الله.
1.8 الصفات الذاتية
الله خير، وذلك لأن الخير هو ما يشتهيه الجميع، وكلٌ يشتهي الوجود وكماله، فإذاً الله الذي هو الكمال المطلق هو خير حقاً. وأيضاً فإن الخير إتيان فعل والشر عدم الفعل أو عدم الوجود، فإذاً الله الذي هو الفعل التامّ هو خير. وكذلك إنما يظهر خير كل الشيء في عمله وإفاضة الخيرية على ما سواه. وهذه الإفاضة تصلح له تعالى إذ إن الله علة وجود ما سواه. فإذاً الله خير حقاً. ولهذا قيل: ما أطيب الله لإسرائيل، لذوي القلوب الطاهرة (مزمور 73:1). إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (الذاريات 58).
وهو تعالى نفس الخيرية، لأن الوجود بالفعل هو في كل شيء خير ذلك الشيء، والله نفس وجوده، وكمال الوجود الإلهي لا يعتبر كونه له لزيادة شيء عليه. فإذاً خيرية الله ليست شيئاً مزيداً على جوهره بل جوهره نفسه هو نفس خيريته، وإلاّ لكان له الخير بالاشتراك في ما يسبق عليه بالخيرية. فإذاً الله نفس الخيرية، كما قيل: لا صالح إلاّ الله وحده (مرقس 10:18). وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (الرحمن 27).
وإن الله لا يمكن أن يكون فيه شر، لأن الله الوجود والخيرية بالذات، لا بالاشتراك كسائر الموجودات التي لها الوجود والخير بنحو محدد. وأيضاً إن وجوده فعل كامل، يمنتنع عنه أي نقصان أو شر. وأيضاً إن الشر قسري مضاد للطبيعة، فإنما يوجد في الأشياء المركبة. والله ليس مركباً فإذاً ليس يمكن أن يكون فيه شر. كذلك قيل: حاش لله من الشر، وللقدير من الظلم (أيوب 34:10). إن الله نور لا ظلام فيه (1 يوحنا 1:5). مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت 46).
والله خير كل خير، لأن كماله يشتمل على كل كمالات الأشياء التي هي خير بالمشاركة في خيريته، فينتج أن يستوعب بخيريته جميع الخيريات. وأيضاً فإنه الغاية القصوى لجميع الأشياء، فإن كلها تعبد له وبعضها تعرفه ويحبه، كما نسمع: وأتتني معها جميع الخيرات (الحكمة 7:11). اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (الشورى 19).
والله هو الخير الأعظم، لأنه الخير الكلي يفضل كثيراً كل خير جزئي. وأيضاً إنه خير بذاته وما سواه فخير بالمشاركة والاشتقاق. وأيضاً هو في أقصى البعد عن ممازجة الشر لأن الشر لا يمكن أن يكون فيه لا بالفعل ولابالقوة، وهو الخير المطلق، كما نسمع: لا قدّوس مثل الرب (1 صموئيل 2:2). يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (الجمعة 1).
وإن الله واحد، لأنه لو كان آلهة كثيرون لكان واجب أن كل واحد مهم ينفرد بشيء خاص ليس للآخرين وإلاّ لكانوا واحداً فقط. ولكن الله لا ينقصه شيء. وأيضاً فأي خاصية زائدة على الماهية تفترص التركيب، والله ليس بمركب. وأيضاً إن في العالم مُلك إلهي واحد، يتبع كل شيء نظاماً واحداً من قواعد طبيعية قد غرسها الله فيها، ويشترك كل شيء في وجود الله كمبدأ واحد للكل. فإذاً نسمع: اسمع يا إسرائيل: إن الرب إلهنا هو رب واحد (تثنية الاشتراع 6:4). لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الأنباء 22).
والاعتقاد في وحدة الله قد تضعّفه الأديان التقليدية في الإفريقية وفي غيرها من الأماكن. فإنها تقرر بوجود إله أعلى ولكنها لا تعترف بسلطانه الكامل على الأرواح أن “الآلهة” الثانوية، فإنما هذه تشابه موظفين فاسدين في شركة، لها القدرة أن يحبطوا نيات سيدها الطيبة حتى يقدم زبائنهم الرشوة المطلوبة.
وقد رأينا كيف يضعف الأشاعرة وحدة الله عندما يمييزون صفات الله تمييزاً واقعياً. ورأينا كيف رفض رأيهم الفلاسفة المسلمون والمعتزلة واللاهوطيون المسيحيون. ويجوز أن نلاحظ هنا أن التمييز المسيحي بين أقانين الثالوث الأقدس هو تمييز بين علاقات في جوهرة واحدة، لا توزيع الصفات الإلهية. ولكن مناقشة الثالوث بالتفصيل تفوت هدف هذا الكتاب.
وإن الله غير متناه، وهذا لا من جهة الكثرة كعدد يقبل الزيادة بلا نهاية أو من جهة الكم المتصل الذي يقبل الزيادة والتجزأ بلا نهاية، إذ قد تبين أنه تعالى ليس بجسم. بل إنه تعالى غير متناه بالسلب فقط لأن كمال قوته الفاعلية لا حد له. وقوته الفاعلية تساوي خيرية طبيعته وكمالها، لأنه في الأشياء غير المادية الأعظم الأحسن. وأصل لاتناهية الله هو وجوده كامل الفعل، غير محدد بأي موضوع. وكما المادة الأولى قويتها غير متناهية، كذلك الله الذي هو فعل محض فعليته غير متناهية. وأيضاً لو كان الله متناهياً لكان في وسع عقلنا أن نصور شيئاً أعظم من الله. ولكن نسمع: الرب عظيم ومسبَّح جدّاً، ولا حد لعظمته (مزمور 145:3). لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة 120).
1.9 علم الله
وإن الله عاقل، فإن شيئاً إنما يكون عاقلاً لأنه براء من المادة، بدليل أن الصور إنما تصير معقولة بالفعل بتجريدها عن المادة. ولهذا اختص العقل بالكليات لا بالجزئيات ولا بالمتشخصات لأن المادة مبدأ التشخص، والصور المعقولة بالفعل والعقل المدرِك لها بالفعل تصيران واحداً. فإذاً إن كانت الصور تصبح معقولة بالفعل من كونها مجردة عن المادة وجب أن الشيء يكون عاقلاً بكونه مجرداً عن المادة. فإذاً الله الذي براء عن المادة من كل وجه هو عاقل.
وأيضاً إن الله لا يفوته شيء من الكمالات الموجودة في جنس من أجناس الموجودات، وأجلّ الكمالات التي للأشياء وأفضلها هي أن يكون الشيء عَقولاً. فإذاً الله عاقل.
وأيضاً إن الأشياء الطبيعية تنزع إلى غايات متعينة، لأن مصالح الطبيعة ومنافعها لا تحصل بطريق الاتفاق، وإلاّ لم تكن المنافع في الأكثرية دائماً بل في الأقلية. فلما كانت الأشياء الطبيعية لم تقم لنفسها غايتها لأنها تجهل معنى الغاية، وجب أن تكون غايتها مقامة لها من قِبل آخر يكون منشئاً للطبيعة، ومنشئ الطبيعة هو الذي يعطي جميع الأشياء الوجود، وهو الواجب الوجود بذاته، ونسميه الله.
فنقرأ: علمُ عجيب فوق طاقتي، أرفع من أن أدركه (مزمور 139:6). ما أبعد غور غنى الله وحكمته وعلمه (رومة 11:33). وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (الأنعام 59).
ويلزم أن يكون تعقله تعالى نفس ذاته، لأن التعقل إنما هو فعله وكل ما هو موجود في الله فإنما هو ذاته ووجوده. ولا يمكن علمه أن يكون ملكة لا فعلية دائماً لأنه لا قوة في الله إلى فعل. ولا يمكن أن يكون علمه كمالاً زائداً على ذاته وإلاّ لاحتاجت ذاته إلى إكمال من الخارج. فإذ كان تعقل الله نفس وجوده وجب بالضرورة أن يكون تعقله بسيطاً وسرمدياً وغير متغير وموجوداً بالفعل فقط ومتصفاً لجميع الصفات التي أوجبناها للوجود الإلهي. فينتج من ثم أن الله ليس عاقلاً بالقوة ولا محدِثاً تعقلاً جديداً وأنه ليس يعتريه في تعقله تغير أو تركيب البتّة.
وكذلك إن الله يعقل كل شيء بذاته، فإن معرفته التي هو ذاته لا تحصل من الأشياء ولا تعتمد عليها ولكن هي تعتمد عليه لوجودها. وأيضاً إن عقله فعل تامّ، لا شيء بالقوة فيه البتّة ليقبل معرفة من الخارج.
وإن الله يعقل ذاته بأكمل نوع من التعقل، فإن كمال التعقل يتوقف على كمال مطابقة الصورة المعقولة للشيء وعلى كمال اتحادها بالعقل. والذات الإلهية التي هي الصورة المعقولة التي يعقل بها العقل الإلهي إنما هي والله شيء واحد من كل وجه وهي وعقله شيء واحد من كل وجه. فإذاً الله يعرف ذاتث معرفة غاية في الكمال.
وأيضاً إن المعرفة هي كون العقل بالفعل والمعقول بالفعل هما واحداً. وعقل الله عاقل بالفعل دائماً إذ ليس في الله شيء بالقوة ولا شيء ناقص. وذات الله باعتبارها في نفسها في غاية المعقولية. فإذاً لما كان العقل الإلهي والذات الإلهية واحداً كان من البين الواضح أن الله يعقل ذاته بأكمل نوع من التعقل.
وأيضاً إن أشرف ما يوجد في الأشياء المخلوقة من الكمالات إنما هو تعقل الله، إذ المعقول الذي هو غاية في الشرف إنما هو الله. فكما يعقله المخلوق بنوع محدد، يعقل الله نفسه بأكمل نوع، كما نسمع: إن الروح يفحص عن كل شيء حتى عن أعماق الله (1 قورنتس 2:10). قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ (النمل 65).
وإن ما يعرف الله معرفة أولية وبالذات إنما هو نفسه فقط، وهذا لأن الصورة التي يعقل بها ليست شيئاً آخر سوى ذاته. وأيضاً إن الفعل الواحد لا يمكن أن ينتهي إلى حدود كثيرة معاً ودفعة واحدة. فلو كان الله يعقل شيئاً آخر غير ذاته عقلاً أولاً لوجب أن ينتقل عقله من اعتبار نفسه إلى اعتبار ذلك الشيء الآخر الذي هو أخس منه وهكذا إذاً يكون عقل الله متغيراً متحولاً إلى ما هو أخس منه، ولكان لله أيضاً أفعال تعقلية كثيرة. وأيضاً لو كان ما يعقله الله أولاً وبالذات شيئاً آخر غير ذاته للزم أن يكون الله بالقوة بالنسبة إلى ذلك الآخر. وكل هذا محال.
وإن الله يعرف في نفسه جميع ما سواه، لأن المعلول إنما يُعرف معرفة كافية بمعرفة علته. والله هو بذاته علة وجود الأشياء. فإذاً لما كان يعرف ذاته معرفة كاملة وجب القول بأنه يعرف ما سواه أيضاً. وأيضاً كل معلول يكون شبهه سبق وجوده في علته. ولما كان الله علة جميع الأشياء وكان باعتبار طبيعته متعقلاً كان أن شبه معلوله موجود فيه ببهيئة معقولة. فإذاً الله يعقل في نفسه ما سواه من الأشياء كأنها مشاهدة في ذاته. فبهذا المعنى قيل: الرب من علو قدسه تطلع، ومن السماء إلى الأرض نظر (مزمور 102:20). وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (الأنعام 3).
وأن الله يعرف جميع الأشياء معرفة خاصة، ولا معرفة كلية فقط، وهذا لأنه علة كل موجود بطريق المباشرة أو التسبب. وكل علة إذا عُرفت فيُعرف معلولها. فإذاً بمعرفتة نفسه يعرف الله كل موجود وجميع ما بين الله وبين ذلك الشيء من العلل الواسطة. وأيضاً إن تمايز الأشياء الفردية ليس عمل الطبيعة التي إنما يتعين انصبابها على نوع واحد فقط، فبقي أن التمايز بين الأشياء إنما ينشأ عن قصد علة عارفة. فإذاً الله يعرف الأشياء من حيث هي متمايزة كل واحد عن غيره. وأيضاً إذ كان معرفة الله كاملة فيجب أن يعرف كل ما هو فيه من جهة قدرته الفعالة التي تمتد إلى كل شيء بحقائقه الخاصة. وأيضاً يعرف الناس الأشياء من حيث هي مع كثرتها متمايزة بينها، فلو لم يعرف الله التمايز بين الأشياء لكان أجهل الجهلاء. ولذلك قيل: وما من خلق يخفى عليه، بل كل شيء عار مكشوف لعينيه (إلى العبرانيين 4:13). أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (المجادلة 7).
وكثرة المعقولات لا توجب تركيباً في عقل الله، لأن ذاته البسيطة إنما هي شبه جميع الأشياء ومثالها. فذاته علة فاعلة ومثالية لكل شيء. أما وجود المثال الإلهي فليس كوجود ما يماثله لأن خصائص هذه الأشياء متباينة ومتمايزة في أنفسها، ولكن العقل الإلهي يشتمل على كل الكمالات الأخس، كما عدد العشرة يشتمل الأعداد الأقلة. فإذاً إن في عقل الله الحقيقة الخاصة بالأشياء المختلفة، ويعرف كيف كل فرد يشابه كماله وكيف ينقص عنه. وعلى هذا أيضاً يستقيم بوجه ما مذهب أفلطون القائل بوجود التصورات التي يصور بحسبها جميع ما هو موجود في الأشياء المادية، لأن الأشياء يشابه الله بأنحاء مختلفة، ولكن تبقى ذاته بسيطة وغير منقسمة.
وإن الله يعقل جميع الأشياء معاً، فإن عقلنا إنما لا يمكنه أن يعقل بالفعل أشياء كثيرة معاً إلاّ إذا كانت متحدة بضرب من الاتحاد. فإن الأشياء الكثيرة إذا عرفت بصورة واحدة يمكن تعقل جميعها معاً. وجميع الأشياء التي يعرفها الله إنما يعرفها بصورة واحدة وهي ذاته تعالى. فإذاً يمكنه أن يعقل جميع الأشياء معاً. وأيضاً ليست في الله قوة التغير بأن يعقل الأشياء بالتعاقب. فلذلك نسمع: وهو لا تبدل فيه ولا شبه تغير (يعقوب 1:17). وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (فاطر 11)-لأن كتاب علمه تام وهو تعالى لا يحتاج إلى أي جهد ليعرف أي شيء أو يعمله.
وإن المعرفة في الله ليست معرفة بالملكة، التي هي واسطة بين الفعل وبين القوة، وإلاّ لم يعرف كل شيء معاً ولكان في قوة إلى المعرفة والكمال بالفعل. وأيضاً لكان فعل المعرفة مميزاً عن ذاته تعالى ولم يعرف بذاته. ولأن المعرفة بالملكة إنما هي أشبه بحالة النائم، فقيل: إن حارس إسرائيل لا يغفو ولا ينام (مزمور 121:4). اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (البقرة 255).
وإن معرفة الله ليست بالانتقال، كما إذا انتقلنا بالقياص من المبادئ إلى النتائج، لأن الله يعتبر جميع الأشياء معاً ولا على طريق التعاقب. وأيضاً في كل معرفة برهانية أو انتقالية انما النتائج هي بالقوة في المبادئ، وليس للقوة ولا لشيء معلول محل في عقل الله، كما المبادئ إنما هي العلة الفاعلة للنتيجة. ولكن يعرف الله كل شيء بذاته. وأيضاً إن المعرفة الانتقالية تنشأ عن نقص في الطبيعة العاقلة، لأن ما يُقرف بغيره أقل معرفة مما يعرف بذاته كل معاً. ولكن إن الله له علم تبرهن الناس على طريق الحكم على هذه البراهين، لا بمعنى أن له الانتقال الذهني، كما نسمع: ما من خلق يخفى عليه بل كل شيء عار مكشوف لعينيه (إلى العبرانيين 4:13). يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (هود 5).
