الدمشقي

نخبة الدهر في أعجائب البر والبحر

في ذكر الطول والعرض ومالمعمور واختلاف آراء القدماء فيه

قالوا وأول هذا المعمور الشمالي فمن حيث يكون العرض اثنتي عشرة درجة ونصف وربع كله مسمّى به، وخطّ الاستواء مسكون بطوائف السودان في عداد الوحوش والبهائم محترفة ألوانهم وشعورهم، منحرفة أخلاقهم وخلقهم، تكاد أدمغتهم تغلي من شدة إفراط حر الشمس.

وفي هذا الخط المسمى خط الاستواء من ورائه ثمان مدن كبار كانت على عهد بطليموس، منهن مدينة القمر وأغنا ولقمرانة ودهنى ولملمة ودغوطة وسفاقس وكوغة، وهذا الموضع تسامته الشمس إذ كانت في ثلث عشرة درجة من المغرب وما سوى ذلك رمال وجبال وقفار وبحار بها جزائر يسكنها أمم مشوّعة الصور ناقصو الخلق وزائدوه.

قال أحمد بن سهل البلخي سبب خراب هذا الجانب قرب موضع الشمس منه ومسامتتها الرؤس مرتين وترددها على تلك الأرض. فيسخن هواءها حتى يكون سموماً وتغلى مياهها حتى تكون حموماً وتجفّ الرطوبات الغريزية من الأبدان التي لا حيوة للحيوان إلا بها، وهذه الرطوبات تكون أمدادها المبردة لحرارة الأبدان الباطنة عن الهواء المتنسم.

وقال أخرون رداً لهذا القول أن الخراب من الأرض إنما هو في الجهة التي يمر عليها هذا الخط، لا غير، وهو المعبر عنه بالجهة الجنوبية، وحجتنا أن الخط قارن بين جهتي الجنوب والشمال فهو وسط الأرض يمر عليه دائماً لأن معدل منطقة النهار فيه منتصب على سمت الرؤس أبداً إلى اثنتي عشرة درجة ونصف وربع من درجة كما تقدم به القول، ومدارات الشمس قريبة. ولهذا لم يكن الحرث والنسل فيما مر عليه من الأرض لإفراط الحر.

فإذا علم ذلك لم يمتنع أن يكون الجهة الجنوبية مسكونة كجهة الشمال، لأنا رأينا العمران إنما كان في الجهة الشمالية بميل الشمس عن سمت الرؤس إلى اثنتي عشرة درجة ونصف وربع درجة لاعتدال الهواء الذي تمكن معه الحرث والنسل. وكما تميل الشمس في جهة الشمال كذلك تميل في جهة الجنوب، فلا يمتنع أن تكون الجهة الجوبية مقسومة إلى سبع أقاليم على طريق الإمكان مسكونة مأهولة، والمانع من معرفة أخبار ساكنيه هو عدم النفوذ إليهم منا وإلينا منهم لشدة الحر في الجهة التي يمر عليها خط الاستواء من الشمال والجنوب بمقدار أربع وعشرين درجة. وإن كل درجة وبرج من البروج والدرج الشمالية لها تظير مثلها في الجهة الجنوبية يفعل الشمس والقمر والسيارة والثوابت من التسخين والإنعاظ والآثار بهذه ما يفعل بهذه في بعدها وقربها.

وأجاب أولائك في هذه المقالة قائلين على أن الجهة الجنوبية خراب لا يحدث فيها نبات، معهود لنا أن المعمور فيها هو خلف خط الاستواء كما قال بطليموس إحدى عشرة درجة ونصف وربع درجة أو كما قال غيره من المعتنين بالعلم بذلك أنه ست عشرة درجة أو ثلاث عشرة درجة كما ذهب إليه غيرهم من القدماء.

وجنوب جزيرة القمر واغلة في الجنوب وجزائر الواق واق والقسمين كذلك والطائفة دغوطة زنج الزنج أيضاً محالّهم بين ساحل البحر الجامد وبين جزيرة القمر. وقد أمكن النفوذ إليهم في البحر والإخبار منهم. وإن سكان القمر وأهل جزيرة لقمرانة ودهمي أصغى لوناً وأطول شعوراً وأرق طباعاً من الزنوج من قلجور وكوكوا السودان. ولما كان للشمس حضيض وهو في أول الجدي جنوباً ولها أوج وهو في أول السرطان شمالاً والأوج عبارة عن ارتفاع الشمس وبعدها الأبعد عن الأرض والحضيض أقرب بعدها وهو مقعر، فلكها الأقرب إلى الأرض استولت على جهة الجنوب بحرارتها ونارتها. فأحرقتها ثم تغتتت ترابها رمالاً وانسبك حصاؤها ياقوتاً وجوهراً وتكونت معادنها ذهباً وزبرجداً وانعقدت مياهها في بقاعها أنواعاً معدنية وأفرط الحر على النبات والحيوان، فلم يتكون منها إلا ما فيه صبر واحتمال وجلد لذلك الجزء المحرق، كما يقال عن السمندل. والحيوان الشبيه بسام أبرص المخلوق في أتون مسابك الزجاج إن صح ذلك.

وكان الإنسان المخلوق هناك جاهلاً شديد سواد البشرة محترق الشعر عاتي الخلقة منتن العرق منحرف المزاج أشبه في أخلاقه بالوحش والبهائم، ولا يمكن أن يعيش في الإقليم الثاني فضلاً فضلاً عن الإقليم الثالث والرابع مثلاً، كما إن أهل الإقليم الأول لا يعيشون في الإقليم السادس ولا يعيش أهل الإقليم السادس في الإقليم الأول ولا في خط الاستواء لاختلاف مزاج الهواء وحر الشمس. والله أعلم. من مدن السودان الكبار مدينة غيار ومدينة بريسى ومدينة سمغارة السفلى. وبأرضها شجر السل وهو من أقوى السموم. والسل شجرة وله قشور ولحاء، وكلها سم قاتل. وبأرضها أيضاً السنبل، وله شفير أسود كأنه الإبر، وهو ردي قاتل. ويبنبت مثله بإصقلية وبالخيط من الغور وبِأرض اليمن، وهو شبيه لالعلس. قال المسعودي وهذا النهر يجري من بلاد أمجري وكوكو شهرين ثم في بلاد غانة والزغوا ثلاثة أشهر، ثم في بلاد كانم وتكرور شهرين وفي بلاد تكرور العبر شهرين ونصفاً، ثم في بلاد كوغة شهراً، ثم في بلاد ورهم شهراً ونصفاً، ثم يصب في البحر المحيط المغربي المسمى أوقيانوس الأخضر. وهذا النهر يغترق ويجتمع على جزائر متسعات عامرات بالسودان، منهن جزيرة التبر بأرض غانة. ويخرج أربعة أنهار خلجان كبار تغترق فيي بلاد السودان، ولا يصل شيء منها إلى المحيط غير عموده المذكور. ويأتيه نهر من بين جبال تميم يصب فيه وماؤه لا يزال سخن كماء الحمام لشدة الحر هناك. ثم نهر سجلماسة نهر عظيم غزير يزيد وينقض ويسقي ويسيح كما يكون من نيل مصر ويصل إلى السوس الأقصى، منها ما يسقي أراضيه مع النهر المسمى وادي درعة، والنهر الذي يأتي إليها أيضاً من جبل درن هناك. وأما نهر الدمادم فهو بحر كبير غزير الماء يخرج أيضاً من بحيرة كورى فيمر في مجالات دمدم السودان ولملم الزنوج وقلجور ومجامي الحبش بين جبال شم... (111)

وفي بلاد كوار السودان غربي مدينة أبزن بحيرة مالحة طولها اثنا عشر ميلاً يصاد منها السمك البوري وهو من أسمن الأسماك وأطيبها. ووراء الأقاليم السبعة بالقرب من حدودها الأرض المخسوفة، وهذه الأرض لا يستطيع أحد أن ينزل إليها ولا أن يطلع منها لبعد قعرها وتغليقه وامتناع المسلك إليها، وهي مسكونة بأمة لا يعلم ما هم، وإنما علم الناس سكناها من رؤية الدخان بها نهاراً في أماكن منها ورؤية النار ليلاً كذلك. وبها بحيرة يرى لألاة الماء عند وقع الشمس. كذلك ويقال أن بشمالها طوائف من الناس هم كالبهائم في الخلق والخلائق. والبحيرة الجامدة فيها وراء صحارى القبجق حيث العرض هنالك ثلاث وستون طوله من نحو ثمان مراحل وعرضها نحو ثلاث مراحل يتفاوت ولها جزيرة عظيمة بها أناس عظام الجثث، بيض الأبدان والشعور، وزرق العيون، لا يكادون يفقهون قولاً... (123)

