ابن المختار
تاريخ الفتاش
بسم الله الرحمن الرحيم صل الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم تسليماًقال الشيخ العالم الفقيه الأديب القاضي العادل الزاهد الورع الولي المكاشف التقي العابد سيدي محمود كعت الكرمني داراً التنبكتي مسكناً والوعكري أصلاً، رحمه الله تعالى ونفعنا به أمين.
الحمد لله المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت والقهر والغلبوت والرأفة والرحموت الملك الديان القادر المنان الذي خلق الأرض والسماء وعلم آدم الأسماء وأخرج من صلبه الملوك والرعاء. فمنهم متكبرون قاسطون، ومنهم مقتصدون صالحون. فابتلاهم بظهور الأنباء والأخبار، وأعذر إليهم على السنة [شنة] المرسلين الأخيار، فأهلك من أباهم، وصيرهم عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتغين.
ثم أورث العلماء عملهم وأخلف الخلفاء على أمرهم فإليهم يأوي الطريد وبهم يقمع الخصم الملد ولذلك جعلهم ظلاله في الأرض ، وزينهم لا زينة النور في الحوض، فمن أطاعهم فقد هدى وفاز، ومن حاد عنهم فقد خسر وخاب. نحمده على ما أولانا من سوابغ النعم والآلاء، حيث جعلنا من عباده الكرماء، وأزاح عنا شر الأعداء بأدعية العلماء، ووصايا الحكماء، وصوارم السلاطين والخلفاء. فوجب له علينا الشكر والثناء والسجود والانحناء، إذ هو المولى الأعلى. فمن بطعه فقد هدى واستمسك بالعروة الوثفى، ومن يعصه فقد غوى وباء بالخسر وغوى.
ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أفرغ قلبه وهواه لأمثال أمر مولاه، ونعد تلك الشهادة إن شاء الله إلى يوم لقياه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ونشهد أن سيدنا محمدً عبده الكريم ورسوله الرحيم وصفيه الحليم ونجيه الأمين ذو الأيات الصادقات والمعجزات الباهرات والبراهين القاطعات، أرسله موطداً للإسلام ومسدداً للآنام ومكسراً للأصنام ومبيناً للشرائع والأحكام. القائل: بدأ هذا لأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة الحديث. والقائل: لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة. والقائل عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، من بعده عضّوا عليها بالنواجذ، صلاى الله عليه وسلم وعلى آله البررة الكرام وصحابته ليوث الضرغام وعلى سائر إخوانه وذريته السادات الأعلام.
من إلى ناصع نسبهم ينتسب كل شريف ظريف، ومنهم ينتخب كل أديب عفيف، وبصميم أفعالهم يقتدي كل تقي حي، وبكريم أقوالهم يقتدي كل مقتصد منيب، وبقويم منهجهم يسلك كل مرشد عريف، وإلى نار هديهم بسراجه كل منفرد محب، وإلى ذروة علمهم يسمو كل مقصود بخير. فجزاهم الرب عنا أفضل الجزاء، وأثابهم يوم التنادي أجزل الثواب، وجعلنا بكرمه من المهتدين، وفي زمرتهم من المنخرطين، وبإحصانهم من المتبعين، بجاه خير الورى وأفضل من أعطي الهدى وأكرم من وطأ الثرى.
وبعد فلما كان ذكر قصص الأنباء والسلاطين والملوك وأكابر البلدان من عادة الحكماء والعلماء الأعيان اتخاذاً بسنة القرآن وتذكيراً لما غبر من الزمان ورداّ للغبي عى الحيف والهوان وعوناً للتقي على مساعدة الإخوان.
ومن الله علينا بأن أظهر لنا في زماننا هذا الإمام الصالح الخليفة العادل والسلطان الغالب والمنصور القائم أسكيا الحاج محمد بن أبي بكر التوردي أصلاً والكوكوي داراً ومسكناً.
فأثار لنا الهدي بعد ظلم الدجي، وأماط عنا الهدي بعد الجبن والردئ. فانفسح له بحمد الله البلدان شرقاً وغرباً، وتداعت له الوفود فرداً وجمعاً. فأذعنت له الملوك كرهاً وطوعاً، فصرنا من بركاته بخير ونعمى بعد ما كنا في ضيق وبؤسا. وبدل الله تعالى ذلك بفضله كما قال لأكرم خلقه أن مع العسر يسراً.
أردت أن نجمع من أحواله الحلوان مع ذكر شي عال الملعون ما سهل على اليد واللسان، وإلى الله سبحانه التكلان.
وسميته تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس. وذكر وقائع التكرور وعظام الأمور وتفريق أنساب العبيد من الأحرار.
الباب الأول
أسكيا الحاج محمداعلم، رحمنا الله وإياك، أن الإمام العادل والسلطان الفاضل أسكيا الحاج محمد لما تولى السلطنة أقام طريقة سنغي وجعل فيها قواعد، وذلك أن ليس له أحد في جنده يفرش له في مجلسه إلا جنكي، وكلهم يحملون له التراب إلا جنكي، فإنه لا يحمل إلا دقيق الطعام. وكلهم يقلعون الطاقية عند حمل التراب إلا كرمن فار، وليس فيهم من يتعدى عليه يقول الصدق إلا دند فار. ولا فيهم من ينهاه عن أمر ويتبعه أحب أم كره إلا بركي. ولا فيهم من يدخل داره راكباً إلا درمكي. ولا في أرضه من ينادي عبده ويرسله بأمر ولا يقدر أن يأبى ويفعل له في الأمر ما يفعل في أمر أسكي إلا القاضي. ولا من يناديه باسمه في مجلسه إلا كسردنك. ولا من يجلس معه على سريره إلا الشرفاء. وجعل للقاضاة إذا جاءوه يأمر لهم ببسط حصير الصلاة لهم. وجعل للمزامين أن يجلسوا عن يساره. ولا يقوم لأحد إلا للعالم والحجاج إذا قدموا من مكة. ولا يأكل معه إلا العلماء والشرفاء وأولادهم وسَن ولو كان صغيراً، رحمه الله.
وهذا كله في أول أمره لتأليف قلوب قومه. فلما ثبتت له السلطنة واستقامت المملكة خرج من ذلك كله، وجعل يسأل العلماء العاملين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمشي على أقوالهم، رحمه الله، حتى اتفق جميع علماء عصره على أنه خليفة. وممن صرح له بذلك الشيخ عبد الرحمن السيوطي، والشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي، والشيخ شمهروش الجني، والشريف الحسني مولاي العباس أمير مكة، رحم الله الجميع.
وأقام للمسلمين حقوقاً وحرمة على نفسه. وأمر لأهل موركير أن يتزوجوا ما شاءوا، فيتبعهم أولادهم، وهو موجود إلى الآن، لم يتبدل ببركته، رحمه الله.
وأعطى للشريف أحمد الصقلي ناحية القرى والجزائر. وأما الشريف الحسني مولاي العباس فكان مع أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أسكي الحاج محمد جالساً بحذاء الكعبة يتادثان، فقال له الشريف مولاي العباس: يا هذا أنت الحادي عشر من الخلفاء الذين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاكنك جئتنا ملكاً، والملك والخلافة لا يتفقان. فقال له كيف ذلك، يا سيدي؟ فقال له مولاي العباس: لا سبيل إلى ذلك إلا أن تخرج عما أنت فيه. فأذعن له أسكي طوعاً، وطرد جميع الوزراء عنه، وجمع جميع آلات السلطنة وأموالها، وجعل ذلك كله بيد العباس، وقعد عازلاً لنفسه. ودخل مولاي العباس في الخلوة ثلاثة أيام. ثم خرج يوم الجمعة ونادى أسكي الحاج محمد وأجلسه بمسجد البلدة الشريفة مكة، وجعل على رأسه قلنسوة خضراء وعمامة بيضاء، وأعطاه سيفاً، وأشهد الجماعة الحاضرين أنه خليفة بأرض التكرور، وأن كل من خالفه في تلك الأرض فقد خالف الله تعالى ورسوله.
ثم تهيأ أسكي الحاج محمد للرجوع. فلما وصل مصر وجد هناك الشيخ عبد الرحمن السيوطي، فسأله أسكي عن الخلفاء الذين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيأتون بعده. فقال الشيخ: هم اثنا عشر، خمسة منهم بالمدينة، واثنان بمصر، وواحد بالشام، واثنان بالعراق، وقد مضى هؤلاء كلهم، وبقي اثنان بأرض التكرور، أنت أحدهما، ويأتي بعدك الثاني، قبيلتك منسوبة بطورد من أهل اليمين ومسكنك بكوكو، أنت مريد منصور عادل كثير الفرح والعطاء والصدقة، لا يعجزك موضع من مملكتك إلا موضع واحد يقال له بُرْكُ، بباء مضمومة ممالة فراء ساكنة بعده كاف مضمومة ممالة، ثم يفتح الله ذلك الموضع بيد الخليفة الثاني بعدك، تنام أول الليل، ثم تصلي آخره، ويصيبك عمى في آخر عمرك ويعزلك واحد من أبنائك ويرميك في بعض الجزائر، ثم يخرجك ابنك آخر، ومصداق جميع ما قلت علامة في فخذك اليسرى، كان من برص فأبراه الله بغير علم أحد. فقال أسكي: صدقت يا سيدي وقرة عيني.
وقال له الشيخ: ولك ابناء كثير نحو مائة رجل، كلهم يتبعون أمرك في دولتك. ثم يعكسون الأمر بعدك، والعياذ بالل،ه حتى يصير الأمر ملكاً عضوضاً.
وحزن لذلك وسكت ملياً. ثم تنفس الصعداء، وزفر زفيرة الثكلاء. ثم سأل الشيخ أيضاً: هل يخرج من صلبه من يقيم الدين ويصلح أمره؟ فقال له الشيخ: لا ولاكن يأتي رجل صالح عالم عامل تابع السنة اسمه أحمد، يظهر أمره في بعض جزائر سبر ماسنة، ولاكن من قبيلة علماء سنقر، وهو الذي يرثك في الخلافة والعدالة والصلاح والجود والتقي والزهد والنصرة، ويكون كثير التبسم، والسنة دائم التحرك في جلوسه، ويسبقك بكونه متجراً في العلوم، وأنت لا تعلم إلا أحكام الصلاة والزكاة والاعتقادات، وهو آخر الخلفاء المذكورين.
ثم سأل أسكي الشيخ: هل هذا الخليفة يجد الدين فيجدده أو يجده خامداً فيوقده؟ فقال له الشيخ: بل يجد الدين خامداً فيكون كشرارة جمر وقعت في يابس الحشيش، فينصره الله على جميع الكفار والمخالفين حتى تعم بركته البلاد والأقطار، فمن رآه وتبعه كان كما تبع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خالفه فكأنما خالف النبي صلى الله عليه وسلم. فتوسط الأولاد في زمانه، لاكنهم لا يزالون على الجهاد إلى فنائهم.
قال الراوي عن شيخه القاضي حبيب: فيسبب هذا الرجل المذكور والخليفة المنصور تغلظ شي عال الملعون في قتل قبيلة سنقر، وكان يسمع خبره كثيراً من أفواه الكهان، وأنه يخرج على قبيلة سنقر، فقتلهم حتى لم يبق منهم إلا طائفة قليلة.
ثم سأل الشيخ أيضاً عن أمر أرض التكرور ما يول إليه آخره. فقال الشيخ: أما أرض التكرور فهي أول أرض تخرب لأجل إبايتهم الملوك. وسأله عن أمر كاو وما سبب خرابها، فأخبره بما أخبر. وسأله أيضاً عن تنبكت وجن، وأخبره عن أمرهما بما سيجيء إن شاء الله.
ثم سأله أيضاً عن أمر أربعة وعشرين قبيلة الذين وجدهم بيد شي بار مملوكةً له ورثهم عن آبائه. فقال الشيخ: صفهم لي، فوصفهم له. فقال له الشيخ: أما نصفهم فملكه لك سائغ، وأما النصف الآخر فتركهم أفضل، لأن فيهم شبهة. فقال للشيخ: فما الذين ملكهم إلى سائغ؟ فقال الشيخ: الأولى قبيلة جِنْدِكَتَ، بجيم ودال المكسورتين بينهما نون ساكنة وكاف وتاء مفتوحتين، والثانية قبيلة جَمْوَلَ، بجيم مفتوحة ومنم ساكنة فواو مفتوحة ولام ممالة مكسورة، والثالثة جمتن والرابعة كم، والخامسة سربتي، والسادسة من كفار بمبر تنسب بجركر بكر، والسابعة تنسب بتنكرتب، والثامنة تنسب بكسمبر، والتاسعة تنسب بسمسيك، والعاشر تسمى بسرك، والجادية عشر تسمى بكرنكي، والثانية عشر تسمى بأربي.
ثم قال أسكي للشيخ المذكور: فما حال من ادعى من هذه البقائل أنه ابن حر أو حرة؟ فقال الشيخ أما من ثبت أن أباه حر وأمه من هذه القبائل فملكه له سائغ، وأما من ثبت أن أمه حرة وأباه من هذه القبائل فإن كان أقام في دار أبيه وعمل بعمله فلك أيضاً ملكه، وإن كان خرج من دار الأب إلى دار الأم فليس لك ملكه، لأن هذه القبائل لم يزل الملوك والسلاطين منذ زمن ملكي إلى شي بار يحذرون الناس عن مناكحتهم.
فوافق قول الشيخ أقوال العلماء الذين سألهم أسكي قبل ذهابه إلى الحج، رحم الله الجميع.
ثم بعد رجوع السلطان العادل أسكي الحاج محمد رحمه الله جدد هو أيضاً على تحذيرهم عن منكحة هذه القبائل. فكل من نكح فيهم امرأة ممن ليس من أهل مور كير فولده ملكي، فكل امرأة نكحها رجل منهم فولدت فإن أحبت لولدها الحرية فلتخرجه من دار زوجها إلى دار أبيها، وإلا فإن أقام الولد بدار الزوج وعمل بعمل الزوج فهو أي الولد ملكي. وهذا بعد ما سأل الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي عن أمر هؤلاء القبائل، فأخره كما أخبره الشيخ عبد الرحمن السيوطي، واتفق أقوالهما كما يقع الحافر على الحافر.
ثم أمر الشيخ محمد بن عبد الكريم أسكي الحاج محمد أن يكتب إلى الخليفة الذي يجيء بعده ويطلب منه الدعاء. وقال له أسكي الحاج محمد: وهال تبلغ تلك البراءة؟ فقال الشيخ: أرجو أن تبلغ إن شاء الله. فأمر الكاتب علي بن عبد الله أن يكتب براءة ونصها:
هذا الكتاب أمير المؤمنين قامع الفجار والكافرين أسكي الحاج محمد بن أبي بكر إلى وارثه المسدد والقائم بأمره المؤيد المؤمنين أحمد المنصور، فالسلام أشهى من كل مشتهى وإكرام أنور من الدر وأبهى يخصك ويعم على كافة من منك وإليك برح وريحان. فموجبه إليك أيها الأخ البر الصالح إعلامك وتبشيرك بأنك آخر الخلفاء وقاهر الأعداء وهادي السعداء باتفاق العلماء. ونحن نطلب منك الدعاء وأن أكون يوم القيامة في كريم زمرتك، كما نسأل الله تعالى العصمة من فتن الزمان، ونرجو من الله سبحانه أن يجعلنا وإياك في زمرة خير الورى، آمين.
فدعى له الشيخ أن يبلغ الله هذه البراءة بأيما وجه، فأمّن الحاضرون على دعائه.
قال الشيخ محمود كعت: وليعلم كل من وفق على هذه القصص التي ذكرناها أنّا لم نقصد بذكرها مباهاة ولا افتخاراً، بل لما رأيناه وشاهدناه من مناكرة أهل الزمان أحوال السلطان مع اتفاق العلماء الأعيان على أنه من الخلفاء النبلاء والأمراء النجباء، فلم يضره ذلك في دينه ولا في دنياه بحمد الله تعالى، وكما لم يضر من يأتي بعده إن شاء الله أقوال الحساد وإباية الجهال وسعاية الغدار والفساق. قال الفقيه محمود، ويعضد قول الإمام، ويوافقه ما روي عن الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، من أنه سيكون آخر الزمان في أرض التكرور خليفتان، أحدها يظهر في آخر القرن التاسع، الآخر يظهر في أول القرن الثالث عشر، ينكرها أهل عصرهما أشد التنكير، وينسبون أفعالهما إلى الظلم والأباطيل، فيقمع الله لهما كل جاهل جحود وكل عالم حسود، يسويان في جميع الأوصاف الحميدة إلا في العلم، يفيض الله في يديهم الأموال العريضة المخزونة يصرفانها فيما يرضى الله.
ولنرجع إلى ما كنا بصدده من ذكر مناقب الإمام العادل والسلطان الفاضل. فلما ملكه الله جميع أرض شي وتمكن في السلطنة، عزم على الذهاب إلى بيت الله الحرام للحج وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وتنيأ وخرج في العام الثاني بعد تسع مائة، ومعه من العلماء الأعيان الشيخ محمد تل والفا صالح جور وكاغ زكريا ومحمد تننك والقاضي محمود يدبغ والشيخ مور محمد هوكار والمبتلي بالتأليف أنا محمود كعت، ومن أمراء النواحي ابنه أسكي موسى وهد كركي علي فلن وغيرهم، ومن العبيد الخدام ثمانمائة عبد، ورئيسهم فرج ميبن.
وحج البيت في ذلك العام، وتصدق على فقراء الحرمين بمائة ألف دينار ذهباً، واشترى بمثلها جناناً وبيوتاً وحبسها على الفقراء والعلماء والمساكين. ثم طلب من أمير مكة مولاي العباس أن يعطيه واحداً من الشرفاء إما أخاه أو ابنه ليتبركوا به، وهذا بعد ما أمره مولاي العباس على أرض التكرور وبين أنه واحد من الخلفاء الاثني عشر. وقال له مولي العباس: فسأعطيك إن شاء الله من هو كأنا ولكن لا يمكن ذلك الآن.
ثم أمر مولاي العباس ابن أخيه مولاي الصقلي أن ينزل إليه. فنزل إليه، فنزل في العام الخامس وعشرين بعد تسعمائة. ووافق قدومه إلينا حال بداية التأليف ووصول القلم إلى هنا. فقدمنا ذكر مناقبه على مناقب غيره.
ومما بلغنا منها أنه لما قرب ودنا إلى تنبكت نحو يوم رأى الشيخ الإمام القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت في منامه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، وكانت ليلة الأحد عاشر ذي الحجة الحرام، وبعيره جاثٍ. فأقبل الشيخ الإمام إليه، فقبل ما بين عينيه، فتحدثا في أشياء. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم يا محمود أنه يقدم إليكم اليوم حفيدي في أثواب خصر على ناقة سوداء، في عينه اليسرى قرح، وهو الذي يصلي بكم هذا العيد، فإذا أتاكم فأنزلوه بموضع يقرب إلى الماء والمقابر وإلى المسجد الجامع وإلى السوق. ثم نبح كلب فوثب بعير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام، فقطع كلامه وركب بعيره وسار.
ثم انتبه الشيخ وتوضأ وجلس قليلاً. فافلق الفجر وكان ذلك اليوم يوم العيد، فأقبل إلى مجيئ البعير، فوجد آثاره في الأرض. فدور ذلك الموضع بهراوته. ثم خرج إلى المسجد.
فلما صلوا الفجر وطلعت الشمس وخرجوا إلى صلاة العيد أمر الشيخ محمود المؤذن إبراهيم بن عبد الرحمن بن السيوطي والفا صالح بن محمد والفا محمد بن المدان أن ينظروا له الطريق، وهل يأتي أحد من قبل المشرق. فنظروا فلم يروا شيئاً. ثم أمرهم ثانياً وثالثاً، فقالوا لم نر شيئاً. فتعدب وقال: الله أكبر، وجلس قليلاً. ثم: انظروه. ففعلوا. فإذا هو امرأ لابس ثوباً أخضر على ناقة سوداء. فقال لهم الشيخ هذه بغيتي. ثم قص لهم ما رأى في البارحة.
فلما وصل إليهم الشريف أحمد الصقلي وجدوه كما وصفه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأكرموه وحملوه على عنقهم إلى موضع يقال له بسوكر، وأنزلوه هنالك. ثم قدموه إلى المصلى، فصلى بهم العيد.
ثم لما رجع الشيخ من المصلى نظر الموضع الذي دوره بالهراوة، ووجده كما عهد من آثار جثة البعير ودوران الهراوة. فأمر تلامذته ببنائه وسماه كلصخ. واتخذه أهل تنبكت موضعاً يمدحون فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الأيام العظام، ويدرسون فيه الأحاديث. ثم أمر الشيخ بقتل جميع كلاب تنبكت لهذه الرؤيا.
وأمر أمير تنبكت بأن يرسل إلى الإمام العادل والخليفة الصالح يبين له مجيء مطلبه. فقدم الإمام إليه من كاغ وأتاه بمائة ألف دينار وخمسمائة خادم ومائة إبل ضيافة له. ثم ناوله الشريف الحسني براءة مولاي العباس وفيها بعد ذكر أشياء كانت بين مولاي العباس وبين الخليفة أسكيا: واعلم يا أخي أن أهل بيتنا ليس عليهم شيء من كلف السلطنة، وقد أرسلت إليك ابن أخي هو كنفسي، فإن كنت تستطيع أن تسقط تلك الكلف عنه وعن أهله فليقم عندك، وإلا فاتركه يرجع.
فقال الإمام بعد قراءة البراءة: فقد جعلنا ما هو أصعب من هذا لمن هو دونك، فكيف لا نفعله لك؟ ثم أمر كاتبه علي بن عبد الله أن يكتب له وثيقة في ذلك معلماً كل وافق عليه من الولاة والقضاة والساداة إن لا يتعرضوا له، ولا لرهطه الذين جاءوا معه ولأزواجهم وذرياتهم، في شيء من أزور السلطنة ولو ضيافة، ولهم شفاعة في كل شيء إلا النفس التي حرم الله، وإن كان ما شفعوا فيه جناية فعلينا وعلى نوابنا أرشها، أو في مال فعلينا ضمانه، وكل من خالف هذا الأمر فلا يلومنّ إلا نفسه. وقال للحاضرين حوله ليبلغ الشاهد منكم الغائب.
ثم سأله الإمام عن نسبه الشريف فأمر خادماً كان حوله أن يأتي بكتاب له فذهب. فأتى بالكتاب، فتناوله منه. ففتحه فأخرج منه رقعة فدفعها إلى الإمام، فدفعها الإمام إلى علي المذكور، فقرأها، فإذا فيها:
أنا أحمد بن عبد الرحمن بن إدريس بن أبي يعزي بن حسن بن إبراهيم بن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن عرف بزين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم سأله الإمام أيضاً عن حال ظعنه ورحلته من بلده بغداد وكيفية حاله في الطريق ووصوله إلى تنبكت. فقال: اعلم أن أمري عجيب، وذلك أني كنت ذات يوم أنا وإخواني... مولاي يعقوب بن موسى بن فضل بن مولاي الرشيد بن محمد المنوفي بن أبي يعزي بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي بن موسى بن عباس بن أحمد بن علي بن زين العابدين مولاي جيدان ومولاي أبو فارس ومولاي إسماعيل جالسين عند أبينا الشيخ عبد الرحمن، وهو ينظر إلى وجوهنا. ثم قال لمولاي جيدان: أن الله يرسلك إلى مدينة مكة أن تكون إمامها وحفائدك هناك. ثم التفت إلى أبي فارس وقال له: يا أبا فارس إن الله يرسلك إلى مدينة مراكش ويقويك عليهم، وربما تكون حفائدك سلطانهم. ثم التفت إلا إسماعيل وقال له: يا إسماعيل إن الله يعطيك العلم والحكمة والدولة والهيبة، ولكن مسكنك مدينة فاس، وتكون قاضيها وأسباطك هناك. ثم التفت إلي، مولاي أحمد عرف بالصقل بنعال، ووضع يده الكريمة على رأسي وبكى بكاء شديداً وخر مغشياً، حتى ظننّاً أنه يموت. فلما أفاق استغفر ربه، ثم قال لي: يا مولاي أحمد سيصيبك بعدي هم وكرب، وتقع في شدة ظلماً، حتى تخاف على نفسك من الهلاك، ثم ينجيك الله من ذلك، ثم يأمرك الله بالنزول إلى أرض السودان، وتكون أوتادهم من أرضه، وينقسم أبناؤك ثلاثة أقسام، ويرجع فرقتان إلى بغداد، ويبقى فرقة بأرض السودان، وربما تكون حفائد القرقتين أقوياء في بغداد، وحفائد الفرقة الباقية هم أوتاد أرض السودان، ويكثر فيهم الأولياء. وهذا الذي ذكرت لكم قد ذكره لي جدكم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في المام قبل أن نتزوج أمكم الكريمة لل زهر باثني عشر عاماً. ثم بعد ذلك توفي الشيخ رضي الله عنه في عام مكمل ثمانمائة وخمسين في آخر ذي الحجة الحرام ليلة الاثنين بين المغرب والعشاء، ودفناه ليلتئذ وراء مسجد بغداد تحت شجرة كيشة.
وكان الأمر بعد موته كما ذكر. فتوجه إخناني كلهم إلى المواضع التي أشار لهم، وبقيت أنا ببغداد. فخرجت منها ذات يوم أقصد طائف، فأصابني العطش، ولم أجد ماء إلى أن غربت الشمس وظلم الليل وغم السماء. وظللت عن الطريق حتى أيقنت بالهلاك، فأويت إلى شجرة هندية، وقد بلغني من التعب والعطش والجوع هم عظيم، فبت هناك إلى أن أصبح الله بخير الصباح.
فلما صليت الصبح التفت إلى جانبي، فإذا برجل ملطخ في دم، وفي تحت أبطه حريش. فنهضت قائماً بالتعوذ وذهبت إليه أنظر حاله، فوجدته في حال الرمق. ثم نظرت إلى بعد فإذا بسبعة رجال يسرعون وبأيديهم المدافع. فلما قربوا إلي قالوا: ولله ما ينجيك هذا يوم شيء. وقابلوا إلي بالمدافع وضربوها علي وأخطأوا كلهم. فهربت، وتبعني منهم ثلاثة حتى دخلت مدينة فاس.
وقصدت دار علي بن نان، وجاء الثلاثة ووقفوا باب الدار وطلبوا أن يخرجني علي، فأبى وقال: والله ما نخرج حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقتوله ظلماً. وطلب أن يعطيهم الدية، فأبوا. وكان له ابن واحد ذكر اسمه عبد الله فناداه: يا عبد الله. فجاء الابن. فلما رأوا الابن قال لهم علي: هل هذا يماثل طريدكم؟ قالوا: نعم. قال: خذوه وافعلوا به ما شئتم. واتركوا حفيد النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوه ساعتئذ، وكروا راجعين.
ثم منّ الله تعالى على علي المذكور بعشر بنين في تلك السنة، وشبوا كلهم، وأنا عند علي. ونكحوا وولد كل واحد منهم عشر بنين، وشبوا أيضاً وعلي حي وأنا عنده.
فركب علي وأولاده وحفائده، فصاروا مائة وأحد عشر فارساً قاصدين إلى حج بيت الله الحرام، وأنا معهم. فلما حججنا وزرنا وقضينا مناسك الحج قال علي المذكور: يا أهل الحرمين، إن الله تبارك وتعالى أكرمنه بشيء لم يكرم أحداً بمثلها في زمنها. ثم قص عليهم القصة الماضية، وانطلق راجعاً مع أولاده وحفائده.
وبقيت بمكة عامين. ثم أمرني مولاي العباس بأن أنزل إلى أرض التكرور، وأخبر بأن هناك خليفة من خلفاء جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكون عنده. وخرجت إلى مدينة بغداد متهيأ، فنمت فيها ذات ليلة، وكانت ليلة الجمعة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر عند رأسي وقال: يا زولاي أمد اخرج إلى مدينة تنبكت وهو موضع مسكنك وأنت أوتاد أرضه.
فخرجت في غده من بغداد وإمامها يومئذ عبد الله بن يوسف وقاضيها عبد الرحمن بن عيسى وجئت طائف فوجدت عبد البر بن وهب إمامها ومالك بن عوف قاضيها. ثم ارتحلت منها فزودوني بألف دينار، فجئت مصر فوجدت محمود بن سحنون إمامها وعبد العزيز قاضيها. ثم ارتحلت منها فزودوني بألف دينار، فجئت الاسكندرية فوجدت محمد بن يوشع إمامها وعبد القادر بن سفيان قايها. ثم ارتحلت منها وزودوني بألف دينار، فجئت مصراط ووجد أحمد بن عبد الملك إمامها وعلي بن عبد الله قاضيها. ثم ارتحلت منها وزودوني بألف دينار، فجئت بنغازي ووجدت أبا بكر بن عمر اليماني إمامها وعمر بن إبراهيم قاضيها. ثم ارتحلت فزودوني بألف دينار فجئت طرابلس ووجد داوود بن ناخورا إمامها وعبد القهار بن الفيزان قاضيها. ثم ارتحلت وزودوني بألف دينار وخمسمائة دينار، فجئت غدامس ووجدت ابن عباس بن عبد الحميد إمامها وأحمد الغدامسي بن عثمان قاضيها. ثم ارتحلت فزودوني بألف وسبعمائة دينار، فجئت فرجان فوجدت محمد الهادي بن يعقوب إمامها وموسى بن سنوسي قاضيها. ثم ارتحلت وزودوني بأفل دينار، فجئت تونس فوجدت يحيى بن عبد البؤوف إمامها ونوح الفرشي قاضيها. ثم ارتحلت فزودوني بألف وثلاثمائة دينار، فجئت سوسة ووجدت عبد الحق بن الحر إمامها وعبد الكريم بن عبد الحفيظ قاضيها. ثم ارتحلت وزودوني بألف ومائة دينار، فجئت فاس ووجدت محمد بن سنوسي إمامها والقاضي عياض بن موسى قاضيها. ثم ارتحلت فزودوني بألف ومائتي دينار، فجئت مكناسة ووجدت محمد بن يعقوب إمامها والقاضي بن عبد العزيز قاضيها. ثم ارتحلت وزودوني بألف دينار، فجئت تندوف فوجد قصي بن سليمان إمامها والطاهر البكي قاضيها. ثم ارتحلت وزودوني بألف دينار، فجئت يروَن فوجدت علي بن حميد إمامها وعبد الوهاب بن عبد الله قاضيها. ثم ارتحلت وزودوني بألف وخمسمائة دينار، وقصدت تنبكت.
