ابن عذاري
البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب
ويشتهرون وفيها أقوام على تعليم العلوم يحرضون وعلى التفقه في الدين من الله يرغبون...: يا سيدنا تنظر في من يتوجه معي إلى بلادنا ليعلمنا ديننا. فقال له الفقيه: سوف أجتهد لك في ذلك إن شاء الله تعالى. فعرض الفقيه الأمر على الطلبة هنالك فلم يجد أحداً يوافقه على ذلك، لأجل مشقة السفر البعيد والانقطاع في الصحارى، فدل الفقيه على رجل من فقهاء الغرب الأقصى اسمه واجاج. فأعطاه كتاباً يوصله إليه يؤكد في الاجتهاد في ذلك عليه. فلما وصل يحيى بن إبراهيم إلى أقصى المغرب وجده في موضع يقال له ملكوس، واجتمع معه فيه وأعطاه كتاب الفقيه ابي عمران. فرحب به وأكرمه وكلمه يحيى بما أراد أن يكلمه وأعلمه بوصية الفقيه أبي عمران إليه، وتوكيد عليه فاختار له شخصاً يقال له عبد الله بن ياسين فسار معه إلى قبيلة جدالة فاجتمع عليه عندهم نحو سبعين شخصاً ما بين كبير وصغير من فقهائهم ليعلمهم ويفقههم في دينهم فانقادوا له انقياداً عظيماً ووالوه في ابتداء الأمر تكريماً وأقاموا معه على ذلك مدة كبيرة واجتمع عليه منهم أعداد كثيرة إلى أن أمر عبد الله المذكور لقبائل جدالة بغزو قبائل لمتونة فحاربهم جدالة حتى غلبوهم ودخلوا في دعوة عبد الله بن ياسين وغزوا معهم سائر قبائل الصحراء وحاربوهم فقوي أمر جدالة وظهورهم إلى أن مات يحيى بن إبراهيم.
وبقي فيهم عبد الله بن ياسين يمتثلون كل ما به يأمرهم منقادين لأمره ونهيه إلى أن نقض عليه شخص منهم اسمه الجوهر بن سحيم شيئاً من أحكامه وجد فيها تناقضاً فتوافق مع بعض رجال من كبرائهم فعزلوه من الرأي والمشورة وقطعوا منه مالهم وانتهبوا داره وهدموها وأخذوا ما كان فيها وخرج عبد الله بن ياسين منهم خائفاً منهم.
وكان أمير لمتونة يومئذ يحيى بن عمر بن بولنكائي اللمتوني فرحل إليه عبد الله المذكور فتلقاه يحيى بن عمر بأحسن قبيل من إقباله وأخذ معه في أموره وأحواله فتوجه عبد الله بن ياسين إلى شيخه واجاج الذي دخل يحيى بن إبراهيم الجدالي عليه وقيل إنه كتب ولم يتوجه بنفسه إليه فأعلمه بما جرا في جدالة وبين له أمره معهم وحاله فشق على الشيخ واجاج المذظور ما أعلمه من ذلك فكتب إلى بعض أشياخ جدالة يعاتبهم على ما صدر لعبد الله بن ياسين منهم وما بلغه من فعل المشغبين عليه وهو مقيم بينهم وأخذ في ذلك أخذاً كلياً عليهم وعاتب عتاباً شاقياً إليهم لكونهم كانوا قد انقادوا إليه، ثم انتقدوا ما شيعه عدوه عليه. فلما وصل جواب الشيخ واجاج من أشياخ الجداليين المذكورين مستعذرين له على تقصيرهم في حق عبد الله بن ياسين أمره بالرجوع إلى تلك القبائل الصحراوية وكتب لأشياخهم يعلمهم أن من خالفه قد خالف الجماعة.
بعض أخبار عبد الله بن ياسين مع لمتونة في ابتداء أمرهم
ذلك أنه لما استقر عبد الله بن ياسين عند لمتونة انقادوا له وأطاعوه واحتال على الذين شاغبوا عليه في جدالة فقتلهم وأمر بقتل من استوجب القتل عندهم. فأجابته بعض القبائل الصحراوية ودخلوا في دعوته والتزموا المسنة به وكان أشدهم انقياداً له أمير لمتونة يحيى بن عمر. فكان يخرج معه مع قبائل لمتونة لمحاربة بعض القبائل الذين لم يخرجوا تحت طاعته إلى أن نهضوا إلى قبيلة لمطة فسألوهم ثلث أموالهم ليطيب لهم الثلثان الباقيان. كذا سن لهم عبد الله بن ياسين في الأموال المختلطة فأجابوه إلى ذلك ودخلوا معهم في دعوته مدة كبيرة وتقدم يحيى بن عمر اللمتوني على قبيلة مسوفة وغيرها.
وكان عبد الله بن ياسين قد دخل بلاد الأندلس في دولة ملوك الطوائف فأقام بها سبعة أعوام وحصل فيها على علوم كثيرة. ثم رجع إلى المغرب الأقصى فمر بتامسنا فوجد فيها أمماً لا تحصى أكثرهم تحت أمراء البرغواطة، وكان عسكر أمراء برغواطة أكثر من ثلاثة آلاف وانضاف إليهم من سائر القبائل ما بين فارس وراجل أزيد من عشرين ألفاً من جراوة وزغارة ومطغرة والبرانس وركونة وغيرها.
وكان أهل المغرب يتولون أمور بلادهم وأمراؤهم يتولون الإمارة بينهم إلى أن تغلب كل شخص منهم على موضعه كما فعل ملوك طوائف الأندلس. فمر عبد الله بن ياسين ببلاد المصامدة بعد منصرفه من الأندلس فوجدهم يغيرون بعضهم على بعض يغنمون الأموال ويقتلون الرجال ويسبون الحريم ولا يرجعون إلى طاعة إمام. فكان من عبد الله بن ياسين بعض الإلهام أن قال لبعضهم: ألا تعرفون الله بربكم ومحمداً رسولكم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؟ فقالوا له: نعم عرفنا الله ربنا ومحمداً نبياً صلى الله عليه وسلم. فقال لهم عبد الله: فما لكم بدلتم وغيرتم هل لا قدمتم عليكم إماماً يحكم بينكم بشريعة الإسلام وسنة النبي عليه السلام؟ فقال له بعض أشياخ المصامدة: لا يرضى أحد منا ينقاد إلى حكم أحد من غير قبيله. فتركهم ورحل عنهم إلى بلاد جزولة فكان من أمره مع يحيى بن إبراهيم وجدالة ما تقدم ذكره. ثم رحل من جدالة إلى لمتونة فانقادوا له وكان أميرهم يحيى بن عمر أشد انقياداً له كما تقدم ذكره. قال بعض المؤرخين في المجموع المفترق وفي كتب غير ذلك أن بعد الأربعين والأربعمائة قامت قبائل في الصحراء من صنهاجة يعرفون ببني وارث وخلفهم لمتونة وجدالة وهم يجاورون البحر ليس بينهم وبينه قبيل غيرهم، وهذه الثلاثة قبائل في ذلك الوقت مسلمون قاموا بدعوة الحق ورد المظالم وقطع المغارم وهم متمسكون بالسنة.
وكان الذي شرع فيهم ذلك ودلهم على أرشد المسالك عبد الله بن ياسين وأول ما أخذت لمتونة من البلاد بلاد درعة. قال أبو عبيد رحمه الله: وكان للمتونة في قتالهم في ابتداء أمرهم شدة وجلد، وليس كذلك لغيرهم، وكانوا يختارون الموت على الانهزام ولا يحفظ لهم فرار من زحف وكان قتالهم على النجب أكثر من الخيل. وأكثرهم مترجلون على أقدامهم صفوفاً صفاً بعد صف يكون بأيدي رجال الصف الأول القنا الطوال وكانت لهم راية يقدمونها أمام الصفوف فهم يقفون ما وقفت منصبة وإن أمالها إلى الأرض جلسوا فكانوا في ذلك أثبت من الهضاب. فمن فر أمامهم سلبوه ولم يقتلوه... ويقتلون الكلاب ولا يستصحبون شيئاً منها في سكناتهم ولا في حركاتهم.
وكان يحيى بن عمر يمتثل أمر عبد الله بن ياسين امتثالاً عظيماً ولقد أخبر جماعة عنهما أن عبد الله قال له في بعض الحروب: أيها الأمير، إن عليك أدباً. فقال له يحيى: وما الذي أوجبه علي؟ فقال له عبد الله: لا أخبرك حتى آخذ حق الله بك. فحكمه في نفسه وضربه بالسوط ضربات في رجله. ثم قال له: إن الأمير لا يدخل القتال بنفسه لأن حياته حياة عسكره وهلاكه هو هلاكهم.
بعض أخبار الأمير أبي زكرياء يحيى بن عمر أمير اللمتونيين
وسبب تسميتهم بالمرابطين وخروجهم من الصحراء إلى سجلماسة ودرعة
كان هذا أبو زكرياء منقاداً في جميع أموره لإمامة عبد الله بن ياسين فقدمه بعسكره وعبد الله في مقدمته وهو في الحقيقة الأمير الذي يأمر وينهى: وكان يلي لمتونة جبل فيه قبائل من البربر على غير دين الإسلام فدعاهم عبد الله بن ياسين إلى الدين فامتنعوا له فأمر يحيى بن عمر بغزوهم فغزاهم لمتونة وسبوهم وقسموا سبيهم بينهم وأخذ أميرهم خمسهم وهو أول خمس قسمه اللمتونيون في صحرائهم وكان قد فقد في ذلك الوقت من عسكرهم أكثر من نصف عددهم، وكان إمامهم عبد الله ابن ياسين يصبرهم إلى أن ظهروا بأعدائهم فسماهم عبد الله بالمرابطين، وسمى أميرهم يحيى بن عزر أمير الحق. ووقفت على كتاب قديم...: لما بعث الفقيه أبو محمد عبد الله ابن ياسين لأهل هذا جبل الموالي لبلاد لمتونة يدعوهم للدخول في الإسلام وشريعة محمد عليه السلام وإن يؤدوا ما فرض الله عليهم من الزكاة فامتنعوا وقتلوا رسله فأمر لمتونة بغزوهم فخرج إليهم وصعد عليهم الجبل وقاتلهم ثلاثة أيام قتالاً... مات من لمتونة فيه عدد كثير وصبر الفريقان صبراً عظيماً فلما كان في اليوم الرابع جمع عبد الله بن ياسين أصحابه لمتونة وقال لهم: إنا احتسبنا أنفسنا في حق الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأراكم قد أعياكم حرب هؤلاء المشركين ولم يأمرنا الله أن نتركهم إذ... فاستعينوا بالله ربكم ينصركم عليهم. فخرجت لمتونة في اليوم الرابع وكان... أسبغ... وعزم على الحرب فحمي الوطيس بين الفريقين واشتدت الحرب إلى أن انهزم أعداؤهم وقتلوهم قتلاً ذريعاً وسلبوا أموالهم وسبوا نساءهم وأبناءهم... وعادوا إلى بلادهم فأمرهم إمامهم عبد الله ابن ياسين بإعطاء الخمس لأميرهم يحيى بن عمر... وأخذوه.
ولما ظهر لعبد الله بن ياسين استقامة لمتونة وجدهم واجتهادهم أراد أن يظهرهم ويملكهم بلاد المغرب. فقال لهم: إنكم قد غزوتم ونصرتم دين محمد صلى الله عليه وسلم، وقد فتحتم ما كان أمامكم وستفتحون إن شاء الله ما وراءكم. فأمرهم بالخروج من الصحراء إلى سجلماسة ودرعة وأهلها يومئذ تحت طاعة زناتة المغراويين وأميرهم مسعود بن وانودينه وذلك بعد ما خاطبوهم. فلم يجيبوهم إلى ما طلبوا منهم فغزوهم في جيش كثبف وأكثرهم على النجب ركباناً ومنهم رجالاً وفرساناً فقاتلهم لمتونة إلى أن غلبوهم فطلبوا العفو منهم وأدخلوهم سجلماسة فقيل إنهم قتلوا مسعود بن وانودين أميرهم وقيل بل فر أمامهم. وأقام بها الأمير يحيى ابن عمر مدة أشهر مع إخوانه اللمتونيين.
ثم تخلف جماعة منهم فيهم ورحل منها مع إخوانه إلى الصحراء لأجل جدالة أعدائهم وبعد ذلك زحفت زناتة المغراويون على سجلماسة فدخلوها وقتلوا من كان بها من اللمتونيين في المسجد الجامع. فقيل أن ذلك كان في السنة ست وأربعين وأربعمائة وقيل في سنة ثمان وأربعين.
ثم بعد ذلك ندم أهل سجلماسة على ما فعل مع لمتونة وتواترت رسلهم على عبد الله بن ياسين يذكرون أن زناتة المغراويين... وأنهم هم الذين فعلوا ما فعلوا وقتلوا من قتلوا وطلبوا الوصول إليهم والقدوم... عليهم ليأخذوا ثأرهم منهم. فندب عبد الله بن ياسين اللمتونيين وغيرهم إلى... فخالفه قبائل جدالة وذهبوا إلى الساحل فأمر عبد الله بن ياسين أمير لمتونة يحيى أن يتحصن في جبلهم وهو جبل غزير الماء والكلأ. قال أبو عبيد رحمه الله كان في طوله مسيرة ستة أيام وفي عرضه مسيرة يوم واحد وفيه حصن يسمى أزكي حوله نحو من عشرين ألف نخلة. فصار يحيى بن عمر في ذلك الحصن قيل بسبب مرض أصابه وقيل غير ذلك.
وكان أبو بكر بن عمر قد تركه أخوه يحيى بن عمر أميراً على بلاد درعة. فاجتمع لعبد الله بن ياسين جيش كثيف من لمتونة ومسوفة ولمطة ومزجة وصار بهم إلى درعة. ثم بعد ذلك رجعت جيوش جدالة إلى يحيى بن عمر. قيل إنهم كانوا نحو ثلاثين ألف وأقل منهم ركبان على النجب وبعضهم على الخيل وذلك في سنة ثمان وأربعين وقيل سنة تسع... كان له... مع لمتونة في موضع معروف عندهم. قتل فيه يحيى بن عمر وقتل فيه بشر كثير وهم يذكرون بزعمهم أنهم يسمعون في ذلك الموضع أصوات المؤذنين عند أوقات الصلوات. والآن يحترمونه ولا يدخله أحد منهم.
ذكر دولة الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله
وذلك أنه لما بلغ الخبر بوفاة أخيه أبي زكرياء ببلاد الصحراء قدمه أمامه عبد الله بن ياسين في درعة وتوجه إلى سجلماسة وأخذ له البيعة من أهلها. ثم وصلها الأمير أبو بكر فبويع بها في أوائل شهر محرم مفتتح عام خمسين وأربعمائة. وقيل غير ذلك وبايعه فيها بعض الزناتيين على يدي عبد الله بن ياسين. وخرج الأمير أبو بكر من سجلماسة بعسكره في الثالث عشر إلى درعة ليأخذ منهم ما أوجب له عليهم من الزكاة والفطرة وكان بدرعة قوم من زناتة فامتنعوا له فقاتلهم الأمير أبو بكر وهزمهم وغنم إبلهم ومواشيهم وولى الأمير أبو بكر على بلاد درعة رجلاً من خيار لمتونة وترك معه جمعاً كبيراً وعاد إلى سجلماسة. وانصرف أبو محمد عبد الله بن ياسين عنه إلى بلاد المصامدة وغيرها حين تذكر ما عاينه من تلك القبائل وأحوالهم. فخرج من سجلماسة قاصداً إلى أغمات. فاجتمع بوريكة وهيلانة وهزمية وطاف على قبائل المصامدة وقبائل بلاد تامسنا فوجدهم على ما كان تركهم من الفتنة ألفها، فقال لهم: ألا تعرفون أنه من مات منكم في هذه الحروب الجاهلية فإنه من أهل النار؟ فوعظهم وقال لهم: اتقوا الله واردعوا عما أنتم عليه من فتنتكم، وقدموا على أنفسكم من يؤلفكم. فقالوا له: ما هو فينا... ولا في قبائلنا إلا كل قبيلة منا ترى أن يكون الأمير منها. فقال لهم: إن أنتم سمعتم مني أدلكم على رأي صالح يصلح الله به أحوالكم. هذا أمير لمتونة الصحراء أهل الزهد والورع. وقد كانوا سمعوا به وما أصلح الله من البلاد على يديه فأنعموا له... عليهم العهود والمواثيق بذلك.