وإن الله لا يعقل الأشياء بطريق التأليف والتقسيم، كما يعقل الإنسان بالقضية “أ يساوي ب” أن “أ لا يساوي ب”. ولكنه تعالى يدرك جميع الأشياء بإدراكه ذاته. وأيضاً لو كان في عقل الله التأليف والتقسيم لكان فيه التركيب، لأنه يتضمن معرفة الخبر منفصلة عن معرفة المبتدأ، وذلك متقدماً للقضية. وهذا محال في حقه تعالى. ورغم هذا، يعرف الله كل القضايا التي تعمل عقول الناسن، لأن ذاته مثال جميع المتعددات والمركبات، وعليه فالله يعرف بها كل تكثير وكل تركيب حاصل في الطبيعة أو في الذهن. لذلك نسمع: إن الرب يعلم أفكار البشر (مزمور 94:11). وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (النمل 74).
ومعرفة الله لا ينتفي منها الحق، وهذا برغم أن الحق في عقل الإنسان إنما هو في تأليف والتفصيل وليس في معرفة ماهنات الأشياء. أما الله فببساطته يعرف ليس فقط ماهيات الأشياء بل أيضاً القضايا التي نفعلها. وإذا كان الحق “المقابلة بين العقل وبين الشيء”، فإنما هذا يوجد في معرفة الله، وإن كان نحو معرفته يختفل من المعرفة الإنسانية.
وأيضاً لأن الحق خيرية العقل، والله نفس الخيرية، فإذاً الله حق نفسه. لذلك نوعد “روح الحق” (يوحنا 14:17). قُلْ صَدَقَ اللَّهُ (آل عمران 95).
وإن الله نفسه هو الحق ، لأن الحق كمال فعل المعرفة، والله المعرفة نفسها، لأن كل ما يوجد فيه هو نفس وجوده، ووجوده لا يقبل شيئاً بالمشاركة. وأيضاً بجانب الحق بمعناه الحصري الذي لا يوجد إلاّ في الذهن، يوجد معنى ثان وهو حق الشيء من حيث “إن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له” (ابن سينا، النجاة، 3/2/8)، باعتبار أن ذلك الشيء هو من الفطرة بحيث يجعل الاعتقاد به صحيحاً صادقاً، وباعتبار أنه يماثل الحقيقة الخاصة به التي هو في عقل الله. ولكن الله هو نفس ذاته. فإذاً الله نفس حقه سواء كان كلامنا على حق العقل أم على حق الشيء. فإذاً نسمع الكلمة الإلهية تقول: أنا الطريق والحق والحياة (يوحنا 14:6). ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحج 6).
والله الحق الذي لا يمازجه بطل، لأن البطل يعارض الحق. وأيضاً إن الله يعرف كل شيء بنظر إلى ذاته ولا بالتأليف والتفصيل الذان يقبلان البطل. وأيضاً إن البطل هو إخفاق القضية ونقص وشر، ولكن الله كامل غاية الكمال ليس فيه شر. وأيضاً يضل العقل الإنساني بحيث قضيته لا تقابل الشيء، لأن الأشياء هي علة المعرفة الإنسانية وقياسها، أما العلم الإلهي فهو علة جميع الأشياء وقياسها، حتى لا يمكن أن يكون في عقل الله بطل البتة. فإننا نسمع: ليس الله إنساناً فيكذب (العدد 23:19). وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (النساء 122).
وإن حق الله هو الحق الأول والأعظم، لأن الحق والوجود يتساويان، فإن الحق إنما يوجد عندما يقال: إن ما هو هو وما ليس هو ليس هو. ولكن وجود الله هو الوجود الأولي واللامتناهي في الكمال. فإذاً حقيقة الله هي الحقيقة الألى والعظمى. وأيضاً إن الله نفس الحق، وحقيقته هو مقدار كل حقيقة وعلة جميع الأشياء. فوجب أن تكون حقيقة كل عقل مقيسة بحقيقته. فإذاً حقيقة الله هو الحقيقة الألى العظمى والمتناهية في الكمال.
1.10 بعض الاعترضات المشكوكة فيها في هذا الموضوع
إن الله يعرف الجزئيات. وإن أبا حامد الغزالي يتهم ابن سينا بالرأي المقابل (تهافت الفلاسفة، 13)، برغم أنه لا أثر هذا الرأي في مصنفات ابن سينا ولا في مصنفات الفارابي قبله. وإنما درّس هذان الفيلسوفان أن المعرفة كمال ما فإذاً المعلوم الوحيد الذي يليق بمعرفة الله هو نفسه. وبمعرفة نفسه يعرف الله كل ما في قدرته الفاعلية. أما هذان الفيلسوفان، لأنهما درّسا أن الله علة شيء واحد مباشرة وأنه علة الأشياء الأخرى بوسائط، فكذلك درّسا أن الله يعرف الأشياء الأخرى بعللها الوسطى، ولا يعرفها بأنفسها.
ودفعاً للضلال المتقدم نقول وإن كانت المعرفة الإنسانية نتيجة فعل المعلومات للقوى المدركة وتماثلها، إن معرفة الله بالعكس فاعلة لأن معرفة الخالق مقدار ما يعرف من المخلوقات. وأما قدرة الله فتمتد إلى كل أنحاء الخلائق، ذاتية كانت أو عرضية، حتى المادة والتشخص الذي يحصل من المادة المعينة بالعدد والتمديد. وأيضاً كما إنه نفس وجوده ونفس عرفانه، يلزم أن يوجد في معرفته كل كمالات، ولكن ذلك لا يكون له إذا فاتته معرفة الجزئيات. وأيضاً إن القوى الأعلى فينا تتناول أشياء أكثر مما تتناوله القوة السفلى، كما إن عقلنا يعرف أكثر مما يعرفه الأحساس الداخلية، وهذه تعرف أكثر مما تدركه الأحساس الخمس الخارجية. فالله إذاً عرّاف بالجزئيات التي ندركها بالوهم والحس. هذا ولو كان عقل الإنسان منحصراً عن معرفة الجزئيات بتشخصها لأن الشيء الحسي لا يقدر أن يطبع فرديته في العقل، ولذلك لا يعرف العقل الإنساني إلاّ الكليات. أما معرفة الله، لأنها فاعلة، فإنه تمتد إلى الجزئيات بتشخصها. ولذلك نسمع: لا تقل: سأتواري عن الرب (يشوع بن سيراخ 16:17). رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ (إبراهيم 38).
ويعرف الله كل اللاموجدات، الموجودات بالقوة، ونقول هذا ضد المعارضة أن المعرفة تتعلق بالحق وهذا يساوي الموجود. وجوابنا أن نسبة علم الله إلى الأشياء التي عُلمت ونسبة ما شأنه أن يعلم إلى علمنا نسبة واحدة، وحال ما شأنه أن يُعلم بالنظر إلى علمنا هو أنه قد يمكن أن يوجد من دون أن يحصل لنا العلم به. فإذاً إن علم الله يجوز أن يوجد والأشياء معدومة. وهذا لأن معرفة الله بالأغيار كحال معرفة الصانع بمصنوعاته، والصانع يعرف أيضاً ما لم يكن قد صنعه بعدُ. وأيضاً ذات الله لامتناهية الكمال وقدرته على تمثيل ذاته تسع أشياء أكثر كثيراً من الأشياء الموجودة. وأيضاً إن عقل الإنسان يمكنه أن يعرف ما فات وجوده وما لا يوجد ولكن سيوجد في المتقبل مثل الكسوف. وأيضاً إن تعقل الله لا تعاقب فيه كالأشياء الكائنة الفاسدة في التأريخ، بل معرفته الأزلية تشبه مركز الدائرة الذي يبقى غير متغير بينما نقط الدائرة يشبه أنات الزمان التي بالقياس إلى حزء آخر من الزمان كانت ماضية أو مستقبلة،. وهذا ما نشهده نحن مسافرين على طريق التأريخ، أما الله فله معرفة أزلية بما يحدث في الزمان في وقته وأيضاً إدراك بسيط بما هو موجود في قدرته الإلهية فقط. فإنه لا يعرف الأشياء في عللها فقط كما يعرفها الفلكيون، بل يعرفها في ذواتها. ويسمى هذا الضرب من المعرفة معرفة بالرؤية أي المشاهدة. فينتج أن الله إنما يعرف اللاموجودات من حيث لها ضرب من الوجود إما في قوته تعالى وإما في عللها وإما في ذواتها. فهذا ما نسمع: هو عالم بكل شيء قبل أن يُخلق وكذلك بعد الانتهاء منه (يشوع بن سيراخ 23:20). إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (مقمان 34).
