ابن الخطيب
الإحاطة في تاريخ الغرناطة
محمد بن محمد بن داود القرشي
محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقرى، يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة يقاس وتلمسان.
أوليته
نقلت من خطه. قال، وكان الذي اتخذها من سلفنا قراراً بعد أ، كانت لمن قبله مراراً، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقرى، صاحب أبي مدين، الذي دعا له ولذريته، بما ظهر فيهم من قبول وتبين. وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحية بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ عروي الصلاة، حتى أنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه شعور. ويقال إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين.
ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار. واتخذوا طبل الرحيل، وراية التقدم عند المسير. وكان ولد يحيى، الذي كان أحدهم أبو بكر، خمسة رجال. فعقدوا الشركة بينهم فيما ملكوه، وفيما يملكونه على السواء بينهم والاعتدال، وكان أبو بكر ومحمد، وهما أرومتا نسبي من جميع جهات الأم والأب بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي. وهما شقيقاهم الصغيران، بأي والاتن فاتخذوا هذه الأقطار والحوايط والديار، فتزوجوا النساء. واستولدوا الإماء. وكان التملساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع. ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الرجحان والخسران، ويكاتبهما بأحوال التجار، وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الفخامة أحوالهم.
ولما افتتح التكرور كورة أي والاتن وأعمالها، أصيبت أموالهم، فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال، ونصب دون ماله القتال، ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه، ومكنه من التجارة بجميع بلاده، وخاطبه بالصديق الأحب، والخلاصة الأقرب، ثم صار يكاتب من بتلمسان، يستقضي منهم مآربه، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب الملوك بالمغرب، ما ينبئ عن ذلك. فلما استوثقوا من الملوك، تذللت لهم الأرض للسلوك، فخرجت أموالهم عن الحد، وكادت تفوق الحصر والعد، لأن بلاد الصحراء، قبل أن يدخلها أهل مصر كانت تجلب لها من المغرب ما لا بال له من السلع، فيعاوض عنه بما له بال من الثمن. ثم قال أبو مدين: الدينا ضم جنب أبي حمو، وشمل ثوبهاه. كان يقول لو لا الشناعة لم أزل في بلادي تاجراً من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع، ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذهب، ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب، إلى ما يغير من العوايد، ويجر السفهاء إلى الفساد.
ولما هلك هؤلاء الأشياخ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور السلطان، فلم تزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمان فها أنا ذا لم أدرك في ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشاً، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة، فاستوعبت أهل البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضاً وإلقاء، سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن.