ابن خلدون
كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر
المقدمةفأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر، ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك، وبعضها في أخرى، ثم تخرج أنهار من البحيرتين، فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل. ويخرج من هذه البحيرة نهران. يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته، ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر، فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً، وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية، ويسمى نيل مصر، وعليه الصعيد من شرقيه، والواحات من غربيه. ويذهب الأخر منعطفاً إلى المغرب، ثم يمرعلى سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأمهم كلهم على ضفتيه
ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها... إلخوالمتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية، ويذكرون ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها في المسالك ونحن الأن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير البلدان والأنهار والبحار في كل جزء منها، ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب "نزهة المشتاق" الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلاً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة. وجمع له كتباً جمة للمسعودي وابن خرداذبه والحوقلي والدمري وابن إسحق المنجم وبطليموس وغيرهم ونبدأ منها بالإقليم الأول إلى آخرها، والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنه وفضله.
وأما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه، ويسمى نيل السودان. ويذهب إلى البحر المحيط فيصب فيه عند جزيرة أوليك. وعلى هذا النيل مدينة سلا وتكرور وغانة، وكلها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السودان. وإلى بلادهم تسافر تجار المغرب الأقصى، وبالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثمين، ومفاوز يجولون فيها. وفي جنوبي هذا النيل قوم من السودان يقال لهم لملم وهم كفار، ويكتوون في وجوههم وأصداغهم، وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب، وكلهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسي أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق، يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضاً وليسوا في عداد البشر. وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان. فكان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني صالح. وقال صاحب كتاب روجار أنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن، ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن. وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان مالي.
وفي شرقي هذا البلد في الجزء الثالث من هذا الإقليم بلد كوكو على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك. ويمر مغرباً فيغوص في رمال الجزء الثاني. وكان ملك كوكو قائماً بنفسه، ثم استولى عليها سلطان مالي وأصبحت في مملكته، وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلها من تاريخ البربر. وفي جنوبي بلد كوكو بلاد كانم من أمم السودان. وبعدهم ونغارة على ضفة النيل من شماليه.
وفي شرقي بلاد ونغارة وكانم بلاد زغاوة وتاجرة المتصلة بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم. وفيه يفر نيل مصرذاهباً من مبدئه عند خط الاستواء إلى البحر الرومي فى الشمال. ومخرج هذا النيل من جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة. واختلفوا في ضبط هذه اللفظة. فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه وكثرة ضوئه. وفي كتاب المشترك لياقوت بضم القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند، وكذا ضبطه ابن سعيد.
الإقليم الثاني
وهو متصل بالأول من جهة الشمال. وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات التي مر ذكرها، وفي الجزء الأول والثاني منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية، وبعدها في جهة الشرق أعالي أرض غانة ثم مجالات زغاوة من السودان، وفي الجانب الأسفل منهما صحراء نيستر متصلة من الغرب إلى الشرق ذات مفاوز تسلك فيها التجار ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان، وفيها مجالات الملثمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة ولمطة ووريكة.
وعلى سمت هذه المفاوز شرقاً أرض فزان، ثم مجالات أزكار من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالي الجزء الثالث على سمتها في الشرق وبعدها من هذا الجزء بلاد كوار من أمم السودان، ثم قطعة من أرض الباجويين. وفي أسافل هذا الجزء الثالث وهي جهة الشمال منه بقية أرض ودان، وعلى سمتها شرقاً أرض سنترية وتسمى الواحات الداخلة...
وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال، مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم. فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود، وأكثرهم عرايا من اللباس، وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوبن مائلة إلى الانحراف. ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات. وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم. حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف والغياض، ويأكلون العشب، وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً، وكذا الصقالبة. والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم، ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً، فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة، إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر، مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد، ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد، يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة، ومثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً، فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم، وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم: "ويخلق ما لا تعلمون".