فأقام الشريف الحسني أحمد الصقلي بتنبكت، ونكخ هناك امرأة أعرابية من أهل تافلالت اسمها زينب، فولدت له مزاور وخمدم وسليمان ورقية وزينب. ثم إن الإمام أسكيا الحاج محمد-أطال الله حياته وأسكننا وإياه جنته-لما لم يجد صبراً على مفارقته قدم إليه بنفسه، فأزعجه إلى كاغ، فأنزله في دائرة بيته، وأضافه بألف وسبعمائة زنجي، منهم بلد كوي بكاف وواو ممالتين فياء مسكونة، وزنجي كُيْنُ بداف مضمومة ضمة أشمام فبياء مسكونة ونون مضمومة اسم بلد بين تنبكت ودند، وإن كوي كان بين البحرين من ناحية بمب، نقلته من فم موسى، وزنجي كربا وكان أبوهم وعكري الأصل ولذلك يقال لهم تنكر وزنجي أُنكُندُ يهمزة مضمومة فنون مدغمة وكاف مضمومة إشماماً ونون ساكنة ودال مضمومة، وزنجي ككنك هي عريشة في أرض ماسنة، وزنجي جزيرة بركُنكُ بباء وراء ممالتين فكافين مضمومتين إشماماً بينهما نون مسكونة مدغمة، وزنجي جزيرة طيطَوَن بطاء ممالة فياء ساكنة وطاء مفتوحة وواو مفتوحة ونون ساكنة، وزنجي جزيرة كنككُرِ بكافين أيضاً بينهما نون كالمتقدمة فكاف مضمومة ممالة وراء مكسورة ممالة تذييل.
قال القاضي محمود كعت: وفي سابع قدوم الشريف الحسني أحمد الصقلي-عرف بالصقل بنعال-وذلك يوم الاثنين، جاء إليه الأمير العادل أسكي للموآنسة والمفاكهة، وجلسا لذلك إلى أن ارتفعت الشمس. فقال الأمير للشريف: يا سيدي هل يمكن للإنسان أن يرى الجان ويكلمه بغير دخول خلوة بالذكر والصلاة ونحو ذلك؟ فقال له الشريف: يمكن ذلك ولو تخلينا الآن لأريت ذلك.
فأمر الأمير الحاضرين بأن يذهبوا، فذهبوا كلهم. وبقي الأمير والشريف جالسين مدة طويلة. قال الأمير فرأيت كأنما الأرض كلها صارت ماءً، وكأن النجوم تخرج من ذلك الماء فتصعد إلى السماء، وكأن الطيور تأتي حولي فتذبح أنفسها. ثم رأيت سبعة رجال يحملون كرسياً أخضر حتى وضعوها بيننا فجلسنا قليلاً، فإذا برجال كثيرين في أيدي بعضهم الكتب وفي أيدي بعضهم الألواح، وبينهم شيخ متوكأً على هراوة، لم أدر من حيث أتوا، فجلسوا محدفين بنا. وتقدم الشيخ إلى الكرسي فجلس عليه.
ثم قال لي الشريف: هذا كبير تلامذة الشيخ شمهروش، وهو من أولاد ميمون حج مع شيخه عشر حجة. فقلت بعد ما سلم علينا: ما اسمه؟ فقال: دمير بن يعقوب. فتحيينا تحينة متعارفين. ثم قال لي الشريف: كل ما كنت تريد أن تسأل الشيخ شمهروش عنه لو كنت رأيته فاسأل هذا عن ذلك، فإنه علم جميع علم شمهروش.
فقلت: إني أحب أن أعرف أصل سغي وأصل عكري. فقال دمير بن يعقوب: يا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، إنه سمعت من شيخي شمهروش رضي الله عنه وأرضاه أن جد سغي وجد وعكري وجد ونكر كانوا إخواناً شقائق، وأبوهم كان ملكاً من ملوك اليمن اسمه تراس بن هارون. فلما مات أبوهم تولى علي المملكة أخوه يسرف بن هارون. فضيق على أبناء أخيه أشد التضييق، فتهاجر الأبناء من اليمن إلى ساحل البحر المحيط، ومعهم زوجاتهم. ووجدوا هنالك عفريتاً من الجن، فسألوه عن اسمه. فقال: رور بن سار. فقالوا: وما جاء بك في هذا المكان؟ فقال تُكُ. قالوا وما اسم هذا المحل؟ فقال: لا أعلم. فقالوا: يحق لهذا المكان أن يقال له تكرور. وقالوا: وما خفت منه؟ فقال: سليمن بن داوود. وكان عفريت تارة يطير في الهوى، وتارة يصعد إلى الجبال، وتارة يغمز في الماء، وتارة يخرق الأرض ويدخل فيه.
وكان اسم كبير الرجال المذكورين وعكري بن براس، واسم زوجته آمنة بنت بخت، وهو جد قبيلة وعكري، بواو مفتوحة وعين ساكنة وكاف وراء مصمومة ممالتين فياء ساكنة. واسم ثاني الرجال سغي بن براس، واسم زوجته سارة بنت وهب، وهو جد قبيلة سغي، بسين وغين مضمومتين ممالتين بعدهما ياء ساكنة. وثالث الرجال اسمه ونكر، وهو أصغر هم، وليس له زوجة، وإنما كان لهم أمتان اسم أحدهما سكرى واسم الأخر كسرى. فاتخذ ونكر سكرى سرية له، وكان جد قبيلة ونكر، بواو بفتوحة ونون مدغمة وكاف مفتوحة فراء مفتوحة. وكان لهم عبد يسمى بمينك، فزوجوه بأمتهم كسرى وهو جد قبيلة مينك، بميم مكسورة ممالة فباء مدغمة ونون مدغمة وكاف مفتوحة. وإلى آبائهم نسبوا.
ثم تفرقوا في الأرض، وكان كبيرهم وعكري سلطانهم. وسموه كيمغ، ومعنى ذلك في كلامهم طال الإرث، يريدون بذلك أطال الله ورثتنا الملك. وقيل غير ذلك، هكذا ذكره الشيخ شمهروش.
فقال له الإمام: فجزاك الله أحسن جزائه، فهل أخبرك الشيخ بخبر عوج الذي يقول الناس أنه أكبر أهل الدنيا؟ فقال: نعم، قد ذكر لي الشيخ من أخباره ما لا يمكن أن أذكره كله لك الآن، ولكن سأذكر لك شيئاً منها إن شاء الله. سمعت منه رضي الله عنه أن عوج ابن نعناك كان رجلاً جباراً، وكان أكبر أهل الدنيا في زمنه وأطولهم. وكان لا يشبع، وكان صحرائياً لا يخالط الناس إلا أحياناً. وكان يصطادالوحوش والحيتان، ويأخذ بعض الطيور في طيرانها. ولا يحرث ولا يكسب شيئاً إلا الصيد، وإذا قرب حصاد مزارع الناس سبقهم عليها فأكلها واستأصلها. فإذا جاء القوم ليطردوه طردهم، وأخذ بعضهم ورمى به بعضاً فيموت المرمي به، حتى خاف الناس منه وتركوه.
فلما اشتد عليهم الضرر احتالوه فطرحوا من أنفسهم على كل بيت ثوباً، فجمعوا تلك الأثواب فأعطوه لعوج ديناً إلى شهرين. ولما جاء وقت الحصاد جعل على عادته ليأكل المزارع، فرآه الصبيان فقالوا: هذا مدياننا هذا، مدياننا، أفض لنا ديننا. ففر عنهم وترك لهم مزارعهم.
فلما قرب وقت الطوفان قال النبي عليه السلام: يا عوج احتطب لي ما أصنع منه فلكاً لأشبعك. فذهب عوج لذلك واحتطب عيداناً كثيرة. فلما رآه أهل القرية خافوا أن يهلكهم تلك العيدان إن وصل بها وطرحها. فخرج بعضهم إليه ولقيه وقال له: يا عوج إلى أين تقصد بهذه العيدان؟ فقال: النبي نوح عليه السلام أمرني أن أحتطب له لكي يشبعني. فقال: ألذلك جمعت هذه؟ فقال عوج: نعم. قال: أما تعلم أن نوحاً يغرك، بل لا يملك ما يشبعك به. فطرح عوج تلك العيدان كلها إلا عوداً واحداً اتخذه لعصاه. فجاء إلى النبي نوح عليه السلام فقال: اعطني ما في يدك. فقال عوج: هذا عصاي. فقال النبي نوح: خذ شق خبز. فاحتقره وطرحه في فيه، ولم يمكن أن يضم عليه فاه. ثم أخرجه وجعل يأكله قليلاً قليلاً حتى شبع، وبقي بعض الشق كأنه لم ينقص. فقال عوج: الحمد لله رب العالمين، اليوم شبعت لم أشبع قبله قط. فقال النبي نوح عليه السلام: فستشبع بعده أيضاً مرة.
فلما نزل الطوفان وكاد الماء أن يغرق عوج صعد على بعض الجبال وجلس، وكانت الحيتان تأتي إليه فيأخذها ويشويها بعين الشمس، ثم يأكلها هكذا إلى أن شبع. وراود الماء أن يغرقه فقام. ثم ارتفع الماء إلى صدره، ولم يجاوز صدره إلى أن غاض.
وكان لا ينام إلا بعد سنة. فأخذت السنة في بعض الصحرى، ووجده بعض إماء النبي نوح عليه السلام نائماً، ومررن نحو رجليه إلى طلب الحطب. فلما رجعن وجدنه قد احتلم وسال احتلامه كالسيل. فظننه ماءً، فخضنه، فحملن كلهن من ماء احتلام عوج.
وكن خمس إماء، أكبرهن ماسي بنت سر، والثانية وهي تلي ماسي في السن اسمها سور بنت سر، وتليها في السن كاتو، وتليها جار، وتليها سبط. وكلهن بنات سري. فلما ولدن ولدت كل امرأة توامين رجلاً وأثني. فولدت ماسي جنك وميبنن، وولدت سور بوبو، وسري وولدت كاتو تمبو وحوب، وولدت جار كرنكي وسار، وولدت سبط سرك ونار.
فلما كبر الأولاد أذن لهم نوح عليه السلام أن يرتحلوا مع أمهاتهم فينزلوا في ناحية البحر ويصطادوا حيتاناً يعيشوا بأنفسهم، ويأتوا له بشيء من ذلك الحيتان. ففعلوا ذلك إلى أن بلغوا النكاح.
فتزوج جنك سري وكان أبا قبيلة جنك، بجيم وكاف مكسورتين ممالتين ونون مدغمة بعدها كاف ممالة. وتزوج بوبو ميبنن، وكان أبا قبيلة بوبو، بباء موحدة ممالة فواو ممالة وباء وواو أيضاً كذلك. وتزوج كرنكي سور، وكان أبا قبيلة كرنكي. وتوزج تمبو سور وكان أبا قبيلة كرغي، بكاف وغين مضمومتين ممالتين بينهما راء ساكنة. وتزوج سرك سار، وكان أبا قبيلة سرك، بسين وكاف مصمومتين ممالتين بينهما راء ساكنة.
وكانوا في تلك الحالة بزمن النبي نوح عليه السلام. فلما توفي النبي نوح عليه السلام تفرقوا وشتتوا فراراً من الرقية. فأما تمبو وبوبو فصدا مع أبناءهما الصحارى. وأما جنك وكرنكي وسرك فدخلوا في البحر إلى بعض جزائره. ثم تناسلوا وتكاثروا وكانوا هنالك إلى أن طلع عليهم الناس، فأخبر بخبرهم بعض ملوك بني إسرائل.
فأرسل قومه ليأخذهم، وكان صغيرهم سرك جاهلاً غيباً أحمق، فقال له أخوه جنك وكرنكي: يا سرك قل لرسل الملك: ليس فينا مملوك لنوح إلا أنت وأولادك، فإذا قلت ذلك ننجو نحن، ثم نطلب ما نفديكم به. فامتثل سرك قولهما، فأخذ رسل الملك سرك وأولاده إلا قليلاً منهم اختفوا وبقوا مع جنك وكرنكي. ثم تشتتوا شذر مذر إلى أن بلغوا أرضكم هذه.
هكذا سمعت من الشيخ رضي الله عنه.
فقال له الأمير أسكيا أجدت، فجزاك الله خير جزائه. فهل عندك شيء من خبر البربر؟ فقال: أجل، سمعت من شيخي شمهروش رضوان الله عليه أن ملكاً من ملوك فارس اسمه قرطوم بن دارم كان له على بعض عماله غرامة، وذلك في كل سنة خمسمائة جارية غير مفتضة. فأرسل في بعض السنين رسوله سلمان بن عاصف إلى أخذ تلك الغرامة، فأخذها وجاء بالإماء الجواري إلى أن قرب من مدينة الملك بنحو عشرة أيام، وبات بهن في موضع يقال له كرسا. فلما أصبح وجدهن كلهن مفتضات، فخاف سلمان من ذلك على نفسه، فأرسل إلى الملك يبين له ما قدره الله. فأمر الملك بأن يتركهن هنالك إلى أن يلدن. ففعل، فلما ولدن ولدن غلماناً كالجن طبيعة إلا أن صورهم صور بني آدم. فقطع الملك على عدد رجالهم أفراساً لهم، يغزون عليها ويغيرون ويأخذون له الأموال. فلما مات ذلك الملك هربوا إلى أرض المغرب، ودخلوا تحت رعية كيمغ يحيىبن مارس. وهذا أصلهم على ما ذكر لي شيخي وسيدي شمهروش رضي الله عنه.
وقد ذكر القاضي محمود كعت أصل ملوك سنغي. هو امرأتان من أسباط جابر بن عبد الله الأنصاري خرجتا من المدينة يوماً إلى جنانهما وأصابهما العطش. وكان لأحديهما أي أكبرهما ابن صغير مراهق، وذهب يطلب الماء لهما. ووجد الماء وجاء به في ذلك البستان. وكان أول من لقيته خالته، وطلبت عليه أن يسقيها، وأبى عليها إلا بعد أن يشرب أمه. ومر عليها حتى وصل إلى أمه. وسألته أمه فقالت له: هل أسقيت خالتك فلانة يعني شقيقتها؟ وقال لا. وغضبت عليه وطردته مع ذلك الماء. وغضب هو وطرح نفسه في الصحراء، ولم يعرف له خبر.
وطرحت خالته نفسها بعده في الصحراء لأجل أمه التي طردته بسببها. واقتفت آثار ابن أختها، وضلت عن الطريق حتى وقعت في يد النصارى، وأخذوها. ومكثت مع أحد حداد النصارى وولدت لذلك النصراني بنتاً في الزنى. ثم نكحها بعد ذلك وولدت له ابناً. ثم كبرت البنت المولودة في الزنى حتى زوجها أحد حداد النصارى أيضاً، فولدت له ابناً.
فكبرا هذان الابنان، وحدثت لهما أمهما حالها وسبب خروجها من المدينة وطلبها ابن أختها. وأطرحا أنفسهما في طلب أخيهما حتى سمعا خبره في السودان، فوجداه في كاع.
فوجدوا أن أهل كاع ليس لهم سلطان إلا الحوت الكبير يخرج لهم في وقت الأضحية ويجلس لهم إلى وقت الزوال، ثم يرجعوا إلى بيوتهم.
فلما وصلا إلى أخيهما قال له أخوه ابن خالته: أنا أعمل لك ما تقتل به هذا الحوت فتكون ملكاً على هؤلاء القوم. فعمل له دم وقتله به. وكان عليهم ملكاً مهيباً مطاعاً.
وعمل ابن أختهما له دفاً، وكان يضربه. هو جد من كان دع، اسم قبيلة سغى. وكان الآخر أصل كل حداد من حفائد جم كريا.
تنبيهاتز الأول: نذكر فيه أولاد الشريف الحسني أحمد الصقلي. وذلك أن له من الأولاد محمد ومزاور وسليمان. ورجع محمد وسليمان إلى مدينة بغداد. وبقي مزاور في بلد تنبكت، ونكح امرأة من الأعراب اسمها زينب بنت وهب، فولدت ابن القاسم وحمدم الهاشمي وعلي وعبد الله ومولاي محمد وعبد الرحيم. ثم ارتحل هؤلاء الشرفاء من تنبكت لسبب جوع خافوا منه على أنفسهم وعيالهم. وحين ارتحلوا باتوا الكاهي الأغراب بوس. ثم ارتحلوا منها وباتوا أسكنغ. ثم ارتحلوا منها وباتوا ديري. ثم ارتحلوا، فلما وصلوا موضعاً يقال له عسفي تفرقوا، فأخذ بعضهم ميمنة وبعضهم ميسرة. فأما أهل الميمنة فابن القاسم ومولاي محمد الهاشمي وعبد الرحيم، فبات هؤللاء رأس الصيران يقال له في كلامنا جندبغ. ثم ارتحلوا وباتوا بدودجس. ثم تفرقوا وتوجه محمد الهاشمي إلى سرفلابير، وأقبل ابن القاسم إلى قرية وانك، ومر عبد الرحيم إلى توتل. وأما أهل الميسرة فهم عبد الله ومولاي محمد وعلي. فأما عبد الله أقبل إلى قرية واوبار وأما مولاي محمد فأقبل إلى نحو وو، وأما علي فتوجه إلى كرم.
والتنبيه الثاني نذكر فيه ما للشيخ العالم التقي الولي الصالح محمد تل، وينسبونه إلى بني مداس من الكرمات والعطاء من الأمير أسكيا، وذلك أنه ما رآه ولا سمع ذكره إلا احترمه وقبل يديه الكريمتين وقال: نفعنا الله ببركتك. وجعل له أن يركب جمله ويسير به نهاراً واحداً، ويكون كل ما وجد في تلك المسافة من ثلاث قبائل جم ول وجم تن وسربي ملكاً له، أي للشيخ محد تل. ومن ليس من هؤلاء فيكون حوزاً له، ومبدأ تلك المسافة حركنس كيغر ومنتهاه إلى دودكسر. وأما القرى المصهرات بهذه القبائل في هذه المسافة فيمون إلى كاي وما بينهما من بلد أوس وكرم تنيف على سبعين قرية.
والتنبيه الثالث نذكر فيه ما لشيخنا العالم الورع الزاهد الولي المتفنن الفع صالح جور عبد الأمير أسكيا من الإكرام والعطاء. وذلك أن الأمير إذا رآه لا يصغي إلى كلام أحد سواه ولا يفرح لأحد كما يفرح له. ومما ملّكه من القبائل المملوكين جدادانكا وقبيلة فالن وسري وبنكن وتميا وحردان وبل. وأصل هؤلاء من سرك. تتمة.
الباب الثاني
ملكي كنك موسىولنذكر بعض ما أمكن لنا من أخبار ملّكي كنك موسى.
وكان ملكي سلطاناً صالحاً تقياً عابداً ملك من منتهى مل إلى سبردك، وأطاعه حميع من فيها من سغي وغيرها. ومن علامة صلاحه أنه كان يعتق كل يوم نفساً، وحج إلى بيت الله الحرام، وبنى في حجه مسجد جامع تنبكت ودكر وخندم وديري وونك وبك، وكنك عجمية، وقيل أنها عربية الأصل.
ولحجّه سبب حكاه لي الطالب الحافظ لقصائص الأوائل، وهو محمد فم رحمه الله. ذكر أن ملكي كنك موسى هو الذي قتل أمه نانا كنك خطأً، وأسف لذلك وندم وخاف عقوبة ذلك، وتصدق بمال جسيم وعزم على صوم الدهر.
وسأل بعض علماء زمانه عما يفعل في الاستغفار لهذا الذنب العظيم. فقال له: أرى أن تفزع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهرب إليه وتدخل في حرمته وتستشفع به، وسيشفعه الله فيك، وهذا هو الرأي.
وعقد العزم والحزم على ذلك في يومه، وقام يجمع المال والجهاز للسفر ونادى من أرضه من كل جانب يطلب الزاد والعون. وأتى بعض مشائخه يطلب منه أن يختار له يوم الخروج في الأيام. فقال أرى أن تنتظر يوم السبت الذي يكون ثاني عشر شهر، واخرج فيه لا تموت حتى ترجع لدارك سالماً، إن شاء الله.
ومكث يتربص حصول ذلك في الشهور وينتظره. ثم لم تحصل إلا بعد تسعة أشهر وافق ثاني عشره بيوم السبت. وخرج بعد ما وصل رأس قافلته بتنبكت، وهو بداره في مل.
والسبت الموافق بثاني عشر شهر كان منذ حينئذ يتفاؤل به مسافروهم، ويمثل به في مسافر رجع بسوء المنقلب، فيقال: هذا ما خرج في داره سبت خروج ملكي.
وخرج كنك موسى بقوة عظيمة ومال جسيم في جيش عرمرم. وقد روى لنا بعض الطلبة من شيخنا العلامة القاضي أبي العباس سيدي أحمد بن أحمد بن أند غمحمد رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: سأل يوم خروج الباشا علي بن عبد القادر إلى توات زاعماً أنه يريد الحج عن عدد من مشى معه من قومه، فقيل له: يبلغ من معه من جملة السلاح نحو ثمانين. فكبر وسبح، ثم قال: لم تزل الدنيا على النقصان، وقد خرج كنك موسى إلى الحج من هما ومعه ثمانية آلاف، ثم أسكي محمد خرج حاجاً ومعه ثمانمائة رجلاً، عشر ذلك، وجاء بعدهما علي بن عبد القادر ثالثاً بثمانين عشر ثمانمائة. ثم قال: سبحانه لا إله إلا هو وقد لا يتمّ مراد علي بن عبد القادر انتهى.
ثم خرج كنك موسى راحلاً ذاهباً. وفي قصة سيره أشياء أكثرها لا يصح ويأبى العقل قبول ذلك. ومن ذلك ما وجدته جمعة في بلد من هنا إلى مصر إلا وبنا فيه مسجداً يومه، ويقال أن مسجد بلد كندم ودكرى من المساجد الذين بنى. وأدام طعامه غداءً وعشاءً منذ خرج من داره إلى أن قفل لحم الحوت الطري والسلق الرطب.
وحدثت أنه خرجت معه زوجته المسماة أنار كنت مع خمسامائة نسوتها وخدمها إلى أن نزل بموضع من صحارى بين توات وتغاز وضربوا بها العطن. وباتت زوجته تلك معه في فسطاطه ساهرة، ونام هو. ثم استيقظ ووجدها ساهرة لم تمن، فسألها: أما نمتِ؟ ما لك؟ فما أجابته، فبقيت إلى نصف الليل. ثم استيقظ فألقاها كذلك ساهرة، فأنشدها بالله عما أصابها، فقالت: ليست إلا وسخ بدني ودرنها، وقد تمنيت البحر وأغتسل وأخوض وأغتسم [أغتسل] وأعوم، فهل لك تحصيل ذلك وإيجاده في ملكك؟
ونهض كنك موسى جالساً وغاظه ذلك وجلس متفكراً، ثم أمر بعبده الذي هو رئيس عبيده وقومه المسمى فرب. ونودي وأتى وأحياه تحية الملك، وعادة تحيتهم له أن يقلع قميصه ويتأزر به، ثم يركع يضرب صدره، ثم يحثو على ركبتيه. ولا من في مملكته يصافحه إلا قاضيه، وهو الملقب بأنفار قم، وقم قبيلة، ومنها يخرخ قاضيهم. ولا يعرفون القاضي وإنما يقال أنفار.
فلما فرغ فرب من تحيته قال له: يا فرب، منذ تزوجت بزوجتي هذه ما طلبت منه وما خاطبتني بما تقصر عنه قدرتي، ولا بما ليس في ملكي ويعجز عنه قدرتي، إلا في هذه الليلة، فقد سألتني البحر وإيجادها من العدم في قفارها، وبيننا وبين البحر مسيرة نصف شهر، وليس لهذا الموجد إلا الله وحده، فقد أعجزتني الآن. فقال فرب: فعسى الله أن يصلحه عليك.
فخرج فرب باكياً يضرب صدره إلى موضع نزوله، ونادى العبيد، وحضروا أسرع من طرفة عين، وعددهم ثمانية آلاف وسبعمائة، هكذا قاله بابا أشرع منذ بمدينة جنى، وقال غيره بل تسعة آلاف كاملة. فأخرج لهم المديرات على حسبهم، ومشى ألف خطوة وأمرهم بحفرة، وحفروها وأخرجوا ترابها. ثم حفروها حتى نزل إلى نحو ثلاث قامات. ثم أمر بالرمال والأحجار حتى امتلأت الحفرة. ثم أمر بجذوات الحطب، فجمعوها فوقها. ثم أتى بقلبات بلنغة ووضعها فوق ذلك كله. ثم رمى عليها النار، ووقد واشتعل فذاب ذلك البلنغات على الأحجار والرمال وكسرهم وملست الحفرة كالفخار. ثم أمر بالمياه اللواتي في قِربهم وزقهم، وحلوا أفواه القرب والزقوق فانصبت وسالت إلى الحفرة حتى امتلأت وأعلت وسمت، بحيث يضطرب فيها الأمواج وتلاطم كالبحر العظيم.
ورجع إلى كنك موسى، فوجدهما جالسين، وقد أيقظهما وهج تلك النار ودخانه، فحياه حياة. ثم قال: أيها السيد، فقد أعانك الله وأذهب همك وأين إنارِ؟ فقد أقدرك الله على إيجاد البحر ببركة من تزوره، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هي.
ووافق ذلك بطلوع الفجر الأعلى من تلك الليلة. فقامت نسوة معها، وهن خمسمائة، وركبت على بغلتها إلى البحر. فنزلن فيها فرحات مولولات [مولوعات] مسرورات وغسلن. ثم رحلوا وغرف بعضهم من ماء الحفرة.
ومشى معه سلمان بن يعت، وكان من خدمه يركب أمام الرفقة، وورد في جم كثير. ووردوا يوماً على بئر في قفار صحاريهم عطاشٍ ظامئين، وأدلوا دلوهم في ذلك البئر ونزل على الماء فقطع حبله هنالك، ثم أخرى فقطع، ثم أخرى فقطع. فظنوا أن هنالك من يقطعها، وهم في غاية الظمآن، واجتمعوا كلهم على جرفها لا يدرون ما يفعلون. وشمر سلمان بن يعت على ساعده وتأبط سكينه ورمى بينفسه إلى داخل البئر، وترك القوم على البئر وافقين في كرب عظيم. وإذا هو برجل هنالك لص محارب سبقهم على البئر، مراده يمنعهم الماء حتى يموتوا عطشاناً كلهم فيخرج ويجمع جميع أموالهم لنفسه، ولا يظن أن أحداً يقدر أن ينزل عليه هنالك. فقتله سلمان بن يعت هنالك. ثم حرك لهم حبل الدلو وجروه فإذا هم بجنازة رجل قتله. وجروه ورموا به إلى البئر ميتاً.
وحدثني شيخنا موربكر بن صالح ونكرب رحمه الله أنه كان معه حمل أربعين بغلة من الذهب، وحج وزار.
قيل طلب من شيخ بلد الحرام مكة الشريفة-حرسها الله تعالى-أن يعطيه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه ويسلم الشريفين أو الثلاث أو الأربعة يذهب معه إلى بلده ليتبرك أهل الناحية برؤيتهم وببركة أثر أقدامهم في بلدهم، وأبى الشيخ له، وأجمعوا على المنع والإباية عن ذلك تعظيماً وإجلالاً لدمه الشريف، لئلا يقع واحد منهم في أيدي الكفرة ويضيع أو يضل. وصمم عليهم في ذلك واشتد إلحاؤه، فقال الشريف: لا أفعل ولا آمر ولا أنهى، ومن شاء فليتبعك، فأمره بيده، فأنا بريء.
فأمر ملكي منادياً في الجوامع: من أراد ألف مثقال من الذهب فليتبعني إلى أرضي، فله ألف حاضر. وجمع عليه أربعة رجال من قريش، قيل أنهم كانوا من موالي قريش وليسوا من أنفس قريش، وأعطاهم أربعة آلاف، كل واحد منهم ألف، وتبعوه بأهليهم راحلين إلى بلده.
فلما رجع ملكي قافلاً ووصل إلى تنبكت، جمع القوارب والسفن، وحمل عيالهم وأمتعتهم ونسوته ليوصلهم إلى أرضه، حين عجزت دوابه عن الركوب. فلما وصلت سفنه إلى بلد كم، وفيهن شرفاؤه القادمين معه من مكة الشريفة، وقع عليهم جنكي وكرن ونهبوا كل ما كان في تلك السفن، وأنزلوا الشرفاء عندهم، وخرجوا في طاعة ملكي. وعلمهم أصحاب السفن بأمر الشرفاء وأخبرهم بمكانهم، وأقبلوا عليهم وأكرمهم وأجلسهم بمكان هنالك يسمى شنشن. قيل أن شرفاء بلد كيي أو كئي منهم.
انتهى قصة سفر حج ملكي كنك موسى.
وجنكي من أصغر عبيد ملكي وأرذل خدمه، وحسبك أنه لا يقف إلا على زوجته أي زوجة ملكي، ولها يعطي غرامة أقليم جني ولا يراه ملكي. بسبحان من يعز ويذل ويرفع ويخفض.
تنبيه: إن قيل ما الفرق بين ملنكي وونكر، فاعلم أن ونكر وملنكي من أصل واحد، إلا أن ملنكي هو الجندي منهم وونكر من يتجر ويسعى من أفق إلى أفق. وأما مل فإقليم واسع وأرض كبيرة عظيمة مشتملة على المدن والقرى، ويد سلطان مل مبسوطة على الكل بالقهر والغلبة. وكنا نسمع من أعوام عصرنا يقولون سلاطين الدنيا أربعة، ما خلا السلطان الأعظم: سلطان بغداد، وسلطان مصر، وسلطان برن، وسلطان مل.
وبلده التي كانت فيه دار الإمارة لملكي اسمها جارب، وأخرى تسمى ينع. ولا يسقي أهليهما إلا على بحر كَل، وعليه يردون على مسافة العدي، يخرجون إليه بكرة اليوم ويرجعون وقت العصر من يومه، وعليه يغسلون ثيابهم.
وهكذا حدثني به أخونا الحافظ محمد فم، فقال فصار اليوم مسيرة يومين. فانظر هذا الأمر وتعجب هل نقص من النهار شيء أو زيد في مسافة تلك المكان، أو ضعف حال خطوات الناس وقوتهم. فسبحان من يفعل ما يشاء.
وقد أذكرني هذه القصة قصة ما حكاه صاحب خريدة العجائب في قصة جبل سرنديب، هو جبل بأعلى الصين في بحر الهند، وهو الجبل الذي أهبط عليه آدم عليه السلام، وعليه أثر قدمه غائص في الصخر، طوله سبعون شبراً. وإن آدم خطا من هذا الجبل إلى ساحل البحر خطوة واحدة، وهو مسيرة يومين، سبحان من باين بين خلقه خلقاً وخلقاً.
قيل أن مل مشتمل على نحو أربعمائة مدن، وأرضها كثيرة الخير، ليس في مملكة سلاطين الدنيا غير الشام أحسن منها. وأهلها ذوو ثروة ورفاهة عيش، وحسبك بمعدن الذهب في أرضه، وشجرة كور الذي لا يوجد مثلها في الأرضين من التكرور إلا أرض برك.
ويد سلطانها مبسوطة من بيت إلى فنكاس، وكياك إلى سنقل، وفوت وزار وعربها في زمانهم الأول.
الباب الثالث
مملكة كياكولا يتولى ملك كياك إلا عبيده وأمراءه، ولا يدخله إلا يعت [نعت]. ثم بعد ذلك رجع أمره إلى جاز. ثم غلب على تلك البلدان أهل كياك، وخرجوا في طاعة ملكي وقتلوا أميره وخالفوا عليه، وتسلطن فيها أولاد جاور، وتلقبوا كياك. وقويت دولتهم وعظمت ملكهم وقهروا أهل تلك الجهة، وقاموا بالمحاربة وعظم جيشه وكثر حتى كان يخرج إلى القتال في نيف وألفين من الخيل.
وكان بأرض كياك مدينة عظيمة قديمة، سبقت زار بناءً وإمارة، واسمها سائن دنب، بسين مهملة مفتوحة فألف مكسورة بعده همزة مكسورة فنون ساكنة، وهو بلد الجافناوين الذين يقال لهم جافنك، وهي موجودة من زمن كيمع. ثم خربت عند انقراض دولة كيمع في أيام فتنتهم.
وبعد خرابته بنيت زار. ورحل بعضهم إلى كسات، وهم المسمون بكس، وبعضهم إلى زار، وهم قد غلب عليهم كياك فرن وسلب ملكهم، وعلى جميع عربها إلى فطط وتشت وتكنكع.
وأرذل الناس وأصغرهم عندهم هو فلن، يغلب رجل واحد منهم عشرة من الفلانيين. وأكثر ما يأخذون من طاعتهم من الغرامة الخيل، إلا أن ملوكهم ليس عليهم هيبة الملوك، ولا يجلسون في زي الملوك، ولا يخرجون في زينتهم، ولا يلبسون العمامة. ولا يجلسون على الفرش، إنماهو في الفلانيين أبداً، وربما يجلس بين أصحابه مختلطاً بهم، ولا يعرف من بينهم. ولا يملك مع كثرة خيول جيشه إلا فرساً واحداً أبداً، عادة الجارية فيهم، مع قوة سلطنته. ولا يخرج من بيته إلى زيارة أحد، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجهاد فقط. ولا يدخل المسجد إ لا لصلاة العيد لا غير. وكانوا يقولون كفى الملك زينة ملكه وسلطنته، ولا يحتاج إلى الزينة بعد ذلك.
ومر كرمن فار على كياك إلى تنيض ملك فوت، وخافه كياك فرن وتحير وظنه يأنيه، وبعث إليه الهدايا يطلب رضاه. قيل إن كياك فرن وقع بينه وبين تنيض ملك فوت أمور وخصومة وتشاجر، وحلف بأن يكسر بلده ويصيره صحراء، وكان أقوى منه قوة وخيلاً ورجالاً. فاستغاث لذلك بكنفار عمر، ولذلك خرج إليه. وهذا أول ما سمعنا من القصة.
ثم أخبرني بعض العارفين بسيرهم أن سبب خروج كرمن فار عمر إليه أن أحد الزغرانيين من أهل سوي كان يخرج كل سنة إلى فوت ويتجر فيها، وسمع به تنيض وأخذ ماله ظلماً وجوراً وأراد قتله، وهرب إلى كرمن فار عمر، وسعى به إليه ونم عليه عنده وقال أنه يشتم كرمن فار عمر. ووقع فيه وأغضبه، ولذلك خرج إليه.
وقد بلغ أهل سوي في الحرب وعلم القتال والشجاعة والنجدة ومعرفة المكيدة غاية ونهاية. انظر كيف خرج كرمن فار بهذا الجم العرمرم الكثيف وقطع بها هذه المفازة البعيدة إلى قتال تنيض ملك فوت، مسيرة نيف وشهرين من تندرمة إلى فوت، وكيف ظفر فيهم وتمكن من ملكهم وقتله وغنم فيهم الأموال الجسيمة. وكان ذلك في عام ثامن عشر بعد تسعمائة.
الباب الرابع
دولة كيمعوأما سلطنة مل ما استقامت إلا بعد انقراض دولة كيمع سلطان المغرب كله، بلا استثناء مكان ما منه. وسلطان مل من عبيده وخدمه ووزرائه، وكَيَمَعَ بكاف فياء وميم وعين مفتوحات، معناه في لغة وعكري ملك الذهب، كيهو: الذهب، ومع: الملك.
وهو سلطان عظيم. وأخبرني بعض الموثقين عن الفقيه قاضي ماسنة الفع أيد الماسني أن كيمع من الملوك الأوائل، وقد مضى منهم عشرون ملكاً قبل ظهور رسول الله سلى الله عليه وسلم. واسم بلده قنب قنب مدينة عظيمة. وكان انقراض دولتهم في القرن الأول من الهجرة النبوية. وحدثني بعض السلف أن آخرهم كَنِسعَي، بكاف مفتوحة فنون مكسورة وسين مهملة وعين مفتوحة قبل ياء ساكنة، وهو الملك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله بلد اسمه كرنكع، وهو مسكن أمه، وهي الآن باقية عامرة.
ويقال أن له ألف خيل مربوطين في داره. عادة معروفة إن مات واحد منهم في صبح جيء بآخر مكانه عوضه قبل المساء، وفي اللليل كذلك. ولا ينام واحد منهم إلا على زربية، ولا يربط إلا بحرير في عنقه وفي رجله. ولكن منهم أنية من النحاس يبول فيها، لا يقطر من بوله على الأرض قطرة إلا في الإناء، لا في ليل ولا في نهار. ولا ترى زبلاً واحداً تحت واحد منهم، ولكل منهم من الخدم ثلاثة أنفس يجلسون تحته، واحد منهم يقوم بعلفه، واحد منهم بسقيه، وواحد منهم موكل على رصد بوله وحمل زبله. هكذا أخبرني به الشيخ محمد تكاد بن مور محمد بن عند الكريم فوفن، رحمه الله.
وكان أي كيمع يخرج بعد عساء كل ليلة يسمر مع قومه. ولا يخرج حتى يجمع عليه ألف حزمة، ويجمعوها في باب دار مملكته، ويوقد تحته نار ويشتعل مرة واحدة، ويضيء له ما بين السماء والأرض ويشرق البلد كله. ثم يأتي ويجلس على منصّة الذهب الأحمر، وسمعت بعض من حدثني بالفضة، وقال ألف شقة من الكتان، لا ألف حزمة من الحطب. ثم إن جلس يأمر بعشرة آلاف من الموائد، ويأكلون وهو لا يأكل. فمتى تم الأكل يقوم ويدخل، ولا يقومون حتى تصير الحزمات رماداً، ثم يقومون. وهذا على الدوام.
ثم أفنى الله ملكهم وسلط أرذالهم على كبرائهم من قومهم واستصالهم [واستأصلوهم] وقتلوا جميع أولاد ملوكهم، حتى يبقروا بطون نساءهم ويخرجوا الجنين ويقتلهم.
واختلف أي قبيلة هم كانوا منها. قيل من وعكري، وقيل من ونكر، وهو ضعيف لا يصح. وقيل من الصنهاجة، وهو أقرب عندي، لأنهم يقولون في نسبهم أسْكُعُ صوب، بهمزة مفتوحة فسين مهملة ساكنة فكاف مضمومة فعنين مصمومة، وهو حم في اصطلاح سودان لقباً. والأصح أنهم ليسوا من السوادين، والله أعلم. وقد بعد زمانهم ومكانهم علينا، ولا يتأتي لمؤرخ في هذا اليوم أن يأتي بصحة شيء من أمورهم يقطع بها، ولم يتقدم لهم تاريخ فيعتمد عليه.
الباب الخامس
شي عالوقد آن أن نرجع إلى المقصود من ذكر تراجم الأساكي، فقد أطنبنا في هؤلاء وسلكنا مسلكاً لم نقصد مما ليس له طائل، ويكاد أن يكون أكثرهم أكاذيب. ونستغفره تعالى: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
ثم بعد شي باردل ينب، ثم شي مادعو، ثم شي محمد كوكيا، ثم شي محمد فار، ثم شي بلم، ثم شسي سلمان دام-وفي بعض الروايات داند هو اسمه-وهو جد أهل بلد أرحم، وهو الذي غلب أهل أرض ميم وكسرهم وأفسد ملكهم، وكانوا قبل ذلك في ملك عظيم وقوة قاهرة خرجوا عن سلطان مل، وكان في ميم اثنا عشر ملكاً، ورأسهم ميم فن، ومنهم أي من أمرائهم تكفر سوم، وهو الذي يقف عليه سلطان ماسن ويأخذ التراب له ويبايعه ويقلع له قميصه ويتأزر به قدامه. وأثر مدينته هنالك مخروبة. واسم ذلك الملك إلى الآن باق ذليل يمشي على رجله بلا دابة، وقد زال ملكه وبقي اسمه، فسبحان الملك الدائم. ويزوره سلطان ماسن إلى الآن يزعم أنه يتبرك به ويطلب دعاءه وإذنه، وينزل عن دابته لتحيته تعظيماً له، ويلقي به في موضع بلده الخربة.
ثم خلف سلمن دام الظالم الفاجر الملعوم المسلط شي عال وهو آخرهم ملكاً الذي سارت الرفاق بقبح سيره. وكان منصوراً وما قابل أرضاً قصده إلا خربه. وما كسر له جيش كان فيه قط غالباً غير مغلوب. لم يترك بلداً ولا مدينة ولا قرية من أرض كنت إلى شبردك إلا وقد جرى خيله فيه وحارب أهله وغار عليهم.
ومعنى شي، على ما وقفت عليه من خط بعض أئمتنا، محمود. قال معنى شي كي بنند، أي خليفة السلطان أو بدله أو عوضه.
وهو سلطان جبار قاسي القلب يأمر بإلقاء الطفل في المهراس ويأمر أمه أن يدقه، وتدقه الأم وهو حي، ويطعمه للخيول. وكان فاجراً فاسقاً. وسئل بعض شيوخ عصره من أهل موركير هل هو مسلم أو كافر، بأن أفعاله أفعال الكفرة وهو ينطق بكلمتي الشهادة ومن له قوة في العلم.
وانظر في أفعاله كفره بقتل الفقهاء، وكم من قرى هدمها وقتل أهاليه بالنار، يعذب الناس بأنواع العذاب وتارة يحرق بالنار ويقتل به، وتارة يبني بينتاً على حي ويموت تحته، وتارة يبقر بطن امرأة حية ويخرج جنينها. وفيه من سيء الأعمال وسوء الرعاية ما لا يسع هذا المجموع حصر بعضه.
ولي سلطنة سنغي سنة تسع وستين من القرن التاسع، ومكث فيها سبعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر وخمسة عشر يوماً، وهو سنة سبع وتسعين وثمانمائة. هكذا نقلته من درر الحسان في أخبار بعض ملوك السودان تأليف باب كور بن الحاج محمد بن الحاج الأمين كانوا.
وما له من الأعداء عدو مسخوط عليه يبلغ عنده فلن، وكل من رآه بعينه من الفلانيين إلا قتله، لا عالم ولا جاهل، لا رجال ولا نساء، لا يقبل للعالم منهم لا صرف ولا عدل. قتل قبيلة سنقر حتى ما أبقى منهم إلا طائفة يسيرة، أجتمعوا كلهم في ظل شجرة واحدة ووسعهم كلهم.
وكان يأخذ بعض أحرار المسلمين ويعطيهم لبعضهم ويزعم أنه يتصدق بهم عليهم.
وكان أهل زمانه وجنوده يلقبونه بدالِ، وبه يعظمونه. وما نادى أحداً منهم إلا أجابه دال، وهو بدال مهملة وألف ممدودة ولام مكسورة. وحدثني بعض أصحابنا، وهو محمد وانكر بن عبد الله بن سنجوك الفلاني رحمه الله، أنه سمع القاضي أبا العباس سيد أحمد بن أند غمحمد رحمه الله يقول أنه لا يجوز أن يلقب أحداً به، لآن معناه تعالى، وهي تختص برب العزة وهو الله تعالى. وكذلك دولنْتَ، وهو بدال مهملة فواو ممدودة فنون ساكنة فتاء مفتوحة، وبعضهم يقول دورنت بالراء فهو خطأ، قال معناه عبد المولى، وأعني بالمولى شي لعنه الله عليه. ودال هذا لا يقالها اليوم إلا لكومكي وجن كي، وينبغي أن يتنبه أهل الورع وابطلبة عن ذلك.
وكان شي هذا فرغ أيامه في الغزوات، وكان دار سلطنته في كوكيا وفي كاع وفي كبر، ودار يقال له تل، وفي ورع من أرض درم يجاور بلد أنكب ويقابل بلد جنجو. ولا يستقر في أحد منها. وكان من تقدمه من شيين يسكنون في كوكيا إلا شي عال هذا الفاجر، هو في الغزوات أبداً.
وخرج في أوائل سلطنته إلى بلد دير. وسمع بخبر سلطان موشي المسمى كمداغ، وارتحل من دير والتقيا في كب، وهزم جيشه وتبعه إلى بنبر، ونجا بنفسه حتى دخل في بلده في دار مملكته المسمى أرقم.
ثم رجع شي علي، ومعه تنبكت كي محمد نض وأسكي محمد وأخوه كرمن فار عمر ومحمد نض سلطان تنبكت وفرن أفنب وأبو بكر وفرن عثمان في ذلك الغزو.
وطلع على شي علي شهر رمضان في بنبر، وصلى العيد في كتنع، ورجع إلى كونع، وخرج في كونع إلى بسم وقتل بسم. ومضى إلى تمسع، وطلع عليه شهر رمضان في تمسع وصلى فيها العيد. ثم دخل في إثر بيدان حتى انتهى إلى داع، وقتل مودبّ وار هناك. ثم خرج من هنالك إلى فكر. ثم خرج من فكر ورجع إلى تمسع، وطلع عليه شهر رمضان في تمسع، وصلى العيد فيها. وأخذ المختار في بلد ككر، وقاتل أهل تند. ثم رجع إلى سوربنتنبع. ثم مضى ورجع إلى كاع، وفي اسم كاع لغتان: كاع وكوكو، وطلع فيه شهر رمضان، وصلى العيد فيه.
ثم أخرج أسكي بغن وأرسله إلى تسك-فانظر اسم أسكي في وقت شي وزمنه، وهو بخلاف ما عليه جل الناس بأن أسكي محمد هو أول ملقب به وتسمى بذلك حتى ذكروا سب تسميته وتلقيبه بذللاك، نذكر ذلك قريباً في ترجمة أسكيا محمد وهذا غريب جداً-وهزم تسك جيش أسكي بغن.
ومحلة شي عال في بلد منصور، وطلع عليه شهر رمضان في منصور، وصلى العيد في كوكيا. ثم كر راجعاً إلى كاع، وخرج بجيشه إلى أزوت وقت غزوته ومات أسكي بغن. وارتحل شي عال إلى تسك، وطلع عليه شهر رمضان في بلد نعسر من بلاد موش، وصلى العيد فيه.
ثم ارتحل إلى بحر ولول، وجمع جيشاً كثيفاً، وأخرج دندفار أفنب وجعله أمير ذلك الجيش كلهم، وفي الجيش هيكي بكر-انظر أيضاً اسم هيكي في دولته، وهو أيضاً بخلاف ما يقولها أهل سنغي بأنه لم ينشأ إلا في زمن أسكيا محمد، وذكروا سبب تلقيب هيكي بذلك، وسنذكر ذلك في ترجمة أسكي محمد. وفي هذا الجيش أسكي محمد، وهو ملقب يومئذ بتندفرم، وفيه أخوه غمز كمزاغ، وهو يومئذ كتل فرم، وفارن عثمان. وأرسلهم إلى قصاص محمد كيرو في كنكي.
ورجع شي إلى كاع، ولم يجلس فيه. ومضى إلى بركن مدينة التي فيها دار مملكة موشكي ودمرها وأسر أهلها وقتلهم شر قتلة. ثم خرج إلى مل، وهربوا ولم يدركهم. ورجع وجهز جيشاً عظيماً، وجعل هيكي يعي أمير الجيش إلى قتل تنك يعمع، وقتلوه. ورجع الجيش إليه، وارتحل بهم إلى ككر، وأخذ منذ كنت في ككر.
ثم جهز جيشاً وأرسل دندفار أقنب إلى قتل بيدان في بلد نوم. ومضى فارن أفنب إلى دند لأمر أرسله شي عال به، ورجع منذونك بالجيش إلى شي عال.
ثم خرج شي عال وطلع عليه شهر رمضان في داغ، وصلى العيد هناك. ثم مضى ورجع إلى جن، وقدم عليه منذ ونك مع الجيش والتقى به في بلد جن، وطلع عليه شهر رمضان في جن، وصلى العيد فيه. وقاتل أهل جن، وقاتل أهل مل مرتين. ثم مضى وحمل الفلانيين إلى كوكو، وطلع عليه رمضان في جاكوا، وصلى العيد في كنو. ثم طلع عليه رمضان في كذب، وصلى العيد فيه. ثم طلع عليه رمضان في جرك، وصلى العيد في منت. ثم رجع إلى البحر، وطلع عليه رمضان في مل، وصلى العيد في يعتل. ومضى ورجع إلى كاع، وطلع عليه رمضان فيه، وصلى العيد.
ثم ارتحل من كاع في يومين من شوال، ومضى إلى تند، وقاتل أهل تند، ونزل في د، ومكث هناك شهراً.
ثم سمع بمرور موشكي إلى بير، وترك أهل بيته في دير، ودخل في إثر موشكي. وجاء إلى سيل، وقتل سيلكي. ومضى إلى كنتع، وطلع عليه شهر رمضان في كنتغ، وصلى العيد في سام. وارتحل موشكي إلى سام، ووجد شي حمل أهل بيته وماله. ومضى موشكي في إثر شي عال، ولحقه وطلع على جيشه، وخاف وكر راجعاً هارباً على عقبه. ونقلت هذا كله من كتاب الجد الفع محمود بن الجاج المتوكل، بخط بعض طلبته من قوله. وارتحل شي عال في دير والتقيا في كب.
وفي سنة ثلاث وسبعين انكسر مدينة تنبكت، ودخل فيها في اليوم الرابع من رجب. وفي تلك السنة خرج الفقيه العلامة شيخ الإسلام محيي اليدن القاضي أبو الثناء محمود بن عمر بن محمد أقيت من بير ورجع إلى تنبكت رحمه الله.
فاعلم أن شي وأسكي محمد ومور هوكار جد أهل موركير وفقهاؤها كلهم من أصل واحد، وجميع من يلقب بمُي كميدع وميننك وميهو وميكع وميفر ومنتاص وميغي ومننور وميزع. واسم بلدهم ير. وكل من كان في هذا الإقليم أصلهم من المغرب من وعكري وونكر. وكنت أسأل كل من رأيته من أهل كيعك وبيت ومل وجعفن وكذلك/ هل كان عندكم في أرضكم قبيلة ميكع ومينتك؟ فيقول: ما سمعناه ولم نره.
وكان هذا الفاجر يعني شي عال ملكاً مطاعاً مهيباً، خافه رعيته لشره. أرسل رسوله إلى تنبكت، وهو في بلد جن يحاصرهم، وأتاه بأن أهل تنبكت يهربون، ويرجع أهل بير إلى ير، وبعضهم إلى فطط و تيشت، ويرجع كل قوم هاربين إلى أرض أصله. وأمر مرسوله: أي وقت وصل إلى تنبكت أن ينادي صارخاً بهم أن السلطان شي قال: من كان في طاعته فلا يبيتنّ هذه الليلة إلا في هوكي وراء البحر، ومن تخلف فليذبحه. فجاء الرسول وقت الزوال وضرب الطبل الذي أتى به واجتمع إليه الناس، فقال أن: السلطان يأمركم بأن ترحلوا أجمعين إلى هوكي راحلين. وأخرج سيفاً في كمه وقال: هذا سيفه. قال: من بات في البلد هذه الليلة فأذبحه بسيفه هذا. قال الراوي عن شيخه محمد باب بن يوسف.
فما كان إلا كلمح البصر حتى رحلوا بأجمعهم، ومنهم من لم يحمل عشاء ليلته، وبعضهم لم يأخذ فراشاً، ومنهم ماش وله خيل في داره تركه توهماً منه أن ربط السرج أمره يطول. وبات أكثر ضعفائهم ومشائخهم في أربر، وبعضهم في جنتع. وقطع قوم البحر لأن يبات في ضفته، ووصل بعضهم وما وصل وقت المغرب، حتى خلت تنبك من كل أحد. وخرج قوم وما قفلوا باب بيوتهم. ولم يبق إلا المرضى لم يجدوا حاملاً، والعمى لا قائد له.
وحسبك هذا من شره وأن من أشر الناس من اتقاه الناس. وهذا عندي كاد أن يكون غير ممكن، ولا أحسب الحجاج بن يوسف مع سفاكه للدماء وشره بالناس أن يتأتي له مثل هذا في مثل تنبكت، ونفوذ أمره.
وحين خرج قاصداً لمحاربة جن، ووصل القرية هنالك يقال لها شيطي، بشين معجمة مكسورة بعده ياء ممدودة بعده طاء مفتوحة فياء ساكنة، وسمع به كُرن أنه يريد جنكي قال كرن: هذا عار علي يأتي سلطان من أرضه لقتال سيدنا ويمر علينا ولا ندفعه. ونهض قائماً وجمع جيشاً عرمرماً وتلقى بشي ووقع عليه ليلاً. وأجابه شي وتناضلا شدة النضال إلى طلوع الشمس، وأفنوا جيش كرن وكسرهم، وفروا هاربين إلى الحجر.
ثم لما وصل بكونا أتاه تنكي كذلك وكسره. وتحزم له سُريَع وتلقاه، نزل عليه بقوم لا يحصر كثرة وفعل به ما فعل بصاحبيه. وبات سرياً، وجنكي على سرير ملكه مع هذا كله نائماً كأنه لا يبالي.
ثم خرج جنكي بمن لا يحصى ولا يعد كثرة، وتحاربا وتقاتلا ستة أشهر يتضاربون نهاراً. ثم رجع جنكي، وهو كنبر على الأصح، وبات يبني سوره ليلاً. فما أصبح حتى فاض البحر وأحاط بالبلد وحال الماء بينهما. وحصرهم شي بأربعمائة سفن لئلا يخرج خارج ولا يدخل داخل. ثم ما فارقهم إلا أن قهرهم وملكهم ودخل في سورهم ونزل في وسط دار جنكي، وأراد أن يسكن فيها فما أخرجه فيها إلا الأفاعي والحيات والعقارب. وخرج لذلك ونزل بدار كانت عن يمين دار جنكي في قبلة الجامع الكبير، وحازها وأنزل فيها فتيانه وأمتعته بعد رجوعه. ثم ملكها أسكي محمد، وقد رأيت جدرانها بعد خرابها.
ومتى اشتد ضرر شي على المسلمين وأحاط بالدنيا والدين باسمه، وامتلأت الصدور بحمل حزنه وهمه، يئس الناس من الفرج في أمره، وقنطوا لطول دولته وظنوا أنها لا تفنى ولا تنتهي.
ووقع على رجل فقير صالح وغصب بنته، وأتاه ذلك الفقير بينه واشتكى. وحلف أن لم يخرج أمامه إلا أن يأمر باحتراقه بالنار. وخرج باكياً ورفع يده إلى السماء واستقبل القبلة وقال: اللهم يا رب أسألك يا قريب أنك ترى وتعلم وتسمع وأنت القاهر أن تسلط هذا الفاجر الفاسق الذي طال إمهالك عليه وغره استدراجك به على رجل صالح، تستجيب دعوته وتغيثه إن اسنغاث بك.
فأتاه في ذلك اليوم رجلان صالحان من أولاد مورهوكار جد أهل موكير، اسم أحدهما مور الصادق والآخر مور جيب، يشتكيان من ضر نزل بهما من قبيله أي من شي المذكور. فلما بصرهما أمر بهما فقبضا وثقفا بالحديد، وأمر بهما إلى جزيرة ورموهما فيها. فقال أحدهما: اللهم ارحمنا منه وأهلكه قبل أن يقوم من مقامه. وقال الآخر: ويكون موته على غير الإسلام، بل على الكفر. وشي حينئذ في بلد يقال له فن من بلد الحجر، فمات في يومه وأهلكه موت الفجاة.
فلما تحقق جنده بموته دفنوه في مكانه، ولم يشع أحد بموضع قبره، لعنة الله عليه. وارتحل الجند في غده، وما علم أحد بموته من أهل ذلك البلد.
وأتى قوم من أهل جيشه إلى مور الصادق ومور جيب في تلك الجزيرة، وأخرجوا القيود في أرجلهم وأخرجوهم من الجزيرة في غده. فسبحان المفرج عن كل مهموم المنفس عن كل محزون الذي جعل خزائنه بين الكاف والنون. إنما أمره، إذا أراد شيئاً، أن يقول: كن فيكون. هلك الأمير وفك الأسير.
وكان موته في شهر المحرم افتتاح سنة الثمن والتسعين بعد ثمانمائة من الهجرة انتهى. وفي درر الحسان في أخبار بعض ملوك السودان أن موت شي عال كان في سنة تسع وتسعين من القرن الثمن فمكث فيها سبعاً وعشرين وأربعة أشهر وخمسة عشر يوماً.
وكان معه ابنه أبو بكر الملقب بشي بار في تلك الغزو، وحين وصل الجيش قافلاً إلى بنكي ولوا بار مكانه في اليوم الثاني من ربيع الآخر، وهذا بخلاف ما في درر الحسان، فإن فيه أن تولية شي بار كانت في زاغ، فانظره.
وسبق مولد شيخ الإسلام القاضي أبي الثناء محمود بن عمر بن محمد أقيت، رحمه الله ورضي عنه رأرضاه، سلطنة شي بسنة واحدة، لأن مولده كما ذكر سيدنا أبو العباس أحمد بابا بن أحمد بن الحاج أحمد في مصنفه كفاية المحتاج في معرفة ما ليس في الديباج سنة ثمان وستين وثمانمائة.
وممن مات في أيامه من العلماء الأعيان وأكابر التكرور الفقيه القاضي مودبّ قاسم جنكاس وسيدي يحيى الأندلسي التادلسي، وهو ثابت النسب، وهو سيدي يحيى بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن الثعالبي بن يحيى البكاي بن الحسن بن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن هاشم بن قصي بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه ونفعنا بحرمته. وقيل أن سيدي يحيى تولى القضاء، وقفت على ذلك بخط بعض الطلبة. وبقي الكلام على ذكر من مات في أيامه.
ثم لما ولي أبنه بار، وما أتت على ولايته أربعة أشهر حتى ظهر أمر أسكي محمد بن أبي بكر. وأعانه الله على شي بار في ليلتين من جمادي الأولى في بلد يقال له أنفع. ووفقوا هنالك وجمعوا أهل الغزو، ثم التقيا بار وأسكي محمد في اليوم الرابع وعشرين من جمادي الأخرى وهو يوم الاثنين. ودخل بينهما حرب شديد وقتال عظيم، حتى ظن الناس أن الفناء نزل بهم. ومع شي دند فار أفنب، وهو من أشجع الناس، رمى نفسه في البحر ومات فيه. ومع أسكي محمد بركي منس كور، وليس معه أحد من سلاطين التكرور وسنغي غيره، ولم يجبه أحد دعاه غيره. ونصر الله أسكي محمد الحمد لله على ذلك، فهرب شي بار إلى زاغ.
قال القاضي محمود كعت بن الحاج المتوكل كعت: ما نزل القتال بينهما قط إلا بعد ما أرسل العالم الولي الصالح محمد تل الشريف، ينسبونه إلى بني مداس، إلى شي بار يدعوه إلى الإسلام، وهو يومئذ ببلد تسمى أنفع. وأبى وامتنع وضن بملكه كما كان ذلك من عادة الملوك، وأغلظ لذلك العالم الكلام وارتكب منه أمرً عظيماً، حتى هم بقتله، وصده الله عن ذلك بقهره وغلمبته. ورجع إلى أسكي محمد وبلغه الخبر من إباية شي بار وما فعل به.
وبعد ذلك أرسل أسكي محمد العالم الصالح التقي ذا المناقب والكرامات الوعكري الأصل الفا صالح جور إلى شي بار أيضاً ثانياً، وأتاه وبلغه رسالة أمير أسكي محمد. فما ازداد إلا عتواً وإباية وامتناعاً وتجبراً، وأتى بأشد من فعلته الأولى.
وله وزراء ويومئذ تنيف على عشرة وزير، منهم بركي منس موسى، وهو شيخ كبير وله عشرة أولاد يومئذ. كل أمير بحدته له جيش، وكلهم مع شي بار إلا منس كور وحده، فإنه هرب إلى أمير أسكي محمد وبايعه. وأما درم كي سندي وترتنكي وبنكي وكركي وجنكي وغيرهم وهؤلاء المذكورون كل أمير بحدته له جيش عرمرم، وكلهم مع شي بار.
وحلف واحد مه وزرائه، وهو درم كي المذكور، ليقتلن العالم الصالح جور رسول أمير أسكي، وقال: إن لن تقتل هذا العالم لا تنقطع رسله إليك، بل لا يرسل إليك رسلاً تترى. ومنعه الله من ذلك، وقال للصالح جور: ارجع إلى مرسلك، فإن رجع إلي بعد رسول منه فدمه في عنقك، وقل لمرسلك أسكي فليتجهز للقتال بيني وبينه، ما قبلت كلامه ولا أقبل.
ورجع العالم الصالح جور إلى الأمير وبلغه كلام شي بار وحاله وما رأى منه من الإباية والامتناع من الإسلام.
ولما بلغ الصالح جور الأمير أسكي ما رأى من شي بار، جمع أهل مشورته وذوي رأيه من العلماء والأكابر وأقيال جيشه وشاورهم فيما يفعل، هل يقاتل شي بار أو يرسل إليه ثالثاً. واتفقوا على أن يرسل إليه رسولاً ثالثاً يداريه ويلين له الكلام، لعل الله يهديه إلى الإسلام. فأرسلني إليه، أي أنا الفقير المحتاج الفع كعت، وذهبت إليه ووجدته ببلد أنفع وهي بقرب كاع، وبلغته رسالة أمير المؤمنين أسكي وألنت له الكلام مبلغ جهدي كما أمر أمير المؤمنين أسكي الحاج محمد، وتلطفت له رغبة في أن يهديه الله. وأبى وامتنع وتغيظ وأمر بضرب الطبل ساعتئذ، وشرع في الاستجاشة ورعد وبرق أراد تخويفي، وتمثلت في نفسي بقول الشاعر: وأنصر على أهل الصليب وعابديه اليوم أهلك.
ثم اجتمع جيشه فرقه ساعتذ كالجبال، وسطع الغبار حتى صار النهار كالليل، وأقبلوا على الصياح ويحلفون ليسيلن الدماء كالسيول.
ثم رجعت وبلغته الخبر. ثم تجهز أمير المؤمنين أسكي الجاج محمد، وأمر بضرب الطبل واستجاش جيشه عليه في ساعتئذ، وكلهم بايعوه على الموت. ثم ركب وتوجه بجيشه المنصور نحو شي بار، فالتقي الجمعان يوم الاثنين رابع وعشرين من جمادي الأخرى. وبين إرسال أمير المؤمنين أسكي إلى شي بار وبين التقاء جيشيهما اثنان وخمسون يوماً.
ودخلت بين الجيش حرب عظيمة، وأعانه الله على شي بار، وهزم جيشه وقتلهم قتلاً ذريعاً، حتى ظن الناس أن الفناء نزل بهم وأن هذا خراب الدنيا. وكان مع شي بار دند فار أفنب، وهو من أشجع الناس، رمى نفسه يومئذ في البحر ومات فيه. وكان مع الحاج محمد منس كور المذكور ابن منس موسى، وليس معه من سلاطين التكرور وسغي غيره، ولم يجبه أحد إلى دعوته إلا هو.
ولما هزم الله جيشه هرب بنفسه إلى إير فبقي هنالك إلى أن توفي، فتملك الأسعد الأرشد يومئذ، وكان أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، وأورث الله الوارث أسكي الحاج محمد المذكور جميع أرض شي بار وهي من كنت إلى سبردك.
ووجد في ملكه يومئذ أربعاً وعشرين قبيلة أرفّاء له لا أحرار استرقوا. وسنذكر أسماء القبائل إن شاء الله ثلاثة منه من كفار قبائل بنبر، الأولى تنسب بجركر بكر، والثانية فينسبون بتكرتب، وأما الثالثة فتنسب بكسم برم. فورثهم شي بار من أبيه شي عال، وكذلك ورثهم شي عال من شي سليمان دام، وبعضهم يقول له داند، وكذلك هو من شي بلما، وكذلك هو من شي محمد فار، وكذلك هو من شي محمد كوكي، وكذلك هو ورثهم من شي مادغ، وهو الذي تغلب على ملكي. وكان أصلهم تحت ملكي بعد ما كانوا أجداده أقوياء وملكي من تحتهم، وقواه الله مقلب ملكي وكسرهم وسبى ذراريهم وجميع أموالهم وأخذ منهم أربعاً وعشرين قبيلة.
لكن هؤلاء القبائل الثلاث من تلاد ملكي، وعادتهم مند كانوا بيد ملكي لا يتزوج أحد منهم إلا بعد أن أعطا أصهاره أربعين ألف ودع، كراهية أن تدعى المرأة الحرية أو أولادها، ورغبة في أن يكونوا مع أولادهم في ملك ملكي.
وهؤلاء القبائل الثلاثة المذكورة آنفاً من أصل واحد أبوهم اسمه بَمَ تاسوا، بباء ممالة فميم فتاء مفتوحتين وسين مضمومة ضمة إشمام. واسم أمهم أربَعَكَلَي، بهمزة مفتوحة فراء مسكونة فباء وعين مفتوحتين فكاف مفتوحة فلام ممالة. وهم ثلاثة رجال أشقّاء فوقعت الخصومة بينهم لأجل امرأة خطبوها جميعاً، وتباغضوا وفرقوا أنسابهم. وكان نسبهم كسم بر، واسم قريتهم ينع من أرض مل، وهي مدينة ملكي.
وغرامتهم في زمن ملكي منذ كانوا ملكاً له أربعون ذراعاً للزوج وزوجته إلى أن صاروا في أيدي سيين. وغرامتهم في أزمان سيين من أولهم إلى شي عال، وهو آخرهم ملكاً، يجتمعون ماءة أنفس مخلوطين رجالاً ونساء ويكيل لهم كيالة مائتي ذراع في الأرض، ويجتمعون مع الدفوف والمزامير ويحرثونها له ويصيحون حال الحرث ويضربون الدفوف. فإذا حصدت تلك المزارع قسمها شي بين جيشه. فإذا فسدت المزارع أغرمهم وضمنهم.
فلما ملكهم أسكي محمد جعل غرامتهم في كل عام إذا حصدوا زروعهم، يأمر رجلاً من قومه يأخذ غلاتهم فمن استطاع منهم أن يعطي عشر أفتات أخذها، ومن استطاع عشرين فتّاً أخذها، وهكذا إلى ثلاثين فتاً، فلا يجاوزها، لأنها هو الحد الذي لا يزاد فوقها، ولو استطاع صاحب الغرامة ألفاً. وكان أسكي محمد يأخذ بعض أولادهم ويجعلهم أثمان الأفراس.
وأما القبيلة الرابعة من القبائل الأربع والعشرين المذكورين هي القبيلة المسماة جَنْدِكَت، بجيم ممالة ونون مسكونة ودال مكسورة كسرة إشمام فكاف ممالة فتاء مفتوحة، ومعنى الكلمة في لغتهم قطاع الحشيش، وغرامتهم من زمن ملكي إلى أزمان سيين قطع الحشيش للأفراس، إلى أن صاروا في يد أسكي محمد وتركهم كذلك. ووجدهم لا يصلحون إلا لخدمة الأفراس أين وجدهم من كاع إلى سبردك.
وأما القبيلة الخامسة هم الزناجية، وكل زنجي من كنت إلى سبردك كذلك يأخذ غرامتهم كلما غاض البحر، يأخذ ممن استحق عشر حزمات من الحيتان اليابسات، ومن استحق تسعاً فتسع، ومن استحق سبعاً فسبع، إلى من استحق حزمة كل بقدره، لاكن لا يزيد فوق العشر.
وكل من أتى إليه محاجة من حوائج السفن أخذ منهم سفينة وملاحين ويعطيه. واتخذهم أسكي محمد واختار لخدمته وأهل بيته. ما أذن لأحد أن يخدمهم ولا أن يبيعهم إلا هو وأولاده، إلا الشريف الحسني صقل بن عال، فإنه قد أعطاه أولاد زنجي يسمى فرنطك كلهم، وهو يومئذ ألفان وسبعمائة حين قدم هذا الشريف إلى كاع ووجد أسكي محمد هنالك. ومراده من ذلك العطاء أنه من أولاد النبي صلى الله وسلم وحبه إياه، وسنذكر تفاصيل العطاء وتفرقة الزناجية بين ما لهذا الشريف وبين ما لغيره في ترجمة أسكي محمد إن شاء الله.
وأما القبيلة السادسة فاسمها أربي، وهم عبيده وحشمه وخدمه، وبناتهم يخدم من زوجاته، ويحرثون له، وأولاده وفتيانهم يحملون السلاح قدامه وخلفه في الحرب وغيرها، ويرسلهم لحوائجه الخاصة. ولا حاجة لهم غير خدمته، ولذلك لا غلة عليهم.
وأما القبيلة السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادي عشر فقبائل الحدادين وهم قبيلة جم تين وجم ول وسربني وقبيلة سمشاك. وهؤلاء القبائل الخمس كلهم أبوهم واحد، وهو عبد للنصارى حداد هرب من جزائر البحر المحيط إلى كوكي مدينة السيين في زمن شي محمد فار، واسم العبد بكر. وتزوج أمة نان سلم أم شي المذكور آنفاً، واسم الأمة متبل. فولدت له خمسة أولاد ذكور: تين وهو أبو قبيلة جم تين، وول وهو أبو قبيلة جم ول، وصرني وهو أبو قبيلة سربني، وكم وهو أبو قبيلة كم، وسمشاك وهو أبو قبيلة سمشاك، وإلى أبائهم نسبوا.
وكان أبوهم المذكور ظلوماً غشوماً فاجراً مسيطراً جاهلاً جباراً عنيداً، وصار هو وأبناؤه محاربين قطاع الطرق ويقتلون ويأسرون ويغصبون الأموال. فرفع أمرهم إلى السلطان شي، فأرسل إليهم رهطاً وأمر أن يقتل الأب وأن يؤخذ أبناؤه، لأنهم عبيده وبنو أمته. فقتل الأب وجيء بالأبناء الخمسة، فرقهم في البلدان، لئلا يجتمعوا فيظلمون. وتفرع من كل بشر كثير. وغرامتهم من زمن شي إلى زمن أسكي محمد مائة رمح ومائة سهم كل عام من كل بيت.
وأما الثانية عشر فقبيلة كُرْنكُي، بكاف مضمومة فراء ممالة إلى الضم فنون مسكونة فكاف مضمومة ضمة إشمام فياء مسكونة، من كاع إلى بلد فاني، من أرض سوم يجاور بلادها لكن ليس بقريب جداً. فإنهم تفرعوا من قبيلة سمشاك أبناء بنته.
وسنذكر ما بقي من القبائل الأربع والعشرين، وهم نصف ما ذكر في تراجم كلام أسكي محمد إن شاء الله.
وهذا كله في العام المذكور، وكان سن أسكي محمد يومئذ خمسين عاماً، وسن الفا صالح جور تسعاً وأربعين عاماً، وسن محمد تل ستاً وعشرين عاماً، وأنا يومئذ ابن خمس وعشرين عاماً. وكان سن محمود بن عمر بن محمد أقيت ثمانية وعشرين عاماً.
الباب السادس
أسكي محمدهذه ترجمة أمير المؤمنين وسلطان المسلمين أبي عبد الله أسكي محمد بن أبي بكر.
ويلقب أبوه بأرلوم، قبيلة من السلوي، وقيل من طور. وأمه كسي بنت كركي بكر. ورأينا من ساق نسب أمه إلى سبط جابر بن عبد الله الأنصاري، وفي تتبع ذلك خروج عن الغرض.
وله من المناقب وحسن السياسة ورفق بالرعية والتلطف بالمساكين ما لا يحصى. ولا يوجد له مثل لا قبله ولا بعده. وحب العلماء والصالحين والطلبة وكثرة الصدقات وإذاء الفرض والنوافل. وكان من عقلاء الناس ودهائهم والتواضع للعلماء وبذل النفوس والأموال لهم مع القيام بمصالح المسلمين وإعانتهم على طاعة الله وعبادته. وأبطل جميع ما عليه شي من البدع والمناكر والظلم وسفك الدماء، وأقام الدين أتم قيام، وأطلق كل من ادعى الحرية من استرفافهم، ورد كل مال غصبه شي إلى مواليهم. وجدد الدين وأقام القضاة والأئمة، جازاه الله عن الإسلام خيراً. ونصب في تنبكت قاضياً وفي بلدة جني قاضياً وفي كل بلد يستحق القاضي من بلاده قاضياً من كنت إلى سبردك.
إنه نزل في بلد كبر حين توجه إلى سور بنتنبع بجيشه، ركب برذوناً له، وحمل خديمه عل فلن سيفه أمامه بعد صلاة المغرب. ليس معه أحد غير عل فلن المذكور إلى أن أتى هذا المكان الذي يصلي أهل تنبكت فيها العيد اليوم. وقال لعل فلن: أتعرف دار القاضي محمود بن عمر؟ قال: بلى. وقال: اذهب إليه فقل له أنا هنا وحدي، فليأتين وحده. فأخذ بزمام البرذون وذهب عل فلن.
وألقا الشيخ القاضي محمود واقفاً بباب داره مع طائفة من الناس على عادته، وبلغ إليه عل فلن رسالة أسكيا محمد. وأجابه ولم يكن إلا أن دخل بيته وأخذ هرواته ومشى معه، ورد كل من أراد أن يتبعه، وذهب وحده إلى أن وجد أسكي محمد، وحياه وقبل يديه الكريمتين. وأخذ عل فلن رسن البرذون وقاده، وأمره أن ينحي عنهما، ففعل.
ثم قال له بعد التحية ولاسلام التامتين: أرسلت رسلي في حوائجي، أوأمرتَ بأمري في تنبكت؟ فلترد رسلي وتمنعه وإنفاذ أموري. فهل ما ملك ملكي تنبكت؟ فقال الشيخ: بلى ملكه. فقال: أليس فيه يومئذ قاض؟ قال: بلى. فقال: أنت أفضل من ذلك القاضي أم هو أفضل منك؟ قال: بل هو أفضل مني وأجل. فقال أسيكا: هل منعه قاضيه أن يتصرف في تنبكت؟ فقال: لا ما منعه. فقال أسكيا: ألم يكن الطوارقون سلاطيناً فيها؟ فقال: بلى. قال أليس فيها قاض يومئذ؟ فقال: بلى، كان ذلك. فقال أسكيا: هل أنت أفضل من ذلك القاضي أم هو أفضل؟ فقال الشيخ: بل هو أفضل مني وأجل. ثم قال له: أما ملك شي تنبكت؟ فقال الشيخ: بلى ملكه. قال: أليس فيها قاض يومئذ؟ فقال: كان. فقال: هو أتقى لله منك أو أنت أتقى وأجل منه؟ فقال: بل هو أتقى لله مني وأفضل. فقال: فهل منع هؤلاء القضاة السلاطين من أن يتصرفوا في تنبكت ويفعلون فيها ما شاؤا من أمر ونهي وأخذ وعطاء؟ فقال: ما منعوهم وما حالوا بينهم وبين مرادهم. فقال: فلِم تنهاني أنت وتكف يدي وتطرد رسلي إن أرسلتهم لقضاء حوائجي، وتضربهم وتأمر بإخراجهم في البلد؟ ما لك وذلك؟ فما سببه؟
فقال الشيخ رضي الله عنه: هل نسيت أم تناسيت يوم جئتني في داري وأخذت برجلي وثيابي فقلت: جئت أدخل في حرمتك وأستودعك نفسي أن تحول بيني وبين جهنم، وانصرني وامسك بيدي حتى لا أقع في جهنم، وأنا وديعتك. فهذا سبب طردي رسلك ورد أمرك. فقال نسيت ذلك والله، ولكن ذكرته الآن، صدقت والله جزيت خيراً وكفيت شراً. أطال الله إقامتك بيني وبين النار وغضب الجبار، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه، وحتى الآن أنا وديتعتك آخذ بذيلك فأثبت في ذلك المكان. ثبتك الله وأدفعن عن نفسي.
وقبل يد الشيخ وودع الشيخ وركب ورجع فرحاً مسروراً داعياً للشيخ بطول البقاء بأن يقبضه الله قبل موت الشيخ رحمه الله.
انظر هذا الكلام من أسكي محمد فتعلم أنه سالم الصدر مؤمن بالله ورسوله. فالعجب والعجب منهما. فسبحان من فرق بين قوم، لله درهما.
فمكث أسكي محمد في السلطنة سنتين وخمسة أشهر فتم القرن التاسع. ففي تلك السنة فتح زاغ. وأخذ منها خمسمائة بناء، فذهب بالأربع المائة إلى كاع ليتخذهم لنفسه-واسم رئيسهم يومئذ كرمغ-من آلات بنائهم. وأعطاه أخاه عمر كمزاغ المائة الباقية.
وتولى عمر كمزاغ الكنفاروية، وذلك في تلك السنة. وهو أول من تسمى بهذا الاسم، ولم يكن قبل ذلك بخلاف بلمع وبنكفرم. فإن اسميهما موجودان منذ زمن شي.
وفي هذا العام وهو عام الثاني والتسعمائة بنيت تندرمة. وأمره أسكي محمد أن يبنى لنفسه مدينة، فجعل يتفتش في الجزائر والصحارى حتى أتى تندرم، فأعجبه ذلك المكان. وكان قبل مسكن قوم بني إسرائيل، وأجداثهم وأبارهم هنالك إلى الآن. فلما رأوا آبارهم ووجدوها يومئذ ثلاثمائة وثلاثاً وثلاثين بئراً في جوانبها ووسطها. ورأوا عجيب حفرها وحالها، تعجبوا من ذلك جداً.
وحدثنا بعض أعوام عصرنا من أهل مور كير، هو مور صادق بن الفقيه مور بن الفقيه مور معمك بن الفقيه مور هوكار، أنه قال: سمع من أبيه يتحدث مع قرنه وجيله، وقال أنه سمع من جده أنه قال: هؤلاء الآبار التي حفرها أهل بني إسرائيل ما حفروها بسبب شيء إلا أنهم أغنياء جداً من المال، ولهم مزارع من السلق ويكتسبون بها، يشترونها التجار منهم بثمن كثير. وماء تلك الآبار أصلح لسلقهم من ماء البحر. ومن سقى سلقه بماء البحر لم يطلب ولم يشبه بنباته كمن سقى بالآبار، وهو سبب حفرهم لها.
ويحفر بعضهم مقدار مائة وأربعين ذراعاً، وبعضهم مقدار مائتي ذراع، وبعضهم مائة إلى ستين ذراعاً، وكل ما نقصت عن ستين فلا يصلح للسلق. وكان بلدهم حينئذ إذا أرادوا بعضهم أن يغسلوا ثيابهم يروحون بعد الزوال، ويحملون معهم عشاء ليلة، ويجدوه السير حتى يغرب الشمس أو تقرب إلى الغروب. ثم يصلون إلى موضع يمكن غسل ثيابهم فيه. وبين جدار بعضهم وبين الماء كعشرين خطوة.
وفي القرية يومئذ سبعة ملوك بنو الملوك من بني إسرائيل، منهم جبروت بن هشام، وذو المين بن عبد الحكيم وزير بن سلام، وعبد اللطيف بن سليمان، ومالك بن أيوب، وفضل بن مزار، وغالب بن يوسف، كل منهم يتبعه جيش عرمرم، وكل ملك مع جنده له آبار. وكل من أخطأ وسقى سلقه من آبار غير ملك يرد حسابه للملك صاحب البئر، سواء كان حراً أو عبداً. وكل ملك له اثنا عشر ألفاً من الخيل. وأما الرجالة الذين يمشون على الرجل فلا تعد ولا تحصى.
وأما صفة حفرهم الآبار أنهم إذا حفروا بئراً وأخرجوا ترابها بنوا جوانبهم بالطين والأحجار. ثم يأتوا بحزمات الحطب كشبر ثبر ويجعلونها وسطها. ثم يأتوا بقلبات بلنغة فيصبونها فوقها. ثم يوقدون عليها ناراً، فذابت فصارت كالحديد. ثم يتركونها حتى تبرد. ثم يصبون عليها ماء ويخرجون بعض رماده، وبعض لا تخرج. وفي حفرها اتلاف الأموال الجسيم. وكان سلق هذا البلد المذكور لا مثل له في أرض التكرور. وهذا ما بلعنا.
فلما جاء عمر يريد بناها أي تندرم، وإنما سمي بهذا لاسم لأنه لم يجد أحداً هنالك حينئذ إلا سرك واحد اسمه تند، وله زوجة اسمها مرمة، ولفقت اسماهما. وسمي البلد به وهو تند ومرم.
ولما رآه عمر كمزاغ سأله: ما تجئته، وقال له ما اسمك وممن أنت؟ وأجابه وقال: اسمي تسمن، لكن أولادي هؤلاء يدعو لي بتند لسماعهم ذلك من فم أمهم، وقبيلتي زنج تنب، جزيرة بين كاغ ودند. وأولاده يومئذ ثمانية عشر ولداً، إحدى عشر منهم أناث وسبعة منهم ذكور.
وسأله عمر أيضاً: هل زنج تنب أحرار أم عبيد؟ وقال: بل عبيد الشريف مولاي أحمد في بلد مراكش.
وقال له: كم لك هنالك من السنين؟ قال: خمس وثلاثين سنة، كل من ترى من أولادي ولدوا هنا إلا كبيرهم عيش تيسم. وقال له: هل وجدت هنا أحداً حين تنزل؟ فقال له: ما وجدت هنا جينئذ إلا عبداً شيخاً كبيراً أبيض شعره، حتى أحمر من بقايا قوم بني إسرائيل، وكنت معه هنا ثلاث سنين، ثم مات في يدي. وقال له عمر: هل سألته عن حالة هذا البلد؟ فقال: نعم سألته عن قوته واسم البلد واسمه، واسم البلد فاسمه بعك، واسم بحيرتها فت، واسم سابق. وقال لي أيضاً أمة جنية أعتقها سيدها تأتيه بما يأكل كلما جاع. وأخبرني بأشياء نست بعضها.
وكان تسم يعطي عمر ضيافة له حيتاناً رطبة، فمكث عمر وقومه هناك تسعة أيام يأكل من معه الحيتان حتى يشبعوا.
ثم شرعوا في ابتناء تلك المدينة. وفتشنا عن الأحوال والأعوام، فإذا ذاك العام عام ثان بعد تسع مائة، والبناؤون يومئذ مائة كاملة، واسم رئيسهم وهب بري.
وبنوا خمساً وعشرين يوماً، أتى عمر رسول أخيه أسكي محمد قبل إتمام سور داره، فأمره بالمجيء إليه. وأمر أسكي محمد بلمع محمد كري وبنكفرم علي كندانكنكي أن يأتيا تندرم ويتمان بناء سور داره. والذي يتولى تلك البناء أرميز وأخاه باركي بكر الزغراني، ابني دندفار.
ورحّل كنفار أخاه إلى كاغ واستخلفه مكانه. ثم جعل أسكي محمد يتجهز للحج وزيارة بيت الله الحرام وقبره عليه السلام وقبور أصحابه رضي الله عنهم. وقام يجمع المال والجهاز لسفر ونادى من أرضه من كل جانب ويطلب الزاد والعون. ومشى إلى الحج في شهر الصفر بعد ما حصل له ثلاثمائة ألف ذهباً الذي أخذه عند الخطيب الطيب عمر من مال شي عال الذي تحت يده. وأما الذي في داره في الحفرة والتابوت فكثير.
ومعه ثمانمائة رجل من الجندي، منهم ابنه أسكي موسى، وهك كري علي فلان، وياي كت وكار، وأقيال كري مع بركي منس كور بن موسى الذي أمّره اسكي محمد على أرض فر حين نصره الله على شي بار.
ومعه أيضاً سبعة من فقهاء بلده، منهم الفا صالح جور، ومور محمد هوكار وهو يومئذ شيخ كبير، والفا محمد تل، وكاع زكرياء المنسوب بسنفه، ومور محمد المنسوب بتنك، والقاضي محمود يندبع، وأنا معه أي محمود كعت.
وفي قصة سيره عجائب أنه تبين لنا فضله وفضل الفقيهين الفا صالح حور والفا محمد تل. وهو أنه مشى مع رفقته حتى جاء فحصاً واسعاً بين الاسنكندرية ومصر، وبات هنالك مع عسكره. فلما تنصف الليل خرج الفا صالح جور وحده ليتنفل بخلوة، فإذا هو بأصوات مرتفعة، فتوجه نحو الأصوات. فلما قرب منها رآه مصابيح وحولها طلبة من الجن يقرؤون الكتاب. فطاف حولهم، وإذا هم رهط شمهروش من الجن، معهم رجعوا من الحج، وهو وسطهم وعليه تقرأ طلبة الجن. فقصد الفا صالح جور نحوه فأتاه وحياه بتحية الإسلام، وصافحه فجعل الرهط يسلمون عليه ويصافحونه.
فارتفعت لذلك أصوال فسمعها الفا محمد تل، وهو خارج لتنفل، وعرف صوت الفا صالح جور بين الأصوات، وخشي أن يكون الفا صالح جور يخاصم أحداً من رفقة أسكي محمد، فتوجه نحوهم. فلما جاءهم وجدهم رهط شمهروش الجني والفا صالح جور قريباً من شمهروش يسأله. فأتى وسلم على شمهروش وعلى رهطه، وجلس يتحدث معهم.
وبينما هم كذلك إذ خرج موسى بن الفا صالح جور، وهو غلام سداسي حينئذ. فسمع صوت أبيه، فتوجه نحو الصوت فأتاهم. فوجد أباه والفا محمد تل من بينهم أي الجن رهط شمهروش الجني، وجلس قرب أبيه. وقال شمهروش للفقيهين: فمن انتما؟ فقالا من قوم أمير المؤمنين أسكي محمد، خرج وخرجنا معه حجاجاً. فكبر جور شمهروش وقال أن: أسكي محمد رجل صالح، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الخلفاء اثني عشر خليفة، كلهم من قريش، وأظن أنه منهم. مضت عشرة منهم وبقي اثنان، فلعله الحادي عشر. وسيأتي آخرهم في القرن الثالث عشر. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أعيش إلى تاسع القرون وأوافق الحادي عشر من الخلفاء. ثم يحكم بين الجن والإنس، وحينئذ أتوقع الموت. وقالوا له: هل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال نعم، وقرأت عليه. وتبشروا بذلك.
وبينما هم كذلك إذ وقف عليهم عبد جني وقال أن: راعيكم ضرب غلامنا حتى أغمي عليه، فإنا دعوناكم إلى الشريعة. وقال الفقيه الفا صالح جور كيف ضرب غلامكم راعينا، ونحن لا نراكم؟ وقال العبد: إن الغلام تبدل حية. وقال شمهروش أميرهم: من تبدل عن صورته فدمه هذر. ثم قاموا يودعونهم وذهبوا فرجعوا إلى رفقتهم.
وباتوا هنالك ليلتين. فمات من الرفقة رجل اسمه محمد كي أخ من سغي، وكان من قوم شي وكثير الظلم. فلما جعلوا الصف ليصلوا عليه، وكان موسى بن الفا صالح واقفاً مع القوم، وتبين لنا فضله. وهو يقرب أبيه وقال لأبيه: انظر يا أبتي إلى الملائكة يخرجون الرجل من بين أيدينا ولم يبق بين أيدينا إلا النعش الخالي. ولم ير ذلك أحد إلا هو. فجعل أبوه يقول له: اسكت يا بني. فظهر لهم أنه مكاشف منذ كان صبياً.
وفي غد ذلك اليوم تبين لنا فضل شيخنا وصحبنا رطب اللسان بالذكر الفاضل الصالح التقي الزاهد ولي الله تعلى الفقيه الأمين الفا صالح جور، وفضل الشريف الحسني الفقيه اللغوي التصريفي النحوي له حظ في معرفة الصحابة ولي الله تعلى محمد تل، وفضل أسكي محمد الإمام العادل أبي اليتامى والأرامل والمساكين والضعفاء وملجأ العلماء.
أما الذي بين لنا فضل الفا صالح جور، فلما ارتحلنا من هناك سرنا ثلاثة أيام مجدّين. فلما كان اليوم الثالث هبت ريح شديدة حارة حتى يئس من في الرفقة من الحياة إلا قوي الإيمان. ونشفت ما في القرب من الماء جميعاً، حتى لم تترك منها ولو قظرة. واشتد على القوم العطش، حتى كان أشد عليهم من الريح. ففتحوا القرب فلم يجدوا شيئاً، فزاد خوفهم.
فأمر أمير المؤمنين أسكي محمد غلاماً له يقال له فرجل أن يذهب إلى هذا العالم الفا صالح جور، وهذا كله بعد نزول العسكر من شدة الريح، وطلب منه أن يدعو الله بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقينا. فزجر الغلام بأشد زجر وقال: إن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من أن تطلب بها الحوائج الدنيوية، اطلب منا أن نطلب بحرمتنا المذنبين. فقام ساعتئذ وتوجه إلى القبلة وقال: اللهم إنا عطشنا وأنت أعلم بحالي منا، وأنت عالم الظاهر والباطن. فما تم كلامه حتى سمعنا رعداً، فمطرنا مطراً ساعتئذ. فشربنا وسقينا دوابنا واغتسلنا وغسلنا ثيابنا. وأقمنا هنا يومين، فصار الماء نهراً طوله مائة رمح.
فلما جعل الأمير أسكي محمد يقسم التمر بين أهل الرفقة كعادته، فأعطى جميع الناس، ونسي الفا محمد تل. فحزن لذلك الفا محمد تل في نفسه، ولم يبن لأحد. فجعل بعض أهل الرفقة منعه عمداً، والبعض يقول نسياناً. وبكي أهل منزل الفا محمد تل، وبعض أغتاب أسكي محمد. وبينما الرفقة كذلك إذا هم يجعل أبيض من المشرق، عليه حمل من التمر، يشق الرفقة إلى منزل الفا محمد تل، حتى أتاه فألقى حمل التمر بين يديه، فرجع إلى حيث أتى. فقام الفا محمد تل إلى الحمل، فجعل يقسم التمر بين أهل الرفقة كما جعل أسكي محمد، فجعل الأمير أسكي قسماً. فإذا هو تمر لم ير له مثل. فجعلنا إلى الجمل ننظر حتى غاب عنا. فجاء الأمير أسكي محمد فأكب بين يديه يقبل يديه ورجليه ويتعذر إليه بالنسيان. وتبين لهم فضل هذا العالم الولي ذلك اليوم، وقال: إن نسيتني فالعبد ينسى ولكن الرب لا ينسى أحداً. ورجع في آخر الثالثة.
وله خصائص ومناقب في حجه، من ذلك أقبل عليه أهل الحرمين الشريفين، واشترى في مكة المشريفة بقعة وبناها داراً، وحبس الدار على الكعبة الشريفة. وتلقا هنالك العلماء الأجلاء والصلحاء المرضيين. وعممه شريف مكة وقدمه وولاه وألبسه العمامة الزرقاء وسماه الإمام.
