ابن سماك
الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية
(طبع بمطبعة التقدم الإسلامية لصاحبها البشير الفورتي، بتونس، 1329ه، ص 6-12)
ذكر السبب في خروج اللمتونيين ونبذا من أخبارهم
المتقدمين
هؤلاء اللمتونيون ينتمون إلى لمتونة وهم أولاد لمت. ولمت وجدالة ولمطة ينتسون إلى صنهاحة، وهم طواعن في الصحراء رحالة لا يطمئن بهم منزل وليس لهم مدينة يأوون إليها. ومداخلهم في الصحراء مسيرة شهرين في شهرين ما بين بلاد السودان وبلاد الإسلام، وهم على دين الإسلام واتباع السنة وهم يجاهدون السودان.
قال أبو عبد الله ابن يحيى الزهري: كان أهل بلاد السودان الذين حاضرتهم مدينة غانة منشربين فيها. سلف من الدهر بدين النصرانية إلى سنة تسع وستين واربعمائة، فأسلم أهلها وحسن إسلامهم، وذلك عند خروج الأمير أبي يحيى ابن الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني.
وليس بين لمتونة وبين البربر نسب إلا الرحم، وصنهاجة يرفعون إنسابهم إلى حمير، وإنهم خرجوا إلى اليمن وارتحلوا إلى الصحراء وطنهم بالمغرب. وسبب ذلك أن أحد الملوك من التبابعة لم يكن فيمن تقدمه من ملوك قومه مثله ولم يبلغ أحد منهم فضله وعزة ملكه. وبعد غزوه ونكاية عدوه وقهر العرب والعجم مباغه، أنسى جميع الأمم ممن كان قبله. وكان قد أخبره بعض الأحبار بحوادث الأيام وبالكتب المنزلة من الله على رسوله عليه الصلاة والسلام وإن الله يبعث رسولا هو خاتم الأنبياء ويرسله إلى جمع الأمم. فآمن به وصدق مما يأتي به وقال فيه شهدت على أحمد أنه رسول الله، ونظمها في أبيات من الشعر:
شهدت على أحمد أنه * رسول الله بارئي النسم
في أبيات كثيرة. ثم سار إلى اليمن، ودعى أهل مملكته فلم يجبه إلى ذلك إلا طائفة من حمير. ولما غلب أهل الكفر على أهل الإيمان، فكان كل من آمن به وتبعه بين قتيل وطريد ومطلوب وشريد، فعند ذلك تلثموا لفعل نسائهم في ذلك الزمان وفروا بأنفسهم وتفرقوا في الأقطار أيادي سبا. فكان سبب خروج منقب الملثمين كما ذكر، وكانوا أول من تأثم. ثم انتقلوا من قطر إلى قطر ومن مكان إلى منكان حتى صاروا بالمغرب الأقصى ببلاد البربر. فاحتملوا به واستوطنوه. وصار اللثام زيهم الذي أكرمهم الله به ونجاهم لأجله من عدوهم. فاستحسنوه ولازموه وصار زيا لهم بل لاعقلبهم [= لأعقل بهم؟] لا يفارقونه إلى هذا العهد. وإنما تبربرت ألسنهم لمجارتهم البربر وكونهم معهم ولمصاهرتهم إياهم.
والموجب لخروجهم من الصحراء إلى وطن المغرب أن أحد بني جدالة كان قد توجه إلى فريضة الحج، واجتاز في أيامه على مدينة القيروان وذلك سنة أربعين وأربعمائة.
فحضر بها مجلس الفقيه المدرس أبي عمران الفسي. فسأله عن قبيلته ووطنه. فذكر له أنه من الصحراء منقطعين لا يصل إلينا إلا بعض التجار جهال حرفتهم الاشتغال بالبيع والشراء لا علم عندهم، وفيها أقوام يحرصون في تعليم القرأن وطلب العلم ويرغبون في التفقه في الدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلا، فعسى يا سيدنا أن تنظر إلينا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا دننا.
فقال له الفقيه سأنظر لك في ذلك إن شاء الله تعالى. فعرض الفقيه الأمر على الطلبة فلم يوافقه أحد لبعد المشقة والانقطاع في الصحراء.
فدله الفقيه على رجل من فقهاء المغرب الأقصى مستوطن بالسوس يدعى بوجاج مشهور بالخير والعبادة كانت بينهما قرأءة ومعرفة، فخاطبه في القضية وأكد عليه في المشاركة فيها.
فلما وصل إليه يحيى ابن إبراهيم المذكور اجتمع به ودفع إليه كتابه. فرحب به وأكرمه واختار له رجلا يعرف بعبد الله ابن ياسين الجزولي من طلبة الشيخ المذكور، وأرسله معه ودخل إلى الصحراء إلى بلاد جدالة. وهو مع يحي ابن إبراهيم اللمتوني كان قد دخل الأندلس في دولة ملوك الطوائف، أقام بها سبع سنين يلازم القراءة فحصل علما كثرا ودعا إلى المغرب الأقصى.
