كتاب الاستبصار

مدينة زويلة: مدينة كبيرة قديمة أزلية في الصحراء تقرب من بلاد كانم وهي من السودان، وقد أسلموا بعد ال500 من الهجرة [=1116] وهي مجتمع الرفاق وإليها يجلب الرقيق، ومنها يخرج إلى بلاد إفريقية وغيرها من البلاد. ولما فتح عمرو بن العاص برقة وجبل نفوسة بعث عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة وافتتحها. وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين. وبلد زويلة كثير النخل والثمار، وبقربها قصر واجان، وهو قصر عظيم على رأس جبل في طرف المغارة، وهو مثل المدينة. فسار إليه 15 يوماً فنزل عليه وحاصره نحو شهر، فلم يقدر. فمضى أمامه على قصور كوار ففتحها، وأخذ ملكها فقطع أصبعه. فقال: لم فعلت في هذا؟ قال عقبة: إذا نظرت إلى أصبعك لم تقاتل العرب. وفرض عليهم 360 رأساً. ثم سألهم: هل وراءكم أحد؟ فلم يعلموا ما وراءهم. فكر راجعاً على قصور واجان ولم يتعرض له ولا نزل عليه، وسار 3 أيام. فلما رأوا أنه لم يتعرض لهم أمنوا وانبسطوا، فأقام عقبة بموضع يسمى اليوم ماء الفرس، فنفذ ماؤهم وأصابهم العطش حتى كاد يهلكهم. قال فصلى عقبة بأصحابه ركعتين ودعوا الله تعالى، فجعل فرس عقبة يبحث بيده في الأرض حتى انكشف صفاة تنبعث ماء. فنادى عقبة في الناس أن سحتفروا، فاحتفروا فوجدوا ماء معيناً زلالاً يسمى ماء الفرس.

وكان يقال له عقبة المستجاب لأنه قل ما دعا في نيل شيء إلا استجيب له. ثم كر راجعاً إلى قصر واجان من غير طريقه الذي أقبل منه، فلم يشعروا حتى طرقهم ليلاً فوجدهم مطمئنين، فاستباح ما في مدينتهم من ذراري وأموال ونساء، وقتل مقاتليهم ثم انصرف راجعاً إلى زويلة، ومن زويلة كر إلى غدامس بعد خمسة أحهر، وسار متوجهاً إلى المغرب. وجانب طريق الجادة، وأخذ أرض مزاتة وهم قبيل كبير من البربر، فافتتح قصورهم إلى قفصة فافتتحها، وافتتح بلاد قسطيلية. ثم انصرف إلى القيروان. ثم مضى في بلاد المغرب حتى انتهى إلى أقصى بلاد السوس، ثم انصرف راجعاً. فتوفي شهيداً
بتهودة من بلاد الزاب. (146-147)

مدينة تهودة: بالقرب من بسكرة مدينة تهودة وهي مدينة كبيرة قديمة أزلية عليها سور عظيم مبنى بالحجر الجليل، ولها رياض كبيرة ولها أرباض كثيرة يدور بجميعها خندق، ولها نهر كبير ينصب إليها من جبل أوراس، فإذا كانت بينهم وبين أحد حرب، وخافوا النزول إليهم أجروا ماء ذلك النهر في الخندق المحيط ببلدهم فامتنعوا منه. وهي كثيرة البساتين والزرع والنخل وجميع الثمار. وفي هذه المدينة خبر مشهور عن رسول الله صلعم، يروى عن شهر بن حوشب أن النبي صلعم نهى عن سكني هذه البقعة الملعونة التي يقال لها تهودة. وقال له سوف يُقتل بها رجال من أمتي على الجهاد في سبيل الله، ثوابهم كثواب أهل بدر وأهل أحد، والله ما بدلوا حتى ماتوا. وكان شهر بن حوشب يقول: واشوقاه إليهم، وقال شهر سألت جماعة من التابعين عن هذه الصحابة التي ذكرها رسول الله صلعم، فقالوا ذلك عقبة بن نافع وأصحابه قتلهم البربر والنصارى بمدينة يقال لها تهودة. فمنها يحشرون يوم القيامة وسيوفهم على عواتقهم حتى يقفوا بين يدي الله تعالى. وروى أبو المهاجر قال: قدم عقبة بن نافع مصر وليها عمرو بن العاص في خلافة معاوية بن أبي سفيان فنزل منزلاً من بعض قرى مصر ومعه جماعة من أصحاب رسول الله صلعم، فيهم عبد الله بن عمرو بن العاص. فوضعت بين أيدهم سفرة فيها طعام. فلما تناولوا من الطعام، ضربت حدأة على ما بين أيديهم من الطعام فأخذت منه عرقاً، فقال عقبة اللهم دق عنقها. قال وأقبلت منقضة حتى ضربت بنفسها الأرض فأندقت عنقها. فاسترجع ابن عمرو فسمعه عقبة يترجع فقال: ما لك يا أبا عبد الله؟ فقال بلغني أن قوماً يغزون إلى هذه الناحية فيستشهدون بها جميعاً . فقال عقبة: اللهم أنا ومنهم. وكان مستجاب الدعوة. قال ثم إن عقبة بن نافع خرج في أيام يزيد بن معاوية على جيش كبير غازياً إلى بلاد المغرب، فمر على عبد الله بن عمرو بمصر فقال له: "يا عقبة لعلكم من الجيش الذي يدخل الجنة". قال أبو المهاجر فافتتح عقبة بلاد المغرب حتى وصل إلى أقصاها وعلى ضفة البحر المحيط، وقد ذكرناها. ويقال إنه أدخل فرسه في البحر حتى بلغ تلبيب سرجه، وقال: اللهم إنه أطلب السبب الذي طلب عبدك ذو القرنين. فقيل له: يا ولي الله وما السبب الذي طلب؟ قال ألا يعبد في الأرض إلا الله وحده. وانصرف إلى إفريقية. فلما دنا منها تفرق أصحابه عنه فوجاً فوجاً. فلما وصل إلى مدينة طبنة من نظر الزاب، أذن لسائر جيشه وبقي في عدة يسيرة من أصحابه. وقد كان في دخوله بلاد المغرب خطر على مدينة تهودة وعلى مدينة بادس، فرأى فيها قوة كثيرة من النصارى والبربر، وكانت في ذلك الوقت أعظم مدن المغرب. فلما رجع قال أمر على مدينة تهودة وبادس، أعرف ما فيهما من القوة والجيش، فلما انتهى إلى مدينة عهودة اعتمده كسيلة بن أقدم-وكان أميرلها-في جيوش من الروم، وقد كان سمع تفرق جيش عقبة عنه، وأقبلت عليه عساكر من البربر، فلما رآهم عقبة وأصحابه كسروا أجفان سيوفهم ورجعوا إليهم، فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً رحمهم الله. وقبر عقبة اليوم بمدينة تهودة على مقربة منها بمرحلة. (175-176)

مدينة فاس: ... وهذه المدينة قصبة بلاد المغرب، بل وبلاد المشرق والأندلس، لا سيما في هذا الأمر العزيز-أيد الله دوامه-ومنها يُتجهز إلى بلاد السودان وإلى بلاد المشرق، ومنها يحمل النحاس والأصفر إلى جميع الآفاق... (182)

مدينة سجلماسة: مدينة عظيمة من أعظم مدن المغرب، وهي على طرف الصحراء، لا يعرف في قبليها ولا غربيها عمران. بينها وبين غانة صحراء مسيرة شهرين في رمال وجبال غير عامرة قليلة الماء، يسكنها قوم من مسوفة رحالون لا يستقر بهم مكان، ليس لهم مدن ولا عمارة يأوون إليها إلا وادي درعة، وبينه وبين سجلماسة أيام. ومدينة سجلماسة محدثة بنيت سنة 140 [= 757-758]، أسسها مدرار بن عبد الله وكان رجلاً من أهل الحديث، يقال إنه لقي بإفريقية عكرمة مولى بن عباس وسمع منه. وكان صاحب ماشية. وكان كثيراً ما ينتجع سجلماسة. وكان الموضع سوقاً يجتمع فيه بربر تلك النواحي. فاجتمع إلى مدار قوم من الصفرية. فلما بلغوا 40 رجلاً قدموا على أنفسهم مدراراً وشرعوا في بناء سجلماسة، فبنوها. ثم سورها أبو المنصور بن أبي القاسم ابن مدرار، ولم يشركه في الإنفاق في بنائه أحد. أنفق فيه مدى ألف مد طعاماً.

وذكر آخرون أن رجلاً حداداً اسمه مدرارا-وكان من ربضية قرطبة-خرج من الأندلس عند وقعة الربض فنزل منزلاً بقرب سجلماسة، وموضع سجلماسة إذا ذاك سوق البربر بتلك النواحي، فأنشأ بها مدرارا خيمة وسكنها فبنى الناس حوله، فكان ذلك أصل عمارتها، وكان رجلاً أسود، وأولاده قد هجوا بذلك.

ولمدينة سجلماسة 12 باباً، ولها بساتين وهو كثيرة النخل والأعناب وجميع الفواكه، وزبيب عنبها المعرش الذي لا تناله الشمس لا يُزبب إلا في الظل، ويسمى الطلي، وما أصابته منه زُبب في الشمس. وهي على نهرين من عنصر واحد في موضع يسمى أكلف، وتمده عيون كثيرة، ولهم مزارع كثيرة يسقونها من النهر في حياض كحياض البساتين. وتزرع أرض سجلماسة عاماً ويحصد من تلك الزريعة 3 أعوام لأنه بلد مفرط الحر شديد القيظ. فإذا يبس الزرع تناثر عند الحصاد وأرضهم مشققة فيقع ما يتناثر من الحب في تلك الشقاق، فإذا كان العام الثاني أخرجوا النهر على عادتهم لأن ماء المطر قليل فيها وحرثوا بلا بذر. وكذلك العام الثالث. وقمحهم رقيق الحب يسع مد النبي صلعم. من قمحهم 75 ألف حبة، وهم يأكلون الزرع إذا خرج شطئه وهو عندهم مستظرف وذلك لغلبة الجدب عندهم. ومن العجيب بمدينة سجلماسة أنها ليس بها ذئاب ولا كلاب، لأنهم يسمنونها ويأكلونها كما يصنع أهل الجريد: قسطيلية وغيرها. ويسمون الكنافين عندهم المجرمين، والبناؤون عندهم يهود لا يتجاوزون بهم هذه الصناعة. وكذلك كانوا ببلاد بني الناصر.

قال الناظر كان هذا في الزمان المتقدم، وأما الآن فهم تجار أهل هذه البلاد كلها وأغنياؤها وخاصة بمدينة فاس فإني عاينت منهم من يقال إن عنده المال الممدود رجالاً كثيرين. وقد كان تنبه لهم الأمر العالي أيد الله دوامه سنة 582 [= 1186]، فلبس المرتشون وشوش المشوشون وخوف المفتشون. فأرجأ القدر السابق هذا إلى نهاية أمد عزهم وابتداء نكستهم إن شاء الله وذرهم وهي سنة 571 من الهجرة. والسبب في تسخير أهل سجلماسة لليهود في هاتين الحرفتين الرذيلتين كونهم محبين في سكنى بلدهم للاكتساب لما علموه أن التبر بها أمكن منه بغيرها من بلاد المغرب لكونها باباً لمعدنه، فهم يعاملون التجار به ليخدعونهم بالسرقة وأنواع الخدائع. ولما علم منهم أبو عبد الله الداعي ما هم عليه من ذلك عند استخراج عبيد الله من سجن اليسع بن مدرار بها، وكان الذي نص عليه ونم به لليسع يهودي وحكى عبيد الله لأني عبد الله ما جرى له معه، قتل منهم الأغنياء وأخذ أموالهم بالعذاب، وأمر من شاء أن يقيم منهم بالبلد في أن يتصرف في هاتين الخلتين، فمن دخل في الكنافين من أصناف الناس سموهم المجرمين لاجترامهم على حرفة موقوفة على اليهود. وقصروا البناء عليهم خاصة لأنهم خائفون أبداً من أن يخون أحدهم المسلم فيهلكه، فهم ينصحونهم في البناء ويلازمون الخدمة دون خروج لفرائض الصلاوات ولا لغير ذلك من ملازم العبادات، فتأتي خدمتهم موفرة سريعة. وهم الآن قد مازجوا المسلمين وداخلوهم وهو العز الذي كانوا يرتقبونه في سالف الأزمان، وبعده الزلة الدانية لهم القاصمة إن شاء الله لظهورهم، المستأصلة لشأفتهم عما قريب كما قدمنا. (200-202)

وكان إسلام قبائل الصحراء سنة 435 [= 1043] وخروجهم سنة 450 [= 1058] أو نحوها فقتل زعيمهم الذي أخرجهم ببلد برغواطة بموضع يسمى تيلمت، وبنى على قبره مسجد وولى بعده أبو بكر بن عمر اللمتوني المحمدي وبقي إلى سنة 457 [= 1060] قبل أن ينخلع ويولي يوسف بن تاشفين، ويطلق زوجته زينب بنت إبراهيم النفزاوي. ولم يكن في زمانها أجمل منها ولا أعقل ولا أظرف، فتزوجها بعده يوسف وبنى لها مراكش، وسار أبو بكر بن عمر إلى اصحراء فقاتل السودان فرشقه سهم فمات. (209)

وقاعدة بلاد السوس مدينة أيجلى، وهي مدينة عظيمة كبيرة قديمة أزلية في سهل من الأرض على النهر الكبير المذكور، وهي كثيرة البساتين والتمر وجميع الفواكه، ربما بيع حمل التمر بما دون كراء الداية من الجنان إلى السوق، وقصب السكر بها كثير وله بها معاصر كثيرة، وأكثر شرب أهلها إنما هو ماء قصب السكر. ويعمل بها النحاس المسبوك يتجهز به إلى بلاد السودان. ووصل عقبة بن نافع إلى هذه المدينة عند الدخوله إلى بلاد المغرب، وافتتحها فأخرج منها سبياً لم ير مثله حسناً. كانت تباع الجارية الواحدة منهن بألف دينار وأكثر لحسنها وتمام خلقها. ويعمل بهذه المدينة زيت الهرجان وشجره يشبه الكمثري إلا أنه لا يعلو كعلو شجرة الكمثري ولا يفوت اليد، وأغصانه نابتة من أصله، لا ساق لشجرته، ولها شوك، وثمرته تشبه الأجاس المعروف عندنا بالعبقر. فيجمع ويترك حتى يذبل، ثم يوضع في مقلاة فخار على النار، فيستخرج دهنه. وطعمه يشبه طعم القمح المقلو، وهو جيد محمود الغذاء يسخن الكلي ويدر البول. وبالسوس عسل يفوق عسل جميع الأمصار، يلقى النبيذيون على الكيل منه 15 كيلاً من الماء وحينئذ يأتي نبيذاً. وإن كان الماء أقل من ذلك بقي حلواً ولا ينحل إلا بالماء الشديد الحرارة، ولونه أخضر في لون الزمرد.

وبقرب من أيجلى على نحو 6 مراحل مدينة تامدلت، وهي مدينة كبيرة أسسها عبد الله بن إدريس العلوي وتوفي بأجلى وبها قبره. وتامدلت مدينة سهلية كثيرة العمار حافلة الأسواق، على نهر عنصره من جبل على نحو 10 أميال منها، وما بينهما عمائر وبساتين متصلة، وهذا النهر هو نهر درعة، وهذه المدينة تامدلت على رأس النهر، وبينها وبين مدينة درعة مسيرة 6 أيام في عمارة متصلة. ومن بلاد السوس مدينة نول لمطة، وهي مدينة كبيرة في أول الصحراء على نهر كبير يصب في البحر المحيط، ومن مدينة نول إلى وادي درعة نحو 3 مراحل. وإنما سميت نول لمطة لأن قبيلة لمطة يسكنونها وما وراءها وهي آخر بلاد السوس. ومن أراد الدخول من وادي درعة إلى بلاد السودان، غانة وغيرها، فليمشي من وادي درعة نحو 5 مراحل إلى وادي ترجا وهو في أول الصحراء، ثم يسير في جبال وعرة في طريق قد فتحت في حجر صلد بالنار والخل من عمل الأول. ويزعم قوم أن ملوك بني أمية فتحوها، وهذه الطريق من أحد أعاجيب العالم. ومنها إلى جبل يسمى بالبربرية جبل الحديد، ومن هذا الجبل يدخل إلى بلاد لمتونة وهم من صنهاجة. وأكثر لمتونة إنما هم رحالة لا يستقر بهم موضع ولا يعرفون الحرث ولا الزرع ولا الخبز، وإنما لهم الأغنام الكثيرة فيعيشون من لبنها ولحمها، فهم يجففون اللحم ويطحنونه ويصبون عليه الشحم المذاب والسمن ويأكلونه ويشربون عليه اللبن، قد غنوا به عن الماء، فيبقى الرجل منهم الشهر لا يشرب ولا يأكل خبزاً ولا يعرفونه وصحتهم من ذلك متمكنة، ربما مرت بهم القوافل. فيتحفون ملوكهم ورؤساءهم بالخبز والدقيق. وببلادهم يكون اللمط الذي يعمل من جلوده الدرق، وهذا الحيوان المسمى باللمط دابة دون البقر لها قرون رقاق حادة تكون لذكرانها وإناثها، وكلما كبر هذا الحيوان طال قرنه حتى يكون أزيد من 4 أشبار. وأجود الدرق وأغلاها ثمناً ما عمل من جلود الإناث المسنات التي قد طالت قرونها لكبر سنها حتى منعت الفحل أن يعلوها. وببلادهم أيضاً الفنَك الكثير، ومن عندهم تحمل جلودها إلى جميع البلاد. وعندهم الكباش الدمانية، وهي على خلقته أيضاً إلا أنها أعظم وشعرها كشعر المعز لا صوف عليها، وهي أحسن الغنم خلقاً وألواناً. والريحان في بلاد الصحراء وفي بلاد السوس عزيز لأن بلادهم لا تنبته، وهو عندهم من أطيب الطيب.

ومن عجائب هذه الصحراء أن بها معدن الملح تحفر عنه الأرض كما تحفرعن سائر المعادن، ويوجد هذا الملح تحت قامتين أو دونهما من وجه الأرض فيقطع كما تقطع الحجارة ويسمى هذا المعدن تاتنتال، وعليه حصن مبني بالحجارة التي تخرج من المعدن، وجميع ما فيه من بيوت وغرف ومساكن إنما هو مبني بحجارة الملح. وبهذا الملح يتجهز إلى بلاد السودان، غناة وغيرها، وله غلة عظيمة. وبإزاء معدن الملح الماء العذب الطيب، أخبرنا بذلك من عاينه. ومعدن الملح أيضاً في بلاد جدالة بموضع يسمى وليلي على شاطئ البحر المحيط، ومن هناك تحمله الرفاق إلى ما جاوز تلك الجهة. وبقرب وليلي في البحر جزيرة تسمى أيونا، وهي عند المد لا يوصل إليها إلا بالمراكب، وعند الجزر يوصل إليها بالقدم. ويوجد فيها العنبر الكثير. وأكثر معاش أهلمها من لحوم السلاحف فهي أكثر شيء في ذلك الموضع وهي مفرطة العظم، ربما دخل الرجل في محار ظهورها يتصيد في البحر كالقارب. وفي هذه الجزيرة أغنام كثير ومواشي، وهي منتهى المراكب وآخر مراسي المغرب. ومن مدينة نول إلى هذه الجزيرة على البر-لا تفارق السواحل-مسيرة شهرين في أرض محجرة أكثرها صفاء تنبو عنها المعاول. ويكل فيها الحديد، وإنما يشرب من يمر على ذلك الطريق من حفر يحفرونها عند جزر البحر فينبع ماء عذباً وهو من العجائب. وإذا مات للمارين بهذه الطريق ميت لا يمكنهم مواراته بالتراب لصلابة الأرض وامتناعها من الحفر، فيسترونه بالحطام والحشيش أو يقذفونه في البحر.

وبين صحراء لمتونة وبلاد السودان، مدينة أودغست. وهي مدينة عظيمة آهلة فيها أمم لا تحصى، ولها بساتين كثيرة ونخل كثير، ويزرعون فيا القمح بالحفر بالفؤوس ويسقونه بالدلاء، وكذلك يسقون بساتينهم. وإنما يأكل عندهم القمح الملوك وأهل اليسار منهم، وسائر أهلها يأكلون الذرة. والمقاتي تجود عندهم كثير، والبقر والغنم عندهم أكثر شيء وأرخصه. تشتري في أودغست 10 أكباش بدينار وأكثر من ذلك. وهم أرباب نعم جزيلة وأموال جليلة، ولهم أسواق حافلة عامرة الدهر كله، لا يكاد يسمع الإنسان فيها صوت جليسه لكثرة غوغاء الناس. وتجارتهم إنما هي بالتروليس، عندهم فضة. وبمدينة أودغست مبان حسنة ومنازل رفيعة وأهلها أخلاط من جميع الأمصار، وقد استوطنوها لكثرة خيرها، ونفاق أسواقها وتجارتها.

وحريم أودغست لا يوجد مثله في بلد، يجلب منها جوار حسان بيض الألوان مائسات القدود، لطاف، ضخام الأرداف واسعات الأكتاف ضيقات الفروج، المستمتع بإحداهن كأنما يستمتع ببكر أبداً، من غير أن ينكسر لإحداهن ثدي طول عمرها. أخبرني ثقة من التجار أنه رأى بمدينة أودغست امرأة راقدة على جنبها، وكذلك يفعلن في أكثر أحوالهن إشفاقاً من الجلوس على أردافهن، ورأى ابناً لها طفلاً يلعب حواليها وهو يدخل تحت خصرها ويخرج من الجهة الأخرى من غير أن تتجافي له، وذلك لعظم رجفها ورقة خصرها. ويجلب منها سودانيات طباخات محسنات، تباع الواحدة منهن ب100 دينار كبار وأزيد، يحسن عمل الأطعمة ولا سيما أصناف الحلاوات مثل الجوزينقات والوزينجات والقاهريات والكنافات والقطائف والمشهوات وأصناف الحلاوات، فلا يوجد أحذق بصنعتها منهم.

ومنها تجلب الدرق الخصيفة الجياد فإن اللمط بأرض أودغست كثير جداً. يجلب أيضاً منها العنبر الطيب لقربها من البحر المحيط، ويجلب منها الذهب الإبريز الخالص خيوطاً مفقولة. وذهب أودغست أجود ذهب الأرض وأصحه، وكان صاحب مدينة أودغست في سنة 350-360 [961-971] رجل من صنهاجة، وكانت له جيوش كثيرة فدان له أزيد من 20 ملكاً من ملوك السودان كلهم يؤدون له الجزية. وكان عمله مسيرة شهرين في مثلها في عمارة متصلة، وكان يعتد في أزيد من 1000,000 نجيب. فإن الخيل في تلك البلاد قيلة، فيقال إنه غزا ملكاً من ملوك السودان يقال له أوغام، فدخل بلده وأحرقها وقتل جنده والملك في قصره ينظر إليه. فلما رأى ما حل في بلده هان عليه الموت وخرج ورمى بدرقته إلى الأرض وقاتل حتى قتل. فلما عاين نساؤه ذلك تردين في الآبار وقتلت أنفسهن بضروب من القتل أصفاً على ملكهن وأنفة أن يملكهن البيضان. وبين مدينة أودغست وسجلماسة نحو 50 مرحلة، ومنها إلى غانة نحو 20.

ذكر بلاد السودان ومدنها المشهورة وعجائبها ونبذ من سير ملوكها

قال المؤلف رحمه الله: أقرب بلاد الإسلام إلى بلاد السودان بلاد جدالة. وأقرب مدينة من مدن السودان إليهم مدينة صنغانة. وهي مدينة عظيمة على النيل. وبين آخر بلاد جدالة وبين مدينة صنغانة مسيرة 6 أيام، وهما مدينتان على ضفة نيل مصر ولهاتين المدينتين نظر واسع وعمارات متصلة يقال إنه تتصل عمارتهما وقراهما بالبحر المحيط. وتلي مدينة صنغانة على النيل مدينة تكرور. وكانوا على ما كان عليه سائر السودان في المجوسية وعبادة الدكاكير، وهي بلغتهم الأصنام، حتى وليهم وزجاي بن ياسين فجبرهم على الإسلام بالسيف وحارب السودان حتى أسلموا وذلك سنة 435 [1043-1044].

مدينة سلى: هي مدينتان على ضفة النيل وأهلها مسلمون أسلموا على يد زوجاي رحمه الله، وملكها واسع المملكة كثير العدد يقاوم صاحب غانة. وبينها وبين غانة مسيرة 20 يوماً في عمارة متصلة للسودان، القبيلة بعد القبيلة. وصاحب سلى يحارب من جاوره من كبار السودان، وتبايع أهل سلى إنما هو بالذرة والملح وحلق النحاس وأزر لطاف من قطن يسمونها الشكيات وهي أنفق ما عندهم، وليس عندهم غنم ولا معز وأكثر نبات أرضهم الأبنوس ومنه يحتطبون. وبقرب مدينة سلى مدينة قلنبوا وهي مدينة كبيرة على ضفة النيل، فإن النيل يشق جميع تلك البلاد، ويسقي أكثرها. ومن عجائب تلك البلاد أن فيها حيوان يشبه الفيل في عظيم خلقته وخرطومته وأنيابه، يسمونه جفو، ويرعى في البر ويأوي إلى النيل، ويصطادونه فيأكلون لحمه ويصنعون من جلده الأسواط التي تسمى بالسرياقات، ويقال لها بالأندلس ذنب الفأر. ومن هناك تحتمل الأسواط إلى جميع الآفاق، ولهم في صيده حيلة، فإنهم يميزون في النيل المواضع التي يأوي إليها هذا الحيوان حيث يتحرك الماء على ظهره لقلة استقراره، وعندهم مزارق حديد قصار في أسافلها حلق قد شدت فيها حبال مديدة، فيزرقونه بالعدد الكثير منها، فيهرب منهم ويغوص في أسفل النيل فيرخون له تلك الحبال فيضطرب حتى يموت. فإذا مات طفا على الماء فيجرونه إلى البر، ويأخذونه.

وتلي مدينة قلنبوا مدينة ترنكة: وهي مدينة كبيرة على نظر واسع وبها تصنع الأزر المسمات الشكيات التي تنفق في مدينة قلنبوا وغيرها، وهي من القطن وليس بهذه المدينة قطن كثير وإنما هو مجلوب إليها، وهم يتبركون بشجره. فقل ما عندهم منزل ولا دار إلا وفيه شحرة قطن. وحكم أهل هذه البلاد في السارق أن يخير صاحب السرقة في بيع السارق أو قتله، وحكمهم في الزاني أن يسلخ من جلده.

ومن مدينة ترنكة تتصل ببلاد السودان إلى بلاد زافون، وهم من البرابر لهم مدينة زافون، سميت بهم. وهم يعبدون ثعباناً عظيماً له عرف وذنب ورأسه كرأس البختي، وهو في مغارة في أصل جبل، وعلى فم المغارة عريش وحوله مواضع يتعبدون فيها لذلك الثعبان، ويعلقون نفيس الثياب والمتاع على تلك المغارة، ويضعون لذلك الثعبان جفان الطعام وعساس اللبن والشراب، فهم إذا رأوا خروجه إلى ذلك العريش تكلموا كلاماً معلوماً عندهم، وصفروا تصفيراً كذلك فيبرز إليهم. فإذا هلك وال من ولاتهم جمعوا أولاده، إن كان له ولد ومن يصلح للملك بعده، وقربوه من ذلك الثعبان وتكلموا بكلام يعلمونه، فيدنوا ذلك الثعبان منهم فلا يزال يشمهم رجلاً رجلاً حتى ينطح أحدهم بأنفه. ثم يولي ذلك الثعبان راجعاً إلى مغارته، فيتبعه ذلك الرجل والثعبان مسرعاً إلى المغارة والرجل يجهد خلفه بالجرى بأشد ما يقدر عليه، فيجذب من ذنبه أو عرفه شعرات فتعد ويعلمون أنه يملك قومه تلك الشعرات سنين، لا يخطئهم ذلك بزعمهم. وأقول إن هذه الفتنة فيهم إنما هي لأن الثعبان يُعمّر حتى يزيد على 1،000 سنة، فنشأ على ذلك آباؤهم فلا يعرفون أوله، والواضع لهذه الفتنة إنما أراد أن يملكهم بذلك، وعقولهم في نهاية الركاكة، فيصبح له منهم ما أراد-عصمنا الله من الفتن.

وتلي هذه البلاد بلاد الفرويين، ومن غرائب بلدهم أن عندهم بركة عظيمة يجتمع فيها الماء، ينبت فيها نبات أصله أبلغ شيء في تقوية الجماع والمعونة عليه، وملك ذلك البلد يشح على إخراجه من بلده لئلا يصل منه إلى غيره شيء، وله من النساء عدد كثير، فإذا أراد أن يطوف عليهن أنذرهن من قبل ذلك بيوم، ثم استعمل ذلك الدواء، فلا يكاد ينكسر عن الطواف عليهن كلهن. وقد أهدى له بعض الملوك المجاورين لبلده هذه هدية نفيسة، واستهداه شيئاً من ذلك العود، فعاوضه على هديته. وكتب إليه أن المسلمين لا يحل لهم من النساء إلا القليل، وقد خفت عليك أن أبعث بهذا الدواء فلا تقدر على إمساك نفسك فتأتي ما لا يحل لك في شريعتك، ولكني بعثت لك عوداً يأكله العقيم فيولد له. وببلاد الفروين يبدل الملح بالذهب لعدمه عندهم، وفي هذه البلاد معادن الذهب، ترا به أحمر يستخرج كما يستخرج الحديد والرصاص والنحاس والفضة ببلادنا.

ذكر بلاد غانة وما جاورها من البلاد

قيل إن غانة سمة لملوكها، وإنما اسم البلد أوطار، ووقع إلى كتاب ملكها إلى يوسف بن تشفين، نصه: "إلى أمير أغمات، قال غانة". وهذا دليل على ما قيل. ومدينة غانة مدينتان، إحداهما يسكنها الملك والأخرى يسكنها الرعية والتجار والسوقة، بينهما الدور والمساكن نحو 6 أميال متصلة. وفي مدينة الرعية جامع كبير ومساجد كثيرة، وفيها الأئمة المؤذنون والفقهاء والعلماء، وحواليها آبار عذبة منها يشربون، وعليها الخضر والمقاتي. ومدينة الملك تسمى الغابة، وللملك بها قصر عظيم وقباب، قد أحاط بذلك كله حائط مثل السور، وعلى مقربة مجلس حكم الملك، وحول قصره قباب وغابات وشعراء يسكنها السحرة وأهل ديانته، وفيها دكاكيرهم وقبور ملكهم، ولها حرس فلا يمكن أحد من الغرباء دخولها ولا معرفة ما فيها، وهناك سجون الملك فإذا سجن أحداً انقطع خبره. وفي مدينة الملك مسجد يصلي فيه من يفد عليه من تجار المسلمين. والملك يجلس للناس للحكم في قبة عظيمة وأمام القبة عشرة أفراس من عتاق الخيل، وعليها الحلل المذهبة من الحرير والديباج على عدمها ببلادهم. والملك يتحلى بحلي النساء في عنقه وذراعيه، ويحمل على رأسه طرطوراً مذهباً ويعمم عليه عمامة قطنية، وعن يمينه وعن يساره أبناء الملوك والوزراء وخاصته من أعيان بلده، قد ضفروا رؤوسهم بالذهب والجوهر وعليهم الثياب الرفيعة. ولا يلبس ثوباً مخيطاً من أهل دينه إلا هو وولي عهده، ومن سواهما يلبسون ملاحف الحرير والديباج، وسائر أهل بلده يلبسون ملاحف القطن. والملك وسائر أهل بلده الذين على ديانته يحلقون لحاهم ونساؤهم يحلقن رؤوسهن. ولا يولي الملك عهده إلا لابن اخته وهو يشك في ابنه ولا يقطع بصحة اتصاله به، وإذا جلس الملك في قبته لمظالم الناس ينذرون لجلوسه بطبل عظيم يسمونه دبا، وهو خشبة طويلة منقورة قد جلدوها لها صوت هائل يجتمع الناس إليه، فإذا دنا منه أهل دينه جثوا على ركبهم وحثوا التراب على رؤوسهم. وأما المسلمون فتحيتهم عليه تصفيق باليدين، وجلوس الوزراء أمامه إنما هو على الأرض تواضعاً للملك. وإذا مات الملك عملوا له قبة ووضعوا له الأطعمة والأشربة وكل من كان يخدم طعامه وشرابه، وأغلقوا عليهم باب القبة وجعلوا فوقها الحصي والأمتعة، واجتمع الناس فردموا فوق القبة بالتراب حتى يأتي الموضع مثل الجبل الضخم، ثم يحتفرون حوله حفيراً عظيماً وعراً حتى لا يتوصل إلى ذلك الكوم ولا إلى شيء منه إلا من موضع واحد. ولملك غانة مملكة واسعة نحو الشهرين في مثلها. وفي بلده يوجد الذهب الكثير، وهو يعم جميع بلاد الدنيا. وأفضل الذهب بمملكته ما كان ببلد غياروا.

مدينة غياروا: بينها وبين غانة نحو 20 يوماً متصلة بقبائل من السودان لا يحصى لهم عدد. وإذا وجد في جميع معادن بلاد هذا الملك الندرة من الذهب اصطفاها الملك لنفسه ولم يتركها تخرج من بلده لغيره. والندرة تكون من أوقية إلى رطل. وإنما يتركون أن يخرج من بلادهم من الذهب ما كان رقيقاً. ولو تركوا كل ما يوجد في المعادن يخرج من بلادهم لكثر الذهب بأيدي الناس ولهان. ويذكر أن عند ملك غانة ندرة ذهب كالحجر الضخم، وقد ذكر أن عند بعض ملوك السودان من هذه الندرات حجر عظيم يجعل أمامه، فإذا ورد عليه رسل من غيره من الملوك أمر بفرسه فربطه إليه ليباهي بذلك. وبين مدينة غياروا والنيل 12 ميلاً وفيها كثير من المسلمين.

وفي القرب منها على النيل مدينة يرسنى: وهي مدينة كثيرة الخيرات ولها معدن للذهب عظيم معروف في بلاد السودان. ومن أعجب شيء في هذه المدينة أن فيها معزاً قصارى وعندهم شجر معلوم فتحتك هذه المعز إلى تلك الأشجار فتلقح من غير ذكر، ويذبحون ذكران المعز ويستحيون الإناث لاستغنائهم عن الفحل، وهذا معلوم عندهم غير منظور. حدث بذلك من دخل بلادهم من التجار والثقات، وهذا مثل جزيرة النساء التي ذكر المسعودي.

ومن أعمال مدينة غانة ونظرها مدينة سامة، ويعرف أهلها بالبكم، بينها وبين غانة مدة أربعة أيام. وهم يمشون عراة إلا أن المرأة تستر فرجها بسيور مضفورة، ونساؤهم يوفرن شعر العانة ويحلقن شعر الرأس. حدث رجل ثقة ممن دخل تلك المدينة أنه رأى منهن امرأة وقفت على رجل من العرب له لحية عظيمة طويلة، فتكلمت كلاماً لم يفهمه العربي. فسأل الترجمان عن مقالتها، فأخبره أنها تمنت أن يكون شعر لحيته في عانتها. فغضب الأعرابي وأوسعها سباً. ويورث الرجل أكبر بنيه ماله كله ويحرم الغير ولو كان أحب إليه. ولهم حذق بالرماية ويرمون بالسهام المسمومة.

وبغربي غانة مدينة أنبارة: وهي مدينة كبيرة ولأهها بأس شديد في الحروب، وهم معاندون لملك غانة وإليها تسعة أيام.

مدينة كوغة: وأهلها مسلمون وحواليها المشركون. وأكثر ما يتجهز إليها بالملح والودع والنحاس المسبوك والتاكوت، وهو أنفق شيء عندهم للدبغ به. وحواليها معادن التبر، وهي أكثر بلاد السودان ذهباً.

وبالقرب منها مدينة الوكن: وهي مدينة عظيمة يقال إن ملكها المعاصر لنا مسلم يخفي إسلامه.

وببلاد غانة قوم يسمون بالهنيهين، من ذرية الجيش الذي كان بنوا أمية أنفذوه إلى غانة في صدر الإسلام إلى بلاد السودان، وهم بيض الألوان حسان الوجوه، لا يتناكحون في السودان كثيراً. وإذا سرت من غانة إلى جهة الشرق فإنك تسير في بلاد السودان كثيراً وفي قبائل من البربر رحالة وهم مسلمون.

وتسير مراحل كثيرة على النيل إلى مدينة تيرقي: وهي مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يجتمع فيها أمم كثيرة من بلاد متفرقة من بلاد غانة وتادمكة وغيرها. وتعظم السلاحف بأرض تيرقي حتى تخرج عن القياس، وهي تحفر في الأرض أسراباً يمشي فيها إنسان، وهم يأكلونها فلا يستطيعون إخراج واحد منها من تلك الأسراب إلا بعد شد الحبال فيها واجتماع العدد الكثير. حدث رجل ثقة من المسافرين في ذلك الطريق أن قوماً انزلقوا في بعض طريق تيرفي فغرسوا متاعهم. وبذلك الطريق الأرضة كثيرة وهي تفسد ما وجدت من متاع أو غيره. ولها بذلك الطريق أجحاراً، وتخرج من التراب أكواماً فوق أجحارها. ومن العجب أن ذلك التراب يرى ندى، والماء هناك غير موجود على أبعد حفره، فلا يضع التجار أمتعتهم إلا على الحجارة المجموعة أو الخشب. فلما نزل أولئك التجار بذلك الموضع ارتاد كل واحد منهم لمتاعه حَزناً من الأرض أو حجراً، فبدر أحدهم بالليل إلى صخرة كبيرة فيها ظن فأنزل عليها متاعه وكان وقر بعيرين، ثم نام بقرب رحله فلما انتبه من نومه سحراً لم يجد الصخرة ولا ما كان عليها. فارتاع فنادى بالويل والحرب، فاجتمع إليه أهل القافلة يسألونه عن خطبه، فأخبرهم. فقالوا لو طرقك لص لذهب بالمتاع وبقيت الصخرة، فنظروا أثر سلحفاة ذاهبة بالموضع فاقتفوا أثرها ومشوا أميالاً حتى أدركوا السلحفاة وحمل المتاع على ظهرها وهي تنهض به في غير تكلف. فأعجب من عظم هذه السلحفاة التي تحمل وقر جملين. ومدينة تيرفي على النيل، ومن هناك يرجع نحو الجنوب.

ويلي مدينة ترقي إلى ناحية المغرب مدينة تادمكة: وهي مدينة كبيرة بين جبال وشعاب وهي أشبه البلاد-بمكة كرمها لله. ومعنى تاد عندهم هيئة: على هيئة مكة. وأهلها بربر مسلمون، وهم يتنقلون كما يتنقل بربر الصحراء. وعيشهم من اللبن واللحم، وليس عندهم قمح ولا شعير، وعندهم حب تنبته الأرض من غير حرث يشبه الذرة. ولباسهم الثياب القطن المصبغة، وملكهم يلبس الثياب الملونة، فتكون عمامته حمراء وقميصه أصفر وسراويله زرق وما أشبه ذلك. ودنانيرهم تسمى الصلع لأنها من ذهب محض غير مختومة. ونساؤهم فائقات الجمال لا يعدل بهن نساء بلد حسناً. والزنا عندهم مباح وهن يتلقين التجار إذا أقبلوا إلى بلدهم ويتقارعن على الرجل الجميل منهم أيهن تحمله إلى منزلها. وبين مدينة تادمكة وغانة نحو ال50 مرحلة. وبينهما مدن وعمائر للسودان والبربر.

فإذا سرت من غانة تريدها فأول ما تلقي مدينة سجنجوا: وهي على 3 مراحل من غانة، وهي على النيل وهي آخر عمل غانة إلى الجنوب.

ثم يصب النيل في مدينة بوغرات: يسكنها قبيلة من صنهاجة يعرفون بمراسة. أخبر الفقيه عبد الملك أنه رأى في بوغرات طائراً يشبه الخطاف يفهم من صوته "قتل الحسين"، يكون ذلك مراراً، ويقول "بكربلاء" مرة واحدة. قال الفقيه سمعته وأنا ومن حضر من المسلمين معي. ثم من بوغرات إلى تيرفى المتقدم الذكر ثم إلى تادمكة. وإن أردت الطريق من تادمكة إلى القيروان فإنك تتوجه إلى ناحية الشمال، وتسير في صحراء نحو 50 يوماً إلى بلد وارجلان في طرف الصحراء مما يلي إفريقية: وهو بلد خصيب كثير النخل والبساتين، وفيه سبع مدن مسورة حصينة تقرب بعضها من بعض، أكبرها تسمى أغرم إن يكامن، معناه بلاد الشهود، وفيه حصن العهود. وهي بلاد كثيرة الزرع والضرع والبساتين، كثيرة المياه، ولها أعجوبة ليست في موضع من الأرض: يحفر الرجل بئراً يقوّم حفره 100 دينار وأزيد فإن أرضهم صلبة، والماء بعيد يدرك على أزيد من 60 قامة، فيجد على الماء طبقاً من حجر صلد، فيستبشر عند وجوده، ويطعم أولياءه فرحاً. ويدخل إليه من يعرف كيف ينقره مربوطاً في حبال وثيقة وينقره فيفور الماء. فإن أبطأ الرجال في رفعه حتى لا يدركه الماء هلك لحينه، ويبقى الماء يفور على مر الدهور، وهكذا هي جميع آبارهم. وهم يسقون جناتهم وزرعوهم ونخلهم. وتضرب ببلد وارجلان دنانير على نوع المرابطينة، لكنها نازلة فيها تحميل كثير، والدنانير الورجلانية مشهورة.

ومن ورجلان إلى بلد الجريد نحو 14 يوماً.

ومن بلاد الجريد إلى القيروان 7 أيام. وأهل القيروان بربر، وفيهم جمال كثير، ولاسيما نساؤهم، موصوفات بالحسن.

ومن بلاد وارجلان إلى غدامس نحو 20 يوماً في صحراء قليلة الماء. وفي هذه الصحراء معدن حجارة تشبه العقيق، وربما كان في الحجر الواحد منها ألواناً من الحمرة والصفرة والبياض، وهذا الحجر أنفس شيء ببلاد السودان، غانة وغيرها، وهو عندهم مثل الياقوت وأجمل. وربما وجد من هذا الحجر في النادر حجر كبير. وإذا وصل به إلى أهل غانة تغالوا في ثمنه، وبذلوا فيه الرغائب. وهذا الحجر مثل الياقوت لا يعمل فيه الحديد شيئاً، وإنما يصنع ويثقب بحجر آخر يسمى تنتواس كما يصنع بالياقوت، ويثقب بحجر السنبادج. ومعدن هذا الحجر لا يظهر حتى يذبح الإبل وينضح الموضع بدمها، فحينئذ تظهر هذه الحجارة وتلقط. وفي هذه الصحراء أيضاً معدن الشب الأبياض الطيب الذي لا يوجد مثله ببلد، ومن هناك يحمل إلى جميع البلاد.

ومن تادمكة 9 أيام إلى مدينة كوكوا: وهي مدينة عظيمة فيها خلق كثير من السودان لا يحصى لهم عدد، وهي على النيل، ويقال إنما سموا كوكوا، لأن الذي يفهم من نغمة طبولهم كوكوا. وكذلك يذكر عن ببلد زويلة أن الذي يفهم من نغمة طبولهم زويلة.

ومن سار من مدينة كوكوا على شاطئ البحر غرباً انتهى إلى مملكة يقال لها الدمدم، يأكلون من وقع إليهم نن البيضان، ولهم مملكة كبيرة وبلاد واسعة. وفي بلادهم قلعة عظيمة عليها صنم في صورة امرأة وهم يعبدونه ويحجبونه. ومن غرائب بلاد السودان أنه ينبت عندهم في الرمال شجرة طويلة الساق دقيقة، يسمونها توريري، لها ثمر كبير منتفخ، داخله صوف أبيض يغزل، ويصنع منه الثياب والأكسية، فلا تؤثر النار فيها. أخبر بذلك من أخبره الفقيه عبد الملك، أن أهل اللامس من بلاد السودان ليس لهم لباس غير هذه الثياب، وأخبر أنه لو وقدت النار على هذه الثياب الدهر كله لم تؤثر فيها شيئاً، غير أن النار تغسل من أوساخها. ومن هذا النوع الحجارة بوادي درعة، وقد تقدم ذكرها. (220-225)