المغيلي
إلى أسكيا

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين،
والصلاة والسلام الأتمّان على النور المبين، محمد رسول رب العالمين،
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.

من عبد الله تعالى محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي
إلى الأمير الحاج أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الملقب بأسكيا،
وفقه الله ونصره نصراً عزيزاً وفتح له فتحاً مبيناً،
بجاه سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه، فإنك سألتني عن مسائل:

أولها أنك قلت: منذ منّ الله علينا بالإسلام أصابتنا مصيبة في هذه البلاد لعدم الأمانة فيمن يُنسب إليه العلم من قرّاء بلادنا. ومن صفتهم أنهم عجم لا يفقهون من كلام العربية إلا قليلاً من كلام عرب بلادهم على تصحيف وتحريف وعُجمة عظيمة بحيث لا يعرفون مقاصد العلماء ولا موضع التصحيف والتحريف، ومع ذلك لهم كتب يدرسونها وحكايات وأخبار، ومنهم قضاة ومفسرون يتكلمون في دين الله ويزعمون أنهم من العلماء الذين هم (من) ورثة الأنبياء وأنه يجب علينا الاقتداء بهم. وأنا أطلب من الله تعالى أن يعينني على حمل هذا الثقل الذي أبت السموات والأرض عن حمله. ثم أطلب منك أن تفتي لي بما علمك الله في هؤلاء القراء: هل يجوز لي أن نعمل على قولهم في دين الله ويخلصني تقليدهم عند الله أو لا يحل لي ذلك ويجب علي البحث عمن نولّيه الحكم ونقلده في أمور الدين، وبيّن لنا صفة من يصلح لذلك شرعاً. ثم أطلب منك أيضاً أن تشفي غليلي بترتيب الأجوبة على هذه الأسئلة الأخرى وبزيادة ما تيسر لكم من النصيحة أيضاً.

فاعلم أعاننا الله وإياك، أن الملك كله لله وما النصر إلا من عند الله، فكن لله عبداً بطاعته يكن الله لك رباً بحفظه وإعانته. إنما أنت عبد مملوك لا تملك شياً وفد رفعك مولاك على كثير من عباده لتصلح لهم دينهم ودينياهم، لا لتكون سيدهم ومولاهم.

فأنت في جميع مملكتك راع لا مالك وكل راع مسئول عن رعيته. فانظر لنفسك قبل الفوت فإنه لا بد من الموت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أمير عشرة إلا يُؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من وُلي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه، ومن ولي من أمرأمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي. فقام عوف بن مالك فنادى بأعلى صوته ثلاثاً: وما هي يا رسول الله؟ قال: أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا مَن عدل. فكيف يعدل مع قريبه؟ وقال رسول الله صلا الله عليه وسلم: ما من وال إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالاً. فمن وُقي شرهما فقد وُقي. وهو من التي تغلب عليه منهما.

فإذاعلمت ذلك أيها أمير فعليك بأمرين:

الأول: أن تبعد عنك أهل الشر وأن تقرب منك أهل الخير، لأن من الغالب على الإنسان التأنس بقرينه والميل إلى طبعه وتزيينه. فمن قربت من نفسك فقد مكنته من أذنك ومن مكنته من أذنك فقد مكنته من قلبك لأن الأذن زمام القلب. ولذلك قال مالك بن أنس، رحمه الله: لا تكن زائغ القلب من أذنك. وقال بعض الحماء

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي

وفي ذلك قلت:

إذا قرب السلطان أخيار قومه * وأعرض عن أشرارهم فهو صالح
وإن قرب السلطان أشرار قومه * وأعرض عن أخيارهم فهو طالح
وكل امرئ ينبيك عنه قرينه * وذلك أمر في البرية واضح

وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله بقوله: إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه. وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه.

الثاني: أن تسأل أهل الذكر عن كل ما لا نعلم حكمه من تصرفاتك كلها لتحكم بما أنزل الله في كل ما حملك منها. قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. ثم قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. والذكر هو القرأن فأهله من اجتمع فيه وصفان: العلم والتقوى، لأن بالعلم يعرف الرشد من الغي والتقوى يأمر بالرشد وينهى عن الغي. فلا تقلد في دينك إلا من ثبت أنه عالم تقي، لأن من لم يثبت أنه عالم يخاف منه أن يضل ويُضل بعماه، ومن لم يثبت أنه تقي يخاف منه أن يضل ويُضل بهواه.

ألم تر إلى قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ فثبت بذلك أن كثيراً من علماء هذه الأمة وعبادها يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. وبسبب هؤلاء العلماء والعباد شاع الفساد في جميع البلاد، فالجهاد فيهم وفي أنصارهم أفضل من كل جهاد.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل. وقال صلى الله عليه وسلم: أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال. فقالوا: ممن يا رسولالله؟ قال: من العلماء السوء. وروي عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفة ثم قال: إن الدين قد استضاء إضاءة هذه ثم أخذ كفاً من التراب فجعل يذره على الحصاة حتى وأراها ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئن أقوام يدفنون الدين هكذا كما دفنت هذه الحصاة. ولتسلكن سبيل الذين كانوا من قبلكم حذو القدة بالقدة والنعل بالنعل.

ومن أعظم الواجبات على أمراء المسلمين حفظ الدين بأن لا يتركوا أحداً يتكلم في دين الله بتعليم ولا حكم ولا فتوى حتى يكون من أهل العلم والتقوى ولذلك لما قدم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، البصرة دخل جامعها فوجد القصاص يقصون فأقامهم حتى جاء إلى الحسن البصري، رضي الله عنه، فقال: يا فتى إني سائلك عن أمر، فإن أجبتني عنه أبقيتك وإلا أقمتك كما أقمت أصحابك، وكان قد رأى عليه سمتاً وهدياً. فقال الحسن: سل عما شئت. فقال: ما ملاك الدين؟ قال الورع. قال فما فساد الدين؟ قال: الطمع. قال: اجلس، مثلك يتكلم على الناس.

أليس من أعظم الواجبات على كل أمير أن يطرد عن طرق الدنيا جميع المفسدين، فكيف لا يجب عليه أن يطردهم عن طرق الدين؟ وقد تبين بالكتاب والسنة وإجماع العلماء أن كثيراً من قراء هذه الأمة إنما هم من العلماء السوء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، فهم لصوص الدين وأضر على المسلمين من جميع المفسيدين. ولذلك قال ابن مبارك، رضي الله عنه:

وهل أفسد الدين غير الملوك وأحبار سوء ورهبانها.

وقال بعض الأدباء:

قضاة زماننا أضحوا لصوصاً * عموماً في البرية لا خصوصا
فلو عند التحية صافحونا * لسلّوا من خواتمنا الفصوصا

فإن قلت: قد بينت وأوضحت أن كثيراً من علماء هذه الأمة ليسوا من أهل الذكر. إنما هم من العلماء السوء الضالين المضلين الذي يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، ولكن كلاً منهم يقرأ القرأن والحديث ويسرد كثيراً من نصوص الكتب ويزعم أنه من أهل الذكر وينكر أنه من العلماء السوء، فبأي شيء نفرق بين أهل الذكر والعلماء السوء وكنف يفعل من ولي شيئاً من هذا الأمر ولم يجد في بلده أحداً من أهل الذكر؟

فالجواب والله الموفق للصواب، أنه لا يلتبس حال أهل الذكر بحال العلماء السوء أصلاً ، لا قولاً ولا فعلاً. بل لا بد أن يجعل الله لكل هاد من أهل الذكر أنواراً على أنوار في كل عصر من الأعصار، هداية لسهم الجنة وحجة على سهم النار. وبيان ذلك أن من حكمة الله تعالى، أن لا يعدب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون. وتلك سنة الله في الأولين والآخرين لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. ومن حكمته — جل وعلا — أن جعل ذلك البيان على لسان البشر، من الأنبياء في الأولين وأهل الذكرفي الآخرين. وجعل لكل هاد منهم عدواً من المجرمين وهم شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. فلا بد إذاً من نور واضح يعلم به صدق الهادين وكذب الشياطين.

فجعل الله ذلك للأنبياء بخوارق العادات ولأهل الذكر بالأعمال الصالحة، فما من نبي أرسله الله بعباده إلا جعل له نوراً واضحاً بيّن للناس كلهم أنه على الحق المبين وأن كل من خالفه وشاققه إنما هو من الضالين المضلين. وكذلك أهل الذكر من هذه الأمة إلى يوم القيامة، لأن الله جعلهم للهداية وإقامة الحجة في هذه الأمة كالأنبساء في الأمم الماضية.

ولذكك روي أن في رأس كل قرن يرسل الله للناس عالماً يجدد لهم دينهم. فلا بد لهذا العالم في كل قرن أن تكون أحواله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح أمور الناس والعدل بينهم ونصر الحق على الباطل والمظلوم على الظالم بخلاف أحوال علماء عصره، فيكون بذلك غريباً بينهم لانفراده بصفاء أحواله وقلة أمثاله، وحينئذ يتبين ويتعين أنه من المصلحين وأن من خالفه وشاققه ليصرف الناس عنه إنما هو من المفسدين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: بُدئ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء. قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الزمان. وذلك من أبين علامات أهل الذكر الذين يجدد الله بهم للناس دينهم.

ومن أبين علامات العلماء السوء أنهم لا يصلحون ولا يتركون من يصلح، ومثلهم كمثل الصخرة بباب النهر لا تشرب ولا تترك من يشرب. فكل واحد منهم أضر على الناس من ألف شيطان وليس الخبر كالعيان.

وإن لم تفهم ما قررناه أو أشكل عليك شيء مما ذكرناه فاعلم أن القراء كلهم ثلاثة أنواع: الأول من تبين لك بلا شك أنه عالم تقي. الثاني من تبين لك أنه ليس بعالم أو أنه ليس بتقي. والثالث من شككت فيه فلم تعلم هل هو عالم تقي أم لا. فمن تبين لك أنه عالم تقي فهو من أهل الذكر فاسأله عن دينك وقلده ينجيك ويكفيك، كمن زعم أنه خبير وبين لك بلا شك أنه عارف أمين. ومن تبين لك أنه ليس بعالم أو أنه ليس بتقي فليس هو من أهل الذكر فلا تقلده في شيء من دينك ولا تسأله عنه، كمن زعم أنه خبير وتبين لك أنه ليس بعارف أو أنه ليس بأمين. ومن لم يتبين لك حاله فلم تعلم هل هو عالم تقي أم لا، ففق عنه أيضاً ولا تقلده في شيء من دينك ولا تسأله عنه ولو كان فصيحاً عربياً بحفظ جميع ما في الكتب حتى يتبين لك بلا شك أنه عالم تقي، كمن زعم أنه خبير عارف أمين ولم يتبين لك هل هو صادق أو كاذب.

وإذا علمت ذلك لم يلتبس عليك أمر القراء في هذا الزمان ووجب عليك أن تطلب عالماً من أهل الذكر حيث كان لأن أهل الذكر في هذه الأمة كالأنبياء في الأمم الماضية، يجب الإعتماد عليهم والسعي إليهم وإن بعدوا. ثم اعلم أن تأخيرك النظر في الأمور حتى تستفتي مَن بعد عنك من أهل الذكر تضييع لكثير من الأمر الذي تعين عليك إصلاحه عاجلاً، فبادر للنظر في جميع الأمور التي تعين عليك إصلاحها عاجلاً بهذه القاعدة وهي أن تعلم أن الأمور كلها ثلاثة أنواع:

الأول أمر تعلم بلا شك أنه مما أمر الله به.
الثاني: أمر تعلم بلا شك أنه مما نهى الله عنه.
الثالث: أمر شككت في حكمه وخفت من إثمه.

وإذا علمت ذلك فكل أمر علمت أنه مما أمر الله به فافعله فإنه خير ولا يأتي عنه إلا الخير. وكل أمر علمت أنه مما نهى الله عنه فاتركه فإنه شر ولا يأتي عنه إلا الشر. وهذان النوعان كثير ما تعلم منهما. فإذا اشتغلت بإصلاحهما ونصحت فيهما كثر خيرك قولاً وفعلاً وملأت بلادك إحساناً وعدلاً. وكل أمر شككت في حكمه وخفت من إثمه فعليك فيه بالاحتياط الصارف عن الشبهات، فإن الجنة حفت بالمكاره وحفت النار بالشهوات. فاقطع الشك باليقين واحتط لدينك أكثر مما تحتاط لدنياك في كل حين.

مثال من ذلك: إن شككت في أمر هل يجب عليك أم لا فافعله. وإن شككت في أمر هل يحرم عليك أم لا فاتركه. وإن شككت في أمر هل هو حرام أو واجب فاتركه أيضاً لأن الحرام من باب المفاسد والواجب من باب المصالح ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وإن تعارض أمران مستويان في نظرك فاعرضهما على نفسك، ثم افعل أثقلهما عليها فإن الغالب على النفس في حال الحياة والصحة أن لا تكره إلا الحق. وإن قرضتهما على نفسك فاستويا عندها فانظر أيهما أحب إليها أن تموت عليه ثم افعله، لأن الغالب على النفس في حال الانتقال من الدنيا إلى الآخرة ألا تحب إلا الحق. فعليك بهذه القاعدة في كل ما يعرض لك من الأمور فإنها نافعة لكل من ليس بعالم ولم يجد عالماً تقياً حاضراً.

المسألة الثانية

قولكم:

جوابكم — سددكم الله — في هذه البلاد وأهلها، فإنهم في زعمهم وظاهر أمرهم مسلمون ومدينتهم بالجامع والجمعة، والجماعة والأذان للصلوات الخمس، وذلك بعد أن كانت كلها بلاد كفر وأهلها عبدة الأصنام. فقام عليهم بعض أجداد هؤلاء السلاطين مع أتباعهم فقاتلوا أولئك الكفار وملكوا البلاد المذكورة منهم عنوة وسكنوها على الإسلام أكثر من ثلاثين سلطاناً قبل سُن علي. وكان أبو سُن علي سلطان أهلها وكانت أمه من بلد فار، وهم قوم كفار يعبدون الأصنام من الأشجار والأحجار ويتصدقون لها ويسألون حوائجهم عندها، فإن أصابوا خيراً زعموا أن تلك الأصنام هي التي أعطتهم، وإن لم يصيبوا رأوا أنها منعتهم. فلا يغزون حتى يشاوروها، وإن قدموا من سفر قصدوها ونزلوا عندها. ولتلك الأصنام سدنة يخدمونها ويترجعون لها عنهم، وفيهم كهان وسحرة يقصدونهم كذلك.

وكان سن علي من صغره إلى كبره كثير الإقامة عندهم حتى نشأ بينهم وتطبع بطباعهم في شركهم وعوائدهم. ثم بعد موت أبيه طلب السلطنة فقام على سغي وقاتلهم حتى غلبهم وتسلطن عليهم كما كان أبوه ومَن قبله من ملوك سغي، إلا أنه لما نشأ من صغره إلى كبره بين أخواله وتطبع بطباعهم، كان من صفته أنه ينطق بالشهادتين ونحوهما من ألفاظ النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقول: سبحانه. أو سمع اسم الله فقال: صلى الله عليه وسلم. ويصوم رمضان ويتصدق كثيراً بالذبائح وغيرها عند المساجد ونحوها. ومع ذلك يعبد الأصنام ويصدق الهان ويستعين بالسحرة ونحوهم فيعظم بعض الأشجار والأحجار بالذبح عندها والصدقة والتضرع والنذر لها وطلب قضاء حوائجه منها، يستعين بها وبالشحرة والكهان في أموره كلها أو جلها.

ومن صفته أيضاً أنه ما رئي في جامع ولا مسجد، هو ولا أحد من دائرته في يوم جمعة ولا غيره، وفي دائرته ودياره ألوف من الرجال والنساء لا يستطيع أحد منهم أن يصلي صلاة ولا أن يصوم يوماً من رمضان خوفاً منه أن يعاقبه على ذلك، فلا يصلي أحد منهم، حرّاً كان أو عبداً ولا يصوم إلا خفية، خائفاً منه. وأما هو في نفسه فلا يحفظ الفاتحة ولا غيرها ولا يصلي صلاة مكتوبة في وقتها ولا يقوم يركع ويسجد فيها، إنما يترك الصلوات الخمس إلى آخر الليل أو إلى غد وقت الضحى، ثم يجلس كهيئة جلوس التشهد ويومئ إلى السجود من جلوس وهو صحيح قوي — لا علة به — ولا يقرأ في صلاته تلك بشئء. إنما يذكر في خفضه ورفعه اسم صلاته، فيقول في ركوع المغرب وسجودها: المغرب المغرب. وفي العشاء: العشاء العشاء. وكذلك في سائر الصلوات.

ومن صفته أيضاً أنه لا يتوقف في النساء على نكاح ولا غيره من الشروط الإسلامية، بل كلما أعجبته امرأة في جميع مملكته أخذها وأدخلها في بيته وفراشه، لا يبالي بزوجها ولا أحد من أهلها ويجمعها مع أمها فيتلذذ من المرأة وابنتها، حرة كانت أو أمة.

ومن صفته أيضاً أنه حلل دماء المسلمين وأموالهم فقتل من القراء والفقهاء والعباد والنساء والصبيان الرضع وغيرهم وأفسد منهم بجبّ الذكر والأثيين وقطع الأنف واليدين، ونهب من الأموال وسبى من الحريم وباع من الأحرار ما لا يحصى. وفساده في الأرض بذلك ونحوه مشهور لم يُسمع قط بمثله في الإسلام ولم يزل على ذلك مدة عمره حتى مات. ثم ولي بعده الأمير أسكيا فملك البلاد ورد العباد عن الشرك والفساد.

فما الحكم في سن علي وجميع أعوانه من الظلمة الذين كانوا يعملون بعمله في ذلك كله، ولا مال لهم إلا من ماله؟ هل هم كفار أم لا: وهل تُسترق أولادهم من بعدهم وتباع أمهات أولادهم أم لا؟ وهل يرد ما وجد الآن من تلك الأموال التي نهبوها من المسلمين والتي نهبها المسلمون منهم أو هي كالأموال التي نهبت بين المسلمين والكفار؟ وهل البينة علينا أو على من وجدناه بأيديهم مستعبداً فادّعى أنه حر وأنهم استعبدوه ظلماً؟ وهل البينة على من ادعى من خدامهم وأتباعهم فيما بيده من المال أنه ليس لسن علي وإنما هو ماله اكتسبه من جهة أخرى أو البينة في ذلك علينا، مع كونه تحت يده أو يد أعوانه وهم من خدامهم ومعروف أن أعوانه وخدامه ما يملكون شيئاً مما بأيديهم.

وهل تلك الأرض التي كانت للكفار، ثم فتحها أجدادنا عنوة وحازوها واقتسموها وسكنوها خلفاً عن سلف تكون لنا دون غيرنا من سائر المسلمين فنمنعهم أن يرعوا بشاطئ بحرها بغير إذننا، لأن مراعي ذلك البحر ضيقة لا تسع أهلنا مع غيرهم إلا بضرر علينا أو ليس لنا أن نمنعهم منها وإن ثبت أن أجدادنا حازوها واقتسموها وكانوا يرعون فيها خلفاً عن سلف من ذلك الزمان إلى الآن. وهل يجب على المسلمين الكائنين ببلاد هذا الأمير أن يعينوه بقدر طاعتهم على ما يراه باجتهاده إذا أراد جهاد الكفار أو غيرهم من أهل الفساد أو إرسال الرسل في أمر المسلمين؟ أو ليس علين شيء من ذلك؟

الجواب

— والله الموفق للصاب — أن سن علي وجميع أعوانه وأتباعه وأنصاره لا شك أنه من أظلم الظالمين الفاسقين الذين وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. فجهاد الأميرأسكيا فيهم وأخذه السلطنة من أيديهم من أفضل الجهاد وأهمه.

وأما قولك: هاهم كفار أم لا؟ فلا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة. إنما يكون التكفير بأمر من أمور ثلاثة:

الأول: ما يكون نفس اعتقاده كفراً كإنكار الصانع أو صفة من صفاته التي لا يكون صانعاً إلا بها أو جحد النبوة.

الثاني: صدور ما لا يقع إلا من كافر، وإن لم يكن كفراً بنفسه، مثل استحلال شرب الخمر وغصب الأموال وترك فرائض الدين والقتل والزنى وعبادة الأوثان والاستخفاف بالرسل وجحد شيء من القرآن. فهذان الأمران الإجماع على أن من ثبت عليه واحد منهما حكمنا بكفره.

الثالث: أن يقول قولاً يعلم أنه لا يصدر إلا ممن لا يعرف الله تعالى، وإن كان قائلة يزعم أنه يعرف الله. وهذا مختلف فيه بين العلماء، هل يكفر به أم لا، وعليه اختلفوا في تكفير المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.

وإذا علمتم ذلك، تبين لك أن الذي ذكرتموه من حال سن علي علم على الكفر بلا شك، فإن كان الأمر فيه كما ذكرتم فهو كافر، كذلك كل من عمل بمثل عمله — بل يجب التكفير بما هو أقل من ذلك.

وأما استرقاق أولادهم فلا أراه، وإن ثبت عليهم موجب الحكم بالتكفير، لأن كالكفار ثلاثة أصناف:

الأول: من هو كافر صريح بالأصالة كالنصارى واليهود والمجوس ونحوهم ممن ورث الكفر الصريح من آبائه.

الثاني: من كان مسلماً ثم ارتد عن دين الإسلام ارتداداً ظاهراً فصرح بأنه خرج عن دين الإسلام ودخل غيره من دين الكفر.

الثالث: من يزعم أنهم مسلم وحكمنا بكفره لأجل أنه صدر منه ما لا يقع في الظاهر إلا من كافر كما ذكرتم عن سن علي.

فالكافر بالأصالة تسبى ذراريهم ونساؤهم وتقسم أموالهم. ولا خلاف في ذلك بين العلماء. وفي الكفار بالارتداد خلاف. قال ابن القاسم في أهل حصن من المسلمين ارتدوا عن الإسلام إلى الكفر: لا تسبى ذراريهم ونساؤهم. وأما أموالهم فهي فيء للمسلمين. قال ابن رشد: وهذا هو الصحيح من جهة النظر لأن المرتدين أحرار من أصلهم. قال: وإلى مذهب ابن القاسم في المرتدين ذهب عامة العلماء وأئمة السلف.

وإذا علمتم ذلك فكل من فعل شيئاً من تلك الأفعال الموجبة للتكفير يُستتاب، فإن تاب تُرك، وإن لم يتب قُتل بالسيف كفراً، ولا تسترق أولاده — إنما يُجبرون على الإسلام. وأما بيع أمهات أولادهم التي استولدوا من أموال بيت المال، فلا أرى به بأساً، وإن كانت أولادهم لا يسترقون.

وأما ما وجد الآن من تكل الأموال التي نهبوها من المسلمين، فلربه أخذه حيثما وجده بغير شيء، لأن الذين نهبوه منه يزعمون أنهم مسلمون، فليس ما نهبوه كما نهبه الكافر الأصلي. وأما ما نهبه المسلمون منهم فليس لهم أخذه، فهم يردون ولا يُرد لهم لأن ما بقي (عليهم) أكثر مما أُخذ منهم، مع كونه ليس لهم. والظالم أحق أن يُحمل عليه في ذلك ونحوه.

وأما من وجدتموه بأيديهم مستعبداً وزعم أنه حر، فالقول قوله وإن كان يُقر لهم بالعبودية ثم زعم أنه كان خائفاً منهم بخلاف من ادعى من خدامهم وأتباعهم أن المال الذي بيده له، فإن البينة عليه فيما زعم إذا كان الأمر فيه كما ذكرتم.

وأما تلك الأرض، فإن ثبت ما ذكرتم من أن أجدادكم فتحوها عنوة وحازوها واقتسموها وسكنوها وكانوا يرعون في مراعي بحرها دون غيرهم من المسلمين، وإن رعى غيركم معكم فيها يضركم، لا أرى عليكم بأساً في منعهم ولا في بيع بعض مراعيها لبعضهم وإن لم يثبت ذلك أو ثبت أن المسلمين كاوا يرعون فيها قبلكم، فليس لكم أنتم أن يمنعوهم مما تركه لكم ولهم مَن قبلكم، وإن كانت أرض عنوة فتحها أجدادكم لأن أرض العنوة، وإن كانت لمن فتحها، فليس للإمام ولا غيره أن يحجر على المسلمين مياهها ولا طرقها ولا مراعيها ونحوها من مصالح المسلمين عموماً. وروى أصغ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قال: المسلمون شركاء في ثلاثة — في الكلإ والماء والنار. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم لشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به.

وأما إعانة المسلمين لإمامهم فواجبة عليهم في أنفسهم وأموالهم بحسب طاقتهم بشرطين:

الأول: أن يكون الأمر الذي طلب منهم الإعانة فيه من الأمور المهمة التي اضطر إليها في مصالحهم بحيث، لو تركها، كان تركها مفسدة عليه وعليهم.

الثاني: أن يكون اضطر لإعانتهم بحيث، لو لم يعينوه، لم يجد في جيشه ولا فيما بيده من بيت المال ونحوه ما يصلح به ذلك الأمر.

فحينئذ يجب عليهم أن يعينوه بما استطاعوا من أموالهم وأنفسهم. حتى يُصلح ذلك لهم، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، لأن القصد من ذلك ونحوه درء المفاسد وجلب المصالح بحسب الإمكان في كل زمان ومكان، فلكل شيء وجه وليس الخبر كالعيان.

المسألة الثالثة

قولكم:

إني دخلت هذه البلاد بعد سن علي وقد كان جمع أموالاً وخداماً من وجوه شتى، واستوليت على ذلك كله. ثم تركت كل من ادعى أنه حر مسلم، فخرج منهم شيء كثير. ثم بعد ذلك سألت عن أحوال بعضهم وعن بلادهم، فإذا هم يشهدون ويقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم معتقدون مع ذلك أن هناك من ينفعهم ويضرهم غير الله، جل وعلى. ولهم أصنام ويقولون: الثعلب قال كذا وسيكون كذا، وإن كان كذا فسيكون كذا. ويعظمون بعض الأشجار ويذبحون لها، ولهم بيوت معظمة عندهم لا يولون سلطاناً ولا يقطعون أمراً صغيراً ولا كبيراً إلا بأمر سدنة بيوتهم المعظمة عندهم. فزجرتهم عن ذلك كله، فأبوا إلا بالسيف، فهل هذا يكفّرهم ويحلل قتلهم وأخذ أموالهم إن أصروا على هذا، مع أنهم يقولون بألسنتهم: لا إلة إلا الله محمد رسول الله. وسن علي قط ما طلب منهم إسلاماً ولا غيره، إنما يأخذهم كما يأخذ المسلمين. وأنا اليوم بينت لهم أن يتركوا ماهم عليه. فإن لم يتركوا فما الذي أفعل بهم؟

الجواب

— والله الموفق للصواب: أن الملك كله لله والحكم لله من قبل ومن بعد، فاشكر نعمة الله عليك واتقه فيما ولاكم وما قلدكم من الأمور. واعلم أن سن علي حمل حمله على عنقه واكتسب ما اكتسب في حمله حتى انقضى أجله فطرح ذلك الحمل بيهنكم، فحملته أنت، فاكتسب لنفسك في حمله ما تُرجى لك بركته وتُحمد لك عاقبته في الدنيا والآخرة فلا تقل في باطل قدرت اليوم على إزالته: هذا لا يلزمني لأني ما فعلته إنما فعله غيري. فكل ما فعله غيرك ثم صار إليك، إن كان خيراً فأثبته وإن كان شراً فأزله، ولو طال زمانه، لأن الملك لله والحكم لله، وأنت عبد الله واجب عليك أن تصلح كل ما وصل إليك.

ولأجل هذا كان فعلك في إطلاق من ادعى أنه حرمسلم صواباً وكذلك كل مال تعين لمسلم معين واجب عليك رده له. وأما أموال اختلطت وجهلت أربابها فهي فيء بيت المال، فاصرفها فيما أراك الله من المصالح. ومن ادعى أن سن علي أخذ له مائة مثقال مثلاً وأثبت ذلك ببينة عادلة، فليس لك أن تعطيه ذلك من الأموال التي ترك سن علي، لأن مال هذا المدعي لم يُعرف بينه وقد غرق فيما على غريمه من الأموال التي لا تحصى فتعذرت المحاصصة التي يُعلم بها ما يستحقه بين الغرماء فصار الكل لبي المال.

وأما القوم الذين وصفت أحوالهم فهم مشركون بلا شك، لأن التكفير في ظاهر الحكم بأقل من ذلك كما بيناه في السؤال الذي قبل هذا. فلا شك أن الجهاد فيهم أولى وأفضل من الجهاد في الكفار الذين يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لأن هؤلاء الذين وصفت لبسوا الحق بالباطل بحيث يضل بهم كثير من جهلة المسلمين حتى يكفر وهو لا يشعر. فهم أولى بالجهاد من الكفار الذين لا يقتدي بهم مسلم.

فجاهدهم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم ونهب أموالهم على ما قدمناه في جواب السؤال الذي قبل هذا. فإن صمموا على شركهم فحرّق سدنة بيوت كفرهم وآلهتهم بالنار كما فعل خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ببعض أهل الردة عن إعطاء الزكاة، فحرقهم بعد أن أمره بحرقهم أميرالمؤمنين أبو بكر الصديق، رضي الله عنه. وكل من تركته منهم لزعمه أنه حر مسلم ثم تبين لك أنه كان كافراً فاردده للرق وخذ ماله إلا إذا تاب وحسن إسلامه فاتركه كما فعلت أول مرة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ.