فسار معه إلى قبيلة جدالة ففرحوا واجتمعوا عليه منهم نحو سبعين شيخا من فقهائهم وأهل الخير منهم يعلمهم ويفقههم في دينهم. فانقادوا إليه انقيادا عظيما ووالوه برا وتكريما ولازموه مدة طويلة. واجتمع عليه منهم عدد وافر إلى أن أمر عبد الله ابن ياسين قبائل جدالة بغزو لمتونة. فحاربوهم حتى دخلوا في دعوة عبد الله ابن ياسين. وغزوا معه سائر قبائل الصحراء وحاربوهم. وقوي أمر جدالة وزاد في ظهورهم وهم ممتثلون لأمره منقادون لحكمه.
وتوجه إلى لمتونة فانقادوا له وأطاعوه. وكان أشد انقيادا إليه أمير لمتونة أبو زكرياء يحيى بن عمر. وكان الأمير أبو زكرياء إذ تقدم بجيشه قدم أمامه الشيخ أبا محمد عبد الله بن ياسين، والشيخ كان في الحقيقة الأمير وهو الذي كان يأمر وينهى، وكان يقول لهم إنما أنا معلم دينكم.
وكان يلي لمتونة جبل فيه قبائل من البربر على غير دين الإسلام، فدعاهم الشيخ عبد الله بن ياسين إلى الدين فامتنعوا عليه. فأشار على الأمير أبي زكرياء بن عمر بغزوهم، فغزاهم بلمتونة وكان حينئذ أزيد من ألف فارس، وهزموهم وقسموا أموالهم وخمسوا سبيهم، فقال أرى خمس قسمة اللمتونيون في صحراهم.
وفقد منهم في هذه المعركة كثير. وعند ذلك سماهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين بالمرابطين لما رأى من شدة صبرهم وحسن بلائهم على المشركين. قال أبو عبد الله البكري: وكان للمتونة في قتالهم شدة وبأس ليس لغيرهم، وبذلك ملكوا الأرض. وكان قتالهم على البخت [= النجب] أكثر من الخيل، وكان معظم قتالهم مرتجلين يقفون على أقدامهم صفا بعد صف يكون بين الصف الأول منهم القنا الطوال وكانوا يختارون للموت على الانهزام. ولا يحفظ لهم فرار من زحوف.
ولما رأى الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين استقامة لمتونة واجتهادهم أراد أن يظهرهم ويملكهم بلاد المغرب. فقال لهم: إنكم صبرتم ونصرتم دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتحتم ما كان أمامكم وستفتحون إن شاء الله ما وراءكم.
فأمرهم بالخروج من الصحراء إلى سجلماسة ودرعة، وأهلها يومئذ تحت طاعة أمراء مغراوة من زناتة، وأميرهم يومئذ مسعود بن وانود [= وانودينٍ] بن خزرون [
:C خزروق] بن فلفول الخزرجي. وذلك بعد ما خاطبوهم فلم يجيبوهم على ما طلبوا منهم فغزاهم في جيش كثير حتى غلبوا عليهم ودخلوا سجلماسة وملكوها، وكانت بها أناس كثيرة وكان بينهم وبين مغراوة حروب كثيرة.وبعد ذلك توجه الأمير أبو زطرياء يحيى بن عمر مع إمامه الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين بجيش كثيف من لمتونة ومسوفة ولمطة وهزرجة وسار بهم إلى بلاد درعة، فتلاقوا هنالك مع جيش جدالة. فقتل الأمير أبو زكرياء يحيى ابن عمر، وقتل معه بشر كثير.
ولما كان بعد ذلك قدم الشيخ أبو محمد عبد الله بن ياسين أقام الأمير أبو بكر بن عمر، فبايعته لمتونة وسائر الملثنين وأهل سجلماسة ودرعة.
وانصرف إلى بلاد المصامدة بقصد أغمات، وطاعت له، وريكة وهيلانة وهزميرة. وكان وصوله لأغمات سنة خمسين وأربعمائة. فتلقته أشياخ المصامدة وأذعنوا له بالطاعة. واحتل مدينة أغمات واستوطنها مع إمامه عبد الله بن ياسين. ثم انصرف الشيخ أبو عبد الله محمد بن ياسين إلى بلاد تامسنا ليسكنهم ويحضهم على الطاعة. فقتلته بربر غواطة.
ولما كان في سنة ستين وأربعمائة استقامت الإمارة للأمير أبي بكر بن عمر، وطاعت له البلاد ووجه عماله إليها، واستوطن مدينة أغمات. وتوالت عليه الوفود والجيوش من الصحراء. فكثر الخلق وعظم الازدحام بأغمات، فشكوا إليه ما يجدونه من ذلك وأشاروا عليه بالانتقال إلى فحص مراكش، فانتقل إليها حسبما تقدم قبل هذا.
وفي إثناء مقامه بلغه ما كان من ظهور جدالة على لمتونة، فشرع في العودة إلى الصحراء واستخلف على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين.