شرح المقدمات
لمحمد بن يوسف السنوسيفي مسألة تكفير المقلد
[من مخطوط Escorial 697][205ب] مراد الأربعة الأولى كفر الاستقلال وكفر التبعيض وكفر التقريب وكفر التقليد، ولم يجعل الشرع التأويل ولا التقليد في الكفر الصريح عذراً لصاحبه لإمكان معرفة الخطأ فيه بأدنى نظر، وإنما اختلف في من قال قولاً يلزم عنه النقص أو الكفر لزوماً خفياً لم يشعر به صاحبه، كالقول بالجهة في حق الله تعالى، وإنكار صفة المعاني دون المعنوية، وإضافة الأفعال الاختيارية إلى قدرة الحيوانات على سبيل الاستقلال، أو إثبات تشبيه، أو نعت بجارحة، أو نفي صفة كمال على طريق التأويل. ولاجتهاد المخطئ المقضي إلى الكفر أو البدعة فهذا النوع مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقد له.
قال القاضي عياض رضي الله عنه: وأكثر أكثر أقوال السلف تكفيرهم. ثم ذكر أن من الفقهاء والمتكلمين من صوب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف، ومنهم من أباه ولم ير إخراجهم من سواد المؤمنين، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال هم فسّاق وعصاة ضلال، ونورثهم من المسلمين ويحكم لهم بأحكامهم. ولهذا قال سحنون: لا إعادة على من صلى خلفهم، وهو قول جميع أصحاب مالك، منهم المغيرة وابن كنانة وأشهب. قال لأنه مسلم وذنبه لم يخرجه من الإسلام. واضطرب آخرون في ذلك ووقفوا على القول بالتكفير أو ضده، واختلاف قولي مالك في ذلك وتوقفه على [206أ] إعادة الصلاة خلفهم منه. وإلى نحو هذا ذهب القاضي أبو بكر إمام أهل التحقيق والحق. وقال إنها من العصاة إذ القوم لم يصرحوا بالكفر وإنما قالوا قولاً يؤدي إليه. واضطرب قوله في المسألة على نحو اضطراب إمامه مالك بن أنس، حتى قال في بعض كلامه إنهم على رأي من كفرهم بالتأويل لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا الصلاة على ميتهم، ويختلف في موارثيهم على الخلاف في ميراث المرتد. وقال أيضاً: تورث ميتهم ورثتهم المسلمين ولا نورثهم من المسلمين. أكثر ميله إلى ترك التكفير بالمقال. وكذلك اضطرب فيه قول شيخه الشيخ ابن الحسن الأشعري، وأكثر قوله ترك التكفير وأن الكفر خصلة واحدة وهو الجهل بوجود البارئ تعالى. وقال مرة: من اعتقد أن الله سبحانه جسم أو المسيح أو بعض من يلقاه في الطريق فليس بعارف به وهو كافر. ولمثل هذا ذهب أبو المعالي رحمه الله تعالى في أجوبته لأبي محمد عبد الحق، وكان سأله عن المسألة فاعتذر بأن الغلط فيها يصعب لأن إدخال الكافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين. وقال غيرهما من المحققين الذي يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد. وقد قال عليه الصلاة والسلام: فإذا قالوه يعني الشهادة عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، والعصمة مقطوع بها مع الشهادة ولا ترفع ولا يستباح خلافها إلا بقاطع، ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه. وألفاظ الأحاديث الواردة في الباب معرضة للتأويل.
ثم قال القاضي بعد هاذا: والصواب ترك تكفيرهم والإعراض عن الختم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم وورثتهم ومناكحتهم وإبائهم الصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين وسائر معاملتهم، لكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب وشديد الزجر والمجر حتى يرجعوا عن بدعتهم. وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم، فقد كان نشأ عن زمن الصحابة وبعدهم في التابعين من قدر بهذه الأقوال من القدرية ورأي الخوارج والاعتزال [206ب] مما حولوا لهم قبراً، ولا قطعوا لأحد منهم ميراث لكنهم هجروهم وأدبوهم بالضرب والنفي والقتل على قدر أحوالهم لأنهم فصاق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين وأهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافاً لمن رأى غير ذلك. انتهى.
وبالجملة فالذي أجمع عليه أهل الحق أن الصواب والحق في العقليات واحد والمخطئ فيه آثم عاص فاسق. ثم اختلفوا في التكفير على حسب ما سبق. وقد ذهب العنبري من المبتدعة إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضه للتأويل، وفارق في ذلك إجماع الأمة.
قال القاضي في الشفاء: وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني مثل قول عبيد الله يعني العنبري عن داود الأصبهاني. قال وحكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا أو غيرهم. وقال نحو هذا الجاحظ وثُمامة في أن كثيراً من العامة والنساء والبله ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله عليهم إذ لم تكن لهم طبائع يمكن معها الاستدلال. قال وقد نحا الغزالي قريباً من هذا المنحى في كتاب التفرقة. وقائل هذا كافر بإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك. قال القاضي أبو بكر لأن التوفيق والإجماع على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص، والمتوقف أوشك فيه لا يقع من كافر. انتهى.
قلت: والذي أظنه أن الغزالي رحمه الله إنما ذكر في التفرقة العذر في حق من بعدت بلاده من بلاد المسلمين ولم تصله دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً أو وصلته على غير وجهها من النساء والبله، وأما من قربت بلاده من بلاد المسلمين ووصلته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على وجهها أو أمكنته معرفتها من المسلمين فالغزالي يوافق على كفره وأنه لا عذر له في الآخرة. وعلى هذا فالغزالي بعيد من أقوال أولئك المبتدعة المخالفين لإجماع أهل الحق. والله تعالى أعلم.