البكري

المسالك والممالك

ومن هذه الصحراء إلى زويلة يوم. 1097. وهي بجوفيّ مدينة أجدانية، وهو مدينة غير مسورة في وسط الصحراء، وهو أول حد بلاد السودان، وبها جامع وحمام وأسواق يجتمع بها الرفاق من كل جهة منها، ومنها يفترق قاصدهم وتتشعب طرقهم، وبها نخيل وبساط للزرع يسعى بالإبل، ولم قتح عمر برقة بعث عُقبة بن نافع حتى بلغ زويلة وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين. وبزويلة قبر دعبل بن علي الخزاعي الشاعر. قال بكر بن حماد كامل:

الموت غادر دعبلا بزويلة - وبأرض برقة أحمد بن خصيب.

1098. وبين زويلة ومدينة أجدابية أربع عشر مرحلة. ولأهل زويلة حكمة في احتراس بلدهم، وذلك أن الذي عليه نوبة الاحتراس منهم يعمد إلى دابة فيشد عليها حزمة حطب كبيرة من جرائد النخل ينال سعفها الأرض، ثم يدور بها حوالي المدينة، فإذا أصبح من الغد ركب ذلك المحترس ومن يتبعه على جمال السروج وداروا بالمدينة، فإن رأو أثراً خارجاً من المدينة أتبعوه حتى يدركوه أينما توجه لصاً كان أو عبداً أو أمة أو بعيراً.

1099. وزويلة من أطرابلس بين المغرب والقبلة، ويجلب من زويلة الرقيق إلى ناحية إفريقية وما هنالك ومبايعتهم بثياب قصار حمر. وبين زويلة وبلد كانم أربعون مرحلة، وهم وراء صحراء بلاد زويلة لا يكاد أحد يصل إليهم وهم سودان مشركون. ويزعمون أن هنالك قوماً من بني أمية صاروا إليها عند محنتهم بالعباسيين، وهم على زي العرب وأحوالها.

1393. ومدينة سجلماسة بنيت سنة أربعين ومائة، وبعمارتها خلت مدينة تدغة وبينهما يومان وبعمارتها خلت زيز أيضاً. ومدينة سجلماسة مدينة سهلية أرضها سبخة، حولها أرباض كثيرة وفيها دور رفيعة ومبان سرية ولها بساتين كثيرة، وسورها أسفلها مبني بالحجارة وأعلاه بالطوب، بناه أليسع أبو منصور بن أبي القاسم من ماله لم يشركه في الإنفاق عليه أحد، أنفق فيه ألف مدى طعام، ولها اثنا عشر باباً ثمانية منها حديد. وكان بناء أليسع له سنة تسع وتسعين ومائة، وارتحل إليها سنة مائتين وقسمها على القبائل على ما هي عليه اليوم. وهم يلتزمون النقاب، فإذا حسر أحدهم عن وجهه لم يميزه أحد من أهله.

1394. وهي على نهرين وعنصرهما من موضغ يقال له أجلف تمده عيون كثيرة، فإذا قرب من سجلماسة تشعب نهرين يسلك شرقيها وغربيها. وجامعها متقن البناء بناه أليسع فأجاده، وحماماتها رديئة البناء غير محكمة العمل. وماؤها زعاق وكذلك جميع ما ينبط من الماء بسجلماسة، وشرب زروعهم من النهر في حياض كحياض البساتين، وهي كثيرة النخيل والأعناب وجميع الفواكه، وزبيب عنبها المعرش الذي لا تناله الشمس لا يزبب إلا في الظل ويعرفونه بالظلي، وما أصابته الشمس منه زبب في الشمس.

1395. ومدينة سجلماسة في أول الصحراء لا يعرف في غربيها ولا في قبليها عمران، وليس بسجلماسة ذباب ولا يتجذم من أهلها أحد، وإذا دخلها مجذم توقف عنه علته. وأهل سجلماسة يسمنون الكلاب ويأكلونها كما يصنع أهل مدينة قفصة وقسطيلية، ويأكلون الزرع إذا أخرج شطأه وهو عندهم مستطرف. والمجذمون عندهم هم الكنافون، والبناؤون عندهم يهود لا يتجاورهم هذه الصناعة.

1396. ومن مدينة سجلماسة تدخل إلى بلاد السودان إلى غانة، وبينها وبني مدينة غانة مسيرة شهرين في صحراء غير عامرة إلا بقوم ظاعنين لا يطمئن بهم منزل، وهم بنو مسوفة من صنهاجة، ليس لهم مدينة يأوون إليها إلا وادي درعة، وبين سجلماسة ووادي درعة مسيرة خمسة أيام.

1414. من تامدُلت إلى بئر الجمالين مرحة، وهذه البئر عمقها أربع قامات من أنباط عبد الرحمان بن حبيب. ومنها إلى شعب ضيق لا تسير فيه الإبل إلا متتابعة مرحلة. ثم تسير في جبل يمسى أزور ثلاثة أيام، وهو محجر تجفى فيه الإبل ينبت أم غيلان، ومن خرج فيه عن الطريق أصاب زبر حديد مثقبة لا تذيبه النار. وهذا الجبل كثير الثعابين، طوله مسيرة عشرة أيام من أول طريق سجلماسة إلى جانب البحر المحيط. ويقال إن جبل أزور متصل بجبل نفوسة من جبال أطرابلس، وأحسبه جبل درن المذكور قبل هذا الذي ينبعث من تحته وادي درعة. فتسير في هذا جبل ثلاثة أيام إلى ماء يسمى تندفس آبار يحتفرها المسافرون، فلا تلبث أن تنهار وتندفن. ثم تسير منه ثلاثة أيام إلى بئر كبيرة يقال لها وين هيلون. ثم تمشي ثلاثة أيام في أرض سواء صحراء ربما وجد فيها الماء على صفاء تحت الرمل من بقية الأمطار، إلى ماء نزر يقال له تازقى وتفسيره البيت.

1415. ثم تسير منه إلى بئر أنبطها عبد الرحمان بن حبيب واحتفرها في حجر أدعج صلب طولها أربع قامات مرحلة. ثم تسير منها إلى بئر يقال لها ويطونان وهو كبيرة لا تنزف، ماؤها زعاق يسهل شاربيه من الناس والأنعام، وهو من عمل عبد الرحمان بن حبيب أيضاً طولها ثلاث قامات، ثلاث مراحل. ثم تمسي منه في أربع مراحل إلى موضع يقال له أوكازنت أرض زرقاء، ينبط أهل الرفاق فيها الماء على ذراعين وثلاث. ثم تمشي في مجابة جبال رمل معترضة لا ماء فيها، وهو أصعب موضع بطريق أودغست، أربعة أيام إلى موضع يقال له وانزميرن آبار قريبة الرشاء فيها العذب والشريب، وعليه جبل طويل صعب كثير الوحوش. وبهذا الماء يجتمع جميع طرق بلاد السودان، وهو موضع مخوف تغير فيه لمطة وجزولة على الرفاق ويتخذونه مرصداً لهم لعلمهم بإفضاء الطرق إليه وحاجة الناس إلى الماء فيه. ثم تمشي منه في بلد واران خمسة أيام مجابة في كثبان رمل إلى بئر عظيمة في حد بني وارث قبيل من صنهاجة، على تلك البئر شجر يقال له السقنى، وهو شجر الأهليلج إلا أنه لا يثمر.

1416. ثم تسير منه يومين إلى ماء يقال له أغرف آبار ملحة تردها أذوات لصنهاجة فتصلح عليه تتصح به، وكل ماء ملح فموافق الإبل. ثم تسير منه ثلاثة أيما إلى موضع يقال له أقر تندى تفسيره مجتمع الماء فيه أصناف كثيرة من الشجر وفيه الحناء والحبق. ثم تسير منه يوماً في جبل يقال له أزجونان يقطع فيه السودان. ثم تمشي يوماً في رمال شجرة إلى ماء يقال له بئر واران ماؤها زعاق. ثم تمشي في أرض لصنهاجة كثيرة الماء من الآبار ثلاثة أيام. ثم تسير منه إلى شرف عال مشرف على أودغست فيه طير كثير يشبه الحمام واليمام إلا أنه أصغر رؤوساً وأغلظ مناقر، وفيه أشجار الصمغ الذي يجلب إلى الأندلس يصمغ بها الذيباج، مرحلة. ثم إلى أودغست.

1417. وهي مدينة كبيرة آهلة رملية يطل عليها جبل كبير موات لا ينبت شيئاً، بها جامع ومساجد كثيرة آهلة في جميعها المعلمون للقرآن، وحولها بساتين النخل، ويزدرعون فيها القمح والفوس وسقى بالدلاء يأكله ملوكهم وأهل اليسار منهم، وسائر أهلها يأكلون الذرة، والمقائي تجود عندهم. وبها جنان حناء لها غلة كبيرة، وبها آبار عذبة والغنم والبقر أكثر شيء عندهم، يشترى بالمثقال والواحد عشرة أكبش وأكثر. وعسلها أيضاً كثير يأتيها من بلاد السودان. وهم أرباب نعم جزيلة وأموال جليلة، وسوقها عامرة الدهر كله لا يسمع الرجل فيها كلام جليسه لكثرة جمعه وضوضاء أهله. وتبايعهم بالتبروليس عندهم فضة.

1418. وبها مبان حسنة ومنزل رفيعة، وهو بلد وبيء ألوان أهله مصفرة وأمراضهم الحميات والطحال لا يكاد يخلو من إحدى العلتين أحد منهم. ويجلب إليها القمح والثمر والزبيب من بلاد الإسلام على بعد. وسعر القمح عندهم في أكثر الأوقات القنطار بستة مثاقيل وكذلك الثمر والزبيب. وسكانها أهل إفريقية وبرقجانة ونفوسة ولواتة وزناتة ونفزاوة، هؤلاء أكثرهم، وبها نبذ من سائر الأمصار. وبها سودانيات طباخات محسنات تباع الواحد منهم بمائة مثقال وأكثر، تحسن عمل الأطعمة الطيبة من الجوزينقات والقطائف وأصناف الحلوات وغير ذلك. وبها جوار حسان والوجوه بيض الألوان منثنيات القدود لا تنكسر لهن نهود، لطاف الخصور ضخام الأرداف واسعات الأكتاف ضيقات الفروج المستمتع بإحداهن كأنه يتمتع ببكر أبداً.

1419. قال محمد بن يوسف: أخبرني أبو بكر أحمد بن خلوف الفاسي شيخ من أهل الحج والخير قال: أخبرني أبو رستم النفوسي وكان من تجار أودغست أنه رأى منهن امرأة راقدة على جنبها، وكذلك يفعلن في أكثر حالهن إشفاقاً من الجلوس على أردافهن، وراى ولدها طفلاً يلاعبها ويدخل من تحت خصرها وينفذ من الجهة الأخرى من غير أن تتجافى له شيئاً لعظم ردفها ولطف خصرها. والحيوان الذي يعمل منه الدرق حوالي أودغست كثير جداً. ويتجهز إلى أودغست بالنحاس المصنوع وبثياب مصبغ بالحمرة والزرقة مجنحة، ويجلب منها العنبر المخلوق الجيد لقرب البحر المحيط منهم. والذهب الإبريز الخالص خيوطاً مفتولة، وذهب أودغست أجود ذهب الأرض وأصحه.

1420. وكان صاحب أودغست في عشر الخمسين وثلاث مائة تين يروتان بن ويسنو بن نزار رجل من صنهاجة، وكان قد دان له أزيد من عشرين ملكاً من ملوك السودان كلهم يؤدون إليه الجزية، وكان عمله مسيرة شهرين في مثلها في عمارة يعتد في مائة ألف نجيب، واستمده معد بن ملك ماسين على ملك أوغام فأمده بخمسين ألف نجيب، فدخلت بلاد أوغام وعساكره غافلة، فغنمت البلد وأحرقته. فلما نظر أوغام إلى ما حل ببلده هان عليه الموت فرمى بدرقته وثنى رجله عن دابته وجلس عليها، فقتلته أصحاب تين يروتان. فلما عاينت نساء أوغام إليه قتيلاً تردين في الآبار وقتلن أنفسهن بضروب القتل أسفاً عليه وأنفة من أن يملكهن البيضان.

1421. فأما الطريق من أودغست إلى بلد سجلماسة فمن أودعست إلى تامدلت على ما ذكرنا أيضاً، وذلك أربعون مرحلة. ومن تامدلت إلى سجلماسة على ما ذكرناه قبل هذا إحدى عشرة مرحلة. فذلك إحدى وخمسون مرحلة. وبين أودغست ومدينة القيروان مائة مرحلة وعشر مراحل.

الطريق من وادي درعة في الصحراء إلى بلاد السودان

1430. من وادي درعة خمس مراحل إلى وادي تارجا، وهو أول الصحراء. ثم تمشي في الصحراء فتجد الماء على اليومين والثلاثة حتى تصل إلى رأس المجابة إلى البئر المسماة تزامت بئر معينة غير عذبة، وهو إلى الملوحة أقرب، قد أنبطت في حجر صلد من عمل الأول، ويزعم قوم أن بني أمية صنعها. وفي الشرق منها بئر تسمى بئر الجمالين، وعلى مقربة منها أيضاً بئر تسمى ناللي كلها غير عذبة، وبين هذه الآبار الثلاث وبلاد الإسلام مسيرة أربعة أيام. ومنها إلى جبل يسمى بالبربرية أدراران (وزّال تفسيره) جبل الحديد مثل ذلك. ومن هذا الجبل مجابة ماؤها على ثمانية أيام، وهي المجابة الكبرى، وذلك الماء في بين ينتسر من صنهاجة، ومن بني ينتسر إلى قرية تسمى مدوكن لصنهاجة أيضاً. ومنها إلى مدينة غانة أربعة أيام.

ومن الآبار الثلاثة المذكورة مجابة ماؤها على أربعة أيام إلى ايزل، وهو جبل في الصحراء، إلى قبيل من صنهاجة يعرقون ببني لمتونة ظواعن رحالة في الصحراء، مراحلهم فيه مسيرة شهرين في شهرين ما بين بلاد السودان وبلاد الإسلام ويصيفون في موضع يسمى أمطلوس وآخر يسمى تاليوين، وهم إلى بلاد السودان أقرب. وبينهم وبلاد السودان نحو عشر مراحل، وليس يعرفون حرثاً ولا يزرعون زرعاً ولا يعرفون خبزاً، إنما أموالهم الأنعام وعيشهم من اللحم واللبن ينفد عمر أحدهم ولا رأى خبزاً ولا أكله إلا أن يمر بهم التجار من بلاد الإسلام أو بلاد السودان فيطعمونهم الخبز ويتحفونهم بالدقيق، وهم على السنة مجاهدون للسودان.

1431. وكان رئيسهم محمد المعروف بتارشنى من أهل الفضل والخير والدين والحج والجهاد، وهلك بموضع يقال له قنقارة-وقيل كنكارة-من بلاد السودان، وهم قبيل من السودان بغربي مدينة بنكلابين، وهي مدينة يسكنها جماعة من المسلمين يعرفون ببني وارث من صنهاجة. وخلف بي لمتونة قبيلة من صنهاجة تسمى بني جدالة وهم يجاورون البحر وليس بينهم وبينه أحد.

1432. وهذه القبائل هي التي قامت بعد الأربعين وأربعمائة بدعوة الحق ورد المظالم وقطع جميع المغارم، وهم على السنة ومتمسكون بمذهب مالك بن أنس رضه، وكان الذي نهج ذلك فيهم ودعا الناس إلى الرباط ودعوة الحق عبد الله بن ياسين. وذلك أن رئيسهم كان يحيى بن إبراهيم من بني جدالة وحج في بعض السنين ولقي في صدره عن حجة الفقيه أبا عمران الفاسي، فسأله أبو عمران عن بلده وسيرته وما ينتحلونه من المذاهب، فلم يجد عنده علماً بشيء إلا أنه رآه حريصاً على التعلم صحيح النية واليقين، فقال له: ما يمنعكم من تعلم الشرع على وجهه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال له: لا يصل إلينا إلا معلمون لا ورع لهم ولا علم بالسنة عندهم. ورغب إلى أبي عمران أن يرسل معه من تلاميذه من يثق بعلمه ودينه ليعلمهم ويقيم أحكام الشريعة عندهم، فلم يجد أبو عمران فيمن رضيه من يجيبه إلى السير معه. فقال له أبو عمران: إني قد عدمت بالقيروان بغيتكم وإن بملكوس فقيهاً حاذقاً ورعاً قد لقيني وعرف ذلك منه يقال له وجاج بن زلوي، فمر به فربما ظفرت عنده بيغيتك.

1433. فجعل ذلك يحيى بن إبراهيم أوكد همه فنزل به وعلمه ما جرى له مع أبي عمران. فاخار له وجاج من أصحابه رجلاً يقال له عبد الله بن ياسين، واسم أمه تين يزامارن من أهل جزولة من قرية تسمى تماماناوت في طرف صحراء مدينة غانة، فوصل به إلى موضعه واجتمعوا للتعلم منه والانقياد له في سبعين رجلاً. فغزوا بني لمتونة وحاصروهم في جبل لهم فهزموهم وجعلوا ما اتخذوا من أموالهم مغنماً، فلم يزل أمرهم يقوى واستعملوا على أنفسهم يحيى بن عمر بن تلاجاجين وعبد الله بن ياسين مقيم فيهم متورعاً عن أكل لحمانهم وشرب ألبانهم لما كانت أموالهم غير طيبة، وإنما كان عيشه من صيد البرية. ثم أمرهم ببناء مدينة سموها أرتنني وأمرهم أن لا يشف بناء بعضهم على بناء بعض، فامتثلوا ذلك وهم يسمعون له ويطيعون إلى أن نقموا عليه أشياء يطول ذكرها، وكأنهم وجدوا في أحكامه بعض التناقض.

1434. فقام عليه قفيه منهم كان اسمه الجوهر بن سكم مع رجلين من كربائهم يقال لأحدهما أيار وللآخر أينتكوا، فعزلوه عن الرأي والمشورة وقبضوا منه بيت مالهم وطردوه وهدموا داره وأنهبوا ما كان فيها من أثاث وخرثى. فخرج مستخفياً من قبائل صنهاجة إلى أن أتى وجاج بن زلوي فقيه ملكوس. فعاتبهم وجاج على ما كان منهم إلى عبد الله وأعلمهم أن من خالف أمر عبد الله فقد فارق الجماعة وأن دمه هذر، وأمر عبد الله بالرجوع إليهم فرجع وقتل الذين قاموا عليه وقتل خلقاً كثيراً ممن استوجب القتل عنده لجراية أو فسق واستولى على الصحراء كلها. وأجابه جميع تلك القبائل ودخلوا في دعوته والتزموا السنة به. ثم نهضوا إلى لمطة وسألوهم ثلث أموالهم ليطيب لهم بذلك الثلثان، وهكذا سن لهم عبد الله في الأموال المختلطة، فأجابوهم إلى ذلك ودخلوا معهم في دعوتهم.

1435. وأول ما أخذوا من البلاد المخالفة لهم درعة، ولهم في قتالهم شدة وجلد ليس لغيرهم، وهم يختارون الموت على الانهزام ولا يحفظ لهم فرار من زحف، وهم يقاتلون على الخيل والنجب وأكثر قتالهم رجالة صفوفاً بأيدي الصف الأول القنى الطوال للمداعيسة والطعان، وما يليه من الصفوف بأيديهم المزاريق يحمل الرجل الواحد منها عدة يزرقها فلا يكاد يخطئ ولا يشوى. ولهم رجل قد قدموه أمام الصف بيده الراية، فهم يقفون ما وقفت منتصبة، وإن أمالها إلى الأرض جلسوا جميعاً فكانوا أثبت من الهضاب، ومن فر أمامهم لم يتبعوه. وهم يقتلون الكلاب لا يستصحبون منها شيئاً.

1436. وكان يحيى بن عمر أشد الناس انقياداً لعبد الله بن ياسين وامتثالاً لما يأمره به، ولقد حدث جماعة أن عبد الله قال له في بعض تلك الحروب: أيها الأمير إن عليك حقاً أدباً. فقال له يحيى: قما الذي أوجبه علي؟ قال له عبد الله: إني لا أخبرك به حتى أؤدبك وآخذ حق الله منك. فطاع له الأمير بذالك وحكمه في بشرته فضربه الفقيه ضربات بالسوط، ثم قال له: الأمير لا يدخل القتال بنفسه لأن حياته حياة عسكره وهلاكه هلاكهم.

1437. وغزا المرابطون مدينة سجلماسة بعد أن خاطبوا أهلها ورئيسهم مسعود بن وانودين المغراوي، فلم يجيبوهم إلى ما أرادوا، فغزوهم في جيش عدتة ثلاثون ألف جمل سرج، فقتلوا مسعوداً واستولوا على مدينة سجلماسة وتخلفوا فيها جماعة منهم، ثم عادوا إلى بلادهم. فغدر أهل سجلماسة بالمرابطين بالمسجد فقتلوا منهم عدداً كثيراً، وذلك سنة ست وأربعين وأربعمائة. وندم أهل سجلماسة على ما فعلوا وتواترت رسلهم على عبد الله بن ياسين أن يرجع عليهم العساكر ويذكرون أن زناتة زحفت إليهم، فندب عبد الله المرابطين إلى غزو زناتة ثانية، فأبوا عليه وخالف عليه بنو جدالة وذهبوا إلى ساحل البحر. فأمر عبد الله الأمير يحيى أن يتحصن بجبل لمتونة، وهو جبل منيع كثير الماء والكلأ في طوله مسافة ستة أيام وفي عرضه مسافة يوم، وهناك حصن يسمى أركى حوله نحو عشرين ألف نخلة كان بناه يانو بن عمر الحاج أخو يحيى بن عمر.

1438. فصاريحيى في جبل لمتونة، وذهب عبد الله بن ياسين إلى مدينة سجلماسة في مائتي رجل من قبائل صنهاجة ونزل موضعاً يقال له تامدولت حصن فيه مياه ونخل كثير، ويشرف عليه جبل فيه معدن فضة معلوم هناك. فاجتمع لعبد الله جيش كثيف من سرطة وترجة ولهم هناك حصون. وكان أبو بكر بن عمر بدرعة مع أحمد بن أمدجنو، فأمّره عبد الله مكان أخيه يحيى المتخلف بجبل لمتونة. ثم رجعت جيوش بني جدالة إلى يحيى بن عمر فحاصروه في الجبل، وذلك سنة ثمان وأربعين، وهم في نحو ثلاثين ألفاً. وكان مع يحيى أيضاً عدد كثير، وكان معه لبّي بن ورجاي رئيس تكرور، وكان التقاؤهم هناك بموضع يسمى تيفريلى بين تاليوين وجبل لمتونة. فقُتل يحيى بن عمر رحمه الله وقتل معه بشر كثيب، وهم يذكرون أنهم يسمعون في هذا الموضع أصوات المؤذنين عند أوقات الصلوات، وهم يتحامونه ولا يدخله أحد ولا أخذ منع سيف ولا درقة ولا سيء من أسلحتهم ولا ثيابهم. ولم يكن للمرابطين بعد كرة إلى بين جدالة.

1439. وفي سنة ست وأربعين غزا عبد الله بن ياسين أودغست، وهو بلد قائم العمارة مدينة كبيرة فيها أسواق ونخل كثير وأشجار الحناء، وهي في العظم كشجر الزيتون، وهي كانت منزل ملك السودان المسمى بغانة قبل أن يدخل العرب غانة، وهي متقنة المباني حسنة المنازل، ومسافة ما بينها وبين سجلماسة مسيرة شهرين وبينها وبين مدينة غانة خمسة عشر يوماً. وكان يسكن هذه المدينة زناتة مع العرب وكانوا متباغضين متدابرين، وكانت لهم أموال عظيمة ورقيق كثير كان للرجل منهم ألف خادم وأكثر. فاستباح المرابطون حريمها وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئاً، وقتل فيها عبد الله بن ياسين رجلاً من العرب المولدين من أهل القيروان معلوماً بالورع والصلاح وتلاوة القرآن وحج البيت يسمى زباقرة، وإنما نقموا عليهم أنهم كانوا تحت طاعة صاحب غانة وحكمه.

1440. وغزا عبد الله بن ياسين أغمات سنة تسع وأربعين، واستولى على بلاد المصامدة سنة خمسين، وقُتل ببرغواطة سنة إحدى وخمسين بموضع يسمى كريفلت، وعلى قبره اليوم مشهد مقصود ورابطة معمورة. ولم يقتل عبد الله بن ياسين حتى استولى على سجلماسة وأعمالها والسوس كله وأغمات ونول والصحراء.

1441. ومما يذكرونه ولا يشكون فيه من براهين صلاح عبد الله أنه ذهب في بعض أسفاره فعطشوا فشكوا ذلك إليه، فقال: عسى الله أن يجعل لنا من أمرنا فرجاً. ثم سار بهم ساعة وقال لهم: احفروا بين يدي. فحفروا فوجدوا الماء بأدنى حفر، فشربوا وسقوا واستقوا أعذب ماء وأطيبه.

ويذكرون أنه نزل منزلاً تقرب منه بركة ماء وكانت كثيرة الضفادع لا يسكن نقيقها، فإذا وقف عبد الله على البركة لا يسمع لها ركز.

وهم الآن لا تقدم طائفة منهم أحداً للصلاة بها إلا من صلى وراء عبد الله وإن كان في تلك الطائفة أقرأ منه وأورع ممن لم يصل وراءه.

وكان عبد الله نكاحاً للنساء يتزوج في الشهر عدداً منهن ويطلقهن، لا يسمع بامرأة حسناء إلا خطبها، ولا يتجاوز بصدقاتهن أربعة مثاقيل.

ذكر ما شذ فيه عبد الله بن ياسين من الأحكام

1442. من ذلك أخذه الثلث من الأموال المختلطة، وزعم أن ذلك يطيب باقيها ويحله، وقد تقدم ذكرها. هذا وأن الرجل إذا دخل في دعوتهم وتاب عن سالف ذنوبه قالوا له: قد أذنبت ذنوباً كثيرة في شبابك، فيجب أن تقام عليك حدودها وتطهر من إثمها، فيضرب حد الزاني مائة سوط وحد المفتري ثمانين سوطاً وحد الشارب مثلها، وربما زيد على ذلك. وهكذا يفعلون بمن تغلبوا عليه وأدخلوه في رباطهم، وإن علموا أنه قتل قتلوه سواء أتاهم تائباً طائعاً أو غلبوا عليه مجاهراً عاصياً لا تنفعه توبته ولا تغني عنه رجعته. ومن تخلف عن مشاهدة الصلاة مع الجماعة ضرب عشرين سوطاً، ومن فاتته ركعة ضرب خمسة أسواط. ويأخذون الناس بصلاة ظهر أربعاً قبل صلاة الظهر في الجماعة، وكذلك في سائر الصلوات، ويقولون: إنك لا بد قد فرطت في سالف عمرك فاقض ذلك. وأكثر عوامهم يصلون بغير وضوء إذا أعجلهم الأمر جزعاً من الضرب. ومن رفع صوته في المسجد ضرب على قدر ما يراه الضارب له صلاحاً. وزكاة الفطر يأخذونها وينفقونها على أنفسهم.

1443. ومما يحفظ من جهل عبد الله بن ياسين أن رجلاً اختصم إليه مع تاجر غريب عندهم، فقال التاجر في بعض مراجعته لخصمه: حاشى لله أن يكون ذلك. فأمر عبد الله بضربه وقال: لقد قال كلاماً فظيعاً وقولاً شنيعاً يوجب عليه أشد الأدب. وكان بالحضرة رجل قيرواني فقال لعبد الله: وما تنكر من مقالته؟ والله عز وجل قد ذكر ذلك في كتابه فقال حكاية عن النسوة اللائي قطعن أيديهن في قصة يوسف: حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. فرفع الضرب عن ذلك الرجل.

1444. وأمير المرابطين إلى اليوم-وذلك سنة ستين وأربعمائة-أبو بكر بن عمر، وأمرهم منتشر غير ملتئم ومقامهم بالصحراء، وجميع قبائل الصحراء يلتزمون النقاب وهو فوق اللثام حتى لا يبدو منه إلا محاجر عينيه، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال ولا يميز رجل منهم وليه ولا حميمه إلا إذا تنقب، وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل وزال قناعه لم يعلم من هو حتى يعاد عليه القناع، وصار ذلك لهم ألزم من جلودهم وهم يسمون من خالف زيهم هذا من جميع الناس أفواه الذبان بلغتهم.

وطعامهم صفيف اللحم الجاف مطحوناً يصب عليه الشحم المذاب أو السمن، وشرابهم اللبن قد غنوا به عن الماء، يبفى الرجل منهم الأشهر لا يشرب ماء، وقوتهم مع ذلك مكينة وأبدانهم صحيحة.

1445. ومن سير أهل الصحراء في المتهم بالسرقة أن يعمدوا إلى عود فيشتق باثنين ويشد على صدغيه في مقدم رأسه ومؤخره فلا يتمالك أن يقر ولا يصبر على ذلك الضغط لحظة لشدته.

1446. ومما في هذه الصحراء من الحيوان اللمط، وهو دابة دون البقر لها فرون دقاق حادة لذكرانها وإناثها، وكلما كبر منها الواحد طال قرناه حتى يكون أكبر من أربعة أشبار. وأجود الدرق وأغلاها ثمناً ما صُنع من الجلود العواتق منها، وهي التي طال قرناها لكبر سنها فمنع الفحل علوها.

ودواب الفنك أكثر شيء في هذه الصحراء ومنها يحمل إلى جميع البلاد. وعندهم الكباش الجمانية خلقها خلق الضأن إلا أنها أجمل وشعرها شعر الماعز لا أصواف لها، وهي أحسن الغنم خلقاً وألواناً. ولا تنبت هذه الصحراء ولا بلاد أغمات ولا السوس شجر المرسين، وهو شجر الآس وهو عندهم عزيز يجلب إليهم من سائر البلاد.

1447. ومن غرائب تلك الصحراء معدن ملح على يومين من المجابة الكربى وبينه وبين سجلماسة مسيرة عشرين يوماً، تحفر عنه الأرض كما تحفر عن سائر المعادن والجواهر، ويوجد تحت قامتين أو دونها من وجه الأرض وتقطع كما تقطع الحجارة، ويسمى هذا المعدن تاتنتال وعليه حصن مبني بحجارة الملح، وكذلك بيوته ومشارفه وغرفه كل ذلك ملح، ومن هذا المعدن يتجهز بالملح إلى سجلماسة وغانة وسائر السودان، والعمل فيه متصل والتجار إليه متسايرون وله غلة غظيمة. ومعدن للملح آخر عند بني جدالة بموضع يسمى أوليل على شاظئ البحر، ومن هناك تتحمله الرفاق أيضاً إلى ما جاوره.

1448. وبقرب أوليل في البحر جزيرة تسمى ايونى، وهي عند المد جزيرة لا يوصل إليها من البر وعند الجزر يوصل إليها على القدم، ويوجد فيها العنبر، وأكثر معاش أهلها من لحوم السلاحف وهي أكثر شيء عندهم في ذلك البحر وهي مفرطة العظم، وربما دخل الرجل منهم في محار ظهورها فيتصيد فيها كالقارب. وسنذكر من كبر السلاحف بطريف تيرقى ما هو أشنع من هذا. ولهم أغنام ومواش، وهذه الجزيرة مرسى من المراسي، والطريق منها إلى نول على ساحل البحر لا يفارقه مسيرة شهرين مشي العير في أرض أكثرها صفى ينبو عنه الحديد وتكلّ فيه المعاول. وإنما يشربون في طريقهم من قلات يحتفرونها عند جزر البحر فتبضّ ماء عذباً. وإذا مات لهم ميت في طريقهم هذا لم يمكنهم مواراته لصلابة الأرض وامتناعها على الحفر، فيسترونه بالحطام الحشيش أو يقذفونه بالبحر.

ذكر بلاد السودان ومدنها والمشهورة واتصال بعضها ببعض

والمسافات بينها وما فيها من الغرائب وسير أهلها

1449. المصاقبون لبلاد السودان بنو جدالة، هم آخر الإسلام خطة. وأقرب بلاد السودان منهم صنغانة، بين آخر بلادهم وبينها مسيرة ستة أيام، ومدينة صنغانة مدينتان على ضفتي النيل وعمارتها متصلة إلى البحر المحيط.

ويلي مدينة صنغانة ما بين الغرب والقبلة على النيل مدينة تكرور أهلها سودان، وكانوا على ما كان سائر السودان عليه من المجوسية وعبادة الدكاكير، والدكور عندهم الصنم، حتى وليهم وارجابي بن رابيس فأسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام وحملهم عليها وحقق بصائرهم فيها. وتوفي وارجابي سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فأهل تكرور اليوم مسلمون.

1450. وتسير من مدينة تكرور إلى مدينة سِلى، وهي مدينتان على شاطئ النيل أيضاً وأهلها مسلمون أسلموا على يدي وارجابي رحمه الله. وبين سلى ومدينة غانة مسيرة عشرين يوماً في عمارة السودان القبيلة بعد القبيلة. وملك سلى يحارب كفارهم وليس بينه وبين أولهم إلا مسير يوم واحد.

وهم أهل مدينة قلنبو، وهو واسع المملكة كثير العدد يكاد يقاوم ملك غانة.

وتبايع أهل سلى بالدرة والملح وحلق النحاس وأزر لطاف من قطن يسمونها الشكيات. والبقر عندهم كثير وليس عندهم ضأن ولا معز، وأكثر نبات أرضهم الأبنوس ومنه نحتطبون. وفيما يتصل ببلادهم من النيل في موضع يقال له صحابي حيوان في الماء يشبه الفيل في عظم خلقته وفنطيسته وأنيابه يسمونه قفوا، وهو يرعى في البراري ويأوي إلى النيل، وهم يميزون موضعه من النيل بتحرك الماء على ظهره فيقصدونه بمزاريق حديد، فصار في أسافلها حلق قد شدت فيها الحبال المديدة، فيرمونه بالعدد الكثير منها فيغوص ويضطرب في أسفل النيل، فإذا مات طفا على الماء، فجذبوه وأكلوا لحمه وصنعوا من جلده هذه الأسواط التي تسمى السريافات، ومن هناك تحمل إلى الآفاق.

1451. ويلي هذا البلد مدينة قلنبو بينهما مسيرة يوم على ما تقدم، وهي على النيل وأهلها مشركون.

وتتصل بمدينة قلنبو مدينة ترنقة، وهو بلد عريض، وعندهم تصنع الأزر المسماة بالشكيات التي تقدم ذكرها، وهي أربعة أشبار في مثلها. وليس في بلدهم كثير قطن غير أنهم لا تكاد تخلو دار أحدهم من شجرة قطن.

1452. وحكم أهل هذه البلاد والمذكور قبلها من بلاد السودان أن يخيّر صاحب السرقة في بيع السارق أو قتله، وحكمهم في الزاني أن يسلخ من جلده.

1453. ومن ترنقة تصل العمارة بالسودان إلى بلد زافقو، وهم صنف من السودان يعبدون حية كالثعبان العظيم ذا عرف وذنب رأسه كرأس البختي، وهي في مغارة بالمفازة وعلى فم المغارة عريش وأحجار ومسكن قوم منهم متعبدين معظمين لتلك الحية، ويعلقون نفيس الثياب وجر المتاع على ذلك العريش ويضعون له جفان الطعام وعساس اللبن والشراب. وهم إذا أرادوا إخراجه إلى العريش تكلموا كلاماً وصفروا صفيراً معلوماً فيبرز إليهم. وإذا هلك والي من ولاتهم جمعوا كل من يصلح للمملكة وقرّبوهم إليها وتكلموا بكلام يعلمونه، فتدنو الحية منهم فلا تزال تشمهم رجلاً رجلاً حتى تنكز أحدهم بأنفها، فإذا نكزته ولت إلى المغارة فيتبعها ذلك المنكوز بأجد ما يقدر عليه من السير، فيجذب من ذنبها أو من عرفها بأشد ما يقدر عليه من شعرات، فتكون مدة ملكه لهم بعدد تلك الشعرات لكل شعرة سنة، لا يخطيهم ذلك بزعمهم.

1454. وتليهم بلاد الفويين، وهي مملكة الفرويين على حدتها، ومن غريب ما فيها بركة يجتمع فيها الماء ينبت فيها نبات أصوله أبلغ شيء في تقوية الباه والعون عليها، والملك يمنع منها، ولا يصل منها شيء إلى غيره، وله من النساء عدد عظيم، فإذا أراد أن يطوف عليهن أنذرهن قبل ذلك بيوم، ثم استعمل ذلك الدواء فيطوف عليهن كلهن ولا يكاد ينكسر. وقد أهدى إليه بعض ملوك المسلمين المجاورين له هذية نفيسة واستهداه شيئاً من هذا النبات. فعارضه على هديته وكتب إليه يقول: إن المسلمين لا يحل لهم من النساء إلا قليل، وقد خفت عليك إن بعثت إليك الدواء أن لا تقدر إمساك نفسك فتأتي بما لا يحل لك في دينك. ولكني قد بعثت إليك نباتاً يأكله الرجل العقيم فيولد له. وبلاد الفرويين يلدل الملح فيها بالذهب.

دكر غانة وسير أهلها

1455. وغانة سمة الملكهم، واسم البلد أوكار واسم ملكهم اليوم-وهي سنة ستين وأربعمائة-تنكامنين، وولي سنة خمس وخمسين. وكان اسم ملكهم قبله بسي، ووليهم وهو ابن خمس وثمانين سنة، وكان محمود السير محباً للعدل مؤثراً للمملمين، وعمي في آخر عمره، فكان يكتم ذلك عن أهل مملكته ويريهم أنه يبصر وتوضع بين يديه أشياء فيقول: هذا حسن وهذا قبيح، وكان وزراؤه يلبسون ذلك على الناس ويلغزون للملك بما يقول، فلا تفهمه العامة. وبسي هذا خال تنكامنين، وتلك سيرتهم ومذهبهم أن الملك لا يكون إلا في ابن أخت الملك لأنه لا يشك فيه أنه ابن أخته، وهو يشك في ابنه ولا بقطع على صحة اتصاله به.

1456. وتنكامنين هذا شديد الشوكة عظيم المملكة مهيب السلطان. ومدينة غانة مدينتان سهليتان إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهو مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجداّ أحدها يجمعون فيه، ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون، وفيها فقهاء وحملة علم. وحواليها آبار عذبة منها يشربون وعليها يعتملون الخضراوات. ومدينة الملك على ستة أميال من هذه وتسمى بالغابة والمساكن بينهما متصلة، ومبانيهم بالحجارة وخشب السنط. وللملك قصر وقباب، وقد أحاط بذلك كله حائط كالسور. وفي مدينة الملك مسجد يصلي فيه من يفد عليه من المسلمين على مقربة من مدلس حكم الملك. وحول مدينة الملك قباب وغابات وشَعراء يسكن فيها سحرتهم، وهم الذين يقيمون دينهم. وفيها دكاكيرهم وقبور ملوكهم، ولتلك الغابات حرس ولا يمكن أحداً دخولها ولا معرفة ما فيها، وهناك سجون الملك، فإذا سجن أحد فيها انقطع عن الناس خبره.

1457. وتراجمة الملك من المسلمين، وكذلك صاحب بيت ماله وأكثر وزرائه، ولا يلبس المخيط من أهل دين الملك غيره وغير ولي عهده، وهو ابن أخته، ويلبس سائر الناس ملاحف القطن والحرير والديباج على قدر أحوالهم. وهم أجمع يحلقون لحاهم ونساؤهم يحلقن بؤنسهن. على رأسه الطراطير المذهبة، عليها عمائم القطن الرفيعة. وهو يجلس للناس والمظالم في قبه، ويكون حوالي القبة عشرة أفراس بثياب مذهبة ووراء الملك عشرة من الغلمان يحملون الحجف والسيف المحلاة بالذهب، وعن يمينه أولاد ملوك بلده قد ضفروا بؤوسهم بأنواع الذهب وعليهم الثياب الرفيعة، ووالي المدينة بين يدي الملك جالس في الأرض وحواليه الوزراء جلوساً على الأرض. وعلى باب القبة كلاب منسوبة لا تكاد تفارق موضع الملك تحرسه، في أعناقها سواجير الذهب والفضة يكون في الساجور عدد رمانات ذهب وفضة. وهم ينذرون بجلوسه بطبل يسمونه دبا، وهو خشبة طويلة منقورة، فيجتمع الناس، فإذا دنا أهل دينه منه جثوا على ركبهم ونثروا التراب على رؤوسهم، فتلك تحيتهم له. وأما المسلمون فإنما سلامهم عليه تصفيقاً باليدين.

1459. وديانتهم المجوسية وعبادة الدكاكير. وإذا مات ملكهم عقدوا له قبة عظيمة من خشب الساج ووضعوها في موضع قبره، ثم أتوا به على سرير قليل الفرش والوطاء وأدخلوه في تلك القبة ووضعوا معه حليته وسلاحه وآنيته التي كان يأكل فيها ويشرب، وأدخلوا فيها الأطعمة والأشربة وأدخلوا معه رجالاً ممن كان يخدم طعامه وشرابه وأغلقوا عليهم باب القبة وجعلوا فوق القبة الحصر والأمتعة، ثم اجتمع الناس فردموا فوقها بالتراب حتى تأتي كالجبل الضخم، ثم يخندقون حولها حتى لا يوصل إلى ذلك الكوم إلى من موضع واحد. وهم يذبحوون لموتاهم الذبائح ويقربون لهم الخمور.

1460. ولملكهم على حمار المحح دينار ذهب في إدخاله البلد وديناران في إخراجه، وله على حمل النحاس خمسة مثاقيل وعلى حمل المتاع عشرة مثاقيل.

وأفضل الذهب في بلاده ما كان بمدينة غياروا، وبينها وبين مدينة الملك مسيرة ثمانية عشر يوماً في بلاد معمورة بقبائل السودان مساكن متصلة.

وإذا وجد في جميع معادن بلاده الندرة من الذهب استصفاها الملك، وإنما يترك منها للناس هذا التبر الرقيق، ولو لا ذلك لكثر الذهب بأيدي الناس حتى يهون. والندرة تكون من أوقية إلى رطل، ويذكر أن عنده منه ندرة كالحجر الضخم. وبين مدينة عيارو والنيل اثنا عشر ميلاً وفيها من المسلمين كثير وغانة بلدة مستوبية غير آهلة لا يكاد يسلم الداخل فيها من المرض عند امتلاء زرعهم، ويقع الموتان في غربانها عند استحصاد الزرع.

1461. فأما الطريق من غانة إلى غيارو فإلى مدينة سامقندى أربعة أيام، وأهل سامقندى أرمى السودان بالنشاب.

ومنها إلى بلد يسمى طاقة يومان، وأكثر شجر طاقة شجر يسمى تادموت، وهو شجر الآراك إلا أن له ثمراً كالبطيخ داخله شيءي يشبه القند تشوب حلاوته بحموضة نافع للمحمومين.

ومن هناك إلى خليج من النيل يقال له زوغو مسيرة يوم تخوضه الجمال، ولا يعبره الناس إلا في القوارب.

ومنه إلى بلد يقال له غرنتل، وهو بلد كبير ومملكة جليلة لا يسكنه مسلمون ولكنهم يكرمونهم ويخرجون لهم عن الطريق إذا دخلوا بلادهم، وتلد عندهم الفيلة والزرافات. ومن غرنتل إلى غيارو.

1462. وملك غانة إذا احتفل ينتهي جيشه مائتي ألف، منهم رماة أزيد من أربعين ألفاً، وخيل غانة قصار جداً. وعندهم الأبنوس الجيد المجزّع. وهم يزدرعون مرتي في العام مرة على ثرى النيل إذا خرج عندهم وأخرى على ثرى أيضاً.

1463. وبغربي غيارو على النيل مدينة يرسنى يسكنها المسلمون وما حولها مشركون. وفي يرسنى معز قصار، فإذا وضعت الماعزة ذبحوا الذكور وأبقوا الإناث، وعندهم شجر تحتكّ بها هذه المعزة فتحلم من ذلك العود تلد من غير ذكر، وهذا معلوم عندهم غير منكر، وحدث به جماعة من المسلمين الثقات. ومن يرسنى يجلب السودان العجم المعروفون ببني نغمرانة وهم تجار التبر إلى اللاد.

وما وازاها من ضفة النيل الثانية مملكة كبيرة أزيد من مسيرة ثمانية أيام سمة ملكهم دو، وهم يقاتلون النشاب.

1464. ووراءه بلد اسمه ملل وملكهم يعرف بالمسلماني، وإنما سمي بذلك لأن بلاده أجدبت عاماً بعد عام، فاستسقوا بقرابينهم من البقر حتى كادوا يفنونها ولا يزدادون إلا قحطاً وشقاءً. وكان عنده ضيف من المسلمين يقرأ القرآن ويعلم السنة، فشكا إليه الملك ما دهمهم من ذلك فقال له: أيها الملك لو آمنت بالله تعالى وأقررت بوحدانيته وبمحمد عليه الصلاة والسلام وأقررت برسالته واعتقدت شرائع الإسلام كلها لرجوت لك الفرج مما أنت فيه وحل بك، وأن تعم الرحمة أهل بلدك، وأن يحسدك على ذلك من عاداك وناوأك. فلم يزل به حتى أسلم وأخلص نيته وأقرأه من كتاب الله ما يتسر عليه وعلمه من الفرائض والسنن ما لا يسع جهله. ثم استأنى به إلى ليلة جمعة فأمره فتطهر فيها طهراَ سابغاً وألبسه المسلم ثوب قطن كان عنده، وبرزوا إلى ربوة من الأرض فقام المسلم يصلي والملك عن يمينه تأتم به. فصليا من الليل ما شاء الله والمسلم يدعو والملك يؤمّن، فما انفجر الصباح إلا والله قد عمهم بالسقي. فأمر الملك بكسر الدكاكير وإخراج السحرة من بلاده، وصح إسلامه وإسلام عقبه وخاصته، وأهل مملكته مشركون، فوسموا ملوكهم مذ ذلك المسلماني.

1465. ومن أعمال غانة المنضافة إليها بلد يسمى مامة ويعرف أهله بالبكم، بينه ونين غانة مسيرة أربعة أيام، وهم يمشون عراة إلا أن المرأة تستر فرجها بسيور تضفرها، وهن يوفرن شعر العانة ويحلقن شعر الرأس. وحدث أبو عبد الله المكي أنه رأى منهن امرأة وقفت على رجل من العرب طويل اللحية، فتكلمت بكلام لم يفهمه، فسأل الترجمان عن مقالتها فذكر أنها تمنت أن يكون شعر لحيته في عانتها. فامتلأ العربي غضباً وأوسعها سباً. والبكم لهم حذق بالرماية وهم يرمون بالسهام المسمومة. ويورثون الابن الأكبر مال الأب كله.

1466. وبغربي مدينة غانة مدينة أنبارة، وملكها اسمه تارم وهو معاند الملك غانة.

وعلى تسع مراحل من مدينة أنبارة مدينة كوغة وبينها وبين غانة مسيرة خمس عشرة مرحلة، وأهلها مسلمون وحواليها المشركون. وأكثر ما يتجهز إليها بالملح والودع والنحاس والفربيون، والودع والفربيون أنفق شيء عندهم. وحواليها من معادن التبر كثير، وهي أكثر بلاد السودان ذهباً.

وهناك مدينة ألكن وملكها يسمى قنمر بن بسي ويقال إنه مسلم يخفي إسلامه.

1467. وببلاد غانة قوم يسمون بالهنيهين من ذرية الجيش الذي كان بنو أمية أنفذوه إلى عانة في صدر الإسلام، وهم على دين أهل غانة إلا أنهم لا ينكحون في السودان ولا ينكحونهم، فهم بيض الألوان حسان الوجوه. وبسلى أيضاً قوم منهم يعرفون بالفامان.

1468. وببلاد غانة حكم الماء، وذلك أنه من ادعي عليه بمال أو دم أو غير ذلك عمد أمينهم إلى عود فيه حرافة ومرارة ورقة وصب عليه من الماء قدراً معلوماً، وسقاه المدعى عليه، فإن رماه من جوفه علم أنه بريء وهنّي بذلك، وإن لم يرمه وبقي في جوفه صحت الدعوة عليه.

1469. ومن الغرائب ببلاد السودان شجرة طويلة الساق دقيقه تسمى تورزى تنبت في الرمال ولها ثمر كبير منتفخ داخله صوف أبيض تصنع منه الثياب والأكسية، ولا تؤثر النار فيما صنع من ذلك الصوف من الثياب لو أوقدت عليه الدهر كله لم يحترق. وأخبر الفقيه عبد الملك أن أهل اللامس بلد هناك ليس لهم لبس إلا من هذا الصنف.

ومن هذا الجنس حجارة بوادي درعة تسمى بالبربرية تامطغست تحكّ باليد فتلين إلى أن تأتي في قوام الكتّان فتصنع منها الأمرّة والقيود للدواب، فلا تؤثر النار في شيء من ذلك.

وقد صنع منها كساء لبعض ملوك زناتة بسجلماسة، وأخبرني الثقة أنه شهد تاجراً قد جلب منه منديلاً إلى فردلند صاحب الجلالقة وذكر أنه منديل لبعض الحواريين وأن النار لا تؤثر فيه، وأراه ذلك عياناً فعظم موقعه من فردلند وبذل له فيه غناه، وبعث به فردلند إلى صاحب قسطنطينية ليوضع في كنيستهم العظمى، فعند ذلك بعث إليه صاحب قسطنطينية التاج وأمره بالتتويج. وقد حدث جماعة أنهم رأوا منه هداب منديل عند أبي فضل البغدادي تحمى عليه النار فيزداد بياضاً ويكون له النار غسلاً، وهو كثوب الكتان.

1470. وإذا سرت من غانة تريد مطلع الشمس فإنك تسير في طريق معمورة بالسودان إلى موضع يقال له أوغام يحرثون الذرة وهو عيشهم.

ثم تسير من هناك أربعة أيام إلى موضع يقال له رأس الماء، وهناك تلقى النيل خارجاً من بلاد السودان، وعليه قبائل من البربر مسلمون يسمون مداسة، وبإزائهم من الشط الثاني مشركو السودان.

ثم تسير من هناك ست مراحل على النيل إلى مدينة تيرقى، ويجتمع في سوق هذه المدينة أهل غانة وأهل تادمكة. وتعظم السلاحف بتيرقى وتتخذ في الأرض أسراباً يمشي فيا الإنسان ولا يطيقون استخراج واحدة منها إلا بعد شد الحبال فيها واجتماع العدد الكثير عليها. وأخبرني الفقيه أبو محمد عبد الملك بن نخاس الغرفة أن قوماً عرسوا في طريق تيرقى، والأرضة هناك تأتي على ما تجده وتفسد ما وصلت إليه وتخرج من التراب أكواماً كالروابي، ومن الغرائب أن ذلك التراب ثرً ندٍ والماء هناك غير موجود على أبعد حفر. فلا يوضع الأمتعة إلا على الحجارة المجموعة أو الخشب الموضوعة. فارتاد كل واحد من القوم لمتاعه حرزاً من الأربضة، وبدر أحدهم فيما ظن إلى صخرة كبيرة فأنزل عليه وقر بعيرين كانا معه. فلما هب من نومه سحراً لم يجد الصخرة ولا ما كان عليها، فرتاع ونادى بالويل والحرب. فاجتمعوا إليه يسألونه عن خطبه، فأخبرهم فقالوا: لو طرقك لصوص لأخذو المتاع وبقيت الصخرة. فنظروا فإذا أثر سلحفاة ذاهبة من الموضع، فاقتفوه أميالاً حتى أدركوها وحملاً المتاع على ظهرها، وهي التي حسبها صخرة.

1471. ومن تيرقى يرجع النيل نحو الجنوب في بلاد السودان، فتسير عليه نحو ثلاث مراحل فتدخل بلاد سغمارة، وهم قبيل من البربر في عمل تادمكة، ويحاذيهم من الشط الثاني مدينة كوكو للسودان. وسيأتي ذكرها وما والاها إن شاء الله.

1472. فأما الجادة من غانة إلى تادمكة وبينهما مسيرة خمسين يوماً، فمن غانة إلى سفنقو ثلاث مراحل، وهي على النيل وهي آخر عمل غانة. إلى تادمكرة، وبينهما مسيرة عشرين يوماً.

ثم تصحب النيل إلى بوغرات فيه قبيل من صنهاجة يقرفون بمداسة. وأخبر الفقيه أبو محمد عبد الملك أنه رأى في بوغرات طائراً يشبه الخطاف يُفهم من صوته كل سامع إفهاماً لا يشوبه لبس: قُتل الحسين قتل الحسين يكرر مراراً، ثم يقول: بكربلا مرة واحدة. قال عبد الملك: سمعته أنا ومن حضر من المسلمين معي.

ومن بوغرات إلى تيرقى.

ثم تسير منها في الصحراء إلى تادمكة، وتادمكة أشبه بلاد الدنيا بمكة شرفها الله وزادها تشريفاً وتعظيماً. ومعنى تاه عندهم هيئة إذ أنها على هيئة مكة، وهي مدينة كبيرة بين جبال وشعاب، وهي أحسن بناء من مدينة غانة ومدينة كوكو. وأهل تادمكة بربر مسلمون وهم يتنقبوا كما يتنقب بربر الصحراء، وعيشهم من اللحم واللبن ومن حب تنبته الأرض من غير اعتمال، ويجلب إليهم الذرة وسائر الحبوب من بلاد السودان، ويلبسون الثياب المصوغة بالحمرة من القطن والنولي وغير ذلك وملكهم يلبس عمامة حمراء وقميصاً أصفر وسراويل زرقاء. ودنانيرهم تسمى الصلع لأنها ذهب محض غير مختومة. ونساؤهم فائقات الجمال لا تعدل بهن أهل بلد حسناً، والزنا عندهم مباح، وهن يبادرون التجار أيهن تحمله إلى منزلها.

1473.فإن أردت من تادمكة إلى القيروان فإنك تسير في الصحراء خمسين يوماً إلى وارجلان، وهي سبعة حصون للبربر أكبرها يسمى أغرم أن يكامن، أي حصن العهود. ومنها إلى مدينة قسطيلية أربعة عشر يوماً، ومن قسطيلية إلى القيروان سبعة أيام على ما تقدم. وبين وارجلان وقلعة أبي طويل مسيرة ثلاثة عشر يوماً.

1474. ومن تادمكة إلى غدامس أربتون مرحلة في الصحراء، ولا ماء فيها على مسيرة اليومين والثلاثة أحساء. وغدامس مدينة لطيفة كثيرة النخل والمياه وأهلها بربر مسلمون. وبغدامس دواميس كانت سجناً للكاهنة التي كانت بإفريقية. وأكثر طعام أهل غدامس التمر، والكمأة تعظم عندهم حتى تتخذ فيها الأرانب جحرة. وبين غدامس وجبل نفوسة سبعة أيام في الصحراء، وبين نفوسة ومدينة أطرابلس ثلاثة أيام على ما تقدم.

1475. وطريق آخر من تادمكة إلى غدامس: تسير من تادمكة ستة أيام في عمارة سغمارة، ثم في مجابة أربعة أيام إلى الماء، ثم في مجابة ثانية أربعة أيام، وفي هذه المجابة الثانية معدن لحجارة تسمى تاسي النسمت، وهي حجارة تشبه العقيق وربما كان في الحجر الواحد ألوان من الحمرة والصفرة والبياض وربما وجد فيها في النادر الحجر الجليل الكبير، فإذا وصل به إلى أهل غانة غالوا فيه وبذلوا فيه الرغائب، وهو أجل عندهم من كل علق يقتنى، وهو يجلى ويثعب بحجر آخر يسمى تنتواس كما يجلى الياقوت ويثقب بالسنباذج، لا يعمل فيه الحديد شيئاً إلا بالتنتواس ولا يوصل إليه ولا يعلم موضعه حتى ينحر الإبل على معدنه وينضج دمه، فحينئذ يظهر ويلقّط. وفي بونو معدن للتاسي أنسمت أيضاً، ومعدن هذه المجابة أفضل.

1476. وتسير من هذه المجابة الثانية إلى مجابة ثالثة، وفي هذه المجابة معدن الشب ومنه يحمل إلى البلاد. وتسير من هذه المجابة إلى مجابة رابعة أحد عشر يوماً في رمال جرد لا ماء فيها ولا نبت، يتزود الرفاق الماء والحطب فيها كما يتزود الطعام والعلف، وعلى يسار السائر في هذه المجابة جبل الرمل الأحمر الذي يتصل بسجلماسة، وهو الذي يكون فيه الفنك والثعلب الدهي، وهو آخر حد إفريقية.

1477. وإذا سار السائر من بلاد كوكو على شاطئ البحر غرباً انتهى إلى مملكة يقال لها الدمدم يأكلون من وقع إليهم، ولهم ملك كبير وملوك تحت يده، وفي بلدهم قلعة عظيمة عليها صنم في صورة امرأة يتألهون له ويحجونه.

1478. وبين تادمكة ومدينة كوكو تسع مراحل، والعرب تسمي أهلها البزركانيين. وهي مدينتان مدينة للملك ومدينة للمسلمين، ولمكهم يسمى قندا. وزيهم كزي السودان من الملاحف وثياب الجلود وغير ذلك بقدر جدة الإنسان منهم، وهم يعبدون الدكاكير كما يفعل السودان. ويضرب لجلوس الملك الطبل وترقص النساء السودانيات بالشعور الجثلة المسترسلة، ولا يتصرف أحد منهم في مدينته حتى يفرغ من طعامه ويقذف باقيه في النيل، فيجلبون عند ذلك ويصيحون فيعلم الناس أنه قد فرغ من طعامه. وإذا ولي منهم ملك دفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أن أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم. وملكهم مسلم لا يملّكون غير المسلمين، ويزعمون أنهم إنما سموا كوكو لأن الذي يفهم من نغمة طبلهم ذلك، وكذلك أزور وهير وزويلة يفهم من نغمة طبلهم زويلة زويلة. وتجارة أهل بلد كوكو بالملح وهو نقدهم، والملح يحمل من بلاد البربر يقال لها توتك من معادن تحت الأرض إلى تادمكة، ومن تادمكة إلى كوكو. وبين توتك وتادمكة ست مراحل.