ابن خلدون
كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر
حج ملك التكرور
كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأول والثاني منقسماً بين أمم من السودان. أولهم مما يلي البحر المحيط أمة صوصو، وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح.
وذكر صاحب كتاب رجار في الجغرافيا أن بني صالح من بني عبد الله بن حسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم، ولم يقع لنا في تحقيق هذا أكثر من هذا. وصالح من بني حسن مجهول، وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو. ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرس ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقاً عنهم أمة كوكو. ثم التكرور بعدهم، وفيما بينهم وبين النوبة أمة كانم وغيرها.
وتحولت الأحوال باستمرار العصور فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو، وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور. واستفحل ملكهم إلى الغاية، وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين. وحج جماعة من ملوكهم.
وأول من حج منهم برمندار، وسمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمندانه، وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده.
ثم حج منهم منسا ولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس. وحج بعده منهم مولاهم صاكوره، وكان تغلب على ملكهم وهو الذي افتتح مدينة كوكو. ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر، عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم.
ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج ملك على طريق الصحراء، وخرج عند الأهرام بمصر، وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال إن فيها خمسين ألف دينار، وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه، وحدثه ووصله وزوده وقرب إليه الخيل والهجن، وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله. وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وانفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم، فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد، وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا.
ثم جدد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء، وكان أعد لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها، وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار، وكان في صحبته منهم بنو الكويك فأقرضوه خمسين ألف دينار وابتاع منهم القصر الذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك. وبعث سراج الدين الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك. وأتبعه سراج الدين آخراً بابنه فمات هنالك. وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض، وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة وأنسابهم وتصاريف أحوالهم
هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان، وينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب وهم ثلاثة بطون: ذوي عبيد الله، وذوي منصور، وذوي حسان. فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر، ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل وما يواجهها من القبلة. ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها إلى سجلماسة، وعلى درعة وعلى ما يحاذيها من التل مثل تاري وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمقدر.
ومواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط، وينزل شيوخهم في بلد نول قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه، وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة ومستوفة ولمتونة. وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل، يقال أنهم لم يبلغوا المائتين. واعترضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ونزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت، وجاوروا زناتة في القفار والغربية فعفوا وكثروا وأنبتوا في صحارى المغرب الأقصى، فعمروا رماله وتغلبوا على فيافيه. وكانوا هناك أحلافاً لزناتة سائر أيامهم. وبقي منهم بإفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سليم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان واستئلاف للعرب. فلما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن. قام هؤلاء المعقل في القفار وتفردوا في البيداء فنموا نمواً لا كفاء له، وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة بالقفر مثل قصور السوس غرباً، ثم توات ثم بودة ثم تامنطيت، ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقاً. وكل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار وأكثر سكانها من زناتة، وبينهم فتن وحروب على رياستها. فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم ووضعوا عليها الأتاوات والضرائب، وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكاً. وكانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها حمل الرحيل. وكان لهم الخيار في تعيينها.
ولم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب وتلوله حمى، ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد السودان بأذية ولا مكروه، لما كان بالمغرب من اعتزاز الدول وسد الثغور وكثرة الحامية أيام الموحدين وزناتة بعدهم. وكان لهم بإزاء ذلك أقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى...
هذا وصف هذا البحر الرومي الذي هو حد المغرب من جهة الشمال. وأما حده من جهة القبلة والجنوب فالرمال المتهيلة الماثلة حجزاً بين بلاد السودان وبلاد البربر. وتعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدىء من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر. فهنالك ينقطع وعرضه ثلاث مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد ريغ، ووراءه من جهة الجنوب بعض بلاد الجريدية ذات نخيل، وأنهار معدودة في جملة بلاد المغرب، مثل بلاد بودة وتمنطيت فى قبلة المغرب الأقصى وتسايبت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغدامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار، ينتهي عدد كل واحد منها إلى المائة فأكثر.
وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية- منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد.
هذا حد المغرب من جهة الجنوب. ومن دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في الغرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال. ويسمى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الذي وصفناه آنفاً بسائط وقفار أكثر نباتها الشجر، وفيما يلي التلول منها ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار.
ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والغيرى فويان وغيرهما، بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف، ودرعة أيضاً وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت القصور أيضاً بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد، وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبله الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلي قبلة بجاية بلد واحد مستبحر العمران كثير النخل، وفي سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر، قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب. وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع.ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستبحرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار إفريقية، وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض إفريقية لما غزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الوحات قبلة برقة. ذكرها المسعودي فى كتابه.
وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعاً ولا مرعى إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه. ومن ورائه مجالات المتلثمين كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان...
ثم أجاز [عقبة بن نافع] إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام، وهم يومئذ على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم، وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر، وقاتل مسوفة من وراء السوس وسبى منهم وقفل راجعاً...
ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس، وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى داخل البربر منه رعب. وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه...
وكانت مواطن الجمهور من هوارة هؤلاء، ومن دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس والصمغر لأول الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن وآهلين. ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه إفريقية، ويعرفون بنسبهم هكارة، قلبت العجمة واوه كافاً أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف. وكان لهم في الردة وحروبها آثار ومقامات. ثم كان لهم في الخارجية والقيام بها ذكر، وخصوصاً بالأباضية منها...
ومن هوارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلى بلد سرت وبرقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة واعتزاز، ووضائع العرب عليهم قليلة ويعطونها من عزة. وكثيراً ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر والإسكندرية. وفي بلاد الجريد من إفريقية وبأرض السودان إلى هذا العهد...
الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة
هنه الطبقة من صنهاجة هم الملثمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب، أبعدوا في المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أولها، فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذاً عن العمران واستئناساً بالانفراد وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر. فنزلوا من ريف الحبشة جواراً، وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزاً، واتخذوا اللثام خطاماً تميزوا بشعاره بين الأمم.
وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعددت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوفة فوتريكة فناوكا فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة.
وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم: بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة، وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كاكدم، وكان دينهم جميعاً المجوسية شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس، وكانت الرياسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم منذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارتة ملوك منهم. تلاكاكين وورتكا وأوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدأ دولتهم.
وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها، ودوخوا تلك البلاد الصحراوية، وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام، فدان به كثيرهم. واتقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور تيولوتان.
قال ابن أبي زرع: أول من ملك الصحراء من لمتونة تيولوتان، فدوخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان. وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وملك بعده يلتان وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلثمائة وقتله صنهاجة وافترق أمرهم. انتهى كلام ابن أبي زرع.
وقال غيره: كان من أشهرهم تينزوا بن وانشيق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة، كان يركب في مائة ألف نجيب وعمله مسيرة شهرين في مثلها. ودان له عشرون ملكاً من ملوك السودان يعطونه الجزى، وملك من بعده بنوه ثم افترق أمرهم من بعد ذلك، وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعاً.
قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن يلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبوعبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني فاجتمعوا عليه وأحبوه وكان من أهل الدين والصلاح، وحج وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين.
وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أولاً، وبإفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه.
الخبر عن دولة المرابطين من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك وأولية ذلك ومصايره
كان هؤلاء الملثمون في صحاريهم كما قلناه وكانوا على دين المجوسية إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه، وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوثق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص. فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق بن منصور بن مصالة بن المنصور بن مزالت بن أميت بن رتمال بن تلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرياسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء، وتظاهروا على أمرهم.
وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة، فلقوا في منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي، واغتنموا ما متعوا به من هديه، وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاوبه.
وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم. فندب تلميذه إلى ذلك حرصاً على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغتهم فيه، فاستوعبوا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك بن زلوا اللمطي بسجلماسة من الآخذين عنه وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه، ويروض نفسه على مسغبة أرضهم قي معاشه.فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ووصل معهم يعلمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى بن إبراهيم وافترق أمرهم، واطرحوا عبد الله بن ياسين، واستصعبوا علمه وتركوا الأخذ عنه لما تجشموا فيه من مشاق التكليف.
فأعرض عنهم وترهب. وتنسك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة وأخوه أبو بكر، فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحاً في المصيف وغمراً في الشتاء، فتعود جزراً منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة، وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، فتسايلوا إليهم ودخلوا في دينهم وغيضتهم.
ولما كمل معهم ألف من الرجالات قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين إن ألفاً لن تغلب من قلة، وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه، فأخرجوا بنا لذلك فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة ومسوفة، حتى أنابوا إلى الحق واستقاموا على الطريقة، وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين، وسماهم بالمرابطين وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر، فتخطوا الرمال الصحراوبة إلى بلاد درعة وسجلماسة، فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا.
ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء، سجلماسة من مغراوة وحرضهم على تغيير أمرهم، فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وأبعمائة في عدد ضخم ركباناً على المهارى أكثرهم وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز. خمسين ألفاً ونحوها.
ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة، وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها وعن بلاده، فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل، واستلحم عسكره مع أموالهم، واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلاباً، وقتلوا من كان بها من فل مغراوة، وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم.فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين، وقدم مكانه أخاه أبا بكر، وندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان وأربعين. وافتتح ماسة وتارودانت وجميع معاقله. ثم افتتح مدينة أغمات سنة تسع وأربعين وفر أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي إلى قادلا، واستضاف إلى بني يفرن بها، ثم افتتح المرابطون بلاد المصامدة بجبال درن، وجاسوا خلالها سنة خمسين، ثم أغزوا تادلا فاستباحوها واستلحموا بني يفرن ملوكها، وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب أغمات. وتزوج امرأته زينب بنت إسحق النفراوية، وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخاً على وريكة وهزرجة بزمن هيلانة في دولة أمغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلب بنو يفرن على وريكة وملكوا أغمات فتزوج لقوط زينب هذه، ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين إلى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا وإنفا وجهات الريف الغربي فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين.
وقدم المرابطون بعده سليمان بن عدو ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم، ثم استأصل شأفتهم، ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدو سنة إحدى وخمسين لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين.
ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين وخمسين. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعدما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء، حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة، وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين لقتالهم، فارتحل أبو بكر إلى الصحراء، واستعمل على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين، ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحق، ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح باباً من جهاد السودان فاستولى على نحو تسعين مرحلة من بلادهم.
وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب، ونزك بلكين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة، وانكفأ راجعاً. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر إلى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعد له متاع الصحراء وماعونها، ففطن لذلك الأمير أبو بكر، وتجافى عن المنازعة وسلم له الأمر، ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة.
واختط يوسف مدينة مراكش سنة أربع وخمسين، ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وكمل تشييدها وأسوارها ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله لعسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشد منهم ولا أكثر جمعاً. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب، وجذب الحبل من أيديهم، وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم، فقد كانوا من ذلك على ألم- حدث المؤرخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه- فنازل أولاً قلعة فازاز، وبها مهدي بن توالي من بني يحفش.
قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة، وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكزنابي صاحب مكناسة بما كان عدواً لمعنصر المغراوي صاحب فاس، فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس، وجمع إليه معنصر ففض جموعه، وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها، وأقام عليها أياماً قلائل، وظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى صفروي فافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين، ثم خرج إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيراً من بلادهم. وأشرف على طنجة، وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة وبقية الأمراء من موالي الحمودية وأهل دعوتهما. ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز، وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل عاملها.واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما، وناجزه الحرب ففض جموعه وقتله، وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدته الحاجب سكوت البرغواطي. واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها وألحوا بالقتال عليها فمسهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية، كانوا ملوكاً بتازا وتسول، فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي صفير فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي من بلاد فازاز فارتحل سنة ست وخمسين، ونزل عليها عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب، فافتتح بني مراسن ثم فنزلاوة، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين.
ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين. وفي سنة اثنتين وستين نازل فاس فحاصرها مدة ثم افتتحها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات، وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدوتيها، وصيرها مصراً واحداً. وأدار عليها الأسوار، وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد، ورتب بناءها. وارتحل سنة ثلاث وستين إلى وادي ملوية فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة، ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحها ودوخها. ثم قسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء قومه وذويه، ثم استدعاه المعتمد بن عباد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمودية بسبتة، فأعاد إليه ابن عباد الرسل بالمشايعة إليهم فجهز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة، فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه، ومعه ابنه ضياء الدولة فانكشف وقتل الحاجب سكوت، ولحق ابنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين. ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين قائده مزدلي بن تبلكان بن محمد بن وركوت من عثسيره في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان، بومئذ الأمير العباس ين يختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر، فدوخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة وظفروا بيعلى بن الأمير العباسي فقتلوه، وانكفأوا راجعين من غزاتهم.
ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث بعدها إلى الريف، وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرب مدينة نكور فلم تعمر بعد، ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجدة وبلاد بني يزتاسن. ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة، وقتل العباس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن المستوفى بها في عساكر المرابطين، فصارت ثغراً لملكه. ونزل بعساكره واختط بها مدينة تاكرارت بمكان محلته، وهو اسم المحلة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر، وانكفأ راجعاً إلى المغرب فاحتل مراكش سنة خمس وسبعين. ولم يزل محمد بن تينعمر والياً بتلمسان إلى أن هلك، وولي بعده أخوه ثم إن الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر، وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليلة، وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد، وتسلمها منه صلحاً سنة ثمان وسبعين على أن يملكه بلنسية، فبعث معه عسكراً من النصرانية فدخل بلنسية وتملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف، وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها. ثم نازل سرقسطة وضيق على ابن هود بها، وطال مقامه وامتد أمله إلى تملكها فخاطب المعتمد بن عباد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منتجزاً وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية.