وإن الله يعرف الجزئيات الحادثة المستقبلة. ونقول هذا ضد المعارضة أن علمه السابق يضترّ إلى أن الممكنات إما تصبح واجبات أو، إن تبقى ممكنات، أن الله لا يعرفها لأنه لا يتغير ولا يستطيع أن يتعلم شيئاً من جديد. وجوابنا أن الممكن لا ينافي صدق المعرفة به إلاّ من جهة أنه مستقبل الحدوث لا من جهة أنه حاصل الوجود. ولهذا فإن الذي يرى رجلاً يركض فقال أنه يركض فقوله هذا وإن كان من الممكنات لا يزيل شيئاً من يقين الحس وصدقه. ورؤية عقل الله تقع منذ الأزل على كل حادث من الحوادث التي تجري على ممر الزمان كأنه حاضر لها. فبقي إذاً أنه لا مانع من أن يكون لله منذ الأزل معرفة بالممكنات منزهة عن كل ضلال. وأيضاً، زيادة أن الله يعرف الممكنات في ذواتها، يعرف عللها. وكما إن العلة الضرورية يصدر عنها معلولها بلا محالة فكذلك العلة الممكنة التامة، إن لم يمنعها مانع، يصدر عنها معلولها بلا محالة. ويعرف الله لا علل الممكنات فقط بل أيضاً الموانع التي تحول دون فعلها. فإذاً يعرف معرفة اليقين أن الممكنات هل تكون أم لا تكون.
وأما ضرورية معرفة الله للممكنات لا تنافي كونها ممكنة، لأنها تصدر عنه بواسطة علل قريبة ممكنة، مثل النبات عن المطر. فإذاً نسمع: أخبرتك بهذه منذ ذلك الزمان ومن قبل أن تحدث أسمعتك إياها (أشعيا 48:5). لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (الأنعام 67).
ويعرف الله أفكار العقول ومشيئات القلوب، ونقول هذا ضد المعارضة أن حركات الإرادة إنما هو حرة ولا يعرفها إلاّ من يريد. وجوابنا أن كل ما هو موجود بضرب من الوجود أياً كان، إما في النفس وإما في الأشياء، فالله يعرفه من حيث أنه يعرف ذاته. وأيضاً إن علية الله يشمل تناولها أفعال العقل والإرادة، لأنه لما كان كل شيء إنما يفعل بصورته التي منها يكون وجود للشيء، وجب أن ما هو المبدأ والينبوع لكل الوجود والذي منه كل صورة يكون نفسه مبدأ لكل فعل إذ إن آثار العلل الثانية مرجعها بالإصالة إلى العلل الأولى. فإذاً الله يعرف أفكار العقل وعواطفه، كما نسمع: إنك فاحص القلوب والكلى أيها الإله البارّ (مزمور 7:10). يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (هود 5).
ويعرف الله اللامتناهيات، ونقول هذا ضد المعارضة أنه لما كان “اللامتناهي غير معلوم” (أرسطو، السماع الطبيعي 4/4)، يظهر أن الله لا يعرف ممكنات لامتناهية بمعرفة فعلية. وجوابنا أن الله يعرف عليته الفاعلية والمثالية معرفة كاملة، وهذه العلية لامتناهية. فإذاً يعرف ممكمات لامتناهية وإن كانت الموجودات دائماً متناهية.
وأيضاً لو أخذنا موجودات غير متناهية من نوع واحد كأناس غير متناهين أو من أنواع غير متناهية فهذه، وإن كان غير متناه بحسب الكم لو كان هذا ممكناً، فمع ذلك جملة كل هذه إنما وجودها محصور في ضمن نوع ما أو جنس ما، وهكذا يكون متهاهياً من وجه ما. وعليه فإنه ينقص عن لاتناهي الله الذي هو غير متناه باللاتناهي المطلق. وعليه فلما كان الله يعرف نفسه كمال المعرفة لم يكن مانع من أنه تعالى يعرف أيضاً جملة اللامتناهيات.
وأيضاً لو حُصرت معرفت الله لعدد المعلومات متناه لكان بوسع عقلنا، الذي هو بالقوة إلى جميع الصور المعقولة، أن يعرف هذا العدد المتناهي وأكثر منه. وهذا محال.
وأيضاً إن اللامتناهي ينفر عن المعرفة من حيث أنه يشرد عن التعداد، لأن عقلنا يعرف معرفة تدريجية جزءاً بعد جزء. أما عقل الله يعرف جميع الأشياء معاً من دون تدرج ولا تعاقب في معرفتها، بل يعرف الجميع بصورة واحدة وهي ذاته. ويلمع إلى هذه المعرفة النص: ولا قياس لإدراكه (مزمور 147:5). وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (النحل 18).
وإن عقلنا لا يدرك اللامتناهيات كما يدركها عقل الله، فإن عقلنا يفترق عن عقله تعالى من أربعة وجوه: (1) أولها أن عقلنا إنما هو متناه بمعنى الإطلاق وعقل الله غير متناه مطلقاً. (2) وثانيها أن عقلنا إنما يعرف المختلفات بصور مختلفة ولهذا لا يقوى على معرفة اللامتناهيات بحسب معرفة واحدة كما يقوى عليها عقل الله. (3) وثالثها أن عقلنا يعرف المختلفات بإحصائها تدريجاً وعلى التعاقب ولا محل لهذا في عقل الله الذي يشاهد الكثرة كأنها مرئية له بصورة واحدة. (4) ورابعها أن عقل الله علة الأشياء يتعلق بما هو موجود وبما هو غير موجود، وعقلنا بالعكس يأخذ مما هو موجود.
ويعرف الله اللامتناهيات لا بعلم الرؤية والمشاهدة من حيث كلها موجودة يوماً ما، بل بعلم الإدراك البسيط من حيث أنها ممكنة.
وإن الله يعرف الخسائس، ونقول هذا ضد المعارضة أن قيمة المعرفة مقيّسة بقيمة المعلوم، فإذاً ينتزه الله عن هذا العلم القادح بشرفه. وجوابنا أن قوة عقل الله غير متناهية، فإذاً وجب أن يمتد تناول معرفته إلى أقاصي الأشياء. فإذاً مهما حقرت الخسائس في الموجودات فالله يعرفها لعظم قوة عقله. وأيضاً كل موجود كيفما كان موجوداً هو شبه الفعل الأول، ومن هذا التشبه يحصل له الشرف. فبقي إذاً أن كل شيء إذا اعتبر في ذاته فهو شريف ولكنه يقال له خسيس بالنظر إلى ما هو أشرف. ولكن ما كان من الأشياء غاية في الشرف لا يبعد عن الله أقل من بعد أدنى الأشياء المخلوقة عن سامياتها وأشرافها. فإذاً لو كان هذا البعد يمنع معرفة الله، وعليه فينتج أن الله لا يعرف شيئاً آخر سواه. فإذاً إن كان الله يعرف شيئاً آخر سواه مهما تسامي هذا الشيء في الشرف فإنه لمثل هذا السبب يعرف كل يشء مهما وصف هذا بشدة الخساسة. وأيضاً إن خساسة المعروفات لا تعود بالذات على العارف، إذ من شأن المعرفة أن تكون صورة المعروف في العارف على شاكلة العارف. ولكن خساسة المعروف قد تعود على العارف بطريق العرض فيما لو انشغف العارف باعتبار خسائس الأمور انشغافاً يصدّه عن التفكر في أشرافها أو يجلبه إلى ما لا ينبغي من الأميال والأشواق. وأيضاً علم الإلهيات هو أسمى العلوم الإنسانية، وهو ينظر إلى الوجود من حيث هو وجود، من العلة الأولى الإلهية إلى القوة المادية التي هي أسفل الوجود. فإذاً ليست القوة التي تقوى على الصغائر إنما توصف بأنها صغيرة بل التي تتعين إلى الصغائر، لأن القوة التي تقوى على الكبائر تقوى أيضاً على الصغائر. وهكذا ورد في النص: إن الحكمة أكثر حركة من كل حركة، فهي لطهارتها تخترق وتنفذ كل شيء (الحكمة 7:24). هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ (الحشر 22-23).