المسألة الرابعة

قولكم:
إذا كان بلد فيه المسلمون وسلطانهم ظالم أو كبيرهم يأخذ أموالهم ظلماً وعدواناً، فهل لي أن أرد عنهم ذلك الظالم، ولو آل الرد إلى قتله أم لا؟ وكذلك، إن كان سلطان يأخذ المكس ولا يردع المفسدين، هل لي أن نمنعه بالقتال والقتل أم لا؟ وهم إن كان في بلد من بلاد المسلمين سلاطين أو كبراء، كلهم أو جلهم يظلمون ويفسدون ولا يصلحون ولا يردعون المحاربين ونحوهم، فطلب مني بعضهم أن نعينه على الإصلاح وقطع المفاسد على المسلمين، فهل يجوز لي أن نعينه أم لا؟ وهل الجهاد في المحاربين ونحوهم من هؤلاء الكبراء والسلاطين، لدفع ضررهم عن المسلمين أفضل من الجهاد في هؤلاء الكفار الذين (هم) بقربنا ولكن لا يغزون بلداً من بلاد المسلمين ولا مضرة منهم عليهم. أم الجهاد في هؤلاء الكفار أفضل، وهم جهال لا يعرفون خالقهم، جل وعلى.

وأيضاً بعض المسلمين في شرقنا وغربنا سمعوا بي وطلبوا أن يدخلوا تحت طاعتي، فهل لي أن أجيبهم إلى ذلك أو نقف على حكم بلدنا التي أورثنا الله عن سن علي. وأيضاً السلطان الظالم الذي يظلم الناس وأينما لقي بضائع المسلمين يأخذها، وإذا مات رجل غريب أو غير غريب في بلده يأخذ ماله ويتاماه حاضرون أو غائبون، ويتعرض للقوافل الواردة على بلده وينزّلهم ويفتش حمولهم ويقوّم ما فيها ويأخذ منهم الذي زعم أنه زكاة ثم لا يعطي لمستحقي الزطاة شيئاً فإذا قيل له: هذا الذي تعمل حرام، قال: حاشاني من الحرام، كل ما نعمل حلال، أنا أعلم منكم.

ومن دأبه أنه يلبس الحق بالباطل، وله فقهاء اتخذهم لذلك، فكلما أراد أن يفمل شيئاً من غرضه أحضرهم وقال لهم: أليس هذا حلالاً، فيقولون: بلى لك ذلك. فيوافقونه على غرضه في تلك الأمور ويتستر بهم من الطعن عليه بالظلم والفجور. فهل مثل هذا السلطان ظالم أو كافر؟ لأجل تحليله ما حرم الله، وكذلك أولئك الفقهاء، وهل يجب تأديبهم بالضرب الوجيع والسجن الطويل أو يُقتلون وتُنهب أموالهم؟ وما الحكم في عماله الذين يقوّمون له سلع المسلمين ويأخذون منها، وما الحكم في رجل يشتري منه ما يأخذ بالغصب ونحوه من أموال اليتامى وغيرهم حتى كثر ذلك منه بحيث لا نعلم ماله الأصلي مما اشتراه من أموال الناس. فهل يصير جميع ما بيده لبيت المال أم لا؟ وإن قلتم: يصير لبيت المال، فأثبت عليه رجل أنه اشترى من ماله المغصوب شيئاً معلوماً قدّره ولم يوجد بعينه، فهل يُعطى قيمته من ذلك المال أم لا؟

الجواب

— والله الموفق للصواب: إِنَّ الْأَرْضَ كلها لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، والتقوى مخالفة الهوى، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. ثم اعلم أن البلاد ثلاثة أقسام:

الأول: بلاد سائبة، ليس لهم أمير، بل هم مهملون، فهؤلاء أجبهم إلى مبايعتك والدخول تحت طاعتك، وإن أبوا ذلك فأجبرهم عليه بما استطعت لأنه لا يحل لطائفة من المسلمين أن يكونوا همّلاً. قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية. فجاهدهم بالسيف حتى يدخلوا كلهم تحت طاعتك على طاعة الله ورسوله وذلك من أفضل الجهاد وأهمه.

الثاني: بلاد لهم أمير يرعاهم في مصالح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان في هذا الزمان، وهؤلاء لا يحل لأحد أن ينازعه في رعيته، لأنه أولى بهم من غيره ما دام على طاعة الله في أمره. قال الله تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.

الثالث: بلاد لهم أمير من هؤلاء الكبراء الذين وصفت بأخذهم المكس وبالظلم والفساد وعدم الإصلاح، فإن استطعت أن تزيل ظلمه عن المسلمين من غير مضرة عليهم حتى تقيم فيهم أميراً عادلاً فافعل ذلك، وإن أدى ذلك إلى القتل وقتل كثير من الظلمة وأعوانهم وقتل كثير من أعوانك، لأن من قُتل منهم شر قتيل ومن قُتل منكم خير شهيد. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. ومن سبيل الله دفع الظلم عن المسلمين وتغيير المنكر والجهاد في المحاربين والظالمين من الأمراء وغيرهم لأجل تغيير المنكر. والدفع عن المسلمين من أفضل الجهاد، بل هو أولى وآكد من الجهاد في أولئك الكفار الذين وصفت. وإن لم تستطع أن تزيل ظلمه عن المسلمين إلا بمضرة عليهم فقد تعارض هنا ضرران فاحذر أن تغير منكراً بمنكر مثله أو أعظم منه فتثبت هاهنا وارتكب أخف الضررين، لأن ارتكاب أخف الضررين قاعدة مشهورة وسنة مأثورة. وليس من المنكر قتل الظلمة المفسدين وأعوانهم، ولو كانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون. فقاتلهم ولو قتلوا منكم كثيراً أو قتلتم منهم كثيراً إذا كان قتالهم لنصر الحق على الباطل ونصر المظلوم على الظالم.

فافهم ذلك، فإن العلماء السوء يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله بالجهل والهوى. فإن كان بلد من بلاد المسلمين فيه سلاطين كثيرة أو كبراء كما وصفت، وزعم بعضهم أنه يقول العدل ويزيل الظلم إن أعنته عليهم، فانظر في حقيقة قوله وبرهان زعمه، فإن لكل قول حقيقة ولكل حقيقة برهان، ولسان الحال أصدق من لسان المقال، فلا يغترّ بحسن الأقوال مع سوء الأحوال إلا الأغبياء والأطفال، فانظر في حال الذي يطلب منك الإعانة، فإن وثقت بزعمه وأنه، إذا قوّيته، وفى بوعده وعهده، فقوه على ما فيه منفعة للمسلمين حسب ما بينت لك. وإن لم تثق به فيما زعم، فلا تعنه واعمل لنفسك ما ينبغي لك، ودع الظالمين كلهم، فقد ينتقم الله من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من كفيهما.

وأما ما سألتم عنه من التكفير، فقد تقدم بيان ما يكون به الناس بالباطل، وجب الحكم بكفره، وكذلك من أنكر الحق المبين ولبسه بالباطل. وأما العلماء السوء الذين وصفتهم بإعانة ذلك الظالم، فهم أشد منه جريمة، وعليهم من العقوبة ما يردع أمثالهم بحسب اجتهاد الحاكم. وكذلك يعاقب كل من كان من عماله في تقويم السلع وغيره. والمشتري من الغصب، عالماً بغصبه كالغصب. فإن كثر ذلك منه حتى استغرق ماله، كان لبيت المال، ولا يطى للمدعى عليه قمة شيئه الذي غرق في ذلك المال، إلا إذا عرف ما يستحقه منه بين أرباب الحقوق.

المسألة الخامسة

قولكم:

وقد جعل الله هذه البلاد تحت يدي، برها وبحرها، ولم يعرفوا قبلي إلا الظلم والإهمال، ما سمعوا قط من يناديهم لله ورسوله حتى دخلوا تحت يدي بفضل الله. فدعوتهم لله ورسوله فأجاب من أجاب بخوف السيف، ولله الحمد. ولهم مزارع كثيرة وبحر واسع كثير خيره، فهل لي أن أعمل خراجاً على أرضهم أم لا؟ وقد كان سن علي عمل عليهم ظلماً كبيراً من خراج وغيره. وأيضاً هل يجوز لي أن أنصب عالماً أميناً يجمع زكاة النعم والحرث ويفرقها لمستحقها من الأصناف الثمانية باجتهاده أم لا؟ وإن جاز لي نصبه فهل لي أن أعاقب من أبى أن يؤديها إليه؟ وإن جازت عقوبته فما هي؟

وهل تجوز شهادة السلطان الذي لا يمكس ولا حُفظ عليه ظلم في هذا الزمان أم لا تجوز شهادته ولا شهادة أحد من دائرته وأعوانه. وإن عُرفوا بالخير والصدق وعند الظلم وحمية جاهلية؟

الحواب

— والله الموفق للصواب — أن للإمام العادل أن ينصب عاملاً أو عمالاً لجمع زكاة الحرث والماشية وصرفها في مصارفها التي ذكر الله من الأصناف الثمانية باجتهاده على ما يراه الأصلح بعد استشارة أهل المعرفة والأمانة. وليس له أن ينقل زكاة بلد إلى غيره إلا على وجه النظر بالأصلح، فيفرق في أهل بلدها ما اضطروا إليه وينقل لغيرهم ما اضطروا إليه. وأهل البلد الذي وجبت الزكاة فيه أحق من غيرهم إلا لموجب بين. فإن استقر أمرك وثبت ملكك على العدل فافعل ذلك، فإن من ترك الحرام واستغنى بالحلال أغناه الله تعالى. وإن كان أمرك إلى الآن ما استقر ولا ثبت على العدل، فاصبر عن ذلك لأنك في هذا الأمر الذي استقبلته وشرعت فيه غريب في هذا الزمان والله يوفقك ويعينك.

وواجب على الناس دفع زكاتهم للإمام العادل وعماله عليها إن عدل في صرفها بأن يصرفها بالتقوى لا بالهوى في المصارف التي ذكرها الله أو بعضها. ومن أبى أن يدفعها طوعاً أخذها الإمام منه كرهاً وإن نصب القتال دونها قوتل عليها، فإن مات أو قُتل أخذت من ماله. وذلك لا خلاف فيه بين العلماء.

وعقوبة من أبى وصمم على منعها بما يراه الإمام، ردعاً لمثله، من ضرب أو حبس أو غيره. وإذا كان الإمام ينظرللمسلمين بالتقوى لا بالهوى، واضطر لدرء مفسدة أو جلب مصلحة بأمر لا يخالف الشريعة فليفعفه، لأن المطلوب من الإمام ونحوه درء المفاسد وجلب المصالح بحسب الإمكان في كل زمان ومكان. فلكل شيء وجه وليس الخبر كالعيان. ولذلك قال عمر ابن عبد العزيز، رحمه الله: تحدث للناس أقضية يقدر ما أحدثوا من الفجور.

وإذا علمت ذلك فينبغي لك أن تجعل من الخراج على تلك البلاد ما فيه مصلحة للمسلمين وعمارة لتلك الأرض من غير تضييق، ولا يحل لك أن تجعل ذلك على المنافع العامة التي بها الارتفاق العام، كالمياه والمراعي والطرقات والمنازل المباحة، فإن الله لم يجعل ذلك لسلطان ولا غيره، ولو كانت البلاد فُتحت عنوة. فاترك ذلك كله فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون شركاء في ثلاثة — الكلأ والماء والنار. فاحذر أيها الأمير أن يُضلك بعض العلماء السوء بتزيين الطمع حتى تنسى الورع، فإن ملاك الدين الورع وفساد الدين والدنيا الطمع. والورع أن تترك ما لا بأس به خوفاً من الوقوع فيما به بأس. فعليك به في جميع الأمور، وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ.

وأما السلطان الذي لا يمكس ولا حُفظ عليه ظلم في هذا الزمان، فشهادته مقبولة، إلا في منفعه الدنياوية وكذلك شهادة كل من عُرف بالخير والصدق وعدم الظلم والحمية من أعوانه ودائرته.

المسألة السادسة

في أناس لا يتوارثون على الكتاب والسنة وإنما يأخذ مال الميت ابن أخته مثلاً، وكانوا على هذه الحالة منذ قديم حتى وجدنا بأيديهم أموالاً كثيرة. فهل هذا المال لبيت مال المسلمين أو يُترك بأيديهم ويجبرون على التوارث فيه وفي غيره على شريعة الإسلام، أو لا نتقرض لهم في ذلك أصلاً؟ وبعض الناس يُقرون أن الميراث لأهله كما فرض الله تعالى، ولكن إذا كان في الورثة كبير استولى على جميع التزكة وقال: هذا مال إخواني وأنا بمنزلة أبيهم اليوم، فيعطي للزوجة ونحوها نصيبها ويستولى على الباقي يتصرف فيه كيف يشاء من غير إيصاء ولا تقديم ولا رضى أحد منهم، ولا يتعرض له أحد في ذلك مدة حياته حتى إذا مات، استولى على تركته الأقوى أيضاً. وبعضهم لا يورث الزوجة ولا غيرها من النساء.

وبعضهم فيهم عبيد لا يُباعون ولا يوهبون وإنما يقولون: هم عبيد السلطنة يرثهم من يرثها عن البيت كابن أخته مثلاً. وإما غير هؤلاء العبيد ونحوهم من تركة ميتهم، فهو على حالهم في تركاتهم يأخذها من بعده ملكاً بطريق الشريعة أو طريق عوائد الجاهلية. فهل أموالهم كلها لبيت المال أم لا؟

وأيضاً جوابكم في أناس مسلمين طردهم العدو عن بلادهم ودخلوا بلاد قوم آخرين وسكنوا عندهم. فرجع العدو الذي طردهم وبقيت تلك البلاد خالية لم يرجع لها أهلها. فأخذ بعض الناس يزرعون في مزارعها ويرعون في مراعيها، وأهلها يقولون لهم: لا تزرعوا ولا شرعوا في أرضنا إلا بالكراء. فقالوا لهم: الأرض لله. قد خرجتم منها وتركتموها معطلة فلا نعطيكم شيئاً فيها. ولكهما الآن تحت يد سلطان واحد لا يظلم أحداً، فهل لهم أن يمنعوا منها أحداً أم لا؟

وأيضاً جوابكم في المحاربين من فلان وغيرهم معهم أناس منه مسوفة وغيرهم يزعمون أنهم مسلمون، وهو ساكنون معهم ملازمون لهم في الرحيل والنزول ويخالطونهم في كل شيء من أحوالهم (وأموالهم) وأمورهم وخيلهم مع خيلهم وغزون معهم ويحاربون معهم، هذا غالب حالهم. ومنهم من كان معهم ولا يحارب معهم إلا أنه مجاورهم. فلما غزونا أولئك المحاربين جمعهم جيشنا معهم وجاء بهم إلينا فقالوا: نحن مسلمون. فقلنا لهم: كيف تجتمعون مع هؤلاء المحاربين؟ فقالوا: ما نقدر على الخروج عنهم، نخاف أن يأخذونا، وإن خرجنا يأخذنا غيرهم لأنا مساكين لا نقدر الدفع عن أنفسنا. فرددنا إليهم أموالهم وقلنا لهم: افترقوا منهم. فهل نترك غزو المحاربين لئلا نضر أولئك المسلمين الذين معهم وأبوا أن يفارقوهم. أو لا بد من غزوهم، وإن كانت المضرة تلحق من معهم من المسلمين المذكروين؟ فقد شوّشني في ذلك بعض فقهاء بلادنا حتى توقفت عنهم.

الجواب

— والله الموفق للصواب: أما القوم الذين من شأنهم أنهم لا يتوارثون على الكتاب والسنة، وإنما يرث عندهم الخال وابن الأخت، فإن رأوا أن ذلك حلال وجحدوا شرائع ميراث المسلمين، فهم كفار. وإن لم يجحدوا شرائع الميراث وأقروا أنهم عصاة فليؤمروا بالتوبة والرجوع إلى فرائض الله في المواريث المستقبلة. فإن أبوا فللسلطان أن يأخذ جميع أموالهم كلها. وإن تابوا فأرى أن يترك لهم منها ما ثبت أنهم اكتسبوه من الحلال وأن يقسم معهم ما سواه فيأخذ النصف ويترك لهم النصف.

وأما الذين يستولى منهم الكبير على التركة ويقول: هذا مال إخواني وأنا كأليهم، نحفظ لهم ونربيهم، فيؤمروا بالتوبة فليأخذ السلطان حقوق ضعفائهم من أقويائهم، فيقوم كل مظلوم بحقه والسلطان يُنصفه من غريمه. وأما الذين لا يورثون الزوجة ولا غيرها من النساء، فهم كالفريق الأول على ذلك التفصيل.

وأما العبيد المذكورون ونحوهم، فهم كالحبس من عهد الأولين أوقفوهم لإعانة السلطان منهم، فيكونون كذلك، ليس لأميرالمسلمين أن يأخذهم ويجعلهم في بيت المال إلا الذين ثبت أن أصلهم غصب أو نحوه. وأما الذين لم يثبت ذلك فيهم، فهم حبس على من هم له في عوائدهم.

وأما الذين طردهم العدو عن أرضهم فتركوا سكناها، فليس لهم أن يعطلوها ولا أن يأخذهوا أجرة ممن يزرع في مزارعها ويرعى لي مراعيها. وإنما لهم أن ينتفعوا بها أو يتركوها لمن ينتفع بها حتى يرجعوا إليها إن شاءوا.

وأما المحاربون فلا بد من غزوهم ولا بأس عليكم فيمن أصيب بينهم من أولئك المسلمين، لأنهم ظلموا أنفسهم بالنزول معهم. فمالهم تعلموا به من أنفسهم وأموالهم حتى فسد، فلا شيء عليكم فيه، وما علمتم قبل أن يفسد فاجتنبوه وردوه لأهله. وذلك إذا لم يسكنوا معهم اختياراً ولم يغيروا معهم ولم يعينوهم. وأما من سكن معهم اخياراً وكان يغير معهم ويعينهم على الفساد، فهذا منهم فاقتلوه وانهبوا أمواله ولا تقبلوا له توبة إذا أمكنكم الله منه.

ذكر أبو القاسم البرزلي في كتابه ما نصه: وقد ظفر السلطان بفرقة من بوادي إفريقية وجلهم مستغرفو ذمة، فأفتى شيخنا ابن عرفة بإباحة أموالهم عملاً بالأغلب حتى يتحقق أهل الحلال منهم. قال لأنهم عصاة بمكاثرة المحاربين وتكثير سوادهم، فلم يجعل لهم حرمة من بان بنفسه ولم يخالطهم. وهذا إذا وجد مندوحة عنهم وإلا فهو كالمكره في بلاد الحرب، إذا لم يستطع الخروج عن بلاده وخاف على نفسه وماله وأهله وولده. انتهى.

المسألة السابعة

في أحوال بعض هذه البلاد وهي أن فيهم من يزعم أنه يعلم شيئاً من علم الغيب بالخط في الرمل ونحوه أو بأحوال النجوم أو بأخبار الجن أو شيء من أصوات الطيور أو حركاتها ونحو ذلك. ومنهم من يزعم أنه يكتب لجلب المصالح، كسعة الرزق والمحبة ولدرء المفاسد كهزم الأعداء في الحرب ومنع الحديد من القطع والسهم من الضر ونحو ذلك من دعاوي السحرة وأفعالهم.

ومنهم من يطفف المكيال والميزان بالزيادة والنقصان، ومنهم من يغشّ الذهب والفضة بالنحاس أو يأبى أن ينزف التبر من التراب أو ينفخ اللحم ويخلط اللبن بالماء أو غير ذلك من الغش. ومنهم من إذا اشترى السلعة حازها وذهب بها قبل أن يدفع لربها ثمنها، فهاذا ندم أو لم يجد بيعها بربح وطلب منه ربها الثمن قال له: خذ سلعتك أو اصبر حتى نبيعها. ومنهم من يبيع أمة ويحوزها المشتري ولا يبالون بالاستبراء فإذا ظهر بها حمل تنازعا فيه وذلك كثير.

ومن مهناكرهم اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والطرقات وعدم احتجاب المرأة عن أخي زوجها وابن عمه وصاحبه. ومن مناكرهم كشف العورات من الحرائر والإماء حتى إن من عوائد أهل جني أن البنت لا تستر شيئاً من عورتها ما دامت بكراً ولو بلغت خمسين سنة وكل شابة من أجمل النساء تخرج بين الناس عريانة بلا ستر أصلاً وهي بين أبيها وإخوانها عريانة كذلك حتى تتزوج ولو كانت ابنة السلطان أو القاضي وتلك عادة مشهورة مطرّدة بينهم، فأفتونا في هؤلاء القوم ونحوهم — أجركم الله تعالى.

الجواب

— والله الموفق للصواب — أن كل ما ذكرتموه عن بعض أحوال تلك البلاد ضلال عظيم، فواجب على أمير المسلمين وكل من له قدرة من المؤمنين أن يغير تلك المناكر كلها.

أما من يزعم أنه يعلم علم الغيب بشيء من تلك الأمور أو غيرها فهو كاذب كافر ومن صدقه كفر. فواجب أن يوقف للتوبة تحت السيف. فمن تاب تُرك، ومن أبى قُتل بالسيف كفراً، فلا يُغسل ولا يكفّن ولا يدفن في مقابر المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صدّق كاهناً فقد كفر بما أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك يوقف تحت السيف كل ساحر وساحرة وكل من يزعم أن عنده من الطلاسم والعزائم ونحوها مما يُجلب به الرزق أو يُهزم به الجيش أو نحو ذلك.،

فمن تاب منها ترك، ومن أبى قتل. وكل من يزعم أنه إنما كتب لذلك ونحوه من كتاب اله أو الكلام الطيب فلا تصدقوه، إنما هو كاذب فالواجب زجره، وإن لم يرجع فلينكل على ذلك سداً للذريعة وحفظاً للشريعة والاعتقاد.

وأما التطفيف فهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع علماءالأمة. فواجب على أميرالمسلمين أن يجعل أميناً على الأسواق وحفظ الأرزاق فيصلح موازين كل بلد على نسبة واحدة بتقويم الميزان والوزن وتسوية الضوج حتى لو فرقت مائة مثقال بالضوج كلها لا تنقص ولو جمعتها بتلك الضوج لا تزيد إلا ما لا باله من الزيادة أو النقص. وكذلك يجب إصلاح المكاييل، كبارها وصغارها حتى تكون كلها على نسبة واحدة. ولا يجب أن تتفق البلاد في المكيال والميزان، بل كل بلد لهم مكيال وميزان، إنما يجب تسوية موازين كل بلد ومكاييلها فيما بينا حتى تكون على نسبة واحدة. ولا بد من عرض الموازين والمكاييل على التعيير في كل حين، فمن ظهرت عليه الخيانة في شيء من الوزن والكيل فعاقبوه وأخرجوه من أسواق المسلمين.

وصفة الوزن أن يبسط الوزان جلداً صحيحاً ليناً أملس ويوقف الميزان فوقه حتى يعتدل بالمسح والتصويب، فإذا اعتدل يضع فيه التبر برفق والضوج ويرفع من غير تمييل ولا تسنيد ولا حيلة ويرمّ ويهزّ. ثم يسكن يده ويزيد وينقص حتى يعتدل لسان الميزان في وسط القبة ساكناً بلا حيلة، فيعطي الذي في الكفة لربه ويجمع ما تساقط على الجلد ويرده في صرة أصله.

وصفة الكيل أن يُقعد الكيال المكيال معتدلاً ثم يصب فيه المكيل برفق حتى يمتلئ امتلاء كاملاً من غير تدكين ولا تسنيد ولا زلزلة ولا حيلة، إنما يعدل المكيال في وضعه ويصب فيه حتى يمتلئ بطبعه.

وأما جميع أنواع الغش فحرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وعلى أمير المسلمين أن يزجر أهل الغش والخديعة أعظم زجر، ومن له من ذلك مال فهو فيء يجعلها لأميرفي مصالح المسلمين. والبيع لازم بالقول ولازم بالمعاطات، فواجب على المشتري أن يعطي ما عليه من الثمن، فإن أبى أُخذ منه كرهاً. وإن لم يوجد بيده غير سلعة غريمة، أخذها الحاكم وباعها على ذمته، ثم قضى لغريمه ثمن سلعته، فإن فضُل شيء فهو له. وإن بقي عليه شيء اتّبعه به الغريم وليس له ردها على بائعها إلا برضاه أو بعيب قديم.

ومن باع أمة قبل أن يستبرئها من مائة وأسلمها للمشتري كذلك. فهو من الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. يجب أن يزجرعن ذلك بالعقوبة الرادعة له ولغيره، ولا يصدق في قوله: لم أطاها. إلا إذاكانت من الوخش التي ليست للوطء غالباً ولم يُقر بوطئها ولا شهدت عليه به بينة فيصدق في أنه لم يطأها. فواجب على أمير المسلمين أن يلزم الناس المواضعة للاستبراء في كل أمة يُتخذ مثلها للفرائ في العادة، وإن أنكر سيدها أنه وطئها. وفي كل أمة أقر السيد بوطئها أو ثبت عليه، وإن كانت وخشاً أو ادعى استبراءها. والمواضعة أن توضع عند أمين حتى تحيض مثلاً، وكل أمل بيعت في أول حيضها والحيض عليها فذلك استبراء لها يكفي البائع والمشستري.

ومن أعظم المنكرات ما ذكرتم من اختلاط الرجال بالنساء وكشف العورات، فواجب على أمير المسلمين أن يجتهد في منع ذلك كله بما استطاع، وأن يجعل أمناء يحتسبون على ذلك ليلاً ونهاراً سراً وجهراً. وليس ذلك من باب التجسس على المسلمين، إنما ذلك من حسن الرعي وردع المجرمين، لا سيما إذا شاع الفساد في البلاد كما في تنبكت وجني ونحوهما. فمن الصواب الواجب أن تنقل كل امرأة عن مكان التهمة وأن يجعل الأمير أمناء يطوفون بالنهار والليل في طرقات، فكل من رآه يتكلم مع أجنبية، أويدخل عليها، أو ينظر إليها فليأخذوه وليأتوا به إلى المتولي خُطة الحسبة في ذلك ونحوه. فيعنّفه ويزجره بما يليق بمثله على حسب سوء فعله. وليس لذلك حد محدود ولا ضرب معدود، إنما ذلك موكول لنظر الحاكم، فليتق الله ولينظر في درء المفاسد وجلب المصالح بالتقوى لا بالهوى. فإن قلت: وأين الأمين الذي يصلح لذلك ويؤمن عليه حتى يجعل الأمير ذلك بيده ويفوضه إليه، هذا معدوم في هذا الزمان ولا سيما في تلك الأوطان. قلت: ارتكاب أخف الضررين واجب إجماعاً، وضرر الحسبة في ذلك أخف من ضرر تركها بلا شك.

وأيضاً مفسدة تعدي الناظر يمكن درؤها بالبعد عن أماكن التهم كالمشي في الليل ونحوه من الخلوات ولا كبير ضرر على الناس في اجتناب ذلك غالباً. وأما مفسدة ترك الاحتساب على الفاسقين والفاسقات لا سيما في الخلوات الظاهرة لا تهمة. فلا سبيل لدرئها لا سيما في هذا العصر الكثر الشر وهذه البلاد السودانية ونحوها. بل من العوائد الجارية والسياسات السلطانية في كثير من البلاد الإسلامية أن من بعد صلاة العشاء بقليل يطوف الحاكم في البلد بأعوانه الليل كله، فكل من صادفوه في الطريق رموه في السجن حتى ينظروا غداً في أمره، سواءً صادفوه في مكان تهمة أو غيره، إلا رجل معروف بالخير خرج لحاجة، فلا يخرج سفيه في الليل ولا امرأة، ولو أمة، ولا رجل إلا من عُرف بالخير وخرج لحاجة أكيدة. فجعلوا ذلك درءاً لمفاسد أهل الشر. ولو أضر بكثير من غيرهم ارتكاباً لأخف الضررين.

وأما ما ذكرتم من عادة أهل جني في أن البكر لا تستر عورتها حتى تتزوج، فذلك منكر من أكبر المناكر وأقبح القبائح، لا يُسمع قط ببثله في شيء من بلاد المسلمين ولا يرضى به اليهود ولا النصارى، فكيف يزعمون أنهم مسلمون؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. حاش المؤمنين المسلمين أن يفعلوا مثل ذلك ويتواطئوا عليه خلفاً عن سلف. فواجب عليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى عاجلاً، وأن يبادروا إلى تغيير ذلك وغيره من المناكر. وواجب على ولي الأمر أن يجتهد في ردعهم وردهم ورد كل من في حكمه إلى العلم بشرائع الإسلام، فإن ذلك من أفضل الجهاد وأهمه، فليبادر لتغيير المنكرات كلها بحسب ما أراه الله من الرأي في تغييرها فإن لكل شيء وجهاً يُنظر إليه والظالم أحق أن يُحمل عليه.

ولذلك قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. صدق الله العظيم ونبيه الكريم وإنا على ذلا لمن الشهدين، والصلاة والسلام الأتمان على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلي، والحمد لله رب العالمين.