ثم رحل عنهم ورجع إلى سجلماسة فتلقاه الأمير أبو بكر بن عمر على مسيرة يوم منها، وسر بقدومه عليه فبشره عبد الله بن ياسين بما أفاء الله له على يديه فشكر الأمير أبو بكر على ذلك ودعا له بامتداد عمره فقال له أبو محمد عبد الله: تأهب للحركة إليهم وقدومك المبارك إليهم. فأخذ في غد ذلك اليوم في حركته وولي على سجلماسة واحد إخوانه مع جمع وافر من لمتونة. وخرج من سجلماسة في السابع عشر لربيع الآخر من السنة خمسين المذكورة وذلك في عسكر فيه أربع مائة فارس وثمان مائة راكب على النجب وألفي راجل وكان وصولهم إلى أغمات وريكة في الثاني لجمادى الأولى من السنة فتلقتهم بعض أشياخ قبائل المصامدة على مرحلتين من أغمات فاحتل الأمير أبو بكر مدينة أغمات واستوكن مع إمامه عبد الله بن ياسين فبايعه بعض القبائل بها.
ثم وفدت عليه وفودها فبايعوه وأقام بأغمات مع إمامه مدة من ستة أشهر. فلما كان أول شهر ذي قعدة من العام المؤرخ انصرف عنه إمامه أبو محمد إلى بلاد تامسنا فقتله برغواطة في أوائل سنة إحدى وخمسين وأربع مائة وقال بعض المؤرخين لدولتهم أن توجه في بلاد السوس ليصلح بين إخوته جدولة في فتنة فأصابه مرض فقضى نحبه. ووصل نعيه إلى أغمات. واما ما صح عنه بأنه قتله برغواطة كما تقدم ذكره ولم يقتل عبد الله بن ياسين حتى استولى على سجلماسة وأعمالها وأغمات وبلاد السوس وغيرها.
ومما يذكر من أحوال عبد الله بن ياسين أنه سافر مع قوم كانوا معه فعطش جميعهم فشكوا ذلك إليه فقال: عسى الله أن يجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً. ثم سار بهم ساعة وقال: احفروا. فحفروا فوجدوا الماء بأدنى حفر فعدوا ذلك كرامة له فشربوا جميعاً وسقوا دوابهم وانصرفوا. وكانت لمتونة لا تقدم أحداً منهم للصلاة إلا من صلى خلف عبد الله بن ياسين. وقيل كان عبد الله بن ياسين نكاحاً للنساء يتزوج في الشهر عدداً منهن ثم يطلقهن. فكان لا يسمع بامرأة حسناء إلا خطبها. ولا يجاوز بصداقهن أربعة مثاقيل.
وأما ما شذ فيه عبد الله من الأحكام فأخذه الثلث من الأموال وزعم أن بذلك تطيل وأن الرجل إذا دخل في دعوتهم وتاب عن سالف ذنوبه قالوا له: قد أذنبت ذنوباً كثيرة فيجب أن يقام عليك حدودها. فيضربوه حد الزنا وحد الافتراء وإن علموا أنه قتل قتلوه سواء أتاهم تائباً طائعاً أو غلبوا عليه. ومن يتخلف من مشاهدة الصلاة مع الجماعة ضرب عشرين سوطاً ومن فاتته ركعة ضرب خمسة أسواط. فكان أكثرهم يصلون بغير وضوء إذا حان الوقت، وأعجلهم الأمر من أجل الضرب. ومما يحفظ من جهل عبد الله بن ياسين أن رجلاً اختصم إليه مع تاجر غريب فقال له التاجر في جوابه: حاشا لله أن يكون ذلك. فأمر بضربه. ولما مات ابن ياسين وقتله برغواطة كان الأمير أبو بكر بن عمر قد تولى أمر صنهاجة وغيرها، وطاعت له قبائل المصامدة بأسرها. فقام معهم لقتال برغواطة حتى أخذ الثأر منهم. وفي ابتداء هذه الدولة اللمتونية اختلاف اختصرنا منه ما وقع الاتفاق عليه.
ذكر نسب أمراء الدولة المرابطية
قال ذو العلم بأخبارهم أن الجد الذي ينتهي إليه نسب جميعهم هو منصور، والجد الذي يفترق منه أفخاذهم ترجوت بن ورتاسن بن منصور بن مصالة بن أمية بن وانمالي الصنهاجي ثم اللمتوني. وكانت لترجوت ثلاث بنين محمد وحميد وإبراهيم. فتفرقت منهم بطون كثيرة وكان القائم بالملك في الصحراء بعد أبيه إبراهيم وهو جد يحيى بن عمر الأمير المتقدم ذكره. وكان يقال له أمير الحق، وهو يحيى بن عمر بن إبراهيم بن ترجوت. وكان لأمير الحق يحيى المذكور من الولد أربعة بل ثلاثة محمد وعلي وعيسى وكان لأم محمد نبأ ظريف يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. واستصحب يحيى بن عمر الأمر بقية عمره. فلما قضى نحبه ولي الأمر بعده أخوه أبو بكر بن عمر. وكان يرى في منامه بقرتين يخير فيهما فيضع... إحداهما فيقال له: هذا الذي أخذت هو الملك والذي تركت هو الولد. وكان له ابنان إبراهيم ويحيى. فأما يحيى يعرف بابن عائشة وهي بنت ياران بن تايغشت أخت إسحق بن ياران. وأما إبراهيم فلم يعرف أمه وكان أسود الجلدة، وهو إبراهيم بن الأمير أبي بكر بن عمر. وأما فخذ يوسف ابن تاشفين ومن ذكر معه فهم بنو إبراهيم، فهو يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن توجدوت.
وفي سنة ستين وأربع مائة استقامت الأمور للأمير أبي بكر بن عمر وطاعت له البلاد ووجه عماله إليها وكان مستوطناً بمدينة أغمات. وكانت بها امرأة جميلة تعرف بزينب النفزاوية، قد شاع ذكرها وأمرها في قبائل المصامدة وغيرها. فكان يخطبها أشياخهم وأمراؤهم فتمتنع لهم وتقول: لا يتزوجني إلا من يحكم المغرب كله. فكانوا يرمونها بالحمق، وكان لها أخبار مستظرفة غريبة كمثل أخبار الكهنة. فبعض يقولون أن الجن يكلمها وبعض يقولون هي ساحرة وبعض يقولون كاهنة. فأعلم بجمالها الأمير أبو بكر بن عمر فخطبها وتزوجها فوعدته بمال كثير تخرجه له. ثم أدخلته في دار تحت الأرض معصب العينين. ثم أزالت العصابة ففتح عينيه فرأى بيوتاً فيها ذهب كثير وفضة وجواهر وياقيت فعجب من ذلك أبو بكر بن عمر كل العجب لما عاين من الذخائر والذهب والفضة. فقالت له زوجه زينب هذا كله مالك ومتاعك، أعطاك الله إياه على يدي فصرفته الآن عليك وكان رؤيته له بضوء الشمس. ثم أخرجته معصب العينين من ذلك الموضع كما أدخلته فيه فلا علم من أين دخل ولا من أين خرج. وكان دخوله معرفاً بزينب المذكورة في شهر ذي القعدة من عام ستين وأربع مائة. وكانت هذه المرأة موسومة بالجمال والمال وكان لها محاسن وخصال محمودة ورؤية مستظرفة. فقيل ولله أعلم أن الجن كانت تخدمها وقيل غير ذلك كما تقدم.
وفي سنة إحدى وستين وأربعمائة بعث الأمير أبو بكر بن عمر عسكراً كبيراً قدم عليه ابن عمه يوسف بن تاشفين وبعث معه جملة كبيرة من أشياخ لمتونة ومن قبائل البربر المصامدة وغيرهم، وذلك برسم قتال بؤساء القبائل القاطنين بأرض المغرب. وكان أكبرهم شوكة بني يفران الزناتيين المستوطنين في قلعة مهدي ابن تبالا. فحاربهم يوسف ابن تاشفين بمن كان معه من القبائل التي دخلت... للأمير أبي بكر بن عمر وفر معنصر ابن حماد إلى مدينة فاس وقتل من اتهم بالقيام بأمر لمتونة. وقتل يوسف بن تاشفين أناساً من سدراتة.
وفي هذه السنة ضاق المجمع بمدينة أغمات وريكة... الخلق فيها فشكا أشياخ وريكة وهيلانة بذلك إلى الأمير أبي بكر بن عمر مرة بعد أخرى إلى أن قال لهم: عينوا لنا موضعاً أبني فيه مدينة إن شا الله تعالى. وكان سكناه مع إخوانه في الأخبية... حتى ابتنى بزوجه زينب النفزاوية في هذا العام فزاد الخلق بأغمات من أجل... هيلانة وهزميرة على أن يعينوا موضعاً حيث يكون بناء المدينة. فوقع التنازع بين المذكورين في ذلك. وطلب كل واحد أن يكون بناء المدينة في بلادهم لينسب بناؤها إليهم، وذلك لأجل ما تقدم بينهما من الفتنة ومداولة الإمارة إلى أن اجتمعت أشياخ قبائل المصامدة وغيرهم فوقع تدبيرهم أن يكون موضع تلك المدينة بين بلاد هيلانة وبين بلاد هزميرة فعرفوا بذلك أميرهم أبا بكر بن عمر وقالوا له: قد نظرنا لك موضع صحراء لا أنيس به إلا الغزلان والنعم ولا تنبت إلا السدر والحنظل. ثم كان أراد بعضهم أن تكون المدينة على وادي تانسيفت فامتنع لهم من ذلك وقال: نحن من أهل الصحراء ومواشينا معنا لا يصلح لنا السكنا على الوادي. فنظروا له ذلك الموضع لكي يكون وادي نفيس جنانها ودكالة فدانها وزمام جبل درن بيد أميرها طول زمانها فركب الأمير أبو بكر في عسكره مع أشياخ القبائل فمشوا معه إلى فحص مراكش وهو خلاء لا أنيس به فقالوا له: ابن هنا مدينة تكون متوسطة بين هيلانة وهزميرة.
وفي سنة اثنين وستين وأربعمائة في الثالث والعشرين لرجب ابتدئ بأساس مراكش. وذلك قصر الحجر وشرع الناس في بناء الدور دون سور وفي ذلك اليوم بعينه كان ركوب الأمير أبي بكر بن عمر وإخوته وجميع محلته مع أشياخ المصامدة والفعلة من البنائين وغيرهم فابتدأ العمل في الأساس بمشاركة للأشياخ وحسب عونهم. فأعانوا على البناء بالمال والرجال فقام سور قصر الحجر في نحو ثلاثة أشهر على نحو ما ذكره ذو المعرفة والأخبار واشتغل الناس فيها ببناء الديار كل واحد على قدر جهده واستطاعته. فذكروا أن أول دار بنيت بمراكش من ديار لمتونة دار تورزجين ابن الحسن الكائنة بموضع أسدال بناها بالطوب وجددها الآن ظاهرة على المقر بالموضع المذكور إلى وقتنا هذا سنة ست وسبعمائة وذكروا أن اللمتونيين حين طلبوا موضعاً حصراء يبنون فيه مدينتهم ليبعدوا من موضع الوادي والغياض على أنفسهم ومواشيهم لعادتهم في بلادهم فوقع بحثهم وجدهم واجتهادهم على موضع مدينة مراكش والله أعلم بذلك.
وفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة كان الأمير أبو بكر بن عمر قاعداً على السور والفعلة أمامه يعملون في السور وفي غيره إلى أن وقف عليه رجل راكب على فرس أشعث الرأس فسلم عليه وقال: أيد الله الأمير، إن جدالة أغارت على إخوتك فقتلوا الرجال وسبوا الأموال وهزموهم. فلما استوفى كلامه قال الأمير أبو بكر: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبعث إلى أشياخ لمتونة وكبرائهم وعظمائهم وقال لهم: إن إخوانكم قد أغارت جدالة عليهم وقتلوهم وأنا مسافر إن شاء الله إليهم لأخذ بثأرهم فانظروا منكم رجلاً أستخلفه عليكم إن شاء الله إليهم فأطرق الجميع بؤوسهم وصمتوا. ثم رفعوا وبهتوا فلم يكن على ذلك فقال لهم: لا بد أن تدبروا من ترونه يصلح لذلك. ثم انصرفوا. فلما كان في أبو بكر صلى ودعا الله أن يسمى له رجلاً صالحاً يستخلفه فهتف به هاتف مرعوباً. فقال: من هو هذا الغائب؟ فأنساه الله ذكر يوسف بن تاشفين إلى أن وصل من بلاد المغرب في تلك الأيام وحضر بين يدي أبي بكر بن عمر وهو بعيد القول على إخوته وهي الثالثة فقال له يوسف ابن تاشفين: أنا أكون خليفتك إن شاء الله عز وجل. فقال له الأمير أبو بكر: صدقت يا يوسف أنت والله خليفتي. وتذكر قول الهاتف له فولاه الأمر بعده.
ذكر حركة الأمير أبي بكر بن عمر إلى الصحراء
لما أخذ الأمير أبو بكر في الحركة إلى الصحراء ولى يوسف مكانه وقسم الجيش بين يوسف وبينه فقيل أن الذي ترك مع يوسف بن تاشفين من اللمتونين الثلث ورحل معه الثلثان وذلك في غرة ربيع الأخير من سنة ثلاث وستين فشيعه يوسف ووادعه وأوصاه أبو بكر فطاوعه. وكان أبو بكر بن عمر لما عزم على حركته تلك قال لزوجه زينب: إني مسافر منك برسم الفتن والحروب ولا يمكنني أن أمشي عنك وأنت في عصمتي فإن أنا مت كنت مسؤولاً عنك والرأي أن أطلقك. فقالت له: الرأي السديد ما تراه. فطلقها فذكروا أنه قال لابن عمه يوسف بن تاشفين: تزوجه فإنها امرأة مسعودة. وقيل أنها هي التي طلبت منه طلاقها فأسعفها بذلك.
ذكر ولاية يوسف بن تاشفين ونبذ من أخباره
لما توجه الأمير أبو بكر بن عمر إلى الصحراء ولاه مكانه وترك معه الثلث من لمتونة إخوانه فاشتغل ببناء مراكش وتحصينها وحصل منها تحت سور وابواب في قصر الحجر وأعانه القبائل في جميع أموره وأحواله وحبب نفسه إليهم وأفاض إحسانه عليهم وكان يكاتب الأمير أبا بكر بكل ما يصنع فيشكره على ذلك وأبو بكر بن عمر في الصحراء يحارب جدالة حتى أخذ ثأره منهم في خبر طويل. وتزوج يوسف ابن تاشفين زينب النفزاوية في شهر شعبان المكرم من سنة ثلاث وستين بعد تمام عدتها ودخل بها فسرت به وسر بها وأخبرته أنه يملك المغرب كله فبسطت آماله وأصلحت أحواله وأعطته الأموال الغزيرة فركب الرجال الكثيرة وجمع له القبائل أموالاً عظيمة فجند الأجناد وأخذ في جمع الجيوش من البربر والاحتشاد بنفسه وبتدبير زوجه زينب في كل يوم مع أمسه حتى سلك أهل المغرب في قانون الضغط فتأتى من ملكه ما لم يتأت
وفي سنة أربع وستين وأربعمائة تحرك الأمير يوسف بن تاشفين بعسكر جرار إلى بلاد الغرب. ورجع إلى وطاط إلى ملوية إلى ناحية جراوة ودوخ ما مر عليه من القبائل ودخلت كلها في طاعته هكذا. ذكر ابن القطان في نظم الجما: وفي هذه السنة صنع الأمير يوسف بن تاشفين دار السكة بمراكش وضرب فيها السكة بدراهم مدورة زنة الدرهم منها درهم وربع سكة من حساب عشرين درهماً للأوقية وهو الدرهم الجوهري المعلوم في وقتها هذا وضرب الدينار الذهبي باسم الأمير أبي بكر بن عمر في هذا العام. وفيها ارتدت قبائل في القبلة في جهة سجلماسة من زناتة وغيرهم فجهز إليهم يوسف بن تاشفين عسكراً قود عليه محمد بن إبراهيم اللمتوني فخرج في شهر ربيع الآخر وغنم تلك القبائل وقتل المرتدين ورجع بغنائم كثيرة فدون يوسف الدواوين ورتب الأجناد وطاعته البلاد وكتب إلى بعض إخوانه في السر من أبي بكر بن عمر يحصهم على الوصول إليه والقدوم عليه ويعدهم بالخير الجزيل الحفيل فوصل منهم جماعة كبيرة. وفي هذه السنة ولد ليوسف بن تاشفين مولود ذكر سماه المعز بالله من زوجته زينب النفزاوية.
وفيما قوي أمر الأمير يوسف وعظمت شوكته فاشترى جملة من العبيد السودان وبعث إلى الأندلس فابتيع له بها جملة من الأعلاج فركب الجميع وانتهى عنده منهم شراء ماله مائتين وأربعين فارساً ومن العبيد شراء ماله نحو الألفين وركب الجميع فغلظ حجابه وعظم ملكه. وفيها افترض على اليهود فرضة ثقيلة في جميع طاعته اجعمع له فيها مائة ألف دينار عشرية ونيف على ثلاثة عشر ألف دينار.
وفي هذه السنة اتصل الخبر بالأمير يوسف أن ابن عمه الأمير أبا بكر بن عمر قد أخذ في الرجوع من الصحراء إلى بلاد المغرب فاغتنم لذلك غماً شديداَ وحزن حزناً عظيماً وصعب عليه مفارقة الملك بعد أن داق حلاوته ورتب فيه ما رتب من الأجناد والضخامة فعرفت زينب ذلك في وجهه فقالت له: أراك مهموماً مكروباً من وصول ابن عمك إلى ملكه الذي ولاك عليه، والله لا داق أبو بكر طعمها أبداً فطب نفساً وقر عيناً. فقال لها: إنه استخلافه إلى من بين أهل بنيه ويثق على هذه المملكة ولو كان غير ابن عمي لقاتلته. فقالت له: أنا أدلك.. الله. فقال: وما ذلك يا زينب، فإني والله أعرفك ميمونة قالت له: إذا قدم عليك وبعث مقدمات رجاله إليك فلا تخرج إليه ادرّه بهدية جليلة فلا يقاتلك على الدنيا، فإن الرجل خير لا يستحل سفك دماء على أمرك وتفوز بملكك إن شاء الله. فقال لها: والله لا خالفتك في امر تشير به أبداً.
وفي سنة خمس وستين وأربعمائة كان وصول الأمير أبي بكر بن عمر من صحرائه إلى مراكش فوجد يوسف قد استبد بالمملكة وأعجبته الأمرة وطاعت له جميع البلاد الغربية، فعلم أنه مقلوب عليه وعزم على تسليم الأمر إليه.
ذكر خلع الأمير أبي بكر بن عمر نفسه عن الملك وإسلامه ليوسف بن تاشفين
كان وصول أبي بكر بن عمر من الصحراء إلى أغمات في الخامس لشهر ربيع الأول المبارك من السنة المؤرخة قادماً إلى مراكش فنزل بخارج أغمات في مضاربه وتسابق أكثر أصحابه إلى مراكش برسم رؤيتها ورؤية بنائها والسلام على أميرها يوسف وكانوا قد سمعوا عن ضخامة ملكه وجميل كرامته وجزيل إحسانه وإنعامه على إخوانه وقرابته فاجتمع إليه من القادمين عليه خلق كثير فوصلهم على قدر منزلهم ومراتبهم وأمر لهم بالكسى الفاخرة والخيول العقيقة وغير ذلك من المبرة والمكرمة. فلما علم الأمير أبو بكر أحوال يوسف وما هو عليه من الميل إلى نخوة الملك وعز السلطان عزم على تسليم الأمر له. وعلم أيضاً يوسف أحوال الأمير أبي بكر من اللين في أمره لتقواه وديانته استمال نفوس إخوانه بإحسانه وإنعامه وزاد طمعه في الانقداد والاستبداد.
وانقطع رجاء الأمير أبي بكر من الملك فبعث إلى يوسف يعلمه بوصوله إليه وعين له يوماً معلوماً يكون فيه اجتماعه به فخرج يوسف من مراكش في جنده وعبيده وتلقاه في نصف الطريق فسلم عليه راكباً على دابته ولم تكن تلك قبل عادته. ثم نزل إلى الأرض وقعدا على برنس بسط لهما في ذلك المكان فسمي ذلك الموضع فحص البرنس إلى الآن. وأبو بكر مع ذلك متعجب في كثرة عساكره واحتفال هيثته يطيل النظر غنى ذلك كله فتكلم الأمير أبو بكر مع يوسف في مصالح المسلمين. ثم قال له: يا يوسف أنت ابن عمي ومحل أخي وأنا لا غنى لي عن معاونة إخوانها والصحراء ولم أر من يقوم بأمر المغرب غيرك. ولا أحق به منك وقد خلعت نفسي لك ووليتك عليه فاستمر على تدبير ملكك وأنت حقيق به وخليق له وما وصلت إليك إلا لأمرتك في بلادك وأسلم لك في.. أمير إخوانها وموضع استيطاننا. فدعا له الأمير يوسف وشكر..: ولا أقطع أمراً دونك ولا استأثر إن شاء الله بشيء عليك. وحضر الصحرواويين وخلع له أبو بكر نفسه وشهد بذلك بعض العدول وأعيان القبائل وعاد الأمير أبو بكر إلى أغمات موضع نزوله ورجع يوسف إلى مراكش دار مملكته فكان هذا التدبير برأي زينب النفزاوية زوجته فهي التي جسرته على ذلك كله حتى ملك المغرب أسعد ملك وأتمه نصراً على العدو ولم يهزم له قد جيش ولا ردت له راية بملك والله يؤتي ملكه من يشاء.
