كتاب
الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية

[تحقيق سهيل زكار وعبد القادر زمامه، دار البيضاء، 1978، 17-28]

ذكر السبب في خروج الملثمين ونبذ من أخبار أوائلهم المتقدمين

هؤلاء الملثمون ينتصمون إلى لمتونة، وهم أولاد لمت، وجدالة ولمط ومسطوف ينتسبون إلى صنهاجة.

غلمت جد لمتونة، وجدال جد جدالة، ولمط جد لمطة، ومسطوف جد مسوفة، وهم ظواعن في الصحراء، رحالة لا يطمئن به منزل، وليس لهم مدينة يأوون إليها، ومراحلهم في الصحراء مسيرة شهرين في شهرين، ما بين بلاد السودان وبلاد الإسلام، وهم على دين الإسلام، وأتباع اسنة، يجاهدون غيرهم من طوائف السودان.

قال أبو عبد الله محمد بن يحيى الزهري: كان أهل بلاد السودان الذين حاضرتهم مدينة غانة متشرعين فيما سلف من الدهر بدين النصرانية إلى سنة تسع وستين وأرعمائة، فأسلم أهلها، وحسن إسلامهم، وذلك عند خروج الأمير أبي (زكريا) يحيى أخي الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني، وليس بين لمتونة وبين البربر نسب إلا الرحم. وصنهاجة يرفعون أنسابهم إلى حمير، وأنهم خرجوا من اليمن، وارتحلوا إلى الصحراء، وهي موطنهم بالمغرب، وسبب ذلك أن أحد الملوك من التبابعة لم يكن فيمن تقدمه من ملوك قومه مثله، ولم يبلغ أحد منهم في فضله وعزة ملكه وبعد غزوه ونكاية عدوه، وقهره العرب والعجم مبلغه، فأنسى جميع الأمم ممن كان قبله، وكان قد أخبره بعض الأحبار بحوادث الأيام، وبالكتب المنزلة من الله على رسله، عليهم الصلاة والسلام، وأن الله يبعث رسولاً هو خاتم الأنبياء، ويرسله إلى جميع الأمم، فآمن به وصدق بما يأتي به، وقال فيه: شهدت على أحمد أنه رسول الله.

ونخلمها في أبيات من الشعر:
شهدت على أحمد أنهرسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى دهرهلكنت وزيراً له وابن عم

في أبيات كثيرة، قصتها مشهورة، ثم سار إلى اليمن، ودعا أهل مملكته إلى ما آمن به، فلم يجبه إلى ذلك إلا طائفة من قومه حمير.

ولما هلك غلب أهل الكفر على أهل الإيمان، فكان كل من آمن به، وتبع ملته بين قتيل وطريد، ومطلوب وشريد، فعند ذلك تلثموا، كفعل نسائهم في ذلك الزمان، وفروا بأنفسهم، وتفرقوا أيادي سبأ، في الأقطار، فكان هذا سبب خروج سلف الملثمين عن اليمن، كما ذكر، وكانوا أول من تلثم، ثم انتقلوا من قطر إلى قطر، ومن مكان إلى مكان، حتى صاروا بالمغرب الأقصى، ببلاد البربر، فاحتلوا به، واستوطنوه، وصار اللثام زيهم الذي أكرمهم الله به، ونجاهم لأجله من عدوهم، فاستحسنوه، ولازموه، وصار زياً لهم ولأعقابهم لا يفارقونه إلى هذ العهد.

وإنما تبربرت ألسنتهم لمجاورتهم البربر، وكونهم معهم، ولمصاهرتهم إياهم.

والموجب لخروجهم من الصحراء إلى وطن المغرب أن أحد بني جدالة، ويعرف بيحيى بن إبراهيم، كان قد توجه لإداء فريضة الحج، واجتاز في إيابه على مدينة القيروان، وذلك سنة أربعين وأربعمائة، فحضر بها مجلس الفقيه المدرس أبي عمران الفاسي، فسأله عن قبيلته ووطنه، فذكر له أنه من الصحراء، من قبيلة جدالة إحدى قبائل صنهاجة. فقال له الفقيه: ما مذهبكم؟ فقال له: ما لنا علم من العلوم، ولا مذهب من المذاهب لأننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال، حرفتهم الاشتغال بالبيع والشراء، لا علم عندهم، وفينا أقوام يحرصون على تعلم القرآن وطلب العلم ويرغبون في التفقه في الدين، لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فعسى يا سيدنا أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا ديننا.

فقال له الفقيه: سأنظر لك في ذلك إن شاء الله تعالى، فعرض الفقيه الأمر على الطلبة، فلم يوافقه أحد، لبعد الشقة والانقطاع في الصحراء، فدله الفقيه على رجل من فقهاء المغرب الأقصى، مستوطن بالسوس، يدعى وكاك بن زلو، مشهوراً بالخير والعبادة، كانت بينهما قراءة ومعرفة، فخاطبه في القضية، وأكد عليه في المشاركة فيها. فلما وصل يحيى بن إبراهيم المذكور، اجتمع به ودفع إليه كتابه، فرحب به وأكرمه واختار له رجلاً يعرف بعبد الله بن ياسين الجروني، من طلبة الشيخ المذكور، وأرسله معه. ودخل إلى الصحراء إلى بلاد جدالة، وهو مع يحيى بن إبراهيم.

وكان عبد الله دخل الأندلس في دولة ملوك الطوائف، وأقام بها سنين، يلازم القراءة فحصل علماً كثيراً، وعاد إلى المغرب الأقصى.

فسار معه إلى قبيلة جدالة ففرحوا، واجتمع عليه منهم نحو سبعين شيخاً من فقهائهم وأهل الخير منهم ليعلمهم ويفقههم في دينهم، فانقادوا إليه انقياداً عظيماً، وأولوه براً وتكريماً، ولازموه مدة طويلة.

واجتمع عليه منهم عدد وافر، إلى أن أمر عبد الله بن ياسين قبائل جدالة بغزو لمتونة، فحاربهم حتى دخلوا في دعوة عبد الله بن ياسين، وغزوا معه سائر قبائل الصحراء، وحاربوهم وقوي أمر جدالة، وزاد في ظهورهم، وهم ممتثلون لأمره، منقادون لحكمه، وتوجه إلى لمتونة، فانقادوا له وأطاعوه، وكان أشد الناس انقاياداً إليه أمير لمتوة أبو زكريا يحيى بن عمر.

وكان الأمير أبو زكريا إذا تقدم بجيشه، قدم أمامه الشيخ أبا محمد عبد الله بن ياسين، والشيخ كان في الحقيقة الأمير، وهو الذي يأمر وينهى، وكان يقول لهم: إنما أنا معلم دينكم، وكان يلي لمتونة جبل فيه قبائل من البربر على غير دين الإسلام، فدعاهم الشيخ عبد الله بن ياسين إلى الدين، فامتنعوا عليه، فأشار على الأمير أبي زكريا بن عمر بغزوهم، فغزاهم بلمتونة، وكانوا حينئذ أزيد من ألف فارس، فهزموهم وسبوهم وقسموا أموالهم وخمسوا سبيهم، فيقال أنه كان أول خمس قسمه اللمتونيون في صحرائهم. وفقد منهم في هذه المعركة خلق كثير، وعند ذلك سماهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين بالمرابطين، لما رأى من شدة صبرهم وحسن بلائهم على المشركين.

قال أبو عبيد عبد الله البكري: وكان للمتونة في قتالهم شدة وبأس ليس لغيرهم، وبذلك ملكوا الأرض، وكان قتالهم على النجب أكثر من الخيل، وكان معظم قتالهم مترجلين، يقفون على أقدامهم صفاً بعد صف، يكون بأيدي الصف الأول منهم القنا الطوال، وكانوا يختارون الموت على الانهزام، ولا يحفظ لهم فرار من زحف، ولما رأى الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين استقامة لمتونة، واجتهادهم، أراد أن يظهرهم ويملكهم بلاد المغرب، فقال لهم: إنكم صبرتهم ونصرتم دين رسول الله صلى اله عليه وسلم، وقد فتحتم ما كان أمامكم، وستفتحون --- إن شاء الله --- ما ورائكم، فأمرهم بالخروج من الصحراء إلى سجلماسة ودرعة، وأهلها يومئذ تحت طاعة أمراء مغراوة من زناتة، وأميرهم يومئذ مسعود بن وانودين بن خزرون ابن فلفول الهزرجي، وذلك بعدما خاطبوهم، فلم يجيبوهم على ما طلبوا منهم، فغزاهم في جيش كثيف حتى غلبوا عليهم ودخلوا سجلماسة وملكوها. وكانت بها أناس كثيرة، وكانت بينهم وبين مغراوة حروب كثيرة.

وبعد ذلك توجه الأمير أبو زكريا يحيى بن عمر مع إمامه الشيخ أبي محمد عبد الله بن ياسين بجيش كثيف من لمتونة ومسوفة ولمطة وهزرجة، وصار بهم إلى بلاد درعة، فتلاقوا هنالك مع جيش جدالة، فقتل الأمير أبو زكريا بن عمر، وقتل معه بشر كثير.

ولما كان بعد ذلك قدم الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين أخاه الأمير أبا بكر بن عمر، فبايعته لمتونة وسائر الملثمين وأهل سجلماسة ودرعة، وانصرف إلى بلاد المصامدة بقصد أغمات، وطاعت له، واحتل مدينة أغمات واستوطنها مع إمامه الشيخ أبي محمد عبد الله بن ياسين. ثم انصرف الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين إلى بلاد تامسنا ليسكنهم ويحضهم على الطاعة، فقتلته برغواطة.

ولما كان في سنة ستين وأربعمائة استقامت الإمارة للأمير أبي بكر بن عمر، وطاعت له البلاد، ووجه عماله إليها واستوطن مدينة أغمات، وتوالت عليه الوفود والجيوش من الصحراء، فكثر الخلق وعظم الازدحام بأغمات، فشكوا إليه ما يجدونه من ذلك، وأشاروا عليه بالانتقال إلى فحص مراكش، فانتقل إليها، حسبما تقدم قبل هذا، وفي أثناء مقامه بلغه ما كان من ظهور جدالة على لمتونة، فشرع في العودة إلى الصحراء، واستخلف على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين.

ذكر يوسف بن تاشفين ونسبه رحمه الله

هو يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن تورقيت بن ورتاقطن بن منصور بن مصالة بن مانية بن ونمالي، الصنهاجي الحميري، وفي إبراهيم يجتمع مع ابني عمه الأميرين الذين كانا قله: أبي زكريا وأبي بكر ابني عمر بن إبراهيم بن تورقيت.

وكنيته: أبو يعقوب.

بنوه: (أبو بكر) سير، وإبراهيم، وعلي --- المولى بعده، وأبو الطاهر تميم والمعز.

ووزراؤه: صهره سير بن أبي بكر

وكانت خلافته من أول ولايته بالمغرب، باستخلاف ابن عمه الأميرأبي بكر بن عمر إياه، وانصرافه إلى الصحراء إلى حين وفاته أربعاً وثلاثين سنة، وبالأندلس من يوم خلعه لعبد الله بن بلقين إلى حين وفاته سبعاً وعشرين سنة.

ولما أخذ ابن عمه الأمير أبو بكر بن عمر في الحركة إلى الصحراء، حسبما تقدم ذكره آنفاً، ولاه المغرب مكانه على صورة النيابة عنه، وقسم الجيش، فترك له الثلث من لمتونة، وانصرف بالثلثين معه داخلاً إلى الصحراء، وذلك في سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فأقام بعده يوسف بن تاشفين مدبراً للأمور، قائماً بالملك، واشتغل ببناء الحصن المسمى بحصن قصر الحجر، برحبة مراكش، وجلعه تحت مور وأبوال وحصنه.

ولما كان في سنة أربع وستين وأربعمائة، قوي أمره وعظمت شوكته، فاشترى جملة من عبيد السودان، وبعث إلى الأندلس، فاشترى منها جملة من العلوج، فأركبهم وانتهى عنده منهم مائتان وخمسون فارساً، شراء بماله، ومن العبيد نحو ألفين، فأركبهم فرساناً فغلظ حجابه وعظم ملكه. وافترض على اليهود في تلك السنة فريضة ثقيلة، اجتمع له منها جملة مال، استعان به على ما كان بسبيله.

ولما كان في سنة خمس وستين وأربعمائة وصل الأمير أبو بكر بن عمر من الصحراء، وعاد إلى المغرب بعد أخذه بثأر قومه وإصلاح شأنهم، فنزل بأغمات خارج المدينة، ونزلت محلته دائرة به، وألفى ابن عمه يوسف بن تاشفين قد استولى على الملك، وطاعت له بلاد المغرب، فعلم أنه عزم على الاستبداد بالملك، وتسابق أكثر أصحابه ممن وصل معه إلى مراكش، لرؤية بنيانها والسلام على يوسف بن تاشفين أميرها، وكانوا قد سمعوا عن ضخامته وجميل كرامته وجزيل إحسانه لإخوانه ومعارفه، فاجتمع عنده من القادمين عليه خلق كثير، فوصلهم على قدر منازلهم وأعطاهم بمقدار مراتبهم، وأمر لهم بالكسوة الفاخرة والخيل المسومة والأموال الجمة والعبيد المتعددة.

ولما تشوف الأمير أبو بكر بن عمر على أحوال ابن عمه يوسف بن تاشفين، وعلم حبه في الملك، وأنه قد استمال نفوس من معه بإحسانه، انقطع رجاؤه من الملك، فطلب منه تعيين يوم لاجتماعهما فيه، فخرج الأمير يوسف بن تاشفين في جنوده وعبيده وتلقاه في نصف الطريق، فكان اجتماعهما ما بين أغمات ومراكش، على تسعة أميال منها، فسلم عليه راكباً على دابته، ولم تكن تلك عادته قبل، ثم ترجلا وقعدا على برنس، فسمى ذلك الموضع بفحص البرنس، فهو يعرف بذلك إلى هذا العهد.

فتعجب الأمير أبو بكر بن عمر مما رأى من ضخامة ملكه ووفور عساكره وترتيب جنوده وتحدث معه. ثم قال له: يا يوسف أنت أخي وابن عمي، ولم أر من يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك، وأنا لا غناء لي عن الصحراء، وما جئت إلا لأسلم الأمر إليك وأهنئك في بلادك وأعود إلى الصحراء، مقر إخوانها ومحل استيطاننا. فشكره يوسف بن تاشفين على ذلك وأثنى عليه، وأحضر أشياخ لمتونة وأعيان الدولة وأمراء المصامدة والكتاب والشهود والخاصة والعامة، وأشهد على نفسه بالتخلي له عن الأمر بوطن المغرب، وقام فودعه الأمير يوسف بن تاشفين، وعاد الأمير أبو بكر إلى موضع نزوله من أغمات، ورجع يوسف بن تاشفين إلى مركش موضع ملكه.

ولما وصل إليه بعث إليه بهدية أهداه إليه، كان معظم ما فيها: خمشة وعشرين ألف دينار من الذهب العين، وسبعين فرساً منها خمسة وعشرون مجهزة بجهاز محلي بالذهب، وسبعين سيفاً منها عشرون محلاة بالذهب والخمسون غير محلاة، وعشرين زوجاً من المهامز المحلاة بالذهب ومائة وخمسين من البغال المتخيرة الذكور والأناث، ومائة عمامة مقصورة، وأربعمائة من السوسي ومائة غفارة ومائتين من البرانس منها بيض وكحل وحمر، وألفل شقة من لون حب الرمان، ومائة شقة من أشكري، وسبعمائة كساء بيض ومصبوغة، ومائتي قبطية شال مختلفة الألوان والأنواع، ومائتي جبة واثنتين وخمسين جبة أشكرلاط ملف رفيع، وسبعين كبة ملف رفيع، وسبعة بنود كبار منها بند واحد محلي، وعشرين جارية أبكاراً، ومائة خادم، وإحدى وخمسين خادماً، وعشرة أرطال من العود الرطب منها رطلان من الغالي النفيس، وخمسة نوافج من المسك الطيب، ورطلان من العنبر الطيب، وخمسة عشر رطلاً من الند، إلى غير ذلك مما يطول ذكره من البقر والغنم والقمح والشعير.

وكتب إليه كتاباً يعتذر فيه إليه، ويرغبه في قبول الهدية ويقول له: كل ذلك قليل في حقك. فطابت نفس الأمير أبي بكر وقال: هذا خير كثير، ولم يخرج الملك من بيتنا ولا زال عن أيدينا، والحمد لله على ذلك. فناول إخوانه من تلك الخيرات، وانصرف إلى الصحراء، فأقام بها ثلاثة أعوام، والأميريوسف ابن تاشفين يمده بالهدايا والتحف، إلى أن قتله السودان المجاورون له في الصحراء، في بعض الحروب التي كانت بينهم.