الإصطخري

المسالك والممالك

(24-25)

... ولم نذكر بلد السودان في المغرب والبجة والزنج ومن في أعراضهم من الأمم، لأن انتظام الممالك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة، وهؤلاء مهملون لهذه الخصال، ولا حظ لهم في شيء من ذلك فيستحقون به إفراد ممالكهم بما ذكرنا به سائر الممالك، غير أن بعض السودان المقاربين لهذه الممالك المعروفة يرجعون إلى ديانة ورياضة وحكم، ويقاربون أهل هذه الممالك مثل النوبة والحبشة، فإنهم نصارى يرتسمون بمذاهب الروم، وقد كانوا قبل الإسلام يتصلون بمملكة الروم على المجاورة، لأن أرض النوبة متاخمة لأرض مصر والحبشة على بحر القلزم، وبينها وبين أرض مصر مفازة فيها معدن الذهب، ويتصلون بمصر والشام من طريق بحر القلزم، فهذه الممالك المعروفة، وقد زادت مملكة الإسلام بما اجتمع إليها من أطراف هذه الممالك...

وأما جنوبي الأرض من بلاد السودان فإن بلد السودان الذي في أقصى المغرب على البحر المحيط بلد مكنف، ليس بينه وبين شيء من الممالك اتصال، غير أن حدا له ينتهي إلى البحر المحيط، وحدا له إلى برية بينه وبين أرض مصر على ظهر الواحات، وحدا له ينتهي إلى أن البرية التي قلنا أنه لا يثبت فيها عمارة لشدة الحر؛ وبلغني أن طول  أرضهم نحو من سبعمائة فرسخ في نحوها، غير أنها من البحر إلى ظهر الواحات أطول من عرضها؛ وأما أرض النوبة فإن حدا لها ينتهي إلى أرض مصر، وحدا لها إلى هذه البرية التي بين أرض السودان ومصر، وحدا لها إلى أرض البجة، وبراري بينها وبين القلزم، وحدا إلى هذه البرية التي لا تسلك.
وسجلماسة مدينة وسطة من حد تاهرت، إلا أنها منقطعة لا يسلك إليها إلا في القفار والرمال، وهي قرية من معدن الذهب، بينها وبين أرض السودان وأرض زويلة، ويقال إنه لا يعرف معدن للذهب أوسع ذهباً ولا أصفى منه، إلا أن المسلك إليه صعب، والاستعداد شاق جداً، وهو من مملكة عبيد الله، ويقال إن كورة تاهرت بأسرها من إفريقية، إلا أنها مفردة بالاسم والعمل في الدواوين.

وسطيف مدينة كبيرة بين تاهرت وبين القيروان، وهو حصينة ولما كورة تشتمل على قرى كثيرة وعمارة متصلة، وسكانها كُتامة قبيلة من البربر، بهم ظهر عبيد الله، وكان أبو عبد الله المحتسب الداعي إلى عبيد الله مقيماً بينهم، حتى تمهد أمره بهم.

والقيروان هي أجل مدينة بأرض المغرب، خلا قرطبة بالأندلس، فإنها أعظم منها، وهي المدينة التي كان يقيم بها ولاة المغرب، وبها كان مقام الأغلب وبنيه إلى أن أزال ملكهم أبو عبد الله المحتسب. وخارج القيروان أبنية كانت معسكر آل الأغلب ومقامهم بها كان، وتسمى الرقادة، إلى أن استحدث عبيد الله المهدية على شط البحر، فأقام بها وانتقل عن رقادة.

وأما زويلة فإنها من حد المغرب، وهي مدينة وسطة لها كورة عريضة، وهي متاخمة لأرض السودان.