قال أهل العلم بذلك أن البحر المحيط محيط بجملة جهات الأرض. ويسمى البحر المغربي، منه بشمال بحر الظلمة، والبحر الأسود الشمالي. وسمي أسود  ومظلماً لأن ما تصاعد عنه من الأبخرة لا يحللها الشمس، لأنها لا تطلع عليه. فيغلظ ماؤه ويتكاثف بخاره، فلا يدرك البصر ماهية مائه. ولعظم أمواجه وتكاثف ظلمته وعصوف رياحه وكثرة أهواله لم يعلم العالم إلا بعض سواحله وجزائره الغربية من المعمور وامتداد سواحله المغربية. فإنها من حدود برزة منه من خلف خط الاستواء تسمى بحر سفاقس وتميم السودان. طول هذه البرزة نحو شهر وعرضها نحو عشرة أيام، وبها ثلاث جزائر كبار يأتي وصفها وتمتد بسواحل المحيط المغربية من هذه البرزة إلى برزة دونها في المقدار تسمى بحر كوغة وورهم، وفيها تصل بحيرة غانة والأحابيش السودان، وطول هذه البرزة نحو خمسة عشر يوماً، عرضها نحو عشرة أيام وبها جزيرتان... (133)

في وصف بلاد المغرب والصحراوية المتوسطة بين بلاد السودان والصحراء وبين بلاد إفريقية البرية التي ذكرنا

ولنبتدئ من المغرب إلى المشرق فنقول أن أول بلاد الصحراء نول لمطة وهي مدينة على المحيط لها نهر يصب في البحر ولمطة قبيلة من البربر، ثم أودغشت مدينة رملية، ولها نخل، وبلدها وبي جداً، يأكلون أهلها الذرة واللحم. وبناحيتها معدن الذهب الجيد. ومن قبائل البربر بها لمتونة وتازكاغت ومسوفة وكاكدم وجدالة، وهم الملثمون والمرابطون، وكلهم يتنقبون إلا نساؤهم. والملك في لمتونة، ومنهم كان يوسف بن تاشفين باني مدينة مراكش، ومنه أخذ محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الملك وسلمه لعبد المؤمن بن علي. ومسوفة أجمل البربر صوراً، وجدالة أكثرها عدداً. ومن هذه البلاد الصحراوية سجلماسة، مدينة سهلية سبخة، لها غابات نخيل، ولها نهر كالنيل، في زيادته يسمى زير، يجتمع من أنهار تخرج من جبل درن ويصب في وادي درعة. ويحيط بسجلماسة سور إحاطته اثنا عشر فرسخاً، ولا يعرف في قبليها ولا غربيها عمران. ومنه يدخل الداخل إلى بلاد السودان مسيرة شهرين في صحراء عامرة بطوائف من البربر متوحشين لا يعرفون غير البادية، تتصل مساكنهم ببلد غدامس، وهم خلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى، وأموالهم الأنعام، وعيشهم اللحم واللبن وحبوب تنبتها أرضهم زمن الربيع، والدرة تجلب إليهم. يمر على أحدهم العمر الطويل، ولا يرى على يده خبزاً إلا ما يحمله التجار الواردون عليهم من بلاد المغرب. وهم طواعن في طلب الدلاء لا يستقر بهم منزل يلبسون الجلود إلا قليلاً منهم فإنه يلبس القطن ويجلب إليهم من بلد كوكو وإليها يسافرون للانتجاع ومن البلاد الخحراوية تادمكة أي مثل مكة لأنها بين جبال، وعيش أهلها كعيش من ذكرنا من قبل. وكلهم ملثمون، لا يبين منهم إلا العيون. ونساؤهم حواس الوجوه. ومن عجيب رجالهم أن الملثم منهم لا يعرف إذا أحاط لثامه عن وجهه. ومن البلاد الصحراية وأرقلان، وبينها وبين تادمكة خمسون مرحلة، وهي سبع حصون يسكنها البربر، وهم أباضية لا يقيمون جمعة. ومن البلاد المذكورة غدامس، وبينها وبين وارقلان أربعون مرحلة وهي مدينة لطيفة كثيرة النخل، وأهلها أيضاً أباضية. وبينها وبين جبل نفوسة سبعة أيام في خصراء وهذا الجبل طوله من المشرق إلى المغرب ستة أميال، وقيل ستة أيام، فيه قرى وعمائر، قصبتها شروش، أهلها أباضية أيضاً. ويتصل بهم جبل أوراس وطوله سبعة أيام فيه حصون كثيرة يسكنها هوارة، وهم أباضية أيضاً. ويتصل بجبل ونشريش وطوله خمسة عشر يوماً معموراً بقبائل البربر، وبجبل درن وطوله تسعة أيام، يتفجر منه أنهار كثيرة. وفيه شجر الصنوبر والبلوط يسكنه من صنهاجة ومن هسكورة ومن مزغة ودكالة ووركالة، وهو يمتد على بلد مراكش وأغمات ودرعة والسوس والمتصل بجبل أزور، وهو جبل يمر ببلاد كزولة مسافته عشرة أيام، يخرج من البحر المحيط، يوجد به زُبر الحديد لا تمده النار. ومن الصحراوية أيضاً مما يلي غدامس إقليم ودان فيه مدينتان إحداهما تسمى توم والأخرى دلباك يسكنها عرب حضرميون وسهميون. وإقليم أوجلة كثيرة النخل وفيه مدينة اسمها أزراقية ومدينة أجدابية ولها مرسى على البحر، بينه وبينهما ثمانية عشر ميلاً. وبالقرب منها مدينة أنقلا سهلية، وبينهما وبين زويلة التي من بلاد السودان يسكن قوم من لمطة أشبه بالبربر وبالسودان، وعليها أنهر، ولها بساتين كثيرة والله أعلم. (238-239)

في وصف بلاد السودان وأسمائها وبقاعها

وأقربها من صحارى البربر مدينة كوكو، وهي في سفح جبل يشقها نهر يسمى بها، يأتي من بحيرة كورى الجامعة ويصب في نهر غانة، وجريه شديد، وله وقت يزيد فيه ويزرع عليه القمح وغالب الحبوب. والقطن هناك يصير شجراً كباراً تحمل شجرته خمس رجال ويستظل بظلها نحو عشرة أنفس وعلى شاطئ هذا النهر مجالات وسيعة وقرى عامرة. ومن بلاد السودان بلد غانة وقصبته أوكار وغانة اسم علم على كل من يملك هذا السقع كما يطلق البغبور على من يملك الصين وقاقان على من يملك الترك. ولها من البلاد صنغانة وهي جانبان. ومدينة سمقندة وأهلها أرمى الناس بانبل، في حيزها شجر يشبه شجر الأراك، يحمل ثمراً في قدر البطيخ، في داخله شيء يشبه القند حلاوة، يشوّبها حموضة يسيرة، وشجر يسمى ريكان، وينبت هذا الشجر أيضاً بأرض السوس الأقصى، وثمره كالتمر، ينفرك عنه قشره فيكون قلوباً في غاية الدهانة والحلاوة، يستخرجون دهنه ويأكلونه عوضاً عن السيرج والسمن، ويفضلونه عليهما. ومدينة غياروا ومدينة يرسنة ومدينة تيرقى ومدينة أوليل ومدينة قذهم. وكلها على البحر ولها أعمال. وبلد كانم عمل متسع ممتد على جانبي نهر غانة المسمى بحر الحبشة، وهو في زيادته ونقصانه، وإفلاحه للأرض مثل نيل مصر، لكنه أكبر منه وأغزر وأوسع، فيه جزائر كثيرة معمورة بطوائف السودان، وفيه التمساح كثير مؤذيي. وقصبته مدينة كانم ومدينة جيمي ومدينة تكرور ومدينة سمغارة. وكل هذه المدن يشقها نهر غانة، وبعضها يحيط بها. ومدينة جاجة كثيرة الخصب وبها الطواويس والببغات والدجاج الأرقط الحبشي وخشب الأبنوس. ومدينة مغزا ومدينة ماتان ومدينة تاجوا وأهلها فيهم حسن وجمال وملاحة كما في الزغوا من السودان سماجة ووحاشة. وبلد كانم متصل ببلد الحبشة إلى مدينة صورة وكناور من الحبشة العليا. وفي بلد كانم أيضاً بلد كولد وهم في واد فيه نخل ولا فيه ماء يجري. وانكلاووس وهم طائفة أيضاً في واد كوادي كوار. وطائفة أيضاُ تسمى بلملمة. وأبزن مدينة بذلك الوادي. وفي غربيها بحيرة طولها اثنا عشر ميلاً مالحة يصاد منها السمك البوري، وعليها مدينة فزان ومدينة جرمة وطائفة زويلة ومدينة نساوة ومدينة وان، ومجالات لملم جنوب نهر غانة، ومجالات كوغة جنوبه في المغرب، ومجالات بجات ومجالات تميم ومجالات دمدم ورائهم في الجنوب إلى خط الاستواء وإلى ما وراءه. وفي جهة المغرب من مجالات تميم مجالات سفاقس، وهؤلاء أكثرهم متوحشون لا يدينون بدين ولا يكادون يفقهون قولاً، وهم بالحيوان أشبه منهم بالناس. فهذه البلاد بلغها الإسلام وجاسوا خلالها. (240-241)

في ذكر أولاد حام بن نوح (عم) وهم القبط والنبط والبربر والسودان على كثرة طوائفهم

ذكر أهل الآثار ان السبب في سواد أولاد حام أنه أصاب امرأة في السفينة، فدعا عليه نوح (عم) أن يغيّر الله نطفه، فجاءت بالسودان. وقيل أنه أتاه فوجده نائماً وكشفت الريح عورته، وذكر ذلك لأخويه سام ويافث، فنهضا وستراه، وهما مدبران وجوههما حتى لا يريا سؤته. فلما علم نوح (عم) بذلك قال ملعون حام، ومبارك سام، ويكثر الله يافث. وأما الحق فإن طبيعة بلادهم اقتضت أن يكونوا على ما هم عليه من الأوصاف المخالفة للبياض. فإن غلبهم في جهة الجنوب والمغرب من الأرض. وأما القبط فيقال أنهم من ولد قبط بن مصر بن نيصر بن حام، ولد له أشمون وقفط وصا وأتريب. فلم يعقب منهم غير قفط وولده صيفان. فمن سكن منهما صعيد مصر يسمى المريس، ومن سكن أسفلها يسمى البيما. ويقال في سبب وقوع مصر بن نيصر إلى الأرض التي عرفت به ما تقدم لنا من وقوع الصرح ببابل. ويقال أن حاماً ولد له ثلاثة أولاد: قفط وكنعان وكوش. فقفط أبو القبط، وكوش أبو السودان، وكنعان أبو البربر. وقال أبو عبيدة البكري: وقبط مصر منهم من يزعم أنهم من ولد ربيعة، ثم من تغلب وذكروا أن قوماً من تغلب انتجعوا بإبلهم أرض مصر لطلب الكلأ، وهم على دين النصرانية، فتزوجوا القبطيات وتناسلوا هناك، وهم البِيما من القبط. والقبط الأول ومنهم النبط أولاد نبيط بن كنعان بن كوش بن حام. وكانت مساكنهم أرض بابل، وأول ملوكهم النمرود الأول أي الأكبر، وهم الكاران والكسران ولاجنبان والجرامقة والكوثاريون والكنعانيون، وكلهم نبط، وهم الذين شيّدوا البناء ومصروا الأمصار وكروا الأنهار وغرسوا الشجر والستنبطوا العزائم والدخن والشعبذة والنارنجبات. وكانوا كلهم صابية يعبدون الكواكب والأصنام. والقسم الثان نصارى يعقوبية، وملوكهم بطالمسة، وهم تسعة ملوك، كل واحد منهم بطليموس، وعاشرهم إقلاؤفطرة. وأما البربر فقد تقدم قول من حلى عنهم أنهم من ولد كنعان. وقال آخرون بل هم ولد بربر بن قفط وأن قفطاً لما مات خرج ولده بربر مغضباً لبني أبيه بولده إلى ناحية المغرب، فنزل لواتة ومزاتة أرض ودان، ونزلت هوارة أرض طرابلس، ونزلوا نفوسة غربيها. وساروا إلى تاهرت وطنجة وسجلماسة. والقول المعتمد عليه أن ديارهم كانت فلسطين وملكهم جالوت، فلما قتله طالوت هربوا من بين يديه إلى ناحية إفريقية، وكانت تسمى مراقية، فنزلوا ببرّ العدوة متفرقين. وكانت هذه البلاد للروم فوقعت بينهم حروب إلى أن توادعوا على أن يسكن البربر الجبال والرمال، ويسكو الروم المدن والجزائر. ولم يزل الأمر على هذه الموادعة إلى أن ملك المسلمون وفتح الله لهم مشارق الأرض ومغربها. وقال قوم هم من ولد بربر بن قيس بن غيلان وأقام من حمير في البرابرة صنهاجة وكتامة وصنهاج تفترق في قبيلتين في قارا بن صنهاج وفي مارا بن صنهاج. (276-277)

في ذكر نبذ من الأخلاق وجمعها وتقسيمها بحسب البقاع والأمزجة وذكر صفات أهلالأقاليم المنحرفة والمعتدلة وما يتبع ذلك

وقيل عن عمر بن الخكاب (ره) أنه قال لكعب الأحبار صف لي ما تعلم من أخلاق أهل البلاد المحمودة والمذمومة غالباً. فقال يا أمير المؤمنين أربعة لا تعرف في أربعة: السخاء في الروم، والوفاء في الترك، والسجاعة في القبط، والغم في السودان. وطلب النجدة الشام فقالت الفتنة وأنا معك، وطلب الإيمان اليمن فقال الحياء وأنا معك، وطلب الغنى والخصب مصر فقال الذل وأنا معكما، وطلب الشقاء والفقر البادية فقالت الصحة وأنا معكما، وطلب النفاق والكبر العراق فقالت النعمة وأنا معكما. قال يا أمير المؤمنين وقُسمت قساوة عشرة أجزاء تسعة منها في الترك وواحد في الناس، وقسم الحذق عشرة أجزاء تسعة منها في العرب وواحد فيا الناس، وقسم البخل عشرة أجزاء تسعة في الهنود وواحد في الناس، وقسم الحقل عشرة أجزاء تسعة في العرب وواحدة في الناس، وقسم الكبر عشرة أجزاء تسعة في الروم وواحد في الناس، وقسم الطرب عشرة أجزاء تسعة في السودان وواحد في الناس، وقسم الشبق عشرة أجزاء تسعة في الهنود وواحد في الناس. وقيل حكي عن الحجاج أنه قال أهل اليمن أهل سمع وطاعة ولزوم، جماعة عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا، وأهل اليمامة أهل جفاء وخلاف آراء، وأهل فارس أهل بأس شديد وعز عتيد، وأهل العراق أبحث على صغيرة وأضيع لكبيرة، وأهل الجزيرة أشجع الناس، وأهل الشام أطوعهم لمخلوق، وأهل مصر عبيد لمن غلب وأكيس الناس صغاراً وأجهلهم كباراً، وأهل الحجاز أحبهم للمعارف وأسرعهم إلى فتنة. والله أعلم. (271)

وسنورد ما قيل في سكان الأقاليم السبعة من الخَلق والخُلق. والسبب الموجب له، فالأول من خط الاستواء وإلى ما وراءه وما خلفه، وفيه من الأمم الزنج والسودان والحبشة والنوبة. ومثلهم وكل هؤلاء سود، سوادهم من قبل الشمس، فإنه لما كان حرها شديداً وطلوعها عليهم ومسامته رؤوسهم لها في السنة مرتين، ولا تزال قريبة منهم أسخنتهم إسخاناً محرقاً وصارت شعورهم التي بالقصد من الطبيعة سوداً حالكة جعدة مفلفلة، أشبه شيء بشعر أدنى من النار، حتى يشيط وأدل دليل على أنه متشيط لأنهه لا ينمو ولا يطول. وجلودهم زعرة ناعمة لتنقية الشمس أوساخ أبدانهم وإجذابها إياها إلى خارج، وأدمغتهم قليلة الرطوبة لمثل ذلك، فلذلك كانت عقولهم خسيفة وأفكارهم قصيرة وأذهانهم حامدة ولا يوجد منهم الشيء وضده، كالإمانة والخيانة، والوفاء والغدر. ولم يوجد فيهم النواميس. ولم يبعث فيهم رسول، لأنهم غير قادرين على الجمع بين الضدين. والشرعية إنما هي أمر ونهي ورغبة ورهبة فالخُلق الذي يوجد في غزائرهم قريب مما يوجد في أخلاق البهائم من سجاياها الموجودة فيها بالطبع من غير تعلم أخرج ذلك الأمر منها من القوة إلى الفعل، كما توجد الشجاعة في الأسد والحيل في الذيب والخبث في الثعلب والجزع في الأرنب والملق في الكلب والخيل في الفرس. وليس يوجد في هذه الحيوانات أضداد هذه اللأفعال وطاعتهم لملوكهم وأكابرهم إنما هو لإقامة الأحكام فيهم والسياسات كما ترى ذلك في الوحوش. قال جالينوس أن في الأسود عشر خصال لا توجد في غيره من البيض: تفلفل الشعر ودقة الحاجبين وانتشار المنخرين وغلظ الشفتين وتحدد الأسنان ونتن الجلد وسوء الخُلق وتشقق الأطراف وطول الذكر وكثرة الطرب. (373)