ذكر الهدية التي أهداها الأمير يوسف بن تشفين إلى أبن عمه أبي بكر بن عمر
لما وصل الأمير أبو يعقوب إلى مراكش بعد اجتماعه بالأمير أبي بكر بن عمر وخلعته له نفسه وتقديمه ليوسف وبيعته شرع يوسف في توجيهه الهدية المذكورة وذلك خمسة وعشرون ألف دينار من الذهب وسبعون فرساً منها خمسة وعشرون مجهزة بفاخر الجهازات وسبعون سيفاً محلاة وعشرون من الأشابر المذهبة ومائة وخمسون من البغال الذكور والأناث وخدور كثير بنفيس ولأمتعة والكسى القاخرة وبعث له عشرين جارية أبكاراً وجملة من خدم الخدمة ووجه له بمائتين من البقر وخمسمائة رأس من الغنم وألف برع من دقيق الدرمق واثني عشر ألف خبزة وسبع مائة مد من الشعير وبعث إليه وزناً صالحاً من العود والعنبر والمسك.
وكتب يعتذر له من ذلك ويحلف أنه ما بقي له شيء مما ادخره واقتناه فطابت نفس الأير أبي بكر وقال: خير كثير هذا من يوسف. ثم انصرف بهديته بعد ما أعطى منها بعض إخوانه وخاصته وأقام بصحرائه ثلاثة أعوام والأمير أبو يعقوب يمده بالتحف والهدايا إلى أن قتله السودان المجاورون للمتونة في الصحراء لأنه كان يحاربهم حتى قضى الله يوفاته بسهم أصابه كان فيه منيته وذلك في سنة ثمان وستين وأربعمائة.
وفي سنة ست وستين وأبرعمائة بعث الأمير أبو يعقوب مزدلي بن بانلونكا بعسكر ضخم إلى ناحية سلا فافتتح تلك القبائل من غير قتال ولا نزال، فأمنهم وانصرف عنهم في الخامس والعشرين لشهر ربيع الآخر وكان خروجه من مراكش في الثاني لشهر صفر فكانت غيبته هذه نحو ثلاثة أشهر وفيها بعث أيضاً يوسف بن تاشفين عسكراً إلى الغرب قود عليه يطي بن إسماعيل. ولما وصل إلى وادي بهت بعث رقاصاً إلى أمير مكناسة الخير بن خزر الزناتي قد عفا عنه وبعث كتابه إليه بذلك فقرأ كتابه على زناتة في أمره وقالوا: نقاتله بأجمعنى حتى نخرجه من بلادنا. فقال لهم: لا سبيل لذلك ولا أفعله حتى أبعث له. فبعث إليه منغفاد بن عبد العزيز الزناتي فلما وصل إلى يطي بن إسماعيل رحب به وأكرمه ولمن كان معه فقال له منغفاد: نحن رجال الأمير أبي يعقوب وبلادنا بلاده، غير أنا لا بد لنا من الاجتماع به وشروط نشترطها عليه وحينئذ نسلم البلاد إليه ونخرج له عنه. وضمن له اللمتوني ابن إسماعيل ذلك الشروط عنه وتعاهد على ذلك معه ودخل مكناسة وخرج الخير منها أميرها ومن كان معه من زناتة إلى موضع القناطير وولي كمناسة بعد الخير بن خزر الزناتي الأفضال اللمتوني ورحل ابن إسمعيل بعسكره مع الخير المذكور إلى مراكش وأنعم عليه الأمير يوسف بكل ما أراد. ثم صرفه فبقي الخير مستوطناً بخارج مكناسة إلى أن مات رحمه الله.
ذكر تسمية يوسف بن تاشفين رحمه الله بأمر المسلمين
وفي هذه السنة اجتمع أشياخ القبائل على الأمير أبي يعقوب يوسف بن تاشفين وقالوا له: أنت خليفة الله في المغرب وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير إلا بأمير المؤمنين. فقال لهم: حاشا لله أن اتسمى بهذا الاسم. إنما يتسمي به الخلفاء وأنا راجل الخليفة العباسي والقائم بدعوته في بلاد الغرب. فقالوا له: لا بد من اسم تمتاز به. فقال لهم: يكون أمير المسلمين. فقيل إنه هو الذي اختاره لنفسه. فأمر الكتاب أن يكتبوا بهذا الاسم إذا كتبوا عنه أواليه.
وفي سنة سبع وستين وأربع مائة افتتح أمير المسلمين يوسف مدينة فاس. وذلك لما افتتح مدينة مكناسة ووصله أميرها الخير وأحسن إليه وأكرمه وخيره حيث يريد السكنى وأسعفه في كل مطلب. جهز أمير المسلمين عسكراً جراراً وقدم عليه ابن عمه يحيى بن وآسينوا اللمتوني وأمره بمنازل فاس فكان وصوله إليها عقب رجب افرد من هذه السنة.
وكان أمراء فاس يومئذ أبناء حماة فقاتلهم يحيى قتالاً شديداً سبعة أيام، وفي الثامن دخلها عنوة مات فيها من أهل فاس بشر كثير وسلبت ديارهم. ثم عفى عنهم وانحصر أبناء حمامة الفتوح ودوناس في قصرهما. ثم طلبوا الأمان فعفى عنهما في بقيهما. فكتب بفتح فاس وبأخبار القتوح بن حمامة وأخيه إلى الأمير يوسف بن تاشفين فأمر بتوجيههما حيث شاؤوا فاستوصى الفتوح مغيلة واستولت لمتونة على مدينة فاس حرسها الله. وفي هذه السنة وصل الخبر إلى يوسف بن تاشفين بوفاة الخليفة العلاسي القائم بأمر الله وبيعة الخليفة المقتدر بالله في الثالث عشر لشعبان.