وبلدان السودان بلدان عريضة إلا أنها قفرة قشفة جداً، ولهم في جبال لهم عامة ما يكون في بلاد الإسلام من القواكه، إلا أنهم لا يطعمونه، ولهم أطعمة يتغذون بها من قواكه ونبات وغير ذلك مما لا يعرف في بلدان الإسلام. والخدم السود الذين يباعون في بلدن الإسلام منهم، وليس هم بنوبة ولا بزنج ولا بحبشة ولا من البجة، إلا أنهم جنس على حدة أشد سواداً من الجميع وأصفى.

ويقال إنه ليس في أقاليم السودان من الحبشة والنوبة والبجة وغيرهم إقليم هو أوسع منه، ويمتدون إلى قرب البحر المحيط مما يلي الجنوب، ومما يلي الشمال على مفازة ينتهي إلى مفاوز مصر من وراء الواحات. ثم على مفاوز بينها وبين أرض النوبة، ثم على مفاوز بينها وبين أرض الزنج، وليس لها اتصال بشء من الممالك والعمارات إلا من وجه المغرب، لصعوبة المسلك بينها وبين سائر الأمم، وهذه جوامع ما يحتاج إلى معرفته من شرقي البحر من المغرب...

36. وزويلة بلد في وجه أرض السودان، وهؤلاء الخدم السود أكثرهم يقع إلى زويلة، وأرض المغرب ما كان منها في شرقي بحر الروم بقرب الساحل فتعلوهم سمرة، وكلما تباعدواو فيما يلي الجنوب والمشرق ازدادوا سواداً، حتى ينتهوا إلى بلد السودان، فيكون الناس بها أشد الأمم سواداً. ومن كان في غربى بحر الروم بالأندلس فهم بيض زرق، وكلما ازدادوا وتباعدوا إلى ما يلي المغرب والشمال ازدادوا بياضاً، حتى يقطع عرض الروم كله إلى ظهر الصقالبة، فكلما ازدادوا وتباعدوا ازدادوا بياضاً وزرقة وحمرة شعر، إلا أن طائفة منهم يرجعون إلى سواد شعر وعيون وهم صنف من الروم من الجلالقة، ويقال إن أصلهم من الشام، كما أن طائفة بخر شنة من أرض الروم يرجعون إلى سواد شعر وعيون، يزعمون أنهم من العرب من غسان، وقعوا إليها مع جبلة بن الأيهم.

وبين المغرب وبلد السودان مفاوز منقطعة، لا تسلك إلا من مواضع معروفة، وكان ملوك إفريقية وبرقة أولاد الأغلب الذن كان قد أُنفذ في أول أيام بني العباس، ليكون في وجه إدريس بن إدريس، وملوك طنجة أولاد إدريس بن إدريس، وبينهم وبين إفريقية تاهرت الشراة، وهم الغالبون عليها. وملوك الأندلس بنو أمية، ما خطب لبني العباس بها إلى يومنا هذا، ويخطبون لأنفسهم وهم بم من أولاد هشام بن عبد الملك، وصاحبهم في وقت تصنيف هذا الكتاب هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأول من عبر منهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان في أول ولاية بني العباس فتغلب عليها، وبقيت الإمارة في أولاده إلى وقت تصنيفنا هذا.

والغالب على مذاهب أهل المغرب كلهم مذاهب الحديث، وأغلبها عليهم في الفُتيا مذهب مالك بن أنس. والذي يقع من المغرب الخدم السود من بلاد السودان، والخدم البيض من الأندلس، والجواري المثمنات، تأخذ الجارية والخادم من غير صناعة على وجوههما بألف دينار وأكثر. وتقع منها اللبّود المغربية والبغال للسرج والمرجان والعنبر والذهب والعسل والزيت والسَفن والحرير والسمور...

وأما الواحات فإنها بلاد كانت معمورة بالمياه والأشجار والقرى والناس، فلم يبقى فيها ديار، وبها إلى يومنا هذا ثمار كثيرة، وغنم قد توحشت فهي تتوالد، والواحات من صعيد مصر إليها في حد الجنوب نحو ثلاثة أيام في مفازة، وتتصل الواحات بالنوبة ببرية فتنتهي إلى أرض السودان.