وإن الله يعرف الشرور، ونقول هذا ضد المعارضة أن المعلوم موجود نوعاً ما في العارف، ولكن لا يمكن الشر أن يكون في الله. وكذلك قال ابن رشد أن عقل الله، الذي هو فعل محض، لا يعرف العدم (شرح كتاب النفس، 3/25). وجوابنا أن حقائق الأضداد ليست متضادة في النفس، بل يُعرف الضاد بمقابله. وأيضاً يعرف الله ما بين الأشياء من التمايز، والسلب داخل في حقيقة التمايز، إذ إن الأشياء المتمايزة إنما هي ما كان الواحد منها ما ليس الآخر. والعدم سلب في محل معين. فإذاً الله يعرف العدم والشر الذي إن هو إلاّ عدم كمال ينبغي وجوده. وأيضاً يعرف الله المادة، وقوة المادة تمتد إلى الصورة والعدم. فالله إذاً يعرف العدم فإذاً والشر أيضاً معروف عنده. وأيضاً إن معرفتنا للشرور من حيث هي معرفة وعلم لا نُلام عليها قط ولا نحقر من أجلها. وإنما نلام عليها بطريق العرض، من جهة أننا باعتبارنا الشر قد نقاد إلى الشر. وليس شيء من ذلك في الله. فإذاً نسمع: إنه يعرف أصحاب الباطل ويُبصر الإثم أفلا يفطن؟ (أيوب 11:11). وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ (البقرة 220).
أما العدم فنعرفه بالتجربة في أنفسنا، ولإنه لا عدم في الله لا يعرفه إلاّ بالنظر إلى ذاته من حيث هي علة الأغيار مع قواها وأعدامها. ولا يحدق بشرف الله أن يعرف الشر كما هو عدم الخير، فإن هذا حقيقته وهو على هذا النحو معلوم.
1.11 إرادة الله
إن الله مريد، وذلك من كونه عاقلاً، لأن الخير المعقول إنما هو موضوع الإرادة. والله يعقل الخير، لأنه يعقل الموجود مع ما فيه من حقيقة الخير. وأيضاً إن كل موجود يتشوق كماله وحفظ وجوده، فإن الموجودات العاقلة تتشوق بالإرادة والحيوانات بالشهوة الحسية وأما الخالية من الحس فبالشوق الطبيعي. فإذاً لما كان الله عاقلاً وجب أن يكون فيه إرادة يلذ له بها وجوده وخيريته. فإذاً بأكمل الإرادة يريد الله خيرية ذاته وخير سائر الأشياء التي لو لا اختيار إرادته لم وجدت. ويشير إلى إرادته النص: كل ما شاء الرب صنع في السموات والأرض (مزمور 135:6). وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (البقرة 105).
وإن إرادة الله هي نفس ذاته، لأن الله إنما هو مريد لأنه عاقل، ولكنه عاقل بذاته. فإذاً ومريد بذاته. وأيضاً لأن الله هو فعل محض وجب أن يكون فاعلاً بذاته. ولكن الإرادة هو فعل من أفعال الله. فوجب إذاً أن يكون الله مريداً بذاته. فإذاً إرادته ليست بقوة يطرأ عليها الفعل، بل هو ذاته بعينها.
وإن المراد الأولي لإرادته تعالى هو عين ذاته، لأن ما يدركه الله أولاً وبالأصالة إنما هو ذاته، ويدركها كالخير المطلق. وأيضاً لو كان لإرادة الله مراد أولي آخر غير ذاته تعالى للزم بالضرورة أن يكون شيء آخر غير نفسه علة لإرادته وأن تكون بالقوة لتأثير ذلك الشيء فيه، ولم يكن الله الموجود الأول وغاية الكل وخير الكل. وأيضاً إن كل قوة إنما تناسب وموضوعها الأولي الأصيل مناسبة المساواة، وعليه ليس شيء يناسب إرادة الله مناسبة مساواة إلاّ ذاته تعالى. فإذاً الموضوع الأول والأصيل لإرادة الله إنما هي ذاته. ولما كانت ذات الله هي نفس تعقله وجميع ما يقال إنه فيه تعالى، وضح أيضاً أنه تعالى يريد بالأصالة وبوجه سوي أن يعقل وأن يريد وأن يكون واحداً وما شاكل ذلك.
وإن الله بإرادته ذاته يريد ما سواه أيضاً، لأن الذي يريد غاية أولاً وبالإصالة شأنه أن يريد ما هو إلى تلك الغاية من أجل الغاية. والله إنما هو نفسه الغاية القصوى لجميع الأشياء. فإذاً لمجرد كونه يريد ذاته يريد أيضاً جميع ما سواه مما هو معدّ له إعداداً لغايته. وأيضاً كل وجود غير وجوده فإنما هو شيء من وجوده من جهة الشبه والمشاركة، لأنه يوجد مثاله في ذات الله. وأيضاً إنه من كمال قدرة الله أن تمدد عليتها إلى أكثر و أبعد، حتى تتسع إرادته لأسفل الخليقة. وكذلك نسمع: إنك تحب جميع الكائنات ولا تمقت شيئاً مما صنعت، فإنك لو أبغضت شيئاً لما كوّنته (الحكمة 11:24). وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذاريات 47).
وإن الله يريد ذاته والأغيار بفعل إرادة واحد، لأن الله إنما يريد جميع الأشياء من أجل ذاته على أنها غايتها وهي بعض شبهها. فبقي إذاً أن الله لا يريد ذاته بفعل إرادة وما سواه بفعل إرادة آخر، بل بفعل واجد بعينه. وأيضاً كمال إرادة الله وشدتها تناقضان كونها أن يكون لها فعلان، لأنه لو كان الله مريد الغاية وما هو إلى الغاية كلاً على حدة وانفراد فإنما يحصل في إرادته فعل انتقالي، وهذا نقص. وأيضاً لو كان الفعل الإرادي الذي يريد الله به ما دونه غير الفعل الإرادي الذي يريد به ذاته لكان في إرادته تعالى شيء آخر محركاً لإرادته. وهذا محال.
وإن كثرة المرادات لا تناقض لبساطة الله، لأن الأغيار التي يريدها متضمنة في خيرية ذاته، حيث تكون مراداً واحداً. وهي هنالك على شاكلته تعالى، أعني أن الماديات منها هي فيه بهيئة غير مادية والكثيرة بهيئة الواحدة. فبقي إذاً أن كثرة المرادات لا تكثر الجوهر الإلهي. وكما كثرة المعقولات لا توجد كثرة في ذاته تعالى فإذاً ولا كثرة المرادات توجد اختلافاً في ذاته أو تركباً في إرادته.
وإن الله يريد كل الخيور على وجه الخصوص والجزئية. فإنما لا يلزم القول بأن بساطة الله تفترض أن يريد الأغيار بمعنى أن يكون علتها الكلية بلا إرادة أفرادها. وهذا لأنه لا وجود للكلية في الطبيعة وإنما يوجد الأفراد، ولكل واحد منها وضعٌ في نظام العالم تحت قيادة الله. وأيضاً إن الله يعرف كل الأفراد، فإذاً يريدها. وكذلك نسمع: ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جداً (التكوين 1:31). فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون 14).
وإن الله يريد أيضاً الأشياء التي لم تكن بعد موجودة. ونقول هذا ضد المعارضة أنه يظهر أن الإرادة تضايُف المريد والمراد. فإذاً لزم أن لا يريد مريد إلاّ ما هو موجود. وأيضاً لا يجوز أن يوصف الله بأنه خالق ورب إلاّ بالإضافة إلى الأشياء الموجودة، ومن ثم فلا يجوز أن يقال أنه يريد غير الأشياء الموجودة. وأما الجواب أن الأشياء التي ليست موجودة في ذاتها إنما هي موجودة في الله وفي عقله، فلا يٌرى كافياً لأن هذا ينتج أن الله لا يريدها في أنفسها بل إنما على وجه أنها في عقله.