وكاتبه أهل الأندلس في كافة من العلماء والخاصة فاهتز للجهاد وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها براً. وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحراً فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين، وتقبض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبراً وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عباد البحر في جماعته والمرابطين، ولقيه بفاس مستنفراً للجهاد. وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضمراء لتكون رباطاً لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ولقيه المعتمد ابن عباد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونش ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله، ولقي المرابطين بالزلاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين.
ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكراً بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيره، ويعرف أبوه بالحاج وكان محمد من بطانته وأعاظم قواد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس، ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئاً فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسمف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففر علي بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه، ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغرياً بالقادر بن ذي النون فأنفذ معه عسكراً وملك بلنسية، وقتل ابن ذي النون، وذلك سنة خمس وثمانين، وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية، واتصل حصاره إياها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين، ثم استخلصتها عساكر المرابطين وولى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي، وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين، وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فوجد عليهم، وعهد برفع المكوس وتحرى المعدلة، فلما أجاز انقبضوا عنه إلا ابن عباد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم، فتقبض على ابن رشيق فأمكن ابن عباد منه العداوة التي بينهما.
وبعث جيشاً إلى المرية ففر عنها ابن صمادح ونزلى على المنصور بن الناصر ببجاية، وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره، وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والطرطوشي فعهد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبيد الله بن بلكين بن باديس وأخاه تميماً من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين. وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عباد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها، وقعد ابن عباد عن تلقيه ومبرته فأحفظه ذلك، وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر ففسد ذات بينهما وغلبه على جميع عمله.
واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الراضي من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيلية فحاصر المعتمد بها وضيق عليه، واستنجد الطاغية فعمد إلى إستنقاذه من هذا الحصار فلم يغن عنه شيئاً وكان دفاع لمتونة مما فت في عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عليه عنوة سنة أربع وثمانين. وتقبض على المعتمد وقاده أسيراً إلى مراكش فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة، ثم عمد إلى بطليوس وتقبض على صاحبها عمر بن الأفطس فقتله وابنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صح عنده من مداخلتهم الطاغية وأن يملكوه مدينة بطليوس، ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه وكان الظهور للمسلمين.
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وانضم إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف، ولم يبق منها إلا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصماً بالنصارى. وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين، وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن واستولى على العدوتين، واتصلت هزائم النصارى على يد المرابطين مراراً وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي الخليفة لعهده ببغداد وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس فعقد له وتضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولاً في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله.
ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين، وقد كان ما قدمناه في أخبار بني حماد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن يتنعمر وافتتاحه أكثر بلادهم، فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وبعث إليهما مزدلي من بلنسية، وولي بلنسية عوضاً عنه أبا محمد ابن فاطمة، وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة وقام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك، وكانت أيامه صدراً منها وادعة ودولته على الكفر وأهله ظهور وعزة وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدو قتلاً وسبياً، وولى على الأندلس الأمير تميم بن. وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم، ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة. وأثخن في بلاد النصارى ورجع، وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيداً وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه.
ثم كان سنة تسع شأن برقة وتغلب أهل جنوة عليها وخلاؤها. ثم رجع العمران إليها على يد ابن تامرظست من قواد المرابطين كما مر في ذكرها عند ذكر الطوائف، ثم استمرت حال علي بن يوسف في ملكه وعظم شأنه، وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وأنزله قرطبة وإشبيلية، وأجاز معه الزبير بن عمر، وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوفي على شرق الأندس وأنزله بلنسية، وهو ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوفي على الجزائر الشرقية دانية وميورقة، واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحدين، فقيهاً منتحلاً للعلم والفتيا والتدريس، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر متعرضاً بذلك للمكروه في نفسه.
ونالته ببجاية وتلمسان ومكناسة اذايات من الفسقة ومن الظالمين، وأحضره الأمير علي بن يوسف للمناظرة ففلج علي خصومه من الفقهاء بمجلسه، ولحق بقومه هرغة من المصامدة. واستدرك علي بن يوسف رأيه فتفقده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرح إليهم البعث فأوقعوا به وتقاسم معهم هنتاتة وتينملل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم. وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وقام بأمرهم عبد المؤمن بن علي الكومي كبير أصحابه بعهده إليه، وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مراراً. وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية، وظهر أمر الموحدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك علي بن يوسف سنة سبع وثلاثين وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده، وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ أمر الموحدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه.
وغزا عبد المؤمن غزوته المجرى إلى جبال المغرب، ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان. ونازله عبد المؤمن والموحدون بكهف الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها، ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب، وشرهوا إلى مدافعة الموحدين فغلبوهم. وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفر تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله. واتبعه الموحدون واقتحموا عليه البلد فهلك، يقال سنة إحدى وأربعين. واستولى الموحدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفاً عاجزاً فخلع وبويع عمه إسحق بن علي بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه، فخرج إليهم في خاصته فقتلهم الموحدون. وأجاز عبد المؤمن والموحدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وملكوا، واستحلموا أمراء لمتونة وكافتهم وفروا في كل وجه، ولحق فلهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جددوا من بعده للملك بناحية إفريقية، والله غالب على أمره.
الخبر عن دولة ابن غانية
من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه علي الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له على أمره وأولية ذلك ومصايره
كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين أمامهم، وتحول عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسك وترهب كما قلناه، حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمر وأبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رئاسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثمين، وكان مسوفة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم وشجعانهم، وكان مقدماً عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق أنه قتل بعذر رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهم فتثاور الحيان وفر هو إلى الصحراء ففدى يوسف بن تاشفين القتيل ووداه، واسترجع علياً من مقره لسنين من مغيبه، وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك فولدت منه محمداً ويحيى ونشأ في ظل يوسف بن تاشفين وحجر كفالته.
ورعى لهما علي بن يوسف ذمام هذه الأواصر، وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسائة، وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن، وبعث معهم أبا إسحق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموجدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم، فملك إشبيلية واقتضى طاعة يحيى بن علي بن غانية، واستنزله عن قرطبة إلى جيان. والقلعة فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمتونة، ويحملهم على طاعة الموحدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين ودفن بقصر باديس. وأما محمد بن علي فلم يزل والياً إلى أن هلك وقام بأمره بعده ابنه عبد الله.
ثم هلك وقام بالأمر أخوه إسحق بن محمد بن علي. وقيل إن إسحق ولي بعد ابنه محمد. وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه فقتلهما معاً، واستبد بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسائة. وخلف ثمانية من الولد وهم محمد وعلي ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة، فقام بالأمر ابنه محمد. ولما أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم، ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه علي بن محمد بن علي وتلوموا في رد ابن الزبرتير إلى مرسله، وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري استشهد في الجهاد بأركش من العدوة، وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في اثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله، وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي وولي على ميورقة عمه أبا الزبير وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حين غفلة من أهلها وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان بايميلول من خارجها في بعض مذاهبه واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن كان قافلاً من إفريقية يؤم المغرب واكتسحوا ما كان بدار السادة والموحدين.
وكان والي القلعة قاصداً مراكش وهو يستخبر خبر بجاية فرجع وظاهر السيد أبا الربيع وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما واستولى على أموالهما وابنتهما ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأخذ في تحصين تلمسان ورم أسوارها وأقاما عند السيد يرومان الكرة من صاحب تلمسان وعاث علي بن محمد بن غانية في الأموال وفرقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم ورحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثاً ودخلها عنوة وكانت له في المغرب خطة مشهورة ثم قصد قسطنطينة فامتنعت عليه واجتمعت عليه وفود الغزو سرح العساكر في البر لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وعقد له على المغرب الأوسط.
وبعث الأساطيل إلى البحر وقائدها أحمد الصقلي وعقد عليها لأبي محمد بن إبراهيم بن جامع وزحفت العساكر من كل جهة فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه وأمكنوا منهم السيد أبايزيد فقتلهم على شلف وعفا عن يحيىى لنجدة عمه طلحة وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو فتقبضوا عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته وقادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفر إلى أخيه علي لمكانه من حصار قسطنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية وأطلق السيد أبا موسى من معتقله ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسطنطينة بعد أن كان أخذها ومضى شديداً في الصحراء والموحدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي بن غانية في قفصة فملكها ونازل بورق وقصطيلة فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري، وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته أن صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلاً يتحصن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الذي كان صلاح الدين عمه من وزرائه. واستعجلوا النصر فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففر قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفر إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظم نسبة للملك المعظم شمس الدولة ابن أيوب أخي صلاح الدين. فأما قراقش فلحق بسنترية، وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخطب فيها لصلاح الدين ولأستاذه تقي الدين. وكتب لهما بالفتح وافتتح زويلة وغلب بني خطاب الهواري على ملك فزان، وكانت ملكاً لعمه محمد بن الخطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطاب وهو آخر ملوكهم، وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطاب فتقبض عليه وغلبه على المال حتى هلك، ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل إلى طرابلس واجتمع عليه عرب ذياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب واتصل به مسعود بن زمام شيخ الدواودة من رياح عند مفره من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم. وفرض لهم العطاء، واستبد بملك طرابلس وما وراءها، وكان قراقش من الأرمن، وكان يقال له المظفري لأنه مملوك المظفر والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين. وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم، ويكتب علامة الظهير بخطه: وثقت بالله وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن فدخلها وخطب للعباسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحدين.
رجع الخبر إلى ابن غانية
ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم، واجتمع إليه من كان منحرفاً عن طاعة الموحدين من قبائل هلال مثل: جشم ورياح والأثبج. وخالفتهم زغبة إلى الموحدين فاعتقلوا بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فل قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع، فانعقد أمره وتجدد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيراً من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العباسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيئ ببغداد، مجدداً ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة وطلب المدد والإعانة، فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، جاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العباسية.
وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن، وولى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل إلى قفصة خلعوا طاعة ابن غانية فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضاً. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بإفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على، بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرح في مقدمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحدين فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده فانهزم الموحدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم، وأسر علي بن الزبرتير في آخرين وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس، وصمد المنصور إليهم فأوقع بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتملوا إلى مراكش، وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر هلها بالطاعة.
ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من كان بها من الحشود. وقتل إبراهيم بن قراتكين. وأمتن على سائر الأعوان وخلى سبيلهم، وأمن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. ثم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفر ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب مثل: جشم ورياح والعاصم كما قدمناه. وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين، ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الأجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك علي في بعض حروبها مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين، أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك وعفى على قبره، وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه يحيى بن إسحاق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته على سنن أخيه علي.
ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحدين سنة ست وثمانين فهاجر إليهم بتونس وتقبله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياماً. ثم فر ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم، واستبد على أشياخ ذباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين. كان منهم محمود بن طوق أبو المحاميد، وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغل فيها، ثم فر إلى الصحراء ونزل ودان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدة وجمع عليه أهل الثأر من ذباب، واقتحمها عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فر إلى ودان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وخمسمائة.
رجع الخبر: واستولى ابن غانية على الجريد، واستنزل ياقوت فولى قراقش من طرده، كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس، ونازله ابن غانية بها، وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة، وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمده أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس، وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحدون. وكان من خبر ميورقة أن علي بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية ترك أخاه محمداً وعلي بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة، وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحاق فأطلق من معتقله، وصار الأمر له فدخل في دعوة الموحدين، ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحاق، ركب البحر من إفريقية إلى صقلية وأمدوه بأسطول، ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها، ولم يزل بها والياً. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه، وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة أن غلب عليه الموحدون سنة تسع وتسعين فقتل. ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات.
رجع الخبر: ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولى عليها تاشفين ابن عمه الغازي، وقصد قابس فوجد بها عامل الموحدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، فاستدعاه أهلها لما فر عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس، وضيق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلي سبيل ابن تافراكين فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وأغرمهم ستين ألف دينار، وقصد المهدية سنة سبع وتسعين فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الركراكي.
وكان من خبره أنه نشأ بالمهدية وصار من جندها المرتدين وهو كوفي الأصل، وكانت له شجاعة معروفة فجمع لنفسه خيلاً ورجالاً، وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة وبعد في ذلك صيته وأمده الناس بالدعاء. وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على إفريقية من قبل المنصور لأول ولايته، وولى على المهدية أخاه يونس. وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم. وامتنع فأنزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته وتقبض على أبي علي يونس سنة خمس وتسعين واعتقله إلى أن فداه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العين واستبد ابن عبد الكريم بالمهدية ودعا لنفسه وتلقب المتوكل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بمن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن والياً على إفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك، وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدة.
ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في أتباعه، فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهدية، وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين، وأمده السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله، واستولى على المهدية واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقابس وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من إفريقية فنازل باجة، ونصب عليها المجانيق، وافتتحها عنوة وخربها، وقتل عاملها عمر بن غالب، ولحق شريدها بالأربس وشقبنارية، وتركها خاوية على عروشها وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد فزحف إليها ابن غانية ثانية ونازلها، وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسطنطينة، وانهزم الموحدون واستولى على معسكرهم.
ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها وتقبض على حافظها أبي الحسن ابن أبي يعلى، وتملك بعدها بلنسية والقيروان وبايعه أهل بونة، ورجع إلى المهدية وقد استفحل ملكه فأزمع على حصار تونس، وارتحل إليها سنة تسع وتسعين، واستعمل على المهدية ابن عمه علي بن الغازي، ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية، ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوها بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات، واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة، وقبض على السيد أبي زيد وابنيه ومن كان معه من الموحدين، وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار، وولى بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعجل القتل فيما نقل أن إسماعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك، فرفع الطلب ببقيتها عنهم.
وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره ففعل بهم مثل ذلك، وأغرمهم ألف ألف مرتين من الدنانير، وكثر عيثه وإضراره بالرعية، وعظم طغيانه وعتوه. واتصل بالناصر بمراكش ما دهم أهل إفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله، فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة فاستباحها، وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس ثم قفصة ثم قابس وتحصن منه ابن غانية في جبل عمر، فرجع عنه إلى المهدية، وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها.
وسرح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحدين سنة اثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجرا من نواحي قابس وأوقع به، وقتل أخاه جبارة بن إسحاق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله، ثم افتتح الناصر المهدية ودخل إليها علي بن الغازي في دعوته فتقبله، ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها من سبتة إليه على يد واصل مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله، ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهداً.
وولى الناصر على المهدية محمد بن يغمور من الموحدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يوليه أمر إفريقية لسد فرجها والذب عنها، ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب، وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحدين بتونس، وجمع ذؤبان العرب من الدواودة وغيرهم. وأوفد الدواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطان وتحيز بنو عوف بن سليم إلى الموحدين، والتقوا بشبرو من نواحي تبسة فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس.
ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثمين فانتهى إلى سجلماسة، وامتلأت أيدي أتباعه من النهاب، وخرقوا الأرض بالعبث والفساد، وانكفأ إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة، وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن، فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية، وقتله وأسر وافده وكر راجعاً إلى إفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب إفريقية في جموع الموحدين، واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ ابن غانية إلى جبال طرابلس، وهاجر أخوه سير بن إسحاق إلى مراكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث ومن معهم من قبائل البربر، وعزم على دخول إفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست ولقيهم بجبل نفوسة ففل عسكرهم واستلحم أمرهم، وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن، وقتل معه ابن عمه من كتاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان، وهلك يومئذ من العرب الهلاليين أمير قرة سماد بن نخيل.
حكى ابن نخيل: أن مغانم الموحدين يومئذ من عساكر الملثمين كانت ثمانية عشر ألفاً من الظهر فكان ذلك مما أوهن من شدته ووطى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه، وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي إفريقية ودفع سلبهم واستثأر أشياخهم بأهلهم، وأسكنهم بتونس حسماً لفسادهم. وصلحت أحوال إفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة، وولى أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن. ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد فاستطار بعد مهلكه ثور بن غانية، ونجم نفاقه وعيثه، فعابه رعيته ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحدين إلى درج وغدامس، وسرح عسكراً آخر إلى ودان لحصار ابن غانية، فأرجف بهم العرب ونهضوا وهم بهم السيد أبو العلا. وفر ابن غانية إلى الزاب، واتبعه السيد أبو زيد فنازل بسكرة واقتحمها عليه. ونجا ابن غانية، وجمع أوباشاً من العرب والبربر، وأتبعه السيد أبو زيد في الموحدين وقبائل هوارة، وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين فانهزم ابن غانية وجموعه، وقتل كثير من الملثمين، وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم.
وكان لهوارة يومئذ، وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن. في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس فانكف راجعاً، وأعيد بنو حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بإفريقية. واستقل الأمير أبو زكريا منهم بأمرها، واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن وتناولها من يد أخيه أبي محمد عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جد الخلفاء الحفصيين وماهد أمرهم بإفريقية، فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرعه في أقطارها. ورفع يده شيئاً فشيئاً عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريداً مع العرب بالقفار، فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب، والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة، وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانة، وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر.
وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من إمارته سنة إحدى وثلاثين، وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قبلة الأربس ويقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء باديس ومديد من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلف بنات بعثهن زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهن، فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهن، وبنى لهن بحضرته داراً لصونهن معروفة لهذا العهد بقصر البنات.
وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهن بذلك منهن وحفظهن لوصاته. ولقد يقال إن ابن عم لهن خطب إحداهن فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحق بك، فقالت لو كان ابن عمنا ما كفلنا الأجانب: إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ.
أخبرني والدي رحمه الله: أنه أدرك واحدة منهن أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. قال: ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفساً وأسراهن خلقاً وأزكاهن خلالا والله وارث الأرض ومن عليها.ومضى هؤلاء الملثمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السودان حجزاً بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وإفريقية وهم لهذا العهد متصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين، وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه، أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار، وأفناهم الرق واستلحمهم أمراء الموحدين. وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأول من افتراق الكلمة واختلاف البين، وهم الآن يعطون طاعة لملوك السودان، يجبون إليهم خراجهم وينفرون في معسكرهم.
واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وإفريقية. فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسان من المعقل عرب السوس الأقصى، ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله من المعقل أيضاً عرب المغرب الأقصى، ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط، ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسطنطينة، وتاركاً في مقابلة سليم عرب إفريقية.
وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم، والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمونها النجيب، ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب، وسيرها هملجة، وتكاد تلحق بالركض.
وربما يغزوهم أهل القفر من العرب، وخصوصاً بنو سعيد من بادية رياح، فهم أكثر العرب غزواً إلى بلادهم فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير. فإذا اتصل الصائح بأحيائهم، وركبوا في أتباعهم اعترضوهم على المياه قبل وصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون ويشتد الحرب بينهم فلا يخلص العرب من غوائلهم إلا بعد جهد، وقد يهلك بعضهم، ولله الخلق والأمر.
وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب.
ملوك السودان
الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم
هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني، وما وراءه إلى آخر الأول بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق، يجاورون بلاد البربر بالمغرب وإفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق، وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة، وأما أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعد.
وأما نسبهم فإلى حام بن نوح، بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام، والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي، وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر بن حام، والزنج من ولد زنجي بن كوش وأما سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر، ويقال هو قبط بن حام.
وعد ابن سعيد من قبائلهم وأممهم تسع عشرة أمة، منهم في المشرق الزنج على بحر الهند، لهم مدينة فنقية وهم مجوس، وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم مدينة بربرا، وهم الذين ذكرهم امرؤ القيس في شعره. والإسلام لها العهد فاش فيهم، ولهم مدينة مقدشوا على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وجنوبهم الدمادم وهم حفاة عراة. قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج الططر إلى العراق فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان، وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزوا ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كعبر، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والذي أسلم منهم لعهد النبب صلى الله عليه وسلم. وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما نعي إليه كان اسمه النجاشي وهو بلسانهم: انكاش بالكاف المشمة بالجيم عربتها العرب جيماً محضة وألحقتها ياء النسب، شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرفت فيها، وليس هذا الاسم سمة لكل من تمتك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا، ولو كان كذلك لشهروا اسمه إلى اليوم لآن ملكهم لم يتحول منهم.
وملكهم لهذا العهد اسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه أو اسم العشيرة الذين فيهم الملك وفي غربيه مدينة داموت وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم وفي شماليه ملك آخر منهم اسمه حق الدين محمد بن علي بن ولصمع في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جده ولصمع مطيعاً لملك دامون، وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو ولصمع بلادهم من الخطى وبنيه، واستولوا على وفات وخربوها. وبلغنا أن حق الدين هلك، وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحياناً وينابذونه أخرى والله مالك الملك.
قال ابن سعيد: ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون، ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس، ويليهم النوبة أخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل، وأكثرهم مجاورون للديار المصرية، ومنهم رقيق.
ويليهم زغاوة وهم مسلمون، ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي ولهم التغلب على بلاد الصحراء إلى فزان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصية منذ أولها، ويليهم من غربهم كوكو، وبعدهم نغالة والتكرور ولمى وتمنم وجالي وكوري وأفكرار، بتضلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب كلام ابن سعيد.
ولما فتحت إفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية، كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب وكانوا أعظم أمة ولهم أضخم ملك، وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمراً، ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك.
وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صرصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين، ثم بعدها أمة أخرى تعرف مالي ثم بعدها أمة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو، ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور.
وأخبرني الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علماً وديناً وشهرة، قدم مصر سنة تسع وتسعين حاجاً بأهله وولده ولقيته بها فقال إنهم يسمون التكرور زغاي ومالي أنكاريه.ثم إن أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الأتاوات والجزى، وحملوا كثيراً منهم على الإسلام فدانوا به.
ثم اضمحل ملك أصحاب غانة وتغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم.
ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك، واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانة إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين، يذكرون أن أول من أسلم منهم ملك اسمه برمندانة هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده.
وكان ملكهم الأعظم الذي تغلب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الأمير الذي يكون من نسل السلطان وجاطة الأسد، واسم الحافد عندهم تكن، ولم يتصل بنا نسب هذا الملك. وملك عليهم خمساً وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده ابنه منساولي، ومعنى منسا السلطان، ومعنى ولي بلسانهم علي، وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس، وولي عليهم من بعده أخوه واتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محدقاً رامياً، فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مخاناً، فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمى بأبي بكر، وكان ابن بنته فملكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه.
ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلب على ملكهم اسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان ضبطه بلسانهم أهل غانة سبكرة وحج أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا، وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان، وارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب وإفريقية. وقال الحاج يونس ترجمان التكرور إن الذي فتح كوكو هو سغمنجة من قواد منسا موسى، وولي من بعده ساكورة هذا هو ابن السلطان ماري جاطة،
ثم من بعده ابنه محمد بن قو، ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولي عليهم منسا موسى بن أبي بكر، وكان رجلاً صالحاً وملكاً عظيماً، له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة، لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف بالطويجن وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب.
ولقيه في صرفه صاحبنا المعمر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن، كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر، وأجلب عليهم بعصائب من العرب فكر به واركلا، واعتقله ثم خلى سبيله بعد حين فخاض القفر إلى السلطان منسا موسى مستجيشاً به عليهم، وقد كان بلغه توجهه للحج فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصراً على عدوه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوة سلطانه فلقي منه مبرة وترحباً ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخوى وهو الثقة.
قال كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطويجن دون وزرائه ووجوه قومه، نأخذ بأطراف الأحاديث حيث يتسع المقام، وكان يتحفنا في كل منزل بطرف المآكل والحلاوات قال: والذي تحمل آلته وحربته من الوصائف خاصة اثنا عشر ألفاً لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني.
قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمة بمصر: جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملاً من التبر كل حمل ثلاثة قناطير. قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط، وأما السفر البعيد كالحج فعلى المطايا.
قال أبو خديجة: ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتاً في قاعدة سلطانه محكم البناء مجللا بالكلس لغرابته بأرضهم فأطرفه أبو إسحاق الطويجن ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاء من أتقن المباني ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفاً من مثاقيل التبر مبثوثة عليها. إلى ما كان له من الأثرة والميل إليه والصلات السنية.
وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه، بعث بها مع علي بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي.
واتصلت أيام منسا موسى هذا خمساً وعشرين سنة. ولما هلك ولي أمر مالي من بعده ابنه منسا مغا ومعنى مغا عندهم محمد، وهلك لأربع سنين من ولايته، وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى، واتصلت أيامه أربعاً وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده ابنه منسا بن سليمان، وهلك لتسعة من ولايته فولي عليهم من بعده ماري جاطة بن منسا مغا بن منسا موسى، واتصلت أيامه أربعة عشر عاماً وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة اثنتين وستين، وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة. تحدث الناس بما اجتمع فيه من متفرق الحلى والشبه في جثمانه ونعوته دهراً.
وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم، واستعملوه في خطة القضاء بما لقيه منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته، وذكر لي عن هذا السلطان جاطة أنه أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكان أن ينتقض شأن سلطانهم. قال: ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم، وهو حجر يزن عشرين قنطاراً منقولاً من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار، كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن.
فعرضه جاطة هذا الملك المسرف على تجار مصر المترددين إلى بلده، وابتاعوه منه بأبخس ثمن إذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفاً وتبذيراً في سبيل الفسوق والتخلف.
قال: وأصابته علة النوم، وهو مرض كثيراً ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصاً الرؤساء منهم، يعتاده غشي النوم عامة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من أوقاته ويضر صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. قال: ودامت هذه العلة بخلطه مدة عامين اثنين، وهلك سنة خمس وسبعين.وولوا من بعده ابنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم، ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية، ويغلب على دولته وزيره ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطة تقدم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه، ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب، ودوخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو، وجهز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثمين كتائب نازلتها لأول الدولة، وأخذت بمخنقها. ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة.
وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي، وفيها من الملثمين يعرف بالسلطان، وعليهم طريق الحاج من السودان، وبينه وبين أمير الزاب وواركلا مهاداة ومراسلة.
قال: وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني، بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق، وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وإفريقية ومصر والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر.
ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وولي بعده أخوه منسا مغا. ثم قتل لسنة أو نحوها وولي بعده صندكي زوج أم موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي ابن ماري جاطة الأكبر فتغلب على الدولة وملك أمرهم سنة اثنتين وتسعين ولقبه منسا مغا والخلق والأمر لله وحده...
وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعة ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمر مغرباً إلى أن يصب في البحر. وعلى هذا الوادي بلد تاكاوصت محط الرقاق والبضائع بالقبلة، وبها سوق في يوم واحد من السنة يقصده التجار من الآفاق، وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبل نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان، وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة. فلمطة منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن، فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم، وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسان. والأمر على ذلك لهذا العهد وبيد الله تصاريف الأمور...
وفي سنة خمس وخمسين وصلت هدية ملك كانم من ملوك السودان، وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس، وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلى والشيات، فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غص بها الفضاء، وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته، وأخذها من كل حيوان بشبه.
الخبر عن أبي يزيد الخارجي صاحب الحمار من بني يفرن ومبدأ أمره مع الشيعة ومصادره هذا الرجل من بني واركوا إخوة مرنجيصة، وكلهم من بطون بني يفرن، وكنيته أبو زيد واسمه مخلد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا.
وقال أبو محمد بن حزم: ذكر لي أبو يوسف الوراق عن أيوب بن أبي يزيد أن اسمه مخلد بن كيداد بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلد بن عثمان بن ورينت بن حونيفر بن سميران بن يفرن بن جانا وهو زناتة. قال: وقد أخبرني بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن وجانا، كلام ابن حزم. ونسبه ابن الرقيق أيضاً في بني واسين بن ورسيك بن جانا، وقد تقدم نسبهم أول الفصل. وكان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في التجارة فولد له أبو يزيد، بكر كوامن بلادهم، وأمه أم ولد اسمها سبيكة، ورجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة. ونزل توزر متردداً بينها وبين تقيوس، وتعلم القرآن وتأدب، وخالط النكارية فمال إلى مذاهبهم وأخذها عنهم، ورأس فيها ورحل إلى مشيختهم. وأخذ عن أبي عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة.
بني واكلا الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة والمصر المنسوب إليهم بصحراء افريقية و تصاريف أحوالهم
بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة- كما تقدم- من ولد فريني بن جانا، وقد مرذكرهم وإ ن إخوانهم يزمرتن ومنجصة ونمالتة المعروفون لهذا العهد: منهي بنو واركلا وكانت فئتهم قليلة، وكانت مواطنهم قبلة الزاب، واختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثماني مراحل من بسكرة، في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب. بنوها قصورا متقاربة الخطة. ثم استبحر عمرانها، فائتلفت وصارت مصرًا.
وكان معهم هنالك جماعة من بني زنداك من مغراوة، وإليهم كان هرب ابن أبي يزيد النكاري عند فراره من الاعتقال لسنة خمس وعشرين وثلاثماية، وكان مقامه بينهم سنة يختلف إلى بني برزال بسالات، وإلى قبائل البربر بجبل أوراس، يدعوهم جميعاً إلى مذهب النكارية، إلى أن ارتحل إلى أوراس، واستبحر عمران هذا المصر، واعتصم به بنو واركلا هؤلاء، والكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين إياهم على المواطن، واختصاص الأثبج بضواحي القلعة والزاب وما إليها.
ولما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها في أتباع ابن غانية؛ مر بهذا المصر فأعجبه وكلف بالزيادة في تمصيره، فاختط مسجده العتيق ومأذنته المرتفعة، وكتب عليها اسمه وتاريخ وضعه نقشًا في الحجارة. وهذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر من الزاب إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان، يسلكها التجار الداخلون إليها بالبضائع.
وسكانها لهذا العهد من أعقاب بني واركلا وأعقاب إخوانهم من بني يفرن ومغراوة، ويعرف رئيسه باسم السلطان، شهرة غير نكيرة بينهم " ورياسته لهذه الأعصار مخصوصة ببني أبي غبول ويزعمون أنهم من بني واكير، إحدى بيوت بني واركلا، وهو بذا العهد أبو بكر بن موسى بن سليمان من بني أبي غبول، ورياستهم متصلة في عمود هذا النسب.
وعلى عشرين مرحلة من هذا المصر في القبلة منحرفا إلى الغرب بيسير بلد تكدة قاعدة وطن الملثمين، وركاب الحاج من السودان، اختطه الملثمون من صنهاجة وهم ساكنوه لهذا العهد، وصاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان، وبينه وبين أمير الزاب مراسلة ومهاداة.
ولقد قدمت على بسكرة سنة أربع وخمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض الملوكية، ولقت رسول صاحب تكدة عند يوسف بن مزني أمير بسكرة، وأخبرني عن استبحار هذا المصر في العمارة، ومرور السابلة، وقال لي: اجتاز بنا في هذا العام سفر من تجار المشرق إلى بلد مالي كانت زكاتهم اثنتي عشرألف راحلة. وذكر لي غيره أن ذلك هو الشأن في كل سنة. وهذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بأطلستين لهذا العهد. والله غالب على أمره سبحانه...
ومن بطون بني ومانوا هؤلاء قبائل بني يالدس، وقد يزعم زاعمون أنهم من مغراوة، ومواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى والأوسط وراء العرق المحيط بعمرانهم المذكور قبل. اختطوا في تلك المواطن القصور والأطم واتخذوا بها الجنات من النخيل والأعناب وسائر الفواكه: فمنها على ثلاث مراحل قبلة سجلماسة، وتسمى وطن توات، وفيه قصور متعددة تناهز المئين، آخذة من الغرب إلى الشرق، وآخرها من جانب الشرق يسمى تمنطيت، رهو بلد مستبحر في العمران، وهو ركاب التجار المترددين من المغرب إلى بلد مالي من السودان لهذا العهد، ومن بلد مالى إليه، بينه وبين ثغر بلد مالي المسمى غار، المفازة المجهلة لا يهتدى فيها للسبل ولا يمر الوارد إلا بالدليل الخريت من الملثمين الظواعن بذلك القفر، يستأجره التجار على البذرقة بهم بأوفى الشروط.
ولقد كانت بلد بودي [بودا] وهي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من ناحية السوس هي الركاب إلى والاتن، الثغر الأخير من أعمال مالي. ثم أهملت لما صارت الأعراب من بادية السوس يغيرون على سابلتها، ويعترضون رفاقها، فتركوا تلك، ونهجوا الطريق إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت.
ومن هذه القصور قبلة تلمسان، وعلى عشر مراحل منها قصور تيكورارين، وهي كثيرة تقارب الماية، في بسيط واد منحدر من الغرب إلى الشرق؛ واستبحرت في العمران وغصت بالساكن. وأكثر سكان هذه القصور الغربية في الصحراء بنو يالدس هؤلاء، ومعهم من سائر قبائل زناتة والبربر، مثل ورتطغير ومصاب وبني عبد الواد وبني مرين، هم أهل عديد وعدة، وبعد عن هضيمة الأحكام وذل المغارم، وفيهم الرجالة والخيالة، وأكثرهم معاشهم من فلح النخل، وفيهم التجر إلى بلد السودان.
وضواحيها كلها مشتاة للعرب، ومختصة بعبيد الله من المعقل، عينتها لهم قسمة الرحلة. وربما شاركهم بنو عامر من زغبة في تيكورارين، فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين. وأما عبيد الله فلا بد لهم في كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات وبلد تمنطيت، ومع ناجعتهم تخرج قفول التجار من الأمصار والتلول، حتى يخطوا بتمنطيت، ثم يبذرقون منها إلى بلد السودان.
وفي هذه البلاد الصحراوية إلى وراء العرق غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب، وذلك أن البئر تحفر عميقة بعيدة الهوى. وتطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة، فتحت بالمعاول والفؤس إلى أن يرق جرمها ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها عن الماء، فينبعث صاعداً فيفعم البئر، ثم يجري على وجه الأرض وادياً. ويزعمون أن الماء ربما أعجل بسرعته عن كل شيء. وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكورارين وواركلا وريغ. والعالم أبو العجائب. والله الخلاق العليم...
وأقلع [هلال حاجب أبي تاشفين صاحب تلمسان] سنة أربع وعشرين فنزل يالإسكندرية، وصحب الحاج من مصر في جملة الأمير عليهم، ولقي في طريقه سلطان السودان من مالي منسى موسى، واستحكمت بينهما المودة...
وهي [غدامس] لهذا العهد قد استبحرت في العمارة، واتسعت في التمدن، بما صارت محطاً لركاب الحاج من السودان، وقفل التجار إلى مصر والإسكندرية عند إراحتهم من قطع المفازة ذات الرمال المعترضة أمام طريقهم دون الأرياف والتلول، وبابا لولوج تلك المفازة والحاج والتجر في مرجعهم...
الخبر عن هدية السلطان إلى ملك مالي من السودان المجاورين للمغرب
كان للسلطان أبي الحسن مذهب في الفخر معروف، يتطاول به إلى مناغاة الملوك الأعاظم واقتفاء سننهم في مهاداة الأقتال والأنظار، وإنفاذ الرسل على ملوك القاصية والتخوم البعيدة. وكان ملك مالي أعظم ملوك السودان لعهده مجاوراً لملكه بالمغرب على ماية مرحلة في القفر من ثغور ممالكه القبلية.
ولما غلب بني عبد الواد على تلمسان، وابتزهم ملكهم، واستولى على ممالك المغرب الأوسط، وتحدث الناس بشأن أبي تاشفين وحصاره ومقتله، وما كان للسلطان في ذلك من سورة التغلب وإهانة العدو، شاعت أخبار ذلك في الآفاق. وسما سلطان مالي منسا موسى المتقدم ذكره في أخبارهم إلى مخاطبته؛ فأوفد عليه فرانقين من أهل مملكته مع ترجمان من الملثمين المجاورين لممالكهم من صنهاجة؛ فوفدوا على السلطان في التهنئة بالتغلب والظفر بالعدو؛ فكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم. ونزع إلى طريقته في الفخر؛ فانتخب طرفاً من متاع المغرب وماعونه من ذخيرة داره وأسناها. وعين رجالاً من أهل دولته، كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مدين، ومولاه عنبر الخصي. وأنفذهم بها على ملك مالي منسا سليمان بن منسا موسى، لمهلك أبيه قبل مرجع وفده. وأوعز إلى أعراب الفلاة من المعقل بالسير معهم ذاهبين وجائين؛ فشمر لذلك علي بن غانم أمير أولاد جار الله من المعقل، وصحبهم في طريقهم امتثالاً لأمر السلطان. وتوغل ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي، بعد الجهد وطول المشقة؛ فأحسن مبرتهم وأعظم موصلهم وكرم وفادتهم ومنقلبهم. وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون سلطانه، ويوجبون حقه، ويؤدون من خضوع مرسلهم وقيامه بحق السلطان واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به.
فأدوا رسالتهم. وبلغ السلطان إرباً من اعتزازه على الملوك، وخضوعهم لسلطانه. وقضى حق الشكر لله في صنعه.
كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، لما قدم على السلطان أبي الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع وأربعين، بعدما اتصل به في طريقه مهلك أبيه، أوسع له السلطان كنفه، ومهد له جانب كرامته وبره، وغمز له بوعد في المظاهرة على ملك أبيه يعزي به عن فقده... وقد كان توافى بقسنطينة ركاب من المغرب... وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب. أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنية بسلطان إفريقية.
الخبر عن وفد السودان، وهديتهم، وإغرابهم فيها بالزرافة
كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا موسى هديته المذكورة في خبره، اعتمل في مكافأته وجمع لمهاداته من طرف أرضه وغرائب بلاده. وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك. ووصلت الهدية إلى أقصى تخومهم من والأتن. هلك منسا سليمان قبل وصولها. واختلف أهل مالي وافترق ملكهم. وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضاً. وشغلوا بالفتنة، حتى قام فيهم منسا جاطه واستوسق له أمرهم ونظر في أعطاف ملكه. وأخبر بشأن الهدية وأخبر أنها بوالاتن، فأمر بإنفاذها إلى ملك المغرب. وضم إليها الزرافة الحيوان الغريب الشكل، العظيم الهيكل، المختلف الشبه بالحيوانات. وفصلوا بها من بلادهم، فوصلوا إلى فاس في صفر من سنة اثنتين وستين. وكان يوم وفادتهم يوماً مشهوداً، جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض. ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء، فبرزوا ينسلون من كل حدب، حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضاً في الازدحام على الزرافة، إعجابا بخلقها. وأنشد الشعراء في عرض المدح والتهنية ووصف الحال. وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالاتهم بتأكيد الود والمخالصة، والعذر عن إبطاء الهدية بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر، وتعظيماً سلطانهم وما صاروا إليه. والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادة معروفة لهم. وحيوا السلطان يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم. ثم ركب السلطان، وانفض ذلك المجلس وقد طار به الذكر. واستقر ذلك الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته وهلك السلطان قبل انصرافهم، فوصلهم القائم بالأمر من بعده. وانصرفوا إلى مراكش، وأجازوا منها إلى ذوي حسان عرب السوس من المعقل المتصلين ببلادهم. ولحقوا من هنالك بسلطانهم. والأمر لله سبحانه.