وجوابنا أن الله يعرف ما لم يكن موجوداً بعد ليس كإمكانية في عقله بل كما سيكون في الطبيعة في وقت معين. وكذلك إن إضافة إرادة الله هو إلى الشيء غير الموجود من حيث ذلك الشيء هو في طبيعته الخاصة وباعتبار زمان ما، لا من حيث هو فقط في الله العارف، فإن الله إنما يريد أن الشيء الذي ليس الآن موجوداً يكون موجوداً في زكان ما.
ليست حال إضافة المريد إلى المراد كحال إضافة الخالق إلى المخلوق والرب إلى الخليقة المربوبة، وذلك لأن الفعل الإردي فعل مستقر في نفس المريد فلا يستلزم إذاً فهم شيء موجود في الخارج، وبخلافه الخلق والصناعة أفعال تنتهي متعدية إلى أثر خارج يستحيل بدون وجوده أن يُفهم معناها.
وإن الله يريد بالضرورة وجوده وخيريته، لأن هذه إنهما موضوع إرادته الأولي والأصيل الذي هو له سبب إرادة ما سواه، وإرادته بالفعل. ويريد وجوده كالغاية القصوى التي بسببها يريد وجود الأغيار. وأيضاً إن جميع الأشياء من حيث هو موجودة تحب وجودها على شاكلتها محبة طبيعية. فالله إذاً بالأحرى يحب وجوده محبة طبيعية. وأيضاً إن كل كمال في المخلوقات إنما هو موجود لله وجوداً ذاتياً. ولكن محبة الله هي أسمى كمال للخليقة الناطقة لأنها بمحبتها لله تتحد به نوعاً من الاتحاد. فهذه المحبة هو إذاً موجودة في الله وجوداً بالذات. فإذاً يحب الله ذاته بالضرورة.
إن الله لا يريد ما سواه بالضرورة، لأنه إنما يريد الأغيار لأنها معدة لغاية خيريته، فلما كانت خيرته يمكن وجودها بدون الأغيار، بل لا يمكن لتلك الأغيار أن تزيدها شيئاَ لم يكن لله ضرورة في أن يريدها من أجل أنه يريد خيريته. وأيضاً إن الله بإرادته خيريته يريد وجود الأغيار لمشاركتها إياه في خيريته. وخيرية الله لكونها غير متناهية يمكن الاشتراك فيها يوجوه غير متناهية. فإذاً لو إن الله لمحرد أنه خيريته يريد بالضرورة ما يشاركه فيها، للزم أن يريد خلائق غير متناهية تشاركه في خيريته إلى ضروب غير متناهية، وهذا واضح البطلان. وإن الله يعرف الأغيار بالضرورة ولكنه لا يريدها بالضرورة، لأن العلم حالة ما في العاقل، وأما كون المريد يريد شيئاً فذلك لأن المراد حاصل على حالة ما، وهي وجوده في وقت ما.
وقد يلوح لبعض أنه، إن لا يريد الله الأغيار بالضرورة فيلزم عن ذلك محالات: فيشبه أن عدم الضرورة يقتضي أن إرادة الله مترددة بين طرفين وأنها بالقوة إليهما. فجوابنا أن القوة التي توصف بأنها إلى طرفين إنما يصدق عليها ذلك من أحد وجهين: أولهما من جهة القوة ذاتها، وثانيهما من جهة ما تقال إنها إليه. أما من جهة القوة نفسها فذلك إذا لم تكن القوة قد أحرزت كل كمالها الذي به تترجح إلى أحد الطرفين، وهذا راجع إلى نقص في القوة وهو دليل على أنها لم تزل بالقوة إلى شيء. وأما من جهة الشيء الذي يقال أن القوة إليه، فالقوة تكون إلى طرفين متى كان كمال فعلها غير متوقف على واحد من الطرفين بل يمكن وحود كليهما، كالصناع مثلاً الذي يكنه أن تستعمل لإنجاز عمل واحد آلات مختلفة على السواء، وهذا لا يتعلق بنقص في قوته بل بالأحرى يفضل فيها لتساميها على كلا الضدين. فإذاً حرية إرادة الله بالنسبة إلى المخلوقات لا تقتضي أنه متغير أو أنه فيه شيء مما هو بالقوة. ولا شيء خارجي يخصص إرادته بل إنما عقله يخصصها.
ولكن إن الله يريد شيئاً آخر سواه بالضرورة الفرضية، لأن إرادة الله براءة عن التغير، وكل لا متغير إذا وجد فيه شيء مرة فيستحيل أن لا يكون فيما بعد موجوداً فيه. فإذاً، وإن كونه يريد وجود شيء ليس ضرورياً باعتباره في ذاته مطلقاً لعدم تعلق إرادته تعالى بهذا الشيء المراد تعلقاً ضرورياً، يريده بالضرورة الفرضية. فإذاً لا يمكن أن لا يريد ما يريد، وإن لم يختص إرادته عن المراد. وكذلك إذا أراد شيئاً، مثل حياة الإنسان، فإنه يريد بالضرورة كل ما يُشترط ضرورة لحياة الإنسان. فهكذا نسمع: إن بهاء إسرائيل لا يكذب ولا يندم (1 صموعيل 15:29). فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (النحل 61).
و إن الله لا يمكنه أن يريد الأشياء التي هي مستحيلة في ذاتها، لأن مثل هذا الأشياء شأنها أن تتنافي، ككون الإنسان حماراً، أو الدائرة مربعة، فإن هذا يتضمن كون الناطق غير ناطق. وكل ما كان منافياً لشيء فإنه يسلب عن ذلك الشيء شيئاً من مقتضياته. فإذاً إن كان الله يريد بالضرورة الأشياء التي لا بد منها لما نفرض أنه يريده، كان من المستحيل أن يريد ما يناقضها. وعليه فيستحيل أن يريد الأشياء الممتنعة بذاتها امتناعاً مطلقاً.
وإن إرادة الله لا ينزع عن الأشياء صفة إمكانها، فإذا فرضنا أن الله يريد وجود شيئ لا يمكنه أن يكون ضرورياً ضرورة مطلقة، لأن نفوذ الإرادة الإليه لا أ يكون الشيء الذي يريده فقط، بل أيضاً أن يكون على الحال الإمكانية التي يريد أن يكون عليها. فقولنا “إن أراد الله شيئاً” لا يلزم عنه أن ذلك الشيء يوجد بالضرورة بل يلزم عنه أن هذه الشرطية وهي “إن أراد الله شيئاً فالشيء سيوجد” هي صادقة وضرورية.
وإن في إرادة الله نظام عقلي، لأن خيريته هو العلة الثي من أجلها يريد الله جميع الأشياء المباينة له. وأيضاً يعد الخير الجزئي لخير الكل إعداده لغايته. وأيضاً إذا نزّلنا أن الله يريد شيئاً فيلزم عنه بالضرورة أنه يريد كل ما هو من مقتضيات ذلك الشيء. وبرغم أن العالم ليس ضرورياً لخيرية الله، إنما في العالم بعض الشيء ضروري للبعض الآخر، وبعض الشيء مفيد لحسن حال الآخر فقط.
فينتج إذاً أن العلة التي تتعلل بها إرادة الله قد تكون تارة الليقة فقط، وأخرى النفع، ولكنها قد تكون طوراً الضرورة مع فرض. وأما كونها الواجب والضرورة المطلقة فذلك ليس يكون إلاّ عند ما يريد الله ذاته.
ولكن لا يمكن أن شيئاً يكون علة للإرادة الإلهية، لأن العلة للإرادة في أن تريد إنما هي الغاية، وغاية إرادة الله هو خيريته. فإذاً خيريته هي نفسها العلة لأن يريد، وهي أيضاً نفس إرادته. وأما ما سواها من مراداته تعالى فليس شيء منها علة لأن يريد، وإنما يكون الواحد منها علة لأن يكون الآخر موجّهاً ومعداً لخيريته الإلهية. على أنه لا يجب أن يُنزَّل في إرادة الله تدريج، أي انتقال ذهبي من شيء إلى آخر، لأن الله بفعل واحد يريد خيريته وجميع ما هو لخيريته، إذ إن فعله هو ذاته بعينها. وبما قيل الآن يندفع قول بعض الأشاعرة بأن صدور جميع الأشياء يحصل عن الله بإرادة بسيطة، بخيث لا يجب أن يُعطى لصدور شيء منها عنه سبب آخر غير هذا لأن الله أراد. وضد هذا وُرد: لقد صنعتَ الجميع بالحكمة (مزمور 104:24). هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (يونس 67).
وإن الله ذو حرية الإرادة، لأن الله يريد ذاته لأنها غايته، وأما ما سواه فإنه يريده بإرادته لما هو إلى الغاية. وهذا منصب الاختيار، الذي يتم دائماً بالحرية. فإذاً الله ذو حرية.
1.12 عبارات عن انفعالات الله وفضائله الأخلاقية
إن الله لا يوجد فيه شهوات النزوعات، لأن لا شهوة أو انفعال عن نزوع عقلى بل عن النزوع الحسي فقط. وليس يمكن أن يكون في الله نزوع حسي لخلوه من المعرفة الحسية. فبقي إذاً أن الله ليس فيه شهوة نزوعية
إلاّ إن بعض الانفعالات منفي عن الله لا باتعبار جنسه فقط بل أيضاً باعتبار نوعه. ومن أمثال هذا الحزن والألم، لأن موضوعهما الشر الملازم الحاصل، الذي ليس يمكن وجوده فيه تعالى. كذلك ليس يمكن وجود الرجاء والرغبة فيه تعالى، لأن موضوعهما الخير المطلوب، ولا ينقص الله شيء يطلبه. كذلك ليس يمكن وجود الخوف فيه تعالى، لأنه ينتسب إلى الشر الممكن الوقوع. كذلك ولا الندم، لأنه نوع من الحزن وأيضاً لأنه تغير في الإرادة. وكذلك ينافي الله الحسد، لأنه اغتمام لخير الغير ويستحيل أن الله يعتقد الخير شرّاً. وأخيراً ليس يمكن أن يكون فيه تعالى الغضب، لأنه مقعول الحزن وأيضاً لأنه طلب اننتقام من أجل الغم الحاصل عن إهانة موقعة.
إن الفرح واللذة في الله لا ينافي كماله، لا من حيث هو انفعالات ولكن باعتبار نوعهما. فالفرح واللذة متعلقتان بالخير الحاضر. فإذاً إنهما فيه تعالى على المستوى العقلي. ولكن بين الفرح واللذة فرقأً في السبب. فإن اللذة تنشأ عن اتصال الخير حقيقة، والفرح لا يقتضي هذا الاتصال. فإذاً إن الله يلتذ بذاته بمعنى اللذة الحقيقي، ولكنه يفرح أو يسر بذاته وبما هو سواه.
وإن في الله المحبة، لأنه من حقيقة المحبة أن يريد المحب خير محبوبه. والله يريد خير ذاته وخير غيره. وإن الله يريد خير كل واحد من حيث أنه خير المحبوب لأنه يريد وجود كل شيء من حيث إن الوجود خير بذاته، وإن كان مع ذلك يُعد الواحد من تلك لنفع الآخر. فالله إذاً يحب نفسه وما سواه محبة حقيقية. ولأن أصل كل الخير خيرية الله، إن في الله أكمل المحبة وآكدها.
وهل يمكن الله أن يحب واحداً أكثر مما يحب آخر؟ الجواب أنه لا يمكن أن تكون محبة الله أكثر أو أقل من جهة شدة الفعل لأن شدة الفعل إنما يقدّر بحسب القوة التي يتم بها الفعل. ولكن ليس شيء يمنع من القول أن الله يحب شيئاً أكثر من آخر بأن يريد له خيراً أعظم.
وأما كون الفرح واللذة موجودين في الله يشهد النص: سيكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب (لوقا 15:7). أحببتك حباً أبدياً (إرميا 31:3). وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ (الأنعام 133).
وإنما النصوص المقدسة تنسب مع ذلك إلى الله بعض كمالات لا تناسب باعتبار نوعها كمال الله، مثل الغضب والرحمة والندم، إلاّ أن تلك النسبة ليست من قبيل الحقيقة بل من قبيل المجاز لجامع التشابه في المفاعيل. فالله إذاً يقال حيناً أنه غاضب من حيث أنه رعايةً لنظام حكمته يريد عقوبة شخص ما. وأما وصفه تعالى بأنه رحيم فلأنه برأفته وجنانه يزيل بلايا البشر كما نحن أيضاً نفعل ذلك تلبية لانفعال العطف. وإنه يصف بالندامة من حيث إنه يصنع ما قد هدم أولاً ويهدم ما قد صنع بحسبما يقتضيه نظام حكمته الأبدي وغير المتغير. وأيضاً إن المحبة والفرح الموجودين حقيقة في الله هما مبدآن لجميع العواطف، فيقال مجازاً إن الله يحزن لحديث أشياء تضاد ما يحب ويستحسن.
وإن الفضائل بنوع ما يثبت وجودها في الله، لأن الفضيلة “ما يجعل صاحبها خيراً ويجعل فعله خيراً” (أرسطو، الأخلاق، 2/6/2)، والله الخير نفسه وفعله خير. ولكن ليست الفضيلة ملكة في الله كما هو فينا وذلك لأنه لا يليق بالله أن يكون خيراً بشيء آخر مضاف إليه بل إنما هو خير بذاته لبساطته من كل الوجوه. ثم أيضاً لأنه ليس يفعل بشيء زائد على ذاته إذ إن فعله نفس وجوده. ثم لا يمكن نسبة الفضائل العملية إلى الله، مثل الفضائل التي تكمل أخلاق البشر في معاشرتهم السياسية أو التي تتعلق بالخيرات الجسدية، كالعفة والشجاعة. ثم الفضائل التي تكفل تعديل الشوق إلى خير روحي كالشرف والتسلط والغلبة والانتقام، هو النجدة إي الشجاعة والشهامة والحمل وما شاكلها، هذه لا يمكن وجودها في الله تعالى حقيقة لجريانها على الانفعالات والشهوات، إلاّ مجازاً لتشبه أثرها، كما نسمع: لا قدوس مثل الرب (1 صموئيل 2:2). يدعوها جميعاً بأسمائها لعظمة قدرته وشدة قوته (أشعيا 40:26). وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (البقرة 225).
إن الفضائل التي مدارها على الأفعال موجدة في الله، وهي لا يكون مدارها على الشهوات بل على الأفعال، كالحق والعدالة والجود والسخاء والفطنة والصناعة. فلأن الأفعال التي هي مواد هذه الفضائل لا تنافي كمال الله.
فإن الصناعة جودة تصور المصنوعات، والله أحسن المكوّن، كما يشهد النص: مهندسة كل شيء علمتني وهي الحكمة (الحكمة 7:21). وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ (الحجر 85).
وإن الفطنة جودة تصور المفعولات، والله بمعرفته يختار ما يفعل، كما يشهد النص: الله عنده الحكمة والجبروت وله المشورة والفطنة (أيوب 12:13). ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ (يونس 3).
وإن العدالة إعطاء كل شيء ما هو له، والله بإرادته شيئاً إنما يريد ما يقتضيه كمال ذلك الشيء، كما نسمع: إن الرب بارّ يحب البر (مزمور 11:7). شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ (آل عمران 18).
وإن جودة العطاء إنما هو فعل الجود بدون أي استفادة، والله غاية الكل لا يتوقف البتة على الأشياء التي هي إلى الغاية. ولذلك نسمع: تُعطيهم فيلتقطون، تبسط يدك فخيراً يشبعون (مزمور 104:28). قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس 58).
وإن الحقية أن يُظهر المرء نفسه في أفعاله وأقواله على ما هو عليه، وإن جميع الأشياء التي تأخذ وجودها من الله لا بدّ أن تكون حاملة شبهه تعالى من جهة أنها موجودة ومن جهة أنها خيرات. فإذاً نسمع: جميع وصاياك حق (مزمور 119:151). إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (النساء 33).
وأما من أفعال الفضائل المذكورة بعضها لا يليق بالله، مثل الطاعة والخضوع وما شاكلهما، لأنها أفعال المسودين نحو أسيادهم. وبعض الأخرى غير كاملة، كالاستشار من أفعال الفطنة. فنسمع: من الذي أرشد روح الرب أو كان له مشيراً فعلّمه (أشعيا 40:13). قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة 32). وكذلك العدالة باعتبار فعلها التبادلي لا يمكن أن توجد في الله لأنه تعالى لا يأخذ شيئاً من آخر، كما وُرد: ومن الذي تقدمه بالعطاء فيُكافأ عليه؟ (إلى أهل رومة 11:35). اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ (الرعد 26). وإنما يوصف الله بالعدالة التوزيعية فقط، كما نسمع: وأعطى كلاً منهم على قدر طاقته (متى 25:15). لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (الأعراف 42).
ثم إن الفضائل المذكورة، من جهة أنها مقصورة التخصيص على تدبر الحياة الإنسانية العالمة، فهذه الفضائل باعتبار هذه الحيثية فيها لا يجوز نسبتها إلى الله. وأما من معنى العموم والشمول فيجوز حينئذ إثباتها للأمور الإلهية. والفضائل المذكورة إذاً هي في الله أعم شمولاً وتناولاً منها في الإنسان، لأنه كما إن العدالة في الإنسان ينصرف أمرها إلى المدينة والممزل فكذلك عدالة الله تشمل العالم بأسره. وعليه فتكون الفضائل الإلهية مُثلاً لفضائلنا. وأما سائر الفضائل التي لا توجد في الله حقيقة فهذه لا مثال لها في طبيعته تعالى بل مثالها في حكمته فقط لاشتمالها على الحقائق الخاصة لجميع الموجودات كما هو شأن سائر الأمور الجسمانية.
وإن الفضائل النظرية موجودة في الله. فإن الحكمة معرفة العلل السامية، وكان الله يعرف نفسه بأخص نوع ولا يعرف شيئأً آخر إلاّ بمعرفته نفسه، وهو تعالى العلة الأولى للجميع. فإذ1ً نسمع: كل حكمة فهي من الرب ولا تزال معه للأبد (يشوع بن سيراخ 1:1). وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (الأنعام 73).
وأيضاً إن العلم إنما هو معرفة الشيء لعلته الخصوصية. والله يعرف نظام جميع العلل والمعلولات، وبهذا يعرف العلل الخصوصية لأفراد الأشخاص، وعلمه ليس بمسبب عن البرها كعلمنا. فنسمع: إن الرب إله عليم (1 صموئيل 2:3). وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (الإسراء 55).
وأيضاً إن العقل هو المعرفة الحاصلة عن غير انتقال ذهني، ومعرفة الله بجميع الأشياء هي كذلك. وعليه نسمع: أنا الفطنة، لي الجبروت (الأمثال 8:14). إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (الملك 19).
وإن هذه الفضائل هي أيضاً مُثل لفضائلنا على نحو ما إن الكامل مثال لغير الكامل.
وإن الله لا يمكنه أن يريد الشر، لأن الفضيلة نفس ذاته، والفضيلة لا يفعل إلاّ الخير. وأيضاً إن الإرادة لا ينصرف أبداً إلى الشر إلاّ عن ضلال حاصل في العقل، وليس يمكن أن يكون في معرفة الله ضلال. وأثضاً إن الشر لا يقع في الإرادة إلاّ بانحرافها عن الغاية، وإرادة الله لا يمكن أن تصرف عن غايتها إذ لا يمكنه أن يرد شيئاً إلاّ بإرادته نفسه. فإذاً نسمع: الله أمين لا ظلم فيه، هو بار مستقيم (تثنية الشتراع 32:4). إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (يونس 44).
وإن الله لايبغض شيئاً، لأن البغض هو يترادف مع الشر، ويستحيل على إرادة الله أن تميل إلى الشر. وأيضاً إن إرادة الله إنما تنصرف إلى جميع ما سواه من حيث إنه يريد أن يكون فيه شبه خيريته بقدر الإمكان، فلأن الله يريد الخير لكل شيء فإذاً يحب جميع الأشياء ولا يبغضها. وأيضاً لو كان الله يبغض شيئاً لكان يريد أن لا يكون هذا في الوجود، لأن وجود الشيئ إشارة إلى أن الله يريده. فإننا نسمع: إنك تحب جميع الكائنات ولا تمقت شيئاً مما صنعت فإنك لو أبغضت شيئاً لما كوّنته. وكيف يبقى شيئ لم ترده أم كيف يُحفظ ما لم يدعه (الحكمة 11/24-25). قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (الحجر 56).
1.13 حياة الله
إن الله حي، إذ الحي هو المتحرك من ذاته لا عن غيره،، والتعقل والإرادة حركتان بمعنى أنهما فعلان باقيان داخل العاقل والمريد. فإذاً الله الذي هو نفس التعقل والإرادة هو حي بأسمى المعنى، كما نسمع: حي أنا للأبد (تثنية الاشتراع 32:40). اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (آل عمران 2).
وإن الله هو نفس حياته، لأنه تعالى لا يشترك في صورة أخرى، ولكن هو نفس وجوده ونفس تعقله وهما نفس الحياة. فإذاً نسمع: أنا الحياة (يوحنا 14:6). ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحج 6).
وإن حياة الله سرمدية، لأنه نفس الحياته ويستحيل أن تُفصل عن نفسه. وأيضاً لا يخضع الله لعلة تخرج نفسه من اللاوجود إلى الوجود وبالعكس، وأيضاً إن تعقله الذي هو الحياة نفس الله وليس له تعاقب. فإذاً نسمع: حي أنا للأبد (تثنية الاشتراع 32:40). اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (البقرة 255).
وكذلك إن الله سعيد، لأن السعادة حصول الطبيعة العقلية على خيرها الخاص. وذلك عمله الكامل على أربعة أمور: أولها أنه مستقر في نفسه، وثايها أنه عمل القوة الأسمى وهي العقل، وثالثها أنه إدراك أسمى مدرَك وهو ذاته، وربعها أنه على وجه الكمال والسهولة والمتانة والثبات والالتذاذ. وأيضاً إن السعيد إنما هو من كان حاصلاً على كل ما يريده ولا يريد شيئاً من الشر، وكذلك إن الله مستغن عن جميع ما سواه ولا يريد الشر. فإذاً نسمع: ذلك السعيد القدير وحده ملك الملوك ورب الأرباب الذي له وحده الخلود (1 طيموتاوس 6:15). كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (الرحمن 26).
وإن الله هو نفس سعادته، لأن نفس تعقله هو جوهره بعينه، وهذا ما يريد أولاً وهو الخير الأعظم والغاية القصوى للجميع.
وإن سعادة الله كاملة وتفرق كل سعادة دونها، لأنه نفس السعادة ولا يشترك فيها. وأيضاً لأن السعادة إنما هي القائمة بفعل العقل، يستحيل أن يوجد فعل آخر عقلي يضاهي فعله تعالى، فإنه بفعل واحد يعقل نفسه وكل ما سواه. وهذا الفعل كامل سرمدي، ليس له تعاقب أو تعب أو انشغال. ثم لا قياس البتة بين سعادة الإنسان وبين سعادة الله، ومن جهة السعادة النظرية إنه يرى بأكمل وجه وعلى الدوام ذاته وجميع ما سواه. وأما من جهة السعادة العملية فإنه تعالى لا يقتصر تدبيره على حياة الإنسان الفرد أو المنزل أو المدينة أو المملكة بل يتناول العالم قاطبة.
وأخيراً إن السعادة السرابية والأرضية إنما هي إلاّ ظل سعادته الكاملة لانحصار قيامها بخمسة أمور، هي لذة الحواس والغنى والسلطة والشرف وحسن الصيت. أما بالنسبة لللذة فإن له اللذة الكاملة في نفسه وفي كل شيء نبيل. وأما الغنى فالله له في ذاته عوض عن استغنائه التام بجميع الخيور. وبدلاً من السلطة له القوة الغير المتناهية. وبدلاً من الشرف له الرئاسة والأولية وتدبير جميع المخلوقات. وبدلاً من حسن الصيت له ما يأخذه من الإعجاب به تعالى كل عقل يدركه نوعاً من الإدراك.
فلله إذاً المتفرد بالسعادة الكرامة والجلال والمجد
إلى دهر الداهرين. آمين.