وتلقى بمصر سيدي عبد الرحمن السيوطي، وأخبره بما سيكون في بلاده. قيل أنه سأل عن بلد كاغ وما يؤول إليه آخره. قيل قال: أخاف أن يكون سبب خرابه الفتن. وعن بلد تنبكت قيل قال أن: أخوَف ما أخاف عليهم أن يكون خرابه وإتلافه بالجوع. وعن بلد جن قال: خرابه وهلاك أهله الغرق، يفجأهم الماء ويغرقهم أجمعين. وله معه قصة عجيبة أيضاً وزاره سيدي العالم العلامة محمد بن عبد الكريم.
وقيل أنه سمع رجلاً من أهل مكة كان عنده شيء من شعر رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتيه التجار بألوف من الذهب يطلبون منه أن يغمس تلك الشعر الشريفة المباركة في الماء ويشربون ذلك الماء ويغسلون به. فلما أتى الرجل طلبه منه وأخرجه له وظفر بشعر منها وألقاه في فمه والتقمه، يا له من فوز ما أحرمه ونعمة ما أوفره.
وقيل لما دخل شبكة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل معه بركي منس كور، وأمسك بمعمدة من الشبكة الشريفة وقال: يا أسكيا محمد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. دخلت في حرمتهم، أطلب منك أشياء، الأولى أن لا تجعل بناتي في الدار إلا بالنكاح. فقال: فعلت. ثم قال: وما الثانية؟ قال: أن تقف حيث وقفتك في الأمر ولانهي. فقال: فعلت. وما الثالثة؟ قال: فلا تقتل من دخل في داري ولا من وصلني. فقال: فعلت. فقال: لا بد أن تعطيني العهد على ذلك في هذا المكان الشريف، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً على ذلك. فقال: فعلت. وعقدوا على ذلك.
وقيل أنه كان حين حصروه أهل برك وهزموا جيشه، تبعه أولاده وهم مائة كاملة، وحاط بهم جيش سلطان برك، وحالوا بينه وبين قومه، وليس إلا هو وأولاده. نزل عن فرسه وصلى ركعتين، ثم استقبل القبلة وقال: أسألك اللهم بحرمة ذلك اليوم الذي وقفت عند رأس رسولك في شبكته وسألتك أن تجيبني عند كل شدة، أسألك اللهم أن تفرج عني وعن أولادي وأخرجنا بين هؤلاء سالمين. ثم ركب وقال لأولاده: ادخلوا أمامي حتى أخرجكم. فقالوا له: لا نفعل ذلك أبداً لأنا جمع، إن مات فينا طائفة تبقى طائفة أخرى، وأنت فينا واحد، فإن مت فلا أب يخلفك لنا. ثم جعلوه في وسطهم وافتحموا عليهم وهزموهم، وخرجوا سالمين ولم يجرح منهم أحد.
فلما خرج ولحق بجيشه قال لهم اسمعوا ولا تعجبوا مع ما فيه من العجب الذي لم يتفق لبشر قبلي وذلك أن الله أعطاني مائة من الولد، ما فيهم ولد خاسر ولا جبان، وكلهم فرسان شجعان. وقد يخلق الله رجلاً ويعيش ولا يصيب ابناً واحداً، وقد يصيب واحداً فيكون ولداً فاسداً خاسراً. وقد أعطانا الله مائة صالحين، فإني أشكر الله على ذلك.
ومن كرامات أسكي محمد أنه لما أتى بلد موشكي بعد قتلهم وإهزام جيش موشكي، وقف على شجرة هنالك التي صنمهم تحتها، وأشار إلى الصنم فإذا الشجرة انقلعت من أسفلها وسقطت بإذن الله. وسئل عما قال عند الشجرة وما فعل بها وتسبب لسقوطها، فقال: والله ما قلت إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما زجت عليه كلمة غيرها. سمعته من والدي المختار قنبل رحمه الله، يتحدث بها.
وغزي في السنة الرابعة. في تلك السنة تولى شيخنا الفقيه محمود بن عمر القضاء. وفي العام الخامسة غزى باغن فار. وفي السادية غزى تلظ في أير، وهنالك أصاب ككك، ولم يكن لهم قبل ذلك. وفي السنة السابعة مشى إلى زلن، ورجع إلى كاع.
وأمر سبعة رجال من أبنائه وهم كرمن فار عثمان ومور عثمان ساكد وعثمان كري وسليمان كتنك وبنكفرم سليمان وكلسفرم سليمان وعمر توت وفقهائهم الذي حج معهم لاستئتائه صالح جور ومحمد تل. وقال لهم: فإذا جاءوا موضع الذي عرف بإسكين إلى موضع عرف بفا حوز لك يا صالح جور، وأنتم الشهداء. وفيه ثلاث قبيلة ملكاً له: حدادنك أغماً وقبيلة فالن وأهل بل كك وكركع وسري، وإنما أصلهم من الزنجية.
ثم قال يا محمد تل إذا وصلوا حركنس كيغر وركب في مقابله من طلوع الشمس إلى حين غربت عليك حوزلك، وفيه ثلاثة قبيلة ملكاً لك: قبيلة زنجية وقبيلة سربني وقبيلة جم ول، لآن جم ولي وسربني أمهم عربي وأبوهم حداد ماسني. وكان الأمر كذلك وغربت عليه الشمس بحذاء أشجار دودكش، ثم رجع إليه وقصها عليه. ودعا لهم.
وما غزى في السنة الثامنة والتاسعة والعاشرة. وفي الحادية عشر مشى إلى بركك. ولم يغز في الثانية عشر. وفي الثالثة عشر نزل في كبر وتلقاه هنالك ثلاثة رجال من حفدة الشيخ مور هوكار، وهم مور الصادق ومور جيب ومور محمد الذين أخذهم شي على في زمنه كما تقم. واشتكوا إلى أسكي محمد البؤس والشدة التي تلقاهم في زمن شي عال. وأمر لهم بعشرة خدام ومائة بقرة، فرجعوا. فلما كانوا راجعين تلقوا بإخوانهم بني أبيهم حفدة مور هوكار في الطريق قادمين إلى أسكي محمد، وسألواهم عن حاله. وأخبروهم بحسن سيرته وسياسته وكرمه، وذكروا لهم ما وهبه لهم من العبيد والبقرات. فقالوا: نحن شركاؤكم في هذه العطية نقسمها على رؤوسها. وأبوا، وتخاصموا، وبلغوا في ذلك نهاية، حتى رجعوا معهم إلى أسكي محمد وأخبروه بما جرى بينهم وبين إخوانهم.
فضحك فرحاً مسروراًز. ثم قال للإخوة: إنما هذه العطية ما نويت بها ذريات مور هوكار، وإنما قصدوني إخوتكم هؤلاء الثلاثة، فأعطيتهم ما قسم الله لهم، وذلك رزقهم ساقها الله لهم. ثم أمر للإخوة الآخرين أيضاً بعشرة عبيد ومائة بقرة، وقال: هذا رزقكم أنتم، ولكم عندي ذلك غرامة في كل عام ما بقيت. فأخذوها وشكروا فعله، ودعوا له بطول البقاء والتمتع بملكه.
ثم قالوا له: نريد منك أن تكتب لنا كتاب الحرمة نسير بها في البلدان نحمى بها أعراضنا، حتى لا يتعرض لنا أحد من ظلمة جندك بظلم ولا بتعدية، عتقك الله من النار. فرضي وأجاب وأمر الكاتب أن كتب، وهو يملي له ويكتب. ووقفت أنا على ذلك الكتاب، أوقفني عليه خالي القاضي إسماعيل بن الفقيه القاضي محمود كعت. وقد لحس منه الأرضة بعض أسطار أسفل رسمه، ونقب منه أشياء. ونصه:
هذا كتاب أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان العادل القائم بأمر الله أسكي الحاج محمد بن أبي بكر، أدام الله عزه ونصره وخلد البركة في عقبه. ومن وقف عليه بأيدي جملة حفدة الفقيه الزاهد الصالح مور محمد هوكار، وهم مور الصادق ومور جيب وإسحق وأنيازك ومحمد ورسماك وعلي وبلقاسم، بني الفقيه مور معمع بن مور معمك بن الفقيه مور هوكار، رحمه الله ونفعنا بعلمه ودينه آمين. ومن وقف عليه ممن يؤمن بالله واليوم الآخر وبرسالة رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم فليحترمهم ويوفرهم ويعرف مناقبهم وفضلهم وحرمة جدهم. ويمسك كل جائر وفاجر جوره وفجوره من جندنا وأهل جيشنا وخدمنا الجائزين وعبيدنا ورسلنا، فلا يقربهم بضيم ولا بتحقير وتصغير. ومن تعرض لهم بسؤء وظلم ينتقم الله منه على كذا. ونوصي كل من تنسل منا من أولادنا وحفائدنا أن يبروا بهم ويحترموهم ويحسنوا إليهم. وقد أسقطنا جميع وظائف السلطنة وغرامته بحيث لا يطالبهم أحد بشيء حتى الضيافة. وإن تعرض بينهم ظنة أو ادعى عليهم حقاً فلا يحكم عليهم إلا أنا وحدي أو من سيخلفني في هذا المقام من أولادي. ومن ظلمهم أو أخذ منهم أدنى شيء ظلماً باطلاً من ذريتي لا بارك الله له في ملكه وفسد عليه ملكه، وختم له بخاتمة السوء بحرمة الذي وقفت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت في داخل شبكة روصته صلى الله عليه وسلم. وكذلك أبحت لهم ولذرياتهم أن يزوجوا في مملكتي كلها، من كنت إلى شبردك الذي هو الحد الحاجز بيننا وبين سلطان مل، من كل نساء أحبواها، ويكون ولدهم منها أحراراً وأمهم تابعات لهم في الحرية، إلا سرك وأربي، وأني أنهاهم وأحذرهم عن نكاحهم لأنهما مملوكان لنا. ثم من تعدى منهم فولد منها بحرمة جدهم معتوق دون أمه، فأمه لا يطالبها أحد بالرق ما دامت في عصمته، فترجع إلى ملكي بعد طلاق أو وفاة الزوج.
ويتلو هذا السطر أربعة أسطار لحست دابة الأرض كلها وما بقيت منها إلا ما لا يتأتي كتبها، ولا يمكن تلفيق بعض ذلك إلى بعضه. ويتلوه:
وقد حضر عند هذه الوثيقة الفقيه أبو بكر بن الفع علي كار بن الخطيب عمر والفك عبد الله بن محمد الأغلالي والعاقب بن محمد الشريف، وشهد به كاتبه علي بن عبد الله بن عبد الجبار اليمني، ختم الله له بخاتمة الحسنى.
ثم أمر بأن ينادي كل من حضر هنالك من أولاده: كلس فرم سليمان كند نكرى وونيفرم موسى ينبل وشاع فرم علوا وحارفرم عبد الله وكنفار علي كسل. وأحضروهم وأمر بقراءة الكتاب عليهم، فقرئ عليهم. وقالوا كلهم: سمعنا وأطعنا. ثم قال: من سمع باسم هذا الكتاب أو رآه فلم يمتثل فلا يبارك له في نفسه وفي كل ما رزقه الله من ذرياته. ثم أخذ الكتاب بيده وطواه وجعله في يد كبيرهم، وهو مور الصادق. انتهى.
وقال القاضي إسماعيل كعت كل حكم حكم به أسكي محمد ما عرفنا ما بقي منها بعد نزول محملة جودرإلا هذا الحكم وحدهز وقد أبطل الكل ذريات أسكي محمد وحفائده. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قلت وهذا الواحد الذي قال القاضي إسماعيل أنه بقي. فقد أبطلوه بعد موت أسكي محمد بنكن بن بلمع صادق، وما أبقوا له أثراً. وقد رأيت بعيني كثيراً من حفائد مور هوكار وأسباطه في سوق تنبكت يباعونهم وهم يصارخون بأنهم حفائد مور هوكار، وباعوهم.
وممن تسبب باتلافهم أهل سنغي، وذلك في أول العالم الخامس والسبعين وألف، وقد أظهروا لهم العداوة والبغضاء. والظن أن دعوة أسكي محمد كادت أن تنزل بهم أو نزلت وحافت بهم كل ذلة وتصغير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي الرابعة عشر مشى إلى كمنبقوت، ورجع في أول الخامس عشر. وفي تلك السنة حج سيدنا محمود بن عمر، وولى القضاء بعده القاضي عبد الرحمن. ثم رجع ومكث في تنبكت سنتين، والقاضي عبد الرحمن يقضي وما رد القضاء للقاضي محمود الذي استنابه. والقاضي محمود ساكت ولم يتعرض له، وما استرده، إلى أن وقعت نازلة في مجلس القاضي عبد الرحمن وحكم فيها بما حكم به. وسمع بذلك الفقيه القاضي محمود وأرسل إليه ينقض ذلك الحكم لمخالفته بنص الكتاب والسهنة والإجماع. فأبى إلا إنفاذه. وسكت الشيخ، فأبلغ الخبر بذلك إلى أسكي محمد. فأرسل رسله ليردوا الحكم للقاضي محمود ويعزلوا عبد الرحمن.
وجاء الرسول وأجمعوا علماء تنبكت وفقهاءها في جامع سيدي يحيى ونادوا القاضي بأمر أسكي، وحضر. وقال له الرسل أن أسكي يأمرك بأن تسلم الأمر للقاضي محمود، لأنك نائبه، وإذا حضر المنيب فالنائب معزول مبطول، مع أنك لا تستحق القضاء ما جام محمود بين أظهركم حياً، ولاموه بسوء أدبه لعدم تسليم القضاء إليه حين أتى، وعزلوه.
ثم أتوا القاضي محمود يأمرون بأمر أسكي بأن يرجع إلى مكانه ويتولى. وأبى وامتنع، ولحوا عليه. فلما سمع أسكي بإبايته وامتناعه أرسل إليه كبراء قومه وألزموه ذلك. ثم لم يرض إلا بعد ما غلبوه بالحجج. أقاموه عليه وتولى رحمه الله.
وفي السابع عشر أرسل علياً المسمى عل فلن وبلمع محمد كري إلى باغن فار مع قت. وفي الثامنة عشر قتل أي تنيض الكذاب الذي ادعى النبوة والرسالة لعنة الله عليه. قتله كنفار عمر كمزاغ بغير علم أسكي وأمره. خرج من تندرم إليه، ونصره الله عليه. ومع ذلك كان في كثرة ومنعة وقوة أكثر من جيش كنفار عمر، ولم يغلبه إلا بنصر الله.
وهو سلطان فوت، ويقال فوط كنك. وكان قوياً منصوراً شجاعاً ذا بأس خارجاً. خرج عن ملك فوط وجاء إلى كنك وأقام وتسلطن هناك. وسبب خروجه أي كنفار عمر وذلك أن كياك فرن وقع بينه وبين تنيض ملك فوت أمور وخصومة، وتشاجر وحلف بأن يكسر بلده ويصيره صحراء، وكان أقوى منه قوة وخيلاً ورجالاً. فاستغاث لذلك بكنفار عمر ولذلك خرج إليه، وهذا أول ما سمعنا من القصة.
ثم أخبرني بعض العارفين بسيرهم أن سبب خروج كنفار عمر إليه أن أحد الزغرانيين من أهل سنغي كان يخرج كل سنة إلى فوت ويتجر فيها، وسمع به تنيض وأخذه وأكل ماله جوراً وظلماً وأراد قتله، وهرب إلى كرمن فار، وسعى به إليه ونم عليه عنده وقال أنه شتمه، ووقع فيه وأغضبه، ولذلك خرج إليه.
وقد بلغ أهل سنغي في الحرب وعلم القتال والشجاعة والنجدة ومعرفة المكيدة غاية ونهاية. انظر كيف خرج كرمن فار بهذا الجم العرمرم الكثيف، وقطع بها هذه المفازة البعيدة القفر في مسافة نيف وشهرين في البعد من تندرم إلى فوت، وكيف ظفر بهم وتمكن من ملكهم وقتله وغنم فيهم الأموال الجسيمة، وكل ذلك في العام الثامن عشر بعد تسعمائة. وقطع رأسه وجاء به إلى تندرم ودفنه هنالك.
وفي التاسعة عشر غزى كشن. وفي الخامسة نزل كبر في شهر رمضان. ثم رجع إلى كاع في تلك الرمضان. ولحق الخبر يوم نزل كاع بمرض أخيه كرمن فارعمر كمزاغ، وكر راجعاً خفية إلى تندرم، ودخله ليلاً. وتوفي عمر في تلك الليلة، ودفنه بداره. ومكث فيها ثلاث ليال. ويقال أنه ركب فيها يوماً وتبع بحره الصغيرة حتى انتهى إلى بحر فت. فلما رجع قال: ما أجمل هذا البلد وأحسنه، ولكن أهله لا يتفقون على أمر واحد أبداً. وقيل له في ذلك وقال: لأن بحره معوج، ومن شرب من مائه لا يثبت قوله ولا يتفق أهله. ثم رجع إلى كاع. وذهابه ورجوعه اثني عشر يوماً، ولم يفطن أحد من أهل كاع بذهابه حتى رجع.
وجعل أخاه كرمن فار يحيى، وهو المسمى ياي. وفيه أقوال: قيل أنه ابن زوجته وهو ربيبه. وقيل أنه أخوه لأمه. وقيل أنه ابن أخي أمه كسي بنت كركي بكر. ومدة سلطنة كنفار ياي المذكور تسعة أعوام.
ثم خرج إلى كاع حين سمع بخبر أسكي موسى أنه يريد عزل أبيه ويدخل حين ضعف بصره. خرج من تندرم يريد أن ينهاهم ويزجرهم عن ذلك. فجاء إلى كاع حين سمع بخبر وتكلم لهم، فلم يسمعوا ولم يرجعوا عن عصيانهم. خرج يوماً يركب إلى وراء بلد كاع وبركب أسكي موسى وإخواه المفسدون الخاسرون الخارجون وتبعوا إثره حتى لحقوه بمكان يقال له رأس أرزر، معناه-أرِزُر بهمزة مفتوحة بعدها راء مكسورة فزاى مضمومة-مجرى الماء. وتقاتلوا هنالك وغلبوه وقتلوه.
وفي آخر هذا أعني العام الخامس والثلاثين عزل أسكي موسى أباه أسكي محمد وتسلطن-ولم يبارك الله له في سلطنته-وذلك يوم عيد الأضخى من العام الخامس والثلاثين. ومكث أسكي محمد في السلطنة أربعين سنة غير واحد، وقيل ثلاثة وأربعين سنة على الصحيح. وعاش سبعاً وتسعين سنة، ومات في أيام أسكي إسماعيل.
وترك أولاداً كثيراً أولهم أسكي موسى، ونيفرم موسى ينبل، وكري فرم مور موسى ذهب مع كرمن فار عثمان. وله أولاد ثلاث أسماؤهم عثمان: أولهم كرمن فار عثمان، ومور عثمان ساكد، وعثمان كري. وله سليمن ثلاث: سليمن كتنك، وبنكفارم سليمن، وكلس فرم سليمن كند كرية. وله عمر ثلاث: عمر كي، وعمر توت، وعمر يويع. وله بكر ثلاث: بكر كور، وبكر سين فل، وبكر كرن كرن. وله علي ثلاث: علي واي، وعل كسل، وبنكفرم عل كندانكيي. وله محمد ثلاث: مور محمد، ومحمد كنب، ومحمد كدر. وقيل بل محمد دندمي، ومحمد الطاهر، وحارفرم عبد الله، وأسكي إسحاق، وأسكي إسماعيل، ومحمود دمية، ومحمود دنمع، ومحمود بكر، وأسكي داوود، ويعقوب، وبنكفرم ومحمد بل اسمه حبيب الله، وخالد، وياس، وإبراهيم وهو شقيق لسليمان كنكاغ، وبابل فرم فعم، وغيرهم مما لا يعد كثرة. وهذا ما حضر لي الآن، وبقي أكثرهم.
ومن بناته ويزبان وويزام هاني وويز عائشة كرويز وحفصة وعائشة بنكن أم محمد كوب وعائشة كر أم بلمع محمد وأو وبنش وحاوء أدم وأمكر ومك ماسن وفراس ماننكع وكبر وصفي كر وحاو جعكي أم هنبر كي منس وددل ونانا حسن وفت جند أم عبد الرحمان وفت ونين وكر توجل والدة سيد كر.
وأما كرمن فار عمر قد ولد أولاداً كثيراً، إلا أن أكثرهم لم يصب اسماً ولا موضعاً يشتهر به، غير أنهم كلهم شجعاناً أهلي القتال. ولم يلد ملكاً إلا محمد بنكن كري فقط، وكرمن فار تمن تنفري، وقلّت أيامهم. ومن أولاده ترع فرم ألفك وهو أثبتهم وأوقرهم مروة، وبنكفرم عل زليل وجعفر ومحمد كور وباغن فار عبد الرحمان وعلوسم وسمعيل كنكر وكريع ومحمد نان كون وغيرهم، وهم جماعة.
وبناته كبر تزوج بها كنفار يعقوب ثم تزوجها أسكيا داوود بعد موت يعقوب، وكيبنوا تزوجها بركي منسمع بكل وولدت له بركي عمر، ونان اسما، وماسن فلها ذريات كثيرة، وشت زعر، وبنش كر.
والأساكي كلهم أولاد السراري إلا أسكي محمد وحده، بخلاف سلاطين بر. كلهم أولاد زوجات إلا بركي منس كنت وحده وهو ابن أمة. فأم أسكي محمد الذي هو ابن زوجة، اسمها كسي بنت كركي بكر. ثم أسكي موسى اسم أمه جار كرب. ثم أسكي مر بنكن أمه من كرو. ثم أسكي إسماعيل أمه مريم داب وانكرية. ثم اسكي إسحاق أمه كلثوم برد من أهل درم. ثم داوود أمه سان فاريو. ثم أسكي الحاج أمه من كاي. ثم أسكي محمد بان أمه أمس كار. ثم إسحاق أمه فاطمة بص الزغرانية. كلهن على زعمهم سراريهم.
وأما سلاطين بر أول القائم منهم كنسر مع سكن كنكر. وأول من سكن جبر منهم حفيده منس كور بن منس موسى أمه مريم سنبن. ثم منس سلمان أمه يعزسر. ثم منس كنت أمه فرم تور. ثم منسمع بوكل أمه كرز كنت. ثم منس بكر كوك أمه فت بعد. ثم منس دبر أمه مريم كنبع. ثم منس بكر وين أمه أيش برد. ثم منس عمر أمه كيبنو. ثم منس علوا أمه ناموي، وعليه جاء جودر.
وولد في أيام أسكي محمد محمد بن محمد بن سعيد حفيد الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت، وسيدي الفقيه محمد بن القاضي محمود بغيغ رحمه الله، والفقيه أبو بكر بن محمود بن عمر بن محمد أقيت، وأحمد بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت والد سيد أحمد بابا، والفقيه القاضي محمود بن الحاج المتولكل كعت.
وأما الفع محمد تُلِ بتاء مضمومة بعدها لام مكسورة، هو جد أهل دكر وأفقههم. وتنسب قبيلتهم لبني مداس. حج مع أسكي محمد، وكان أسكي محمد يحترمه احتراماً عظيماً ويوقره، لاكنه لم يترك عقباً تعلم من العلم شيئاً. ومات في أيامه الفع صالح جور جد أهل توتل، وكذلك هو لم يترك ولداً عرف اسمه أن كتبه له.
وقيل أن أسكي محمد هو الذي وهب أم القاضي محمد للفقيه محمود رضي الله عنه، وأمره أن يتخذها سرية، ففعل. ثم أرسل أسكي محمد ألف مثاقيل للفقيه محمود، قال له: إن ولدت سريتك ذكراً فسمّه باسمي فأعطه هذا الألف، وإن كانت أنثى فاعطها خمسمائة ولك أنت خمسمائة الباقية.
الباب السابع
أسكي موسىثم قام أسكي موسى على أبيه وتولى الملك غصباً لضعف بصره، وذلك في مصلى عيد الأضحى يوم الأحد العاشر من ذي الحجة. ومكث فيها سنة واحدة وتسعة أشهر. ولم يتول سلطنة سنغي وأسكويته أخف وأرذل منه. فسلطنة سنغي على ما قيل أكبر منه.
ومن سفاهته أنه لما عزل والده أسكي محمد وأخرجه من دار المملكة امتنع بجواريه وسراريه أن يدخلن عليه وحبسهن عنه لنفسه. ودعى عليه أسكي محمد وقال: اللهم اكشف عورته وافضحه. واستجاب الله دعوته عليه، وركب في غده مع كافة جيشه، وحرك فرسه ليجريه، وسقط عن فرسه. وقطع حبل سراويله، وعليه أربع قمصان وانقلب القمصان إلى رأسه، وبقي عرياناً. ولم يبق في الجيش أحد لم ير عورته.
وفي السادس والثلاثين قاتل هو وإخوته بين أككن وكبر، وغلب إخوته هنالك. فقتل من أولاد عمه كرمن فار عمر أكثر من ثلاثين، وقيل خمس وثلاثون، وقيل خمس وعشرون. وهرب كرمن فار عثمان إلى تمن.
وفي سنة وثلاثين قتل في قرية منصور يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان.
الباب الثامن
أسكي محمد بنكنوتولى بعده أسكي محمد بنكن كري، اسم أمه من كرو، أول يوم من رمضان. ولا يقال له إلا مر بنكن قاطع الرحم.
فلما تولى، أمر بإجلاء عمه الأكبر أسكي محمد رحمه الله وأخرجه من بلد كاع إلى جزيرة كنكاك وأسكنه فيها. وإن أسكي موسى لما عزله تركه في كاغ ولم يخرجه منه.
وقيل لما سقط مر بنكن من بطن أمه ليلة ولادته استهل صارخاً. وسمع باستهلاله شي عال، وهو في دار مملكته وهو بقرب دارهم. وأمر ولده أن ينادي كنفار عمر وأسكي محمد. فنوديا، وأتياه. فقال: هل ولد بداركم الليلة من ولد؟ فقال أسكي محمد: بلى ولدت أمة أخي عمر ابناً الآن. فقال لهما. أخبركما فيه أن تقتلوه. فحطا التراب على رأسهما وصبراه ليتركه. فقال لهما: اذهبا إليه وانظرا في فمه، فإنه ولد بسن. فذهبا ففتحا فمه، فإذا هي مملوة سناً. فرجعا إليه فأخبراه بذلك. فقال: إنه ولد شقي فاجر، ولاكن تركته. وأنت يا مع كينا لا يضر إلا إياك، فسترى ما يصدر لك منه ولأولادك. كذا نقلت من شيخي ووالدي رحمه الله.
وكان أسكي مر بنكن كري شجاعاً بطلاً فارساً. إذا حضر القتال واشتد البأس نزل عن فرسه ويقاتل على الرجل.
وهو ممن أقام أمر سلطنة سنغي وأول من فصل ملف وند وصنع السوار لخدمه، وأول من مشى بالدفوف في السفينة. وهو الذي اخترع فترف وكبتند آلتي اللهو، وفُتُرِفُ بفاء مضمومة بعدها تاء مضمومة فراء مكسورة ففاء مضمومة يشبه البوق، وكبتند وهو كالطبل إلا أن صوت الطبل أرفع منه، وهما معروفان عندهم. ولم يكن فترف إلا لسلطان أير.
وكان أسكي محمد بنكن رجلاً حروفاً قليل الصبر. وهو أول كنفار كان أسكي وتولى بعده كنفاروية عثنمان بن كنفار عمر أو ابن أسكي محمد، والله أعلم بصحة هذه الورقة وما يليها، وفيها خلاف ترتيب كرامن فوري. ووقع الشر بينهما والتقيا بين كبر والجف، وتقاتلا هنالك، وغلبه محمد بنكن. وقتل من إخوة كمفار عثمان بن محمد خمسة عشر من أولاد أسكي محمد. وقد كثر جيش سنغي في أيامه. ويروى عنه أنه قال: زدت فيها ألفاً وسبعمائة رجلاً.
ومدة إقامته في السلطنة ست سنين وشهر. وعزل في منصور القرية التي تولى فيها السلطنة وقاتل إخوته، وذلك في يوم الأربعاء ثاني يوم من شهر ذي القعدة عام الرابع والأربعين. وقيل كان قتالهم في اليوم الرابع والعشرين من شعبان، هكذا ذكره باب كور في دررالحسان.
وممن مات في أيامه من الأعلام والعلماء الكرام الفقيه العالم سيدنا الحاج أحمد الأكبر جد سيدي أحمد بابا، وهو الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت شقيق سيدنا القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت، وهو أسن منه، فإنه مات رحمه الله على ما قال أحمد بابا في كفاية المحتاج في السنة الثالثة والأربعين.
وفي تلك السنة يعني سنة ثلاث وأربعين قام عليه ابن عمه أسكي إسماعيل بن أسكي محمد، فتولى السلطنة خارج بلد كاغ. فلما اتصل الخبر بأسكي محمد بنكن خرج هارباً إلى تنبكت، فتبعته الخيول. ثم خرج منها ودخل تندرم، وهناك أخوه كرمن فار عثمان شقيقه، وهو تولى الكنفاروية بعد كنفار عثمان بن أسكي محمد. فلما رآه عثمان معزولاً هارباً تبعه وهربا إلى مل مخلصاً نجيين، وسكن مدينة تعب، ومات فيه، وقبره هنالك.
الباب التاسع
أسكي إسماعيلوولاية أسكي إسماعيل رحمه الله كان في أول يوم من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين بعد تسعمائة. وكان محمود السيرة وممن استحق السلطنة. أمه مريم داب ونكرية.
فلما تولى أسكوية أمر ساعتئذ بإخراج أبيه أسكي محمد المرحوم من تلك الجزيرة يعني كنكاك التي أجلاه محمد بنكن كري إليه. وفي العام الرابع والأربعين ذهب إلى دير، ثم رجع إلى كاع.
ولما أخرج أباه من تلك الجزيرة وأسكنه في بعض بيوت دار المملكة أتى بشكارة له وحل ربط فمها وأخرج منها قميصاً وشاشية خضراء وعمامة بيضاء، وأدخل القميص في عنق أسكي إسماعيل وأدخل القلنسوة الخضراء في رأسه وعممه بتلك العمامة، وأدخل في عنقه سيفاً، وقال: هذا قميص قمصني به شريف مكة المشرفة الذي هو أميرها حينئذ وأدخل هذه القلنسوة على رأسي وعممني هكذا بيده المباركة في حضرة جم غفير من قومه من أهالي مكة وغيرهم، وقلدني هذا السيف وقال: أنت أميري ونائبي وخليفتي في إقليمك وأنت أمير المؤمنين. وأنا خليفته وأميره ونائبه. وولاني وملكني. وغصب الملك مني ولدي الفاسق موسى. ثم غصبه منه محمد بنكن، وكلاهما خارجان. وقد وليتك أنا ورددت الخلافة التي قلدني بها الشريف لك، وأنت خليفة خليفة الشريف الذي هو خليفة السلطان الأعظم اعثماني.
فاعلم أن هذا السيف هو الذي كان أهل سنغي يكذبون فيه ويقولون التقطه في رحبة بدر حين وصل هنالك-قيل هذا بدر الذي قاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار-فحرك الفرس الذي كان عليه وقال: وددت لو حضرت معه يومئذ وأكون من أنصاره وأقاتل بين يديه حتى أموت. وقالوا في افترائهم أيضاً أنهم سمعوا صوت الطبل في السماء ضرب له، والصحيح ما ذكرنا من أنه من مواهب الشريف لأسكي.
وهذا السيف هو المسمى أنكج. وفي آخر أمر هذا السيف ثلاثة أقوال: قيل ذهب به أسكي إسحاق الزغراني حين خرج عليه أخوه محمد كاع وعزله هرب إلى بلنك جهة كرم، قتله سلطان كرم وأخذ ذلك السيف، وهذا أصح الأقاويل فيه. وقيل كان في عنق أسكي محمد كاع حين أخذ يوم تنش وسلب منه. وقيل ذهب أسكي نوح به إلى دند، والله أعلم. ولا خلاف أنه لم يبق في أيدي أساكي تنبكت اتفاقاً.
ثم استخلف بعد هروب كنفار عثمان في كنفاروية كرمن فار حماد بن أريو بنت أسكي محمد، وأبوه بلمع محمد كري. ثم عزله. وقيل قتله، ولقتله سبب يطول ذكره هنا. وبعد قتله أطلع أسكي في مكانه في كنفاروية كنفار علي كسل بن أسكي محمد.
وكان في أيام أسكي إسماعيل قحط وجوع. وكان فارمنذ يوم ينتقل ويطلع أسكوية.
وممن مات في أيامه أبوه أسكي محمد في ليلة الفطر سنة أربع وأربعين ولا نعرف له عقباً هنا اليام، لا رجالاً ولا نساء. ومدة سلطنته سنتان وسبعة أشهر وأربع ليل. ومات يوم الثلاثاء أربع من شعبان المنير سنة ست وأربعين وتسعمائة.
الباب العاشر
أسكي إسحقثم تولى أسكي إسحق بعد موت أسكي إسماعيل. وهو وحارفرم عبد الله شقيقان، أمهما كلثوم برد، أصلها من درم. وحارفرم عبد الله والد بنكفرم محمد حيك.
وكان أسكي أسحق مرضياً صالحاً مباركاً كثير الصدقات ملازماً لصلاة الجماعة عاقلاً فطناً ذا دهاء.
قيل أتى يوماً إلى المسجد لصلاة العشاء الأخيرة ليلة ذات مطر وظلمة وطين، وجلس في المجد وحده. ثم أتى المؤذن ونادى بالأذان. ثم وقد المصباح وجلس ينتظر الجماعة والإمام. ثم لم يجئ أحد حتى جاء الإمام وحده وأحيا المسجد. ثم قال له المؤذن: أيها الإمام قم فنصلي، ولعلك تنتظر مجيء أسكي إسحق، فإنه لا يخرج من مرقده في هذا المطر والظلمة والطين، وأين هو الساعة؟ على سريره المفروش عليه بأنواع الحرير. فأجابه أسكي إسحاق في جنب المسجد قائلاً: إن كان أسكي إسحاق هو المنتظر فها هو قد سبقكما، فقوما نصلي. فقاما متعجبين في خروجه وحده إلى الصلاة.
وولايته كان في يوم الأحد السادس من شعبان عام ست وأربعين. و[بقي تسع سنين] تسعة أشهر وتسع ليال.
وفي عام طلوعه يعني ست وأربعين ذهب إلى تعب ووجد أسكي محمد بنكن هنالك حياً. ثم مات في تلك الأيام، وصلى عليه أسكي إسحاق. وفي قصة موته سبب يطول ذكره.
ويروى أنه دخل مدينة جن-حرسها الله-في ذهابه لتعب وملك فيها أياماً، فأمر يوماً بأن يحضر كل من كان في جن من العامة والخاصة في المسجد الكبير بحيث لا يتخلف منهم أحد. فحضروا أجمعون. ثم جاء هو، ومعه أعيان جيشه وكبراء أقياله، حتى امتلأ منهم الصفوف والأساطين. ثم أمر ترجمانه أن ينادي بالناس يعلمهم حالفاً بلفظه: والله ما سافرت سفري هذا إلا لإصلاح البلاد ولمصالح العباد، والآن فعلمونا بمن يؤذي المسلمين، وبمن يظلم الناس في هذا البلد. ومن علم ذلك ولم يذكره وحق نفسه فحق عباد الله في عنقه. ودخل الترجمان في الصفوف يبتبعها ويقول ذلك، والجماعة ساكتة.
وكان ممن حضر في تلك الجماعة الفقيه القاضي محمود بن أبي بكر بغيغ، وهو بقربه جالس. فلما أطال الحال عليهم فما رد أحد له جوباً، قال له الفقيه محمود المذكور: أحق ما تقول يا إسحاق؟ فقال: والله لحق. فقال: إن علمناك بذلك الظالم فماذا تفعل له؟ فقال: أفعل له ما يستحق من قتل أو ضرب أو سجن أو إجلاء أو رد ما أتلفه من المال وغرمه. فقال له الفقيه محمود بغيغ رضي الله عنه: ما عرفنا هنا أظلم منك أنت، أبو كل الظالم وسببه، ولا يغصب غاصب هنا مغصوباً إلا لك وبأمرك وبقوتك. إن كنت بقتل الظالم فابدأ بنفسك وبادر به، وهذا المال الذي يجلبه إليك من هنا وتثرى إليك. ألك، أو لك هنا عبيد يحرثون لك، أو مال يتجر به لك؟
فلما سمع بذلك تحير وتدهش وتنفس الصعداء، وبكي وندم على قوله، حتى رحمه الناس وحتى عبس وجه قومه على محمود بغيغ. وقال له أرذالهم الجهلة السفلة: أنت القائل للسلطان. هذا القول، وكادوا أن يسطوا إليه، فردهم عن ذلك، واهتهرهم. فما صدر منه إلا الإذهان والخشوع والحشمة، بل قال: صدقت والله، وأنا تائب لله وأستغفره. ثم نهض إلى منزله باكياً، والدموع تقطر وتسيل من عينيه. هكذا روينا القصة عن خالنا الفقيه القاضي محمد الأمين بن القاضي محمود كعت رحمهم الله.
ثم رجع أسكي إسحاق إلى كاع. وأدركه في الطريق نعي الخطيب أحمد ترف خطيب جن قبل وصوله لكاع، وهو الذي ألفاه أسكي إسحاق هنالك خطيباً، وقيل الخطيب أحمد سنكمو. فأمر بتقديم القاضي محمود بغيغ، وأرسل أحمد أعيانه من جيشه ليقدمه قاضياً أحب أم كره. فأتى الرسول وجمع أهل البلد كله، سلطان جن فمن دنوه وفقهاءها. وأحضروا محمود بغيغ، وهو لا يشعر، فأخذوه وأمسكوا به وجعلوا قمصان أسكي في عنقه الذي أرسل إليه، وعمموه، وهو سصرخ ويبكي بكاء الصبي. وقدموه جبراً وقرأوا عليه كتاب أسكي، وبأمره أتوه بفرس وحملوه إلى داره.
فلما دخل بيته استقبلته زوجته أم ولده السيد الفقيه أحمد بغيغ، وقالت له: لم رضيت القضاء؟ فقال لم أرض بذلك، وإنما أجبروني بها وكلفوني. فقالت لو اخترت الموت عليك لكان أحسن منه، ولو قلت اقتلوني فلا أدخل. فقال: ما قلت ذلك. فأدبرت باكياة. ثم لم تزل تبكي أياماً، رحمهما الله انتهى.
ثم دعى على أسكي إسحاق ومات في شهره. ويقول: إسحاق نفى عن عيني الكرى، وألزمني السهر، كدر الله عليه عيشه، وينزل عليه ما يشغله. فرجع الذين أرسلهم ليولوا ذلك القاضي، فوجدوه قد مات.
وأسكي إسحاق هو الذي قدم القاضي عثمان درم قاضياً في تندرم، وكلفه عليه، واستقضاه قهراً. وكان القاضي عثمان عالماً صالحاً ورعاً زاهداً عابداً ولياً مكاشفاً، حج وزار، معروفاً. وله من الكرامات والمناقب ما ظهر لمن عاصره.
ومما يوثر من ذلك حين كان في المكتب يقرأ القرآن، وأمه فقيرة لا خادم لها إلا ولدها عثمان هذا الفقيه، وهو في خدمة معيشتها من الطبخ والدق وحمل الحطب والماء. فذهب يوماً يحمل حطب القراءة ولم تجد أمه من يقوم بإصلاح عشائها في تلك الليلة، وهي عجوز عاجزة. فعمدت إلى قدح يأكل فيها ولدها عثمان، فأملأتها روزاً مقشوراً لم تدق وغطته. فلما رجع عثمان من المكتب أشارت إليه بها، فقالت: خذ قدحك فيها عشاؤك، فكل. وعندها امرأة أخرى تحدث معها. فذهب عثمان إلى القدح فأخذها، فإذا هي مملوة طعاماً مطبوخاً بأنواع الآدام واللحم والسمن الكثير. فقامت أمه إليه وأدخلت يدها في القدح، فإذا هو فيها طعام طيبة الريح تفور وتفوح، منه رائحة طيبة عمت فناء دارها. فرجعت إلى مقعدها، فعلمت أنها كرامة من الله أكرمه الله به.
وقبره وراء جامع تندرم. الدعاء عند قبره مستجاب مجرب. وهي ترياق كما قال القشيري في رسالته. ويقول البغداديون قبر معروف الكرخي ترياق مجرب.
فائدة: القبور اللواتي يستجاب الدعوات عندها قبر القاضي عثمان درم المذكور، وهو معروف يستجاب الدعاء عندها مجرب اتفاقاً، لا يرد الدعوات عندها. رأيناه بعيني، ودعوت الله عنده بدعوات استجاب الله لي، والحمد لله وله الشكر.
وعند قبر مور محمد الكابري.
وقبر سيدي يحيى مجرب. رأيناه وسمعنا به من كثير جربوه فألفوه. وكذلك وما زال فقهاء تنبكت الذين تلقينا بهم يزورونه، كسيدي أحمد بابا والسيدين الفقيهين إبراهيم ومحمد ابني أحمد بغيغ. وأخبرني صاحبي الفقيه محمود أن هذا الموضع الذي يقف الناس عنده الآن يظنونه قبره، وهو الموضع الملصق بالمنار الذي يؤذن فيه، بل هو يقرب ذلك الباب يسيراً، وهو موقف الفقيه إبراهيم وأخيه محمد بغيغ.
وقبر سيدي الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت.
كذلك وقبر الفقيه العالم محمد بغيغ ابن القاضي محمود بغيغ، جربته أنا بنفسي ورأيت الإجابة، ولله الحمد.
وقبر الفقيه عثمان الكابري المدفون بمسجد كبر. حكى لي بعض الصالحين في ذلك خبراً يطول سردها.
وقبر مور هوكار في بلد يقال له ير، قد خرب اليوم، وقل من يعرف موضع قبره الآن.
وقبر الفقيه بكر سن في داخل جامع مور كير.
وقبر الفع محمد تل في حندبير مجرب. وربما يأتيه صاحب البرص والجذام، فيشفعه الله فيه فيبرأ. رأيت ذلك مراراً.
وقبر مور مان باكو في قرية مسماة تاوتلة في أرض بر، وهي معروف معلوم، وعليه علامة يعرف به.
وعند قبر الحاج كسربير في بلد كوك الونكري الأصل رحمه الله. بنا الكاهية الدلول سوراً على قبره.
وقبر فوديك محمد سان في بلد جن، المدفون في قبلة مسجده الكبير بوراء منبره.
وعند قبر الفقيه إبراهيم في بلد يقال له كوم معروف. وعنده دخل الكاهية محمد الهندي، وهو يومئذ عامل في بنك.
وقبر الفقيه سنب تنين المدفون في جوكل.
وغير ذلك ممن لا يعرف ولا يسمع به، ولله خلصان. وإنما أتينا منهم ما عرفنا وما سمعنا من الثقات.
ويلقب أسكي إسحاق يقال له إسحاق كدبن، وكدبن في اسطلاح وعكري الحجر لأسود.
وممن مات في أيامه من العلماء الأعلام الشيخ الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت-رحمه الله-ستة عشر ليلة من رمضان ليلة الجمعة. وقال صاحب درر الحسان أنه توفي في اليوم الخامس عشر من رمضان ليلة الجمعة. وعمره ثمانية وثمانون.
وتوفي أخوه الأكبر الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت ليل الجمعة غرة الربيع الآخر عام اثنين وأربعين وتسعمائة في الطاعون المسمى كف. هكذا في درر الحسان، ووافق بما ذكره العلامة أبو العباس أحمد بابا في كفاية المحتاج أن القاضي محمود بن عمر مات ليلة الجمعة سادس عشر من شهر رمضان، وأنه ولد سنة ثمان وستين وثمانمائة. ومات في هذا الطاعون خلق كثير. وتولى القضاء بعد الفع محمود بن عمر ولده القاضي محمد بن محمود يوم الجمعة الخامس عشر شوال.
وفي أول السادس والخمسين مات أسكي إسحاق. ومكث في السلطنة تسع سنين وتسعة أشهر وتسع ليال في بلد كيكي، وهنالك قبره. ولد له من الأولاد تنك سلمن وعبد الملك الذي جعله ولي العهد، ولم يرض أهل سنغي إلا أسكي داوود.
الباب الحادي عشر
أسكي داوودوولي السلطنة بعده أخوه أسكي داوود بن أسكي محمد في الثاني والعشرين من صفر عام خمس وخمسين. ومكث في السلطنة أربعاُ وثلاثين وأربعة أشهر.
ساعدته الدنيا، فنال ما شاء من دولة ورئاسة، وحصل له الدنيا عريضة. وقد تعب أبوه أسكي محمد وإخوته فزرعوا له، فجاء فحصد. ومهدوا الأرض، وأتى فنام عليه. وليس في إقليم تكرور من مل إلى لعلع من يرفع يده، ووجدهم يوم يطلع عبيداً طائعين سامعين. ولا من يقابل جند سنغي إلا كرمن فقط.
وروى أحمد بن إبراهيم بن يعقوب رحمه الله أن أسكي محمد كان إذا مر عليه أسكي داوود في صباح عبس وبهت وينظر فيه ويتأوه. فقال بعض خدامه: ولدك داوود كأنك لم تلده، ولا تحبه كما تحب جميع أولادك. فقال: كيف لا يحب الرجل ولده؟ وقد رأيت فيه أنه سيلي السلطنة، ويطول عمره، ويزرقه الله فيها أولاداً كثيراً. ومتى ارتفع وتسلطن غلب على جميع أولادي وحفائدي وذرياتي كلها، ويمحي أسماءهم ولا يذكر منهم أحد سواه وأولاده. ويكون أولادي وأولادهم لهم تبعاً إلى منتهاهم. فقال له صاحبه: من علمك بهذه الحكمة؟ فقال: أتعجب من هذه؟ ولو شئت لأخربتك بما بعد ذلك من هذا اليوم إلى يوم تنس. قال: وما يوم تنس؟ فقال: يوم ينتقم الله منهم، ويرغم الله أنف المتكبرين منهم. انتهى.
واسم أم أسكي داوود بنكانو فاري. وكان أسكي داوود سلطاناً مهيباً فصيحاً خليقاً للرئاسة كريماً جواداً مبسوطاً فرحاً ذا مزاح، وسع الله عليه في دنياه. وهو أول من اتخذ خزائن المال حتى خزائن الكتب. وله نساخ ينسخون له كتباً، وربما يهادي به العلماء. وأخبرنا كسردنك دك بن بكر فط أنه حافظ للقرأن، قرأ الرسالة فأتمنها، وله شيخ، يعلمها ويأتيه الشيخ بعد الزوال ويقرئه إلى الظهر.
وكان ما يأتيه من مزارعه وأحراثه من الطعام ما لا يعد ولا يحصى. وله في كل أرض من طاعته-من إرية ودند وكلن وكري حوص وكري كرم وما حواليها إلى كيكي وإلى كاع إلى كيس وجزائر بنب وينك وأترم إلى كنك وبوي إلى أن ينتهي مرسى دب-من الأخراث. وقد يحصل له من ذلك من الطعام في بعض سين ما ينيف على الأربعة آلاف صنية.
وليس في قرية من قرى ما ذكرناه إلا وله فيه عبيد وفنف. وحرث في تحت يد بعض الفنافي منهم مائة عبد، وعبد بعضهم خمسون وستون وأربعون وعشرون. والفنافي جمع فنف وهو رئيس العبيد، ويقال ذلك أيضا لرئيس السفينة.
وحكى لي من أثق به أن له حرثاً في أرض دند يقال له أبدا، وله على ذلك الحرث مائة عبد وأربع من الفنافي. ولهم رئيس يفقون عليه، اسمه مسكل الله، ومعناه، مس كل الله، كل أمر كان ويكون من كل ماهو كائن في الدنيا والآخرة، الله هو مقدره ومكونه سبحانه لا إله إلا هو. ويحصد له من هذه المزرعة ألف صنون من الأرز. وهذا عليه مقطوع لا يزيد ولا ينقص.
وكان بذره لا يخرج إلا من عند أسكي في العادة، وجولد صنونه والسفن التي يحملها إلى أسكي عشر قوارب. ويرسل أسكي لرئيسهم مع الرسول الذي يأتي منه لحمل صنونه ألف كورية والكملية الواحدة من الملح والقميص الأسود والملحفة الأسود لزوجة ذلك الرئيس. وهذا عادته مع أسكي، حتى أتى رسل الفنافي يوماً إلى رئيسهم مس كل الله يعلمونه بوصول وقت حصاد حرثهم وطيبه، وهم لا يدخلون اليد في قطعة حتى يأتي وينظرها ويدورفيها ثلاثة أيام، ويطوف في جوانبه الأربع، ثم يرجع إلى مكانه ويأمرهم بالحصاد.
وأتاه رسلهم في بعض سنين يعلمون ببلوغ حصاده وطيب حبوبه، وخرج على عادته في سفينته مع دفوفه وجماعته إلى أن أتى المزرعة وألفاها قد طاب، وطاف فيها نحو ثلاثة أيام ثم أتى بلداً يقرب ذاك الحرث اسمها دنك دمد، وترسي في مرساه. ثم بعث إلى إمام البلد وطلبته وضعفائه وأرملته، وجاءوا كلهم. وقال لهم: من يستحق هذا الحرث وما فيه؟ وقالوا له: فمن يستحقه غير مولاه يعني أسكي؟ قال: أنا الذي استحقه في هذا العام لنفسي، وأنا أتصدق به وأجعله في آخرتي وأقرب به إلى الله، وهو لكم صدقة مني لله، فاقطعوه واحصدوه، وللضعفاء والمساكين منكن الذين لا يجدون سفيناُ أن يقطعوا ما يقف فيه القدم، ولأصحاب السفن الصغائب ما فوق ذلك مما يلي وسط الحرث، ولأصحاب السفن الكبار وسط الحرث. تقبل الله ذلك مني. ورجع إلى بلده وأعطى لكل واحد من الفنافي من عند نفسه مزرعة يتعشون فيها.
فبلغ خبر ما فعل في تلك المزرعة إلى بلد كاع وفشا. وجاء يعمد كرن كرن خديم أسكي ومؤنسه وقت عشائهم في نادي قومه وقال: جاءني رجل اليوم وأخبرني بأن مس كل الله عبدك قد أصابه الجنون وتوسوس وجن. فقال أسكي: فما ذا فعل؟ فقال يجب قتله به إن لم يكن مجنوناً. قال فما هو؟ قال: أتى إلى حرثك أبدا وأعطاه لأهل دنك دمد وقسمها بينهم، فقال أنه جعله لآخرته، وأسلط أهل البلد عليه، ونزلوا فيه وحصدوه، وما أبقوا فيه لا قبضة ولا قبصة ولا حفنة.
وقال جلساؤه: وهل العقوبة إلا على أهل دنك دمد؟ وبقوا يخوضون فيه بأقواويل، ومنهم من يقول ما جن، ومنهم من يقول بجنونه، وأسكي جالس ساكت. ثم قال: وأنا أقول ما فعل شيئاً ضرني قليلاً إلا ما أجدني من الغيرة بأن هذا العبد بمنزله وفقره وحقارته يتصدق بمزرعة تخرج منها ألف صنية، فما ذا أتصدق به أنا؟ وما طلب من ذلك إلا اسماً ممدوحاً ينفرد به بين جماعته.
ثم سكت ملياً. ثم نادى برجل من خدمه وحشمه كان في ذلك المجلس، ونهض الرجل قائماً. وقال: اذهب إلى المرسى فيعطيك كيمكي عشر سفن وألفاً من جلود صنون، واذهب الآن في هذه الليلة إلى مس كل الله، فيملي لك هذه الصنيات. وأمر بإخراج الكملية الملح وألف كورية والقميص الأسود والقلنسوة الحمراء وملحفة سوداء التي هي عادته عليه. وقال: إن أكمل لك عدد الصنيات كاملات وأفيات فادفع إليه هؤلاء الهدايا. ثم أخرج كلبين من الحديد وسلسلة، وقال: إن لم يكمل هذا العدد أو نقص واحد منها فتقبضه واجعل هذه السلسلة في عنقه والقيود في رجليه وأتنا به مع جميع ما ملك. وإن أعطاك ما تسأل منه فلا سبيل لك عليه ولا تقل له شيئاً، وما كان عليه إلا ألف صنون ولا نعرف منه إلا صنياتنا، ولو كان من أي حرث، وإن بشراء. وسيّره في تلك الليلة، وذهب.
ثم قال ما أراد مس كل الله إلا أن يعلو اسمه عن اسمنا، وأنا لا نعطي ألف صنية مرة واحدة، فكيف عبدنا يفاق علينا في الجود والكرم؟ وقال جلساؤه: حاشى وهو بنفسه لا يساوي قطرة من بحر جودك وكرمك، وإن شئت تتكرم به وبجميع ما له من المال. وشرعوا في مثل هذا الكلام، وتفننوا فيه حتى أسكنوه، وسكت.
وذهب الرسول إليه، وسبق الخبر عنده بأن جاءه رجل ووجده في مجلسه سلطاناً بين وسادته مضطجعاً يسمرون عنده. وأدخل ذلك الرجل فمه في أذنه والتقم أذنه، وأخبره بأن رسول أسكي يأتيه بالقيود والسلاسل يأخذونه، وسارّه بذلك. ونهض جالساً يرفع صوته قائلاً: وما دخلت له في الفتنة وما خالفته قط، فكيف؟ ثم قال: لا أمانة بين العبد وسيده.
ثم أمر في تلك الساعة بإحضار سفينة وسبعة من القدافين، وقام حينئذ مسرعاً. ومشى بحاله، ولم يدخل داره، وركب سفينته وتوجه إلى كاع. ومر بسفن أسكي في تلك الليلة قادمين، وحاد عنهم ومر ولم يعرفوه. ومكث ليلتين وقدم كاع. وكان له هنالك بيت كبيرة وزوجة. وبات في المرسى وما صعد إليها. فلما أصبح بكر قبل طلوع الشمس إلى بيت أسكي، فتلقاه البواب وأدخله وأجلسه حتى استيقظ أسكي.
ودخل المبكرون الذي يفطرون عند وقت الصبوح وشاوره البواب على المشاور، وأتاه المشاور ووقف عليه وحياه. وسلم عليه وتحاوروا. ثم دخل على أسكي وعلمه به. وسكت طويلاً. ثم قال له بعض من له عنده حظ ألا تستأذن له في الدخول فيدخل فنراه هل هو كما قيل أنه مجنون فنرى وجهه ونسمع كلامه هل يشبه كلامه كلام المجنون فأذن له في الدخول حينئذ فدخل وحمل التراب على رأسه على عادتهم المألوفة فقال له أسكي: ما جاء بك أما تلقيت برسولي المبعوث إليك بقواربي لحمل صنياتي؟ فقال لقيت بهم البارحة فأخفيت نفسي عنهم لأني سمعت أنك أرسلتهم ليقبضوني ولذلك فررت إليك، إذ ليس لي مفر منك إلا إليك، ولم أعلم عملي وفعلي. وقال له أسكي: كيد النفي، لأن "إن" حرف نفي وما حرف نفي كذلك. إن ما عملت شيئاَ، وأنا ما بعثته لقبضك ولا لتقييدك إلا إذا أنقصت من صنيات شيئاً، فإذاً يقبضوك ويقيدوك. فقال: فكيف يمكن أن ينقص من صنياتك شيء، وأنا حي؟ وهذا لا يكون أبداً. ثم قال: فلا سبب لقبضي ولا لقيدي إلا لهذا فقط؟ فقال: فليس سواه.
فحضك ورفع التراب. ثم تولى خارجاً كأنه يريد الخروج لداره الكائنة هنالك. ثم رجع مسرعاً وحمل التراب على رأسه، فقال: إني أطلب منك إحدى الأمرين بحرمة أبيك وحرمة قدمه التي وقف بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المشرفة. فقال له أسكي: وما هما؟ فقاال أريد منك أن تصبر لي عشرة أيام حتى استريح عند زوجتي الكائنة هنا، فقد طال عهدي بها منذ عام الأول ما جئت إليهاـ أو تأخذ مني أرز عام الأول الذي قبل هذا العام، يعني الأرز القديمة. فقال أسكي ألف صنون من أرز عام الأول؟ فقد تبين جنونك، وأنا الذي أملكك لا أجد في داري مائة صنية من أرز عام الأول. ثم قال: قبلت ورضيت، وأين كانت؟ فقال: في داري التي كانت هنا موجودة، فيبكر رسلك إلي بجلود صنون غداً. وشك فيه بعضهم وأبعدوا أن يكون ذلك موجودة له. فقال أسكي أليس قال يأتي رسول غداً، فالغد قريب، إن لم يكذب هو فالغد لا يكذب. ثم ذهب ومشى إلى داره وبات.
فما استيقظ من نومه إلا ورسول أسكي عبد الخصي، ومعه خمسون عبداً يحملون جلود الصنون معه. وقام من نومه وتوضأ وصلى وأمر لهم بالدخول. وأمر لهم بالفطور، ففطروا. ودخل عليه جماعة من أصحابه وغيرهم من المرجفين. ثم أمر مس كل الله بعبده الكبير الكائن بباب دار هنالك، فنودي، فأتى. فقال له: اذهب مع عبيد أسكي هؤلاء فاكسر بع التي كانت في المكان الفلاني وعمّر هؤلاء أصنّاً كور.
فذهب وذهب العبيد والخصي معهم إلى تلك المكان في طرف بيته، فكسرها، فإذا هي ملأء بأرز تسمى زيفت، وعمر منها سبعمائة صنية، وفرغ ما فيها. ورجع العبد إليه وأخبره بفراغ ما في تلك بع وبما حصل فيها من سبعمائة صنية. فقال: ارجع فانظر في المكان الفلاني، فكان سماه له، في طرف البيت أيضاً، فإن فيه بع، فاكسرها وعمر منها البواقي.
وذهب. ثم رجع وعمر منها ثلاثمائة، وبقيت منها شيء. فقال له: ادخل في البلد واطلب جلود الصنون المبيعات. فذهب والشترى مائتين جلود صنون وثلاثين، وعمرها، وأتاه وأخبره. فقال له: ادفع لرسول أسكي مائة، واعط لمراسيله عشرين، واترك المائة الباقية هنالك، واتنا بالعشرة. فأتاه بها، فقسمها بين الجالسين هنالك عنده وبين الفقراء والمساكين. ثم قال: صدقة تصدقت بها جعلها الله بين أسكي داوود وبين كل شر، ويريه الله تعالى عام المقبل.
فقال الراوي يرويه عن أبي أمه بكر علي دنتور، قال أنه حاضر عند مس كل الله حينئذ وحلف بالله أنه-أي مس كل الله-ما وقف في مكان عمارة تلك الصنيات. ثم حلف بكر بن علي دنتور المذكور أنه ما من أحد من العبيد الخمسين الذين حملوا جلود الصنون إليه لم يخرج إلا بنحو مائة مد على التقدير أو الستين أو السبعين، بل منهم من أصاب نصف صنية. ومروا عليه به، وما التفت على أحد منهم، ولا بحث عن أحد. ورجع مرسول أسكي الذي هو ذاك الخصي بعد فراغهم من شغلهم، وأخبره بما جرى من حصول الصنيات وأفيات كاملات بعد صلاة العصر.
ووجدوه في جماعته، وتعجبوا منه كلهم. ثم قال أسكي: ألم أقل لكم إن هذا العبد قد شبع حتى لا يشبه نفسه إلا بنا أو بأولادنا؟ وهذا الذي فعل الآن أعجب من تصدقه بالحرث الذي يخرج منه ألف صنية. وقالت الجماعة له: هذا كله ما كانت منه إلا بسعدك وصنيعته، هذه زيادة في اسمك. وقال بعضهم: العبيد كلهم سواء، لا يعظم أحد منهم إلا من عظمة سيده، وهو ورزقه رزق سيده. وإذا افتخر ملك من أشباهك أو افتخر سلطان كرم أو أير أو كنت أن عبد ملكهم قد يعطي كذا وكذا، فيقال لهم عبد أسكي أعطى الفقراء ألف صنية. وتبسم أسكي حينئذ من قوله، وعرف البشر في وجهه. قالوا: فأين عطاؤك من عطاء عبدك وشتان ما بين التريا والثرى، وهيهات ما بينهما.
وما تم كلامهم ولم يخرج أحد من الجلساء في ناديه حتى دخل رجل من خدم أسكي عليه ملف وند محزم، وفي يده اليمنى سوار فضة. وقد بعثه أسكي قبل ذلك إلى بلد من بلاد دند. وجاء ووقف قدام أسكي، وجثا على ركبته وحمل التراب على رأسه على عادتهم في تحية سلطانهم، وحياه تحية العبد سيده.
فقال أسكي داوود له: من أنت؟ فقال: أنا كارشع بكر. فقال: أنت من جندي ومن عبيدي؟ قال: نعم. قال: من أين جئت؟ فقال العبد: سبحان الله أنسيت أو غفلت؟ فقال: والله أنت الآن في عيني كأني ما رأيتك أبداً. أنت من كارشع يبرع أو من كارشع كتع؟ فقال: من كارشع يبرع، وأنا أكون مع لفلان سماه. فقال: أسكي من أي بلد جئت؟ قال: من دند، ألست أنت بعثتني؟ فقال: إلى من وفي أي شيء؟ فقال العبد: بعثتني لحمل ميراث خديمك زنك موسى سقنسار. وقال: هل مات موسى سقنسار؟ وقال له جلساؤه: غفلت، قد مات وأتاك نعيه منذ شهر الفلاني، وموته إلى هذا اليوم يبلغ أربعة أشهر ونيف.
ثم سكت ملياً والعبد واقف قدامه. ثم سأله ما الذي رأيت من ماله؟ هل ترك مالاً؟ فقال الرسول: هكذا. وقال له: وما ذاك؟ فأراد العبد أن يدور إلى خلفه ويسارّه ليناجيه بما وجد له من المال وما أتى به الآن من تركته وما بقي هنلك. فقال: ما تريد؟ قال: أريد أن أذكر لك عدد المال. فقال: لمَ لا تذكره في الناس جهراً؟ هل سرقنا؟ قل ذلك يسمعه الناس أو تخرج.
فقال وجدت له خمسمائة عبد بين العبد والأمة، وطعام تركه في بعوات أربعة عشر يكون فيها على التقدير ألف وخمسمائة صنية، وسبع سراحين البقر وثلاثين سراحاً من الغنم، ولباسه، وفرسه وهن خمسة عشر فرساً منها سبع خيول أحرار والبواقي من البراذين، وسروجها وغير ذلك من أمتعة بيته وسلاحه وترسه، وثلاثين من بول معمرات بحريش. وقال أسكي داوود: رحم الله موسى مقنسار وأسبابه، وما يصيب من حرمتنا أكثر من تركته كلها.
ثم سأل الرسول عن العبيد أين كانوا. فقال: أدخلتهم داري وتركتهم هنالك، وداري لا يحملهم. فقال: اذهب فاتنا بهم. فذهب فأتى بهم أجمعين، حتى أوقفهم بين يديه. وجاءت معهم أمة كبيرة عجوز عرجاء بيدها هراوة أملس الرأس صلعاء رأسها. فقال أسكي: ما هذه العجوز؟ فقال: هي من جملة الإماء. فقال ما فائدتها؟ وقد ظلمتها وأخرجتها من وطنها باطلاً، ولا حاجة بمثل هذه.
فقامت العجوز وقالت تمل تمل تمل، حفظك الله وأصلح لك دنياك وآخرتك وهنّأك بملكك. إن رسولك هذا ما جاء بي بالقهر وما ساقني، وإنما جئت لحاجة لي قصدتك بها وتشفعت إليك فيها برسول الله صلاى الله عليه وسلم وبقدم أبيك أسكي محمد التي وقف بها في الروضة الشريفة. فقال أسكي لتكل العجوز: قولي حاجتك وما هي. قالت الأمة: اعلم أيها الملك بأني أمة زنك موسى سقنسار، وأنا ظئره، وأمي رضعت أباه، وملكني أبوه، وملك جده جدي. ولي من هؤلاء العبيد من الأولاد والحفائد والأسباط سبعة وعشرون. ولذلك طلبت بالله منك، أن كنت تبيعهم فبعهم لواحد، وإن كنت تعطيهم فاعطهم لواحد، لا تفرق بينهم.
فسكت متفكراً. ثم قال للعجوز: يا أمي أين أولادك، أخرجيهم وميزي بينهم وبين هؤلاء العبيد. فدخلت العجوز بينهم وأخرجت أولادها وحفائدها وجاءت بهم، فإذا هم أحسن العبيد وأجملهم وجهاً وقداً، ومنهم من يزيد ثمنه على خمسين، ومنهم من يساوي سبعين وثمانين. وقال لها أسكي: اذهبي بأولادك، فقد حررتهم وتركتهم وعتقتهم لله الذي أعطاني خمسمائة عبد في ساعة واحدة ولم أتجر وما سافرت وما قاتلت مع أحد في تحصيلهم. وحملت العجوز التراب على رأسها، وشكرت سعيه وأطالت له في الدعاء، ودعا له الجالسون.
ثم قالت أريد منك أن تكتب لهم الوثيقة بشهادة هؤلاء الجلساء الصالحين خوف دوران الزمان وانقلاب الأحوال وتغير الأمور. وقال: يا أمي كل من يكتب الوثيقة لمعتوقه لا يكتبها إلا لخوفي، وإني لا أخاف أن يشتري أحد من السودان على موالي. ومن هو؟
فما زالوا في محاورتهم حتى دخل تاجر في كاع يسمى عبد الواسع المسراتي، سمع بإتيان العبيد له. فوجدهم وقوفاً، ودخل وسلم، فقال: يا أسكي هؤلاء الخدام هم من أرزاقي، بعهم لي وأنا أشتريهم، وهم خمسمائة بخمسة آلاف مثاقيل تبراً. فقال: والله لا أبيعهم إلا للخالق تعالى لا للمخلوق، وأشتري بهم من الله الجنة، ولي من العبيد عبد برماوي الأصل الذي هو مس كل الله، اشترى الجنة بألف صنون، فكيف أنا بذنوني الكثيرة؟ فسيأتي رزقك غير هؤلاء إن شاء الله.
ثم التفت إلى أسكي الفع بكر الأنباري وقال له: اكتب لأولاد هذه العجوز بأني عتقتهم وقطعت عنهم حبل الرق وتركتهم لله تعالى. واستنطق الكاتب الأمة العجوز بأن تذكر أسماء أولادها. فكتبه الكاتب ساعتئذ في تلك المجلس بشهادته وشهادات من حضر هنالك من المعتبرين.
ثم أقام أنساناً من أناسه وأمره بأن ينادي له من حضر في البلد من أولاده، فيأتون قبل أن يقوم من مقامه. وذهب ونادى الحاج محمد بان وياس وإسحاق ومحمد سرك وونيفرم دك بركم ولنتن فرم بكر، وأتى بهم وحيوه تحية الولد والده وتحية الخديم مخدومه. وقال لهم: انظروا يا أولادي إلى هذه الشرذمة القليلة أخرجتهم من هؤلاء الجماعة الكثيفة الذين أعطانيهم الله فضلاً منه مجاناً، وما اشتريتهم وما أصبتهم بالقتال، ولذلك أخرجتهم من هذه الطائفة، وهم سبعة وعشرون، أعطيتهم لله ورددتهم له تعالى شكراً له على ما أنعم. فانظروا بأن الشيخ الكبير كمثلي يقول في ظنه أنه ميت، وأن موته يكون قبل ممات الأولاد. فالله تعالى يقدم من شاء ويؤخر من يشاء. وقد عتقتهم، فمن ردهم في الملكية بعدي أو ظلمهم بأدنى شيء أو سقى لهم ماء غصباً، فالله حسيبه والمنتقم منه يوم الوقوف بين يديه، ولا يبارك الله له في حياته وعمره.
فأجابه كبيرهم، وهو فار منذ، فقال: تمل تمل تمل، أطال الله عمرك. إن شئت فاتركهم أجمعين لله ولا لك ولد يبطل أفعالك، ولا من يهتك حرمتك. حاشى وكلا، بل نحمد الله بك ونشكره أن الولد يطيل بنيان والده ويشيد أركان جدران بيته. وها هو سليمان أخونا الذي هو أصغرنا سناً إن قطعت سرية إلى بلد من بلاد الكفار لا يبيت عنك في هذه الليلة حتى يغنم عشرة آلاف مملوكاً أو أكثر. فقد أغنانا الله بوجودك، أطال الله بقاءك. افعل ما شئت، جزاك الله خيراً وأضاف لك ثواب ذلك.
ثم خرجوا. وبعد خروجهم نهضت العجوز قائمة فقالت: تمل تمل تمل، استودعك الله أن الناس الضعفاء لا يقومون إلا بسند يسند إليه، وأعلمك بأن سندي هو الله، ثم أنت ومن يستخلفك في هذا الدار من أولادك ويجلس مجلسك بعدك. ولا بد لي من حمل غرامة لك تذكرني بذلك، وذلك عشر رؤوس صابون في رأس كل سنة. فقال أسكي داوود وأنا كذلك أحمل لك لابتغاء عفو الله تعالى وغفرانه غرامة تأخذيه مني رأس كل سنة، وهي الكملية الواحدة والملحفة السوداء لله تعالى. وأمر لذلك في ساعته لها وأعطاها إياها، أي الكملية الملح والملحفة السوداء، فقال: هذه غرامتي تأخذيه منه في أول شهر الشتاء. وخرجت العجوز بأولاده وحفائدها وأسباطها أجمعين.
ثم التفت إلى رجل من قومه فقال له: انظر في هؤلاء العبيد، وائتني منهم بسبعة وعشرين نفساً. فأتاه بذلك. فأعطاهم أسكي الفع بكر، فقال: هؤلاء صدقة منه لك لله تعالى. ثم أخرج منهم سبعة وعشرين فقال: هؤلاء أعطيتهم للمسجد الكبير فأرسلهم مع رسوله إلى إمامه وأمره أن يستعملهم في خدمة المسجد الكبير، والنسوة منهم تنسجن حصر المسجد وفرشه، والرجال يحمل بعضهم الطين له ويقطع له الخشب. فذهب رسوله إلى الإمام.
ثم قطع منهم سبعة وعرشرين وقال لرسول آخر: اذهب بهم إلى الإمام إيضاً فقل له هؤلاء صدقة منه عليه جعلتهم لآخرتي فيدعو لي الإمام بالعفو والغفران . ثم أمر بسبعة وعشرين إلى الخطيب محمد جعيت خطيب كاع، وهو قاضي البلد، وأمر من يدفعهم إلى يد الخطيب ليقسمهم بين المستحقين للصدقة، إما برؤوسهم أو بثمنهم فيبيعهم ويتصدق بثمنهم إن رأى ذلك أصوب.
ثم سبعة وعشرين أمر بهم لشريف هناك يسمى شريف علي بن أحمد. فقال: هؤلاء لله يقسمهم للشرفاء بين نفسه وبين إخوته وبناته. ثم عزم الشرفاء بإعتاقهم أجمعين. فلما أعتقوهم أمروهم أن يذهبوا حيث شاءوا من الأماكن، وهؤلاء المعتوقون هم الشرفاء الكاذبون الذين يقولون في أنفسهم ما ليس فيهم، وأما موضع مسكنهم ينزلون في أرض كريكرم، وبعضهم في سي فلاير، وبعضهم في قرية كومو.
ثم سبعة وعشرين فقال للخطيب نفسه، وأرسلهم إليه. ثم قطع منه مائة ونادى رجلاً من خدمه فقال له: اذهب بهؤلاء الطائفة إلى القاضي العاقب، فقل له يشتري لي الجنة من الله بهؤلاء، فيكون وكيلي في اشترائها من الله، يقسمها بين نفسه وبين أهليه وذريته وبين من يستحق شيئاً منهم. فقال الراوي هذه المائة هي أصل كل من كانت في تنبكت من المسمى كابب.
ثم لم يزل يقسمها على عدد سبع وعشرين في تلك العشية حتى ما صلى المغرب، وفي بيته واحد. فقال له وندع: جاءت الشمس وطلعت واندرس ومحي نور النجوم وذهب، وقد حمى جودك وكرمك كرم مس كل الله وجوده. وقد أظهر الله ذلك قبل غروب الشمس. وشتان ما بين الفيل والفار.
ثم نادى مرسول كارشع بكر المتقدم ذكره واسترده إلى حمل ما بقي هنالك من تركة موسى سقنسار من البقرات والأنعام والخيول والطعام. قال الراوي عن جده أبي أمه، وهو حالف بالله أن جميع ما جاه من التركة ما رفع منه مثقال ذرة، وما استأثر بشيء، بل تصدق بالجميع. وما ترك داراً في كاع فيها يتيم أو أرامل إلا أدخل فيها بقرة حلابة أو بقرتين حلابتين أو أكثر. وقطع منها لمؤذني مساجد كاع مائة بقرة وأمرهم بالطعام وفرقه بين الفقراء والمساكين إلا الخيول، قسمهم لأهل الجيش. وأعطى أخت القاضي هند الفع ألف شاة من الضأن والمعز. قالت: رحم الله أسكي داوود ومن مثله. انتهت القصة مع خصائله وكرماته الفاشية.
ومن ذلك ما رويت عن خالي يرويه عن أبيه الفع كعت، أنه أتاه في بعض السنين في كاع، وتلقاه بالترحيب وفرح به غاية الفرح، وأضافه وأنزله وأكرمه، وربما يأتيه ليلاً يسمر عنده إلى قرب ثلث الأول من الليل. قال: فنادى الفع كعت كاتبه بكر لنبار، فجاء، فقال له: أردت أن أبعثك إلى أسكي بحاجة لنا. فقال: أنا رسولك بلا شك. فقال له: قل لأسكي أني محتاج قصدناه به. فإن لي أربع بنات وخمسة بنين، ويدخل بهن أزواجهن. ونطلب منه أربع زرابي وأربع إماء وأربع كلات، وأن يعينني في جهازهن. وأما البنون أريد لهم العمامة وأريد منه كسوة العام، قميصين وعمامتين وقلنسوتين والدابتين-فرساً ورمكة عتيقة-ومزرعة وعبيدها وبذرها، وأربعين حلابة. وذكر أنه رأى في بلد تنبكت نسخة القاموس تباع، وقد قيل فيه ثمانون مثقالاً، وأوقفتها في يد صاحبها حتى آتيك وألطب منك خلاصها، وتكون ذلك ذخيرة لك عند الله. ومعي أربع من طلبة العلم، وقد خرق ثيابهم ،ونريد منك يا أسكي الفع أن تخبره وتبلغه رسالتي.
وقال أسكي الفع: تأمر أحد تلاميذك أن يكتبها لئلا أنسى منها شيئاً. فأمر أحد طلبته، فكتب وهو يملي إليه. ورفع أسكي الفع ذلك إليه فقرأها عليه. فتبسم فقال: ومن يقدر على إعطاء هؤلاء في دفعة واحدة إلا أن يصبر. فقال له أسكي الفع: قدرك أعظم ورزقك أوسع من ما طلبه منك. فضحك فقال أن لكل قوم رئيساً يطلب رضاه، وأظن هذا الشيخ رئيسك، تريد أن تغصب مني ما ترضيه به إن رأيته. فقل له: يقضي الله الكل إن شاء الله.
وما ترك له حادة إلا أعطاه إياها في غده. وأعطاه حرثاً يقال له زنكمع في أرض يون، وعليها ثلاث عشر عبيد، وهو الذي تخاصم مع كبرفرم علوا عليه يحرثونه، له أعطاه الحرث والعبيد وفنفهم، وأعطاه بزره أربعين صنية، واشترى له تلك النسخة بثمانين مثقالاً. هكذا رواه لنا ولده رحمه الله، إلى غير ذلك من الأخلاق الحميدة والسيرة الجميلة.
فانظر حسن ملاطفته مع القاضي العاقب عند بناء المسجد الكبير في تنبكت. وقد سعى بينهما وشاة وتقولوا على لسانه ما لم يقله. وأرسل أسكي إليه أقوالاً لا ينبغي بينهما. فأجابه القاضي بأجوبة لا يصبر عليه إلا مثل داوود. فلما أتاه أسكي في سفره إلى مل وزاره في بيته، عليه البواب ورده، وأبى البواب أن يدخل عليه. ووقف أسكي على بابه على رجليه وقوفاً طويلاً، وما استأذن له في الدخول إلا بشفعة بعض علماء البلد وأكابر شيوخه. ثم أمر بفتح الباب له.
ودخل عليه متملقاً متواضعاً منذللاً، وكب على رأسه. فقبله وجلس حذاؤه مستوفزاً، وهو يتخشن. وأسكي يتكين حتى أرضاه ورضي، وتوافقا بعد إباية منه وامتناع. وفي سرد تلك القصة طول تركناه.
لذلك وعادة أسكي إذا مر على تنبكت في غزواته نزل محلته ما بين كبر إلى تعية، وبعد نزول بيوم أو يومين يصعد إلى تنبكت ببعض أكابر جيشه ومشائخ أقياله، وينزل في بلمع جند ويضرب خبايانه هنالك. ويجد يوب كي وتنبكت منذ والبربوس منذ وكيربند منذ بنوا له بيوتاً نوالاً، وينزل هنالك ساعة. ثم يركب إلى دار القاضي، ويجد القاضي قد أحضر شهوده وأعوان الشرع وخدمه، ويدخل عليه ويقوم القاضي ويتلقاه بالباب ويصنع القاضي لهم شيئاً من المأكول والمشروب يريدون التبرك به. ويأكلون ويشربون بعد دعاء كثير على العادة. ثم يتوجه إلى المسجد الجامع الكبير، وهنالك يتلقاه علماء البلد الأجلة وأكابر الأئمة كلهم يدخلون المسجد قبل قدومه ينتظرونه. ويشيعه القاضي وشهوده ويدخلون على الفقهاء في الجامع الكبير، ومنها تكون تحيتهم وسلامه ويدعون له. ثم يخرج إلى منزله في محلته بلمع جند، وهنالك تجار تنبكت وكبراؤها، ويبيت هنالك ليلة واحدة، ويضيفه الناس تلك الليلة ويهادونه الهدايا الكثير انتهى.
فلما كان عام منازعته مع القاضي في بناء ذاك المسجد حلف للقاضي أنه والله ما ضره شيء من ذلك كله سوى أن لم يجعل له حظاً ويترك له بقعة منها يبنيها وينال ثواب ذلك من الله. ثم دخل في ذاك المسجد وأطاف فيه من أوله من جهة القبلة إلى مغربه، وينتهي بناؤه إلى هذا الرحبة الكبير الواسعة التي يصلي الناس فيه العشائين وقت الصيف. وبعده مقبرة كثيرة وقال للقاضي: ما أبقيت لي موضعاً. وقال القاضي: ابن إن شئت، سهمك على هؤلاء القبور، وكلاهما حبسان ويجوز إدخال كل واحد منهما على الآخر.
وقام أسكي على رجليه حينئذ فرحاً وخط برجله على موضعي هذين الصفين الطويلين الذين يليان مقبرة سيدي بلقاسم التواتي وأصحابه. وأقام تنبكت منذ ومن معه وأمرهم بوضع الأساس فيه، وأعطاهم ما أعطاهم من المال، دفعه بيد القاضي العاقب رحمه الله، إلى غير ذلك من انقياده للحق.
ومن ذلك ما روي أنه قدم بعض الحجاج من أهل تنبكت وحواليها في بعض السنين. وكان منهم رجل من أهل كنت، وهو من مماليك أسكي، وقد حج معهم. ونزلوا بخارج بلد كاع، وعادة الحجاج في وقت سنغي إذا قفلوا ينزلون بخارج البلد ولا يدخلون إلا بعد مشاورة أسكي واستئذانه، ويخرج أسكي لملاقاتهم ويأتيهم بالكسوات واللباس ويسألهم الدعاء ويتبرك بهم.
فلما قدم هؤلاء الحجاج المذكورون، وذلك في زمن أسكي داوود، نزلوا بخارج البلد على عادتهم المألوفة، وسمع أسكي بذلك. ثم جاءه رسولهم يبلغه رسالتهم، ووجد الفع كعت عنده. وخرج مع بعض بؤوساء البلد، وأشار للفع كعت بالخروج معه إليهم، وفعل، حتى أتوهم. ونزل أسكي مع من معه، وأتاهم الحجاج. وقام هو بنفسه إجلالاً لهم وتعظيماً وقبّل أيديهم. وأقبل الرجل الكنتوي الذي تقدم ذكر بأنه من مماليك أسكي، وقام أسكي له وهو لا يشعر به ولا يعلم أصله، وصافحه وأراد تقبيل يده، وكان وندع واقفاً على رأس أسكي وقد كان عرف ذاك الحاج الكنتوي المذكور وعرف أصله وأبويه، وقال: اخرج يدك من يد أسكي. أتصافحه بيدك وما خرجت من قوم يقدر على هذا؟ فكيف أنت عبده؟ وما أجرأك على مصافحة السلطان! أخروجك هذا من مكة؟ وأخذ بيده ونزعها من يد أسكي، وحلف وندع على قطع يده التي أدخلها في يد أسكي.
وعظم القوم ذلك وتعجبوا من جرأته على يد أسكي بإدخال يده فيها. والفع كعت بجانب أسكي قاعد ساكت. والتفت إليه أسكي وقال: يا محمود ما تقول في هذه المسألة؟ فما جزاء من جهل قدره؟ وقال الفع كعت: إلا أن تقطع يده وهذا أولى به. فقال له أسكي: أنشدك بالله، هل يجوز قطع يده على هذا؟ فقال كيف لا؟ يجوز قطع يد من وقف عرفة وطاف الكعبة ووضعها على الحجر الأسود، ثم وضعها على الركن اليماني ورمى بها الجمرتين، ثم زار الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعها على مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من منبره الشريف، ثم دخل في الروضة المشرفة ووضعها على شبكته، ووضعها على قبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم لم يكتف بهذه المزايا والفضائل والمحامد كلها، حتى أتاك يصافحك بها لتعطيه غرضاً قليلاً حثيثاً من أغراض الدنيا. بل حق هذه اليد أن يضنّ صاحبه بها ويحفطها من النجاسة، ولا يرضي أن يصافحك بها. فلما صافحك بها ظنناها ختمت لها بسوء الخاتم، نعوذ بالله من ذلك.
فلما أصغى داوود لكلامه نهض إلى ذاك الحاج الكنتوي والدموع تسيل وتقطر من عينه ويقول: يا ويلنا، وقد أضللنا أننا لبيس إلا تسّ. وقبّل يده وأعطاه مائة ألف وأمر بوندع ونزعت عمامته على رأسه، ولطموه وسجنه وعزله من مكانه ذلك. ثم قال له: تركتك بحرمة يدك وتركت في قبيلة أبيك خمسين رجلاً وخمسين رجلاً من قيبيلة أمك، وأسقطت عنهم من وظائف السلطنة. ثم قال للفع كعت: ولولا العلماء لكنّا من الهالكين. فجزاك الله عنا خيراً.
ثم رجعوا إلى البلد. فلما رجع لداره أرسل للفع كعت عشرة أثواب وخمسة عبيد، وقال: هذا جزاؤك لما دخلت بيني وبين معصية الله وغضبه، أعوذ بعزة الله وقدرته من ذلك.
ومناقب أسكي داوود وإحسانه مع طلبة العلم وحميد سيره مع الرعية أكثر من أن يؤتى ببعضه، فكيف بكله؟ وفي تتبعه طول.
ومن تلطفه وتوقيره العلماء والصالحين وصبره عليهم ما حكاه لي بعض أشياخنا ما جرى بينه وبين الفقيه أحمد بن محمد بن سعيد سبط القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت حين أتاه مع السيدين الفقيهين محمد بغيع وأخيه أحمد أبني القاضي محمود بغيع رحمهم الله في كاع، حين أمر أسكي داوود بأن يتولى أحدهما قضاء جن. ولح عليهما في ذلك، وتشفع فيهما الناس. وأبى وشدد في ذلك، حتى هربا ودخلا المسجد وأقاما بها شهوراً، ويأتيهم رسل أسكي كل يوم، إلى أن عفى عنهما. ثم قال: لا عفو حتى يأتياني إلى كاع ونتبرك برؤيتهما. فخرجا إليه، وخرج معهما إليه الفقيه أحمد بن محمد بن سعيد المذكور، حتى أتوه. ووافق إتيانهم إليه بيوم الجمعة. وأتاه الفقيه أحمد بن محمد بن سعيد وحده، وترك الشيخين المذكورين بالمرسى أي مرسى كاع، ودخل عليه وألقاه في مجلس الجمعة على عادته، وعبيده الخصيان واقفاون على رأسه، وكانوا نحو سبعمائة، وعلى كل واحد منهم لباس الحرير. وإذا أراد أسكي أن يبصق أو يتفل أسرع إليه بعض الخصيان ويبسط له كمه ويبصق فيه. ثم يمسح فاه من النخام. ودخل الفقيه، وتلقاه بالترحيب، حتى كاد أن يقوم لملاقاته، إلا أنهم إذا جلسوا على سريرهم في ناديهم يوم الجمعة أو يوم العيد لا يقومون لأحد، ولا يجلس أحد معه على سريره. ثم أمر بإخراج الناس فأخرجوا ليخلو بذاك الشيخ. فلما انفرد به قام إليه وحمل حصير الصلاة بيده وأفرشه له وأجلسه عليه، وحمل إليه الوسادة، وقبّل يده ومسح وجهه بها.
ثم أخبره بمكان الشيخاين بالمرسى، وفرح بهما وتبشر. ثم أمر أسكي الفع بكر الأنبار وهيكي أن يأتيهما هنالك. وأسرج الفرسين يقادهما إليهما ليركبوهما، وفعلوا. وسمّى لهم بيتاً ينزلون فيه.
وبقي الفقيه أحمد عنده يتحدثان. فقال له الفقيه أحمد: عجبت منك حين دخلت عليك، وما حسبتك إلا مجنوناً رذيلاً سفيهاً حين رأيتك تبصق في أكمام فمصان، والناس يحملون على رؤوسهم التراب لك. فضحك أسكي وقال: ما كنت مجنوناً، أنا بعقلي. ولكن كنت رئيس المجانين الفاسقين المتكبرين، ولذلك جعلت نفسه مجنوناً وأدخلت الجن على نفسي تخويفاً لهم لئلا يتعدون على المسلمين.
ثم أمر بطعامه، وناشد الفقيه أحمد بالله أن يأكل معه، فأجاب فأكل ثلاث لقمات، ثم أمسك. ثم أمر بخيله فسرج وبفرس آخر للفقيه أحمد ليركبه، فأبى الركوب، فمشى على رجليه معه حتى أتيا منزل الشيخين الذي أمر بإنزالهما فيه. ودخل الفقيه أحمد، ثم دخل أسكي، وكب على رأسهما يقبلهما، وحياهما بأحسن تحية وإكرام، إلى آخر القصة مع ضيافة عظيمة وزيارتهما كل ليلة إلى رجوعهما بالمنح التي زودهما بها.
ثم انظر إحسانه وتجلته أيضاً مع الفقيه أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت جد سيدي أحمد بابا بن أحمد. من ذلك ما ذكره أحمد بابا نفسه في ترجمة والده المذكور قال: ولما مرض أي والده أحمد المذكور رحمه الله في كاع في بعض أسفاره، وكان السلطان الأعظم أسكي داوود يأتيه بليل يسمر عنده حتى برئ تعظيماً لما ذكر. وفقت على ذلك في كفاية المحتاج.
قيل قرأ عليه بعض العلماء قوله عز وجل: لن تنالوا البر حتى نتفقوا مما تحبون. وسأله عن تفسيره، ففسره له. وكان له فرس عتيق سوداء الركبة وقميص سوسي عال أزرق، وأمر بالفرس فقيد إلى مجلسه، وقال: ليس في ملكي خيل أحب إلي من هذا الفرس، وهذا النوع في الخيول أحب إلي من جميع أنواع الخيول، وكذلك القميص السوسي العال الأخضر أحب اللباس إلي. وأعطاهما القارئ المفسر انتهى.
وإن لداوود قسساً في الإحسان وقد تركنا منها الكثير خوف التطويل والإطناب. وكان يرسل للقاضي العاقب بن محمود كل عام أربعة آلاف صنية ليقسمها على مساكين تنبكت. وأقام لمساكين تنبكت جناناً فيها ثلاثون عبداً اسمه جنان المساكين.
وكان منصوراً في غزواته، وغزى غزوات كثيرة، وانتهى إلى سور بنتنبع. ولكنه هو الذي ابتدأ ميراث الجندي، وقال إنهم عبيده. ولم يكن قبل ذلك، ولا يورث من الجند إلا فرسه وترسه وحريشه فقط لا غير. وأما أخذهم بنات جندهم وجعلهن سرية فمصيبة تقدم زمن ملكه. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان إذا جلس مجلسه جاء رجل كلما أراد أن يتفل مد إليه كمه فيتفل فيه. وكان إذا ركب يمشي معه رجلان يأخذ أحدهما قربوس سرجه على يمينه، والآخر على يساره. ويضع يده اليمنى على رأس الذي على يمينه واليسرى على رأس الذي بشماله. وتبعوه في ذلك أولاده.
وقد خرج من الكنفاروية من بلد تندرم إلى أسكيوية. وولى الكنفاريوة لكسية وهو الزغراني، ولبث فيه كسية ثلاثة عشر سنة. ثم أخلفه أخوه يعقوب في الكنفاروية، ولبث فيه سبعة عشر سنة. ثم مات وأخلفه ولده محمد بنكن في الكنفاروية، ولبث فيها أربع سنين. وعلى هذا الحساب تكون مدة سلكنة داوود ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل أربعة وثلاثين وشيء قليل.
وفي تلك العام أعني عام الثالث والثلاثين قتل أسكي داوود محمد الشريف ابن مزاور خطاً. وأسفاً لذلك. وندم وخاف عقوبة ذلك. ثم لم يزل يبكي أياماً رحمه الله. ثم عزم على صوم الدهر، وسأل بعض علماء زمانه-وهو محمود جعبت خطيب كاع والفع كعت وأسكي الفع بكر لنبار وشريف علي بن أحمد وأنا حاضر أي القاضي إسماعيل كعت وكاغ زكريا بن أحمد وولي الله يا جور بن ولي الله صالح جور ويوسف بن محمد تل-عماً يفعل في الاستغفار لهذا الذنب العظيم. فقالوا له أن: تفزع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهرب إليه وتدخل في حرمته وتستشفع به ويشفعه الله فيك. وإذا لم تقدر على هذا فلك دية في الشرع، وهذا هو الرأي عندنا أن للشرفاء تعظيماً وإجلالاً عند الله، فكيف عند الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: إياكم وذريتي، فمن أذاهم فقد أذاني إلخ.
ثم قال أسكي داوود سمعنا وأطعنا. ولكن ضعف بدني وهنّ عظمي، وقلّت حياتي وقربت منيتي، ولكن تعطي قيمة الدية ثلاثين نفساً، إن شاء الله. والتفت إلى أخي المقتول ساعتئذ، وهو ابن القاسم ابن مزاور الشريف الونكوي، وسأله عن ما يحبه من المال. فقال ابن القاسم المذكور: العبيد عندنا خيار. وقال داوود: وهل تحب الزناجيين من جهة أرضك؟ وقال نعم.
وأعطاه ثلاثة من أماكن الزناجية وكل مكان يساوي بمائتي أنفس. أما اسم المكان الأول بوى بك يجاور قرية توتل من أرض تندرم، ورئيسهم يومئذ أنكند بن بل مود وكرى بن غيك، وإنما أصلهم من بقية غنيمة بلد موسى حين أرقهم الحاج رحمه الله بعد كسرهم. وأما اسم المكان الثاني كرني بلنغ من أرض شابك بجوار بلد سين، ورئيسهم يومئذ جعجي بن كيمي بكر تلق بربوش، وإنما أصلهم من بقية غنيمة أسكي محمد حين أرق أهل بلد كسات من بلاد المغرب بعد كسرهم. وأما الثالث اسمه حجر الصغرى من بلاد برك، يلقبونه بيثك، وعند بعضهم كاجل، في أرض ماسع، ورئيسهم يومئذ بكر جعن وسير بن قاسم، وإنما أصلهم حين أرق أهل كلنبوت. انظروا. فقال أسكي داوود فتعلم أنه مؤمن بالله ورسوله.
وله من الأولاد من بين الذكور والأناث ما يزيد على إحدى وستين، لأن أولاده أكثر من أولاد أبيه. وقيل الأولاد الأطفال الذين ماتوا له أطفالا أكثر من ثلاثين. وممن تولى السلطنة من أولاده عشرة أسكي: الحاج، وأسكي طف وهما شقيقتان وما عرفنا من الشقيقين دخلا أسكيوية قط سواهما، وأسكي محمد، وأسكي إسحاق، ومحمد كاع، وأسكي سليمان، وأسكي نوح، وأسكي هارون لنكتيع ومحمد شرك أيج، وأسكي الأمين. وما عرفنا من الملوك من تولى له عشرة من الأولاد السلطنة سوى داوود وحده.
ومن أولاده أيضاً كرمن فار محمد بنكن، وكرمن فار صالح، وكرمن فار الهادي، وبلمع صادق، وبلمع حامد. ومن أولاده أيضاً مارنف عيسى، وبنفرم دك كم إج، ولنتن فرم بكر، ودعى فرم سن وهو أعور العين، وعمر كمزاغ، وعمر كت، وكار فرم بكر، وياس، وهارون ولد فات طر، وونيفرم زكرياء، وعلوا واك، ووركي فرم حماد، وأريفرم على كلم. وهؤلاء الذين حفظنا من أولاده الذكور.
ومن الأناث فكثيرة ومنهن كاس زوجة جنكي منبعل، وأرحمة كروى، وبنت زوجة مقشرن كي ماتت ببلد تنبكت، وأريو أم القاضي بوز كان قاضيا في لولع، وصفية زوجة سيدي سالم العصنوني والد الحسن كاتب الباشا، وأمة الله زوجة الخطيب درام، وعائشة كيمر زوجة القاضي محمود كعت أرحلها إلى تنبكت ومات في عصمته، وأليمة، وويز أم هايئ.
ثم مات أسكي داوود رحمه الله يوم الثلاثاء سابع عشر رجب عام إحدى وتسعين وتسعمائة وقبره بكاع وراء قبر أبيه.
الباب الثاني عشر
أسكي الحاج
وقاضي تنبكت العاقبثم تولى الأمر بعده ابنه أسكي الحاج في ذلك اليوم قبل دفنه. وكان الحاج رجلاً مليحاً لحياناً مهيباً ذا مروة. ولم تطل مدته، ومكث في السلطنة أربع سنين وخمسة أشهر وعشرة أيام. وكان في أيامه رخاء وسعة في المعيشة.
وفي شهر ولايته غزا أهل وكد، وقتل فرن وكد وسبوا ذراريهم وجميع أموالهم وزناجيهم إلى كاع. وهؤلاء الزناجيون الذين يتكلمون بلغة وعكري. ثم أفلت من الأسارى رجل زنجي اسمه مام كو إلى تندرم وعند كرمن فار، فوجد هنالك رجلاً زنجياً اسمه تثم وأولاده. ونكح بنت تثم، وهذا المذكور آنفاً هو جد أهل كل من يسمى أهل كرمن من الزناجية باش فرم، وكانوا بجتمعون على موضع من البحر يسمى سنشركي في أصطياد حيتان دع. وإنما يأكون أهل سنغي غرامتهم، ولكن حبل عبوديتهم للشرفاء إلى هلم جرى.
وفي مدته ولي القضاء للقاضي عمر بن القاضي محمود بعد وفاة القاضي العاقب بمدة نحو سنة وخمس أشهر، وكانت ولايته عشية يوم الخميس سلخ المحرم فاتح عام ثلاث وتسعين وتسعمائة. ومكث القاضي عمر فيها ثمان سنين.
وكان أسكي داوود يتمنى السلطنة من بعده لولده محمد بنكن، ودبر فيها وسعه، أبى الله إلا أن يكون الحاج هو القائم بعده، وأمه مِن كاي. وقيل كان يتكلم بكلام الكهنة، ويخبر بما في الغيب، ويوافق أكثر أقواله بمقادر الله.
ومن ذلك أنه كان في مجلس قومه وبطانته ودخلائه وغيرهم، والزمارون يزمرون بين يديه. ثم سكت طويلاً. ثم تنفس الصعداء، ثم قال: يدخل علينا الآن رجل من أهل بيتنا وولد أبينا، ولا يسبقه في الدخول علينا أحد، وهو أشقى إخوتنا، ويكون آخر سلاطيننا، وتكون مدة سلطنته كلها إحدى وأربعين يوماً، وفناء قبيلتنا بسنغي يكون على يده، يهلك نفسه ومن معه. ثم فاض الدموع من عينيه. وما تم كلامه حتى دخل أخوه محمد كاع، ولم يسبقه إليه داخل، وحياه. ثم جلس والتفت إليه وقال: يا محمد أنشدك الله، إن أصبت سلطنة إحدى وأربعين يوماً أتحبها؟ وسكت ولم يجبه. ثم سأله ولح عليه. وقال: أحبها. وقال: خذها وهو سهمك، والله لا يزيد ولا ينقص. ووافق بما قدره الله ومقادير الأمور بيده، ومصدره عن قضائه.
ومما حكي عنه أيضاً أنه كان له فرس عتيق أشهب، فنزل به ضرر شديد، وصرعه ونحل جسمه ولا يستطيع على الجلوس فكيف القيام، حتى انسلخ شعر جنبه الذي كان يصطجع عليه، وأنتن وخرج منه الديدان. وتأذى أهل بيته بشدة نتنه، وأشار إليه بعض أصحابه بأن يأمر بإخراجه وجره إلى المزبلة لئلا يصعب إخراج ميته. وضحك منه فقال: أتحسب أنه يموت في هذا المرض؟ لا والله وقد بقي من عمره باقية. وقال صاحبه: لم يبق له في الدنيا نفس، ومن وقف عليه الآن يجده ميناً. وقال: والله ما مات، وعلى هذا الخيل إن شاء الله أركب يوم أدخل في دار سلطنتنا، ولا تشك. ثم عوفي وشفاه الله وعاد على ما كان عليه من القوة والصحة. ووافق قوله بما كتب الله في سابق علمه، وعليه كان سرجه يوم تسلطن، ودخل في دار المملكة وهو يركب عليه. فسبحان من يحيي العظام وهي رميم، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.
ومات في مدته الفقيه القاضي العاقب بن القاضي محموود بن عمر رحمه الله، وهو أعظم قضاة تنبكت عدلاً واجتهاداً، ولم يتول بعده نظيره، ثم لا يكون أبداً. ومولده، كما قال أبو العباس أحمد بابا في ترجمته من كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج، عام ثلاثة عشر بعد تسعمائة. وتوفي في شهر رجب عام إحدى وتسعين. ومن أراد معرفته ومعرفت مناقبه وقدره وسيرته المحمودة وكونه مسدداً في أحكامه ثبتاً فيها صليباً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم فليقف على ترجمته في كفاية المحتاج. ومنه يعرف فضله، وأنه حج، ثم رجع وشرع في بناء المسجد الجامع. وفي سنة تسع وثمانين وتسعمائة شرع في بناء مسجد سنكري، رحمه الله.
وأخبرني بعض الشيوخ أنه لما حج وأراد الانصراف والقفول إلى تنبكت استأذن خدم الكعبة المشرفة أن يحدّ الكعبة ويكيله بقدمه طولاً وعرضاً، فأذنوا له. وكاله بالحبل طولاً وعرضاً بطوله وعرضه، وجاء بالحبل المكيل. فلما أراد بناء مسجد سنكري أخرج ذلك الحبل وكال تلك العرضة التي أراد بناءه فيه على الأوتاد على جهاتها الأربع، وبنى عليها. وهو على مقدار الكعبة، ما زادت وما نقصت عليها بشيء. ثم لم أسمع ذلك من غير الشيخ الذي أخبرني به، وبقي في نفسي منه شيء من ذلك، والله أعلم.
ثم رجع لبناء مسجد سوق تنبكت، وهو آخر بنيته رضي الله عنه. وأنفق في بناء هذه االمساجد الثلاثة ما لا يعرف نهايته إلا الله تعالى، فجازاه الله أحسن ما جازى به من أحسن عملاً.
وحدثني بعض من أثق بروايته أن الحاج الأمين كان سأله حين كان في بناء الجامع الكبير: كم يكون نفقة البناء ونهايته في يوم عليك؟ فقال سبعاً وستين مثقالاً إلا ثلثاً. فقال الحاج الأمين: أريد منك أن تسامحني وتؤثرني أن أحمل نفقة غد. فرضي له، وفرح الحاج الأمين بذلك وسر به. فلما أصبح في غده نادى أشرع منذ ودفع إليه سبعاً وستين مثقالاً إلا ثلثاً ليبلغه للقاضي. وأعطى أشرع منذ ألف ودع ومائة كورية، وقال له: أردت منك أن تبكر علي غداً لنأخذ مني نفقته، ولا تشاور القاضي حتى نقبضها إليه فرضي بذلك. ثم أصبح وبكر إليه، ودفع له سبعاً وستين إلا ثلثاً. ثم أعطاه ألف ودع ومائة كورية. ثم قال له: إن قبض هذا منك فارجع إلي غداً في مثل هذا الوقت. وذهب به إلى القاضي العاقب. فقال: هذا ممن؟ فقال: من الحاج الأمين. فقال: إن الذي قبضناه بالأمس كفاه. فتوقف في أخذه، ثم أخذها.
فلما أصبح من اليوم الثالث بكر عليه ودفع له سبعاً وستين إلا ثلثاً، وألف ودع ومائة كورية. فقال: على من قبضت هذا؟ فقال: من الجاج الأمين. فقال: ارجع إليه وانتهره، ورده بها. فرجع إليه أشرع منذ بذهبه فأخبره بما قال. وركب الحاج الأمين إليه وحمله في قلمون برنوسه وصبّره ولاطفه بالقول. وقال له القاضي: هناك رجال لا يحبون أن يزاحمهم أحد في نفقة هذا البناء، وهم يتنافسون في ذلك. ثم قبضه منه بعد إبايته وامتناعه، ونهاه عن العودة إلى مثل ذلك. فرضي له عنه. وقد يكون الرجال الذين ذكر أنهم لا يحبون أن يزاحمهم أحد أراد به نفسه.
وكان القاضي العاقب رجلاً صالحاً حافظ القرآن مليح الصوت، وكذلك أسكي داوود وابنه أسكي الحاج. وكان ذات يوماً من أيام تولية أسكي الحاج ورد كتاب من عند الشريف الحسني علي بن مولاي أحمد بن عبد الرحمن من بلد مراكش إلى القاضي العاقب العادل القائم من أمر الله. فإنه سمع بأن كرمن فار وإخوانه يأخذون الغرامة على زناجيتنا تثم وأولاده، وهم زاعمون بأن أسكي هو الذي أمرهم بذلك. ونحن لم نصدقهم في ذلك. فإن كانوا صادقين فأسكي قد سمعنا أنه ذهب إليكم، فاسأله أيها القاضي العاقب. فهل يظن أسكي أن له قدرة على ظلمي، لأن تثم وأولاده وحفائده وأولاد ممي كو وحفائده وهؤلاء المذكورون ولائدنا، ما ملكهم أسكي قط حتى الآن. فوجد أسكي حاضراً عند القاضي. فقال: والله لا أعلم بذلك شيئاً. ثم أمر مرسوله ساعتئذ إلى تندرم عند كرمن فار بأن يسلموا أمرهم بسبب النبي صلى الله عليه وسلم. انظر هذا فتعلم أنه سالم الصدر انتهى.
ومن عدله وصلابته في الحق ونزاهته عن مسامحة من حاد عن الحق خوف لومة لائم قتله مؤذن الجامع الكبير المسمى عبد الله ولد كنكي. وكان هذا المؤذن حضر يوماً بمجلس يمدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة ببيت الشيخ النحوي أبي حفص عمر كري بن العلامة أبي العباس الحاج أحمد ذي الكرامات بن محمود بن عمر بن محمد أقيت رحمه الله. وقد اتخذ عادة أن يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في بيته بحضرة الجماعة بعشرينيات الفزاري وتخميسها لابن مهيب، فكانوا يمدحون بها حتى مروا بقول المخمس: هو الوبل وعلو أن يقاس بطلّه. فقرأ عبد الله المذكور: الويل، فقلب باءه ياء مع شكل كل بحركة الأخرى.
فراجعه في ذلك من سمعه منه، ولم يرجع عما قرأه به. فرافعوا أمره إلى القاضي العاقب الصادع بالحق الذي لا يخاف في الله لومة لائم ابن الشيخ القاضي الورع الزاهد الذي انتشر فضله في الآفاق القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت. فأمر بأخذه. فسمع به فخرج هارباً إلى بعض القرى من بلاد أبرم من انن وندعدكر وكندام. ثم رجع كامناً حتى ظفروا به بعد عام إلى آخره.
وفي مدة أسكي الحاج ولي القضاء الفقيه القاضي عمر بن القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت بعد وفاة القاضي العاقب بنحو سنة وخمسة أشهر. وتعطل القضاء في تنبكت سنة وخمسة أشهر. وقام الإمام محمد بغيغ رضي الله عنه بالصلح بين الناس دفعاً لما بدا في الناس في ذلك الزمان المفترة من الخسارة وأكل بعضهم أموال بعض وتضييع أموال الأيتام.
وكان إذا صلى الصبح يجلس بباب مسجد سيدي يحيى، ويحضر بعض طلبته، ويقول رحمه الله: من له حق على من امتنع به فبيأت. فجعل الناس يأيتيه بدعواهم ويحكم بينهم فيأمر وينهى ويسجن ويضرب من استحق الضرب. وتكلم فيه المرجفون وأهل الفساد والسفهاء، ويقولون: انظروا هذا الرجل، يعنوا هذا الشيخ محمد بغيغ، الذي يزعم أنه لا يحب الدنيا وأنه زاهد وهو يحب الرئاسة وجعل نفسه قاضياً، وما استقضاه أحد. فربما يجد في محله كتبة الناس ويقولون فيه: من أمرك بهذا يا محمد بغيغ؟ ويشتمونه فيه، والعياذ بالله. ويرفعه ويقرأه ويتبسم ويقول رحمه الله: وقد تعين ذلك علينا، ويسألنا الله عن كل ما تضيع في هذا الزمان، ولا نبالي لوم أحد فيما تعين علينا، وعندنا علمه، ونخاف ونترك حق الله؟ وتقعة الله أشد. وربما يجد هنالك خطوط بعض الكبراء المشار إليهم بالعلم بمثل ذلك، ولا يلتفت إليهم إلى أن قدم القاضي عمر بن القاضي محمود.
ولم يكن إباية أسكي الحاج على تقديم القاضي إلا لسبب وقع بينهما، ولذلك أبى أن يقدمه. ولم يقدمه إلا بتكرار رسل محمد بغيغ المذكور إليه وكتبه لديه يزجره ويأمره بتقديمه. وما عرف أهل تنبك بذلك إلا بعد ما أتاخ رسول أسكي المذكور قائلاً لأهل تنبكت: لو لا شفاعة محمد بغيغ لا يقدم القاضي عمر، ولا نستقضي أحداً فيهم ما دمت حياً في هذه السلطنة. وعند ذلك تبين فضله وأنه لم يرد تولية القضاء. فرحمه الله ورضي عنه، فنعم الرجل، أثر الله عن غرضه. ومكث القاضي عمر في الفقضاء ثمان سنين.
الباب الثالث عشر
أسكي محمد بانثم قام أسكي محمد بان بن أسكي داوود على أخيه الحاج فعزله. وتولى السلطنة في المحرم عام خمسة وتسعين وعسعمائة. ونفى الحاج إلى تندبي بعد ضعفه بعلة لازمة. فما لبث بعد عزله فمات.
ومكث محمد بان في السلطنة سنة وأرعة أشهر وثمانية أيمام. وكانت في أيامه غلاء وقحط. وتوفي يوم السبت ثالث عشر جمادي الأولى عام ست وتسعين وتسعمائة في محلته بالبيداء بقرب تندبي قاصداً إلى تنبكت، بعد أن اعتقد للسملمين الشر بسبب حبهم لأخيه بلمع صادق. وكفى الله المسلمين شره. نقلت هذا كله من درر الإحسان من عزل أسكي الحاج وطلوع محمد بان إلى وفاته.
وسبب الشر الواقع وأما سبب الشر الواقع بين أسكي محمد بان بن أسكي داوود وبين أخيه بلمع صادق: وذلك سبب فناء سنغي وفتح باب الشر بينهم، وسبب فساد ملكهم وقطع سلك نظام دولتهم، إلى أن نزلت محلة أهل مراكش بهم إلى هلم جراً.
وقصة ذلك على ما حكى بعض شيوخهم الموثقين أن كربفرب كان غلاماً لأسكي على عادتهم، ومسكن بلمع ودار سلطنته هي كبر. وكبرفرم موكلاً بالمرسى وسفن المسافرين يأخذ من كل سفينة غرامة من الداخل والخارج، وبلمع يكون سلطاناً على الجنديين. وكل واحد منهما على طريقه.
وكان كبرفرم علوا هذا ظلوماً غشوماً خصيئاً فاجراً مسيطراً جاهلاً جباراً عنيداً، سُرق ملحفة بعض جواريه اسمها كنكي، أظنها كنكي أم طركي بر. واتهم خديم بلمع بسرقتها، وسمع كبرفرم بذلك، وبعث مرسوله إلى بلمع صادق يذكر له بأن غلامه سرق ملحفة جاريته، إما إن يأخذها منه أو يرسله إليه ليتولى سؤالها منه. فسأل غلامه عنها وحلف أنه لم يرها بعينه، لا سيما أن يسرقها. وذكر كبرفرم أنه لا يصدق إنكاره حتى يأتيه الغلام بنفسه ويعذبه إلى أن يردها. وأبى بلمع على ذلك وامتنع.
وكان ذلك بينهما في ذلك اليوم خصومة عظيمة. ويمشي بينهما الرسل بالشتم والكلام القبيح، إلى أن ظفر كبرفرم بذلك الغلام المتهم على غفلة، وخطفه رسل كبرفرم وحملوه إليه. فأمر كبرفرم بضرب الغلام مائة جلدة، وثقفه بالحديد في سجنه. ولما سمع بذلك بلمع نهض إليه برجله، ومعه فتيان داره وبيده حريش كبير، حتى دخل عليه نصف النهار وهجم عليه. ونهض كبرفرم قائماً، وقبضه بلمع ولطمه وسقطه على الأرض وظعنه بحريشه الكبير تحت أبطه وقطع قلبه، وسقطه ميتاً. وأمر بغلامه المسجون، فانحل من قيوده. وأمر بقفل دياره. وأمر بالميت، فجروه برجله إلى خارج بيته، ورمي هنالك. وحاز بيته بما فيه من الأموال.
وخاف عقوبة أسكي بذلك، وبعث رسوله إلى أخيه كنفار صالح بن أسكيا داوود، وهو بتندرم، وأخبره بما فعل، وأنه خرج في طاعة أسكي محمد بان وخلع عن بيعته، وأمر أخاه كنفار صالح بالمجيء إليه مع جيشه وأهل جنده ليتفق معه ويذهبان إلى أسكي محمد بان بن أسكي داوود ويعزلانه ويتولى كنفار صالح سلطنة أسكي ويكون سلطاناً ويوليه كنفارويته.
وأتاه رسوله وأخبره وحضه وحثه على الخروج معه، وأجابه فرحاً مسروراً. وجمع جيشه، وتبعه بركي ودرمكي، وخرج بجيش عظيم. وأخبر من سمع من محمد بنيعت الحداد أنه قال: عددت من خرج معه من الفرسان واحداً بعد واحد، فكانوا أربعة آلاف وستمائة، وأما الرجال فلا يحسب ولا يعد كثرة.
توجهوا إلى بلمع صادق في كبر كتى، نزلوا بطعية، وبعث إلى بلمع بقدومه. وخرج بلمع للقائه، وتلقوا هنالك، ومعه قومه وأصحابه وجيشه. وكان بلمع لابساً يومئذ درعاُ الحديد، وجعله شعاراً، ولبس فوق ذلك قميصاُ سوسياً أخضر دثاراً، وسيفه في عنقه، وحزامه في وسطه.
وخرجا من جماعتهما يتناجيان ويتحدثان. وحدث له بلمع بكيفية قتله كبرفرم وسبب قتله، وعقدا الرأي والتدبير في سيرهما إلى كاع في عزل محمد بان أخيهما. ورحل كنفار صالح من طعية بجيشه، ومعه بلمع، وسارا حتى نزلا المحلة بين كبر وأمزع. وبعد نزولهم رجع بلمع إلى كبر لتجهيز ضيافتهم ونزولهم، وقيل هيأ لهم ثلاثمائة بقرة وأعدها لهم قبل إتيانهم، وذبح ما ذبح لإدام طعامهم.
فلما رجع بلمع إلى داره لإخراج تلك الضيافة إليهم، عقبه بعض الوشاة إلى أخيه كنفار صالح ونم له بقوله أنه يغدره ويريد قتله، وحذره وقال له: انظر وتأمل الهيئة التي ألقاك بها من لبس درع الحديد وشدة ربط الحزام. وصدقه كنفار صالح، وكان رجلاً خرقاً، فأمر بربط سرجه ساعتئذ بلا توان ولا تأمل، وركب ونادى من شجعان قومه أربعين فارساً، وأمرهم بالركوب معه، ولم يشاور أحداً منهم بسبب خروجه.
وخرج عازماً حازماً كمياً في سلاحه بقوة الغضب، حتى أتى بباب دار بلمع. وألفاه وبيده كاص يغرف به السمن على موائد ضيافتهم. وما راعاه إلا بصوت كاكك بباب داره، وعلم بأن كنفار هو المواتي، وتحقق عنده أنه لم يأت في هذا الوقت إلا لشر. ونهض، وفرسه الذي أتي به واقف تجاهه بسرجه ولجامه في فمه، وركب وخرج بباب أخرى من داره، وحمل ترسه، وأملأ يده بالحريش.
وتلقاه كنفار خارجاً من الباب ورماه كنفار بحريش. وقال بلمع: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ما حملك على هذا، وما سبب ذلك؟ أتتبع كلام النمائم وتكون علينا شماتة الأعداء؟ ثم بكى بلمع صادق. ثم رماه كنفار بحريش آخر، ولم يصبه به وخطأه. ثم رماه بحريش ثالث ووقف الحريش على قربوس سرجه، وحرك بلمع فرسه كأنه يهرب. ثم رجع إليه، ورماه بحريش وركزه بين كتفيه حتى خرج من صدره. وقيل أن الرامي هو غلام كان مع بلمع يقال له محمد بن كنفار يعقوب، وهو المسمى كي إج، والأول أصح بأن بلمع هو الرامي بيده.
فلما أحس كنفار بألم ذلك الجرح ولى هارباً، وحمله فرسه وذهب به، ولم يبق له قوة يملك رأس الفرس. وحمله إلى بقعة بين كبر وكرنزمي قريب من كبر، وأسقطه هنالك ميتاً. ونزل عليه ورفع رأسه ووضعه على حجره، وهو في سكرات الموت، حتى خرج روحه على رجله، وذلك عشية يوم الأربعاء الخامس ولاعشرين من ربيع الآخر عام ست وتسعين وتسعمائة. كذا ذكره الفقيه يوسف كعت بن الفع كعت رحمهما الله.
ثم أمر بلمع بحمل جنازته إلى كبر. فحمل إلى داره بكبر. ولم يفطن بخروج كنفار من محلته إلى بلمع أحد من أهل جنده الذين أتوا معه إلا تلك الشرذمة القليلة الذين اختارهم من بينهم، وخرجوا معه إليه. وبعد علمهم بذلك ركبوا كلهم إلى بلمع ونزلوا على بلمع طائعين، وسألهم بلمع عن من عقبه عنده بعد ذهابه وبما سمع عنه، فتعجبوا وقالوا: ما علمنا بأحد دخل عليه بعدك.
ثم شرع في غسل جنازته وأتى بثلاث شقوق من السوسية العالية لكفنه. وكفنه إمام كبر مور كسنب في واحدة، وحمل الباقيين، وهو الذي تولى غسله وحمل نعشه إلى تنبكت. وهنالك صلوا عليه، ودفن هنالك. وقيل دفن في دار ملكة بلمع في كبر، والأول أصح. وشيع جنازته بلمع إلى تنبكت. ثم تصدق عليه بقراءة القرآن وذبح بقرات كثيرة وأعطى الطلباء القراء عشرة عبيد ومائة ألف ودع.
تذييل: قيل أن كبرفرم علوا هذا جرت بينه وبين أحد من العلماء خصومة في مزرعة الأرز التي أعطاها أسكي لذلك الشيخ، وتلك المزرعة في أرض يون. وجاء كبرفرم علوا يريد أن يغصبها منه يزعم أنها مزرعة السلطنة ولا يعملها، وهي أي تلك المزرعة بيد كل من تولى كبرفرموية، هو الذي يحرثها لدار سلطنة أسكي. وتخاصم مع الشيخ في أمر تلك المزرعة، حتى أخذ بيد ذلك الشيخ وصرعه، وكان ذلك أمراً عظيماً.
وكان مع الشيخ هنالك بعض طلبته أي تلميذه. وقال للشيخ بعد انصراف كبرفرم: لو لا قول الله تعالى في كتابه: ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزؤه جهنم الآية، لقتلت كبرفرم هذا اليوم بلا سيف ولا حريش. فقال له الشيخ: إنما قال الله: ومن قتل مؤمناً، ولم يقل: ومن قتل فاسقاً. وقال الطالب: هلك كبرفرم. وأخذ الطالب ورقة وكتب فيها أشياء وحروفاً، ثم طواه وخاطه في خرقة سوداء وعلقه على عنق تيس. ثم أخذ رمحاً وتعنه تحت أبطه، وسقط التيس ومات. فلما جاء مثل ذلك النهار من اليوم الذي طعن فيه تيسه سلط الله عليه بلمع صادق وطعنه تحت أبطه كذلك، ومات بقدرة الله انتهى.
فلما دفن بلمع أخاه كنفار صالح قام بفتنته. ورجع إليه أصحاب كنفار المقتول وجيشه أجمعون وأطاعوه واتفقوا معه وضربوا عليه الطبل وجعلوه سلطاناً وسموه أسكي. ووافقهم على ذلك عامة تنبكت وتجارهم وبعض علمائها وأصحاب أسكي الذين كانوا سكان تنبكت ومنذ وتصر منذ وعمده التجار بالأموال، وخطب به أئمة المساجد فوق المنابر يوم الجمعة.
وخرج قاصداً مع قومه الكثير، وكانوا جيشاً عرمرماً تنيف على ستة آلاف كثرة. وصحبه خياطون تنبكت يخيطون له الملف ويصلحون القمص والقفاطين. وتوجه إلى كاع لمضاربة أسكي وعزله وقتله. وما بقي أحد من السلاطين من إقليم أترم وأولاد الأساكي من لم يتبعه، إلا بنكفرم محمد حيك بن هارفرم عبد الله بن أسكي محمد وحده. بل فر هارباً عن بلمع لما بلغه جناياته إلى كاع، ودخل في زمرة أسكي وأعوانه.
وأسكي محمد بان في داره، وجواسيسه يجيء ويذهب ويتجسسون الأخبار، يقطع كل يوم ماءة فارس ويتعاقبونه ماءة أخرى إلى بنب وترك. ويعزم على الخروج للقائه إذا دنى إلى كاع.
فلما دنا وقرب إلى مسافة يومين خرج إليه أسكي محمد بان بجيش يضاعف جيسه خمس مرات، محموع ذلك ثلاثون ألفاً. وخرج وقت صلاة الفجر، وكان رجلاً جسيماً سميناً ذا بطن، ونزل وقت الزوال. ونصب له الخباء وفرش له تحتها، ونزلت المحلة. وأمر حين نزوله بماء بارد وصب في إناء واسع واعتسل. ثم أتى مضجعه فاضطجع. وتزمل في ثيابه ونام إلى أن قرب وقت الظهر. فجاء غلمانه الخصيان الذين كانوا يوقظونه بوضوء وسواك، وحركوه فلم يتحرك. فتأملوه، فإذا هو ميت. وتركوه، وغطوه بالملاحف، ونادوا كبراء القوم من أقربائه إلى أن دخلوا عليه وأخبروهم بما جرى عليه.
ثم نادوا باريكي وهو كركي وبطانته وبعض كبراء الجيش، وكتموا موته على أولاد أسكي داوود، فجلسوا متحيرين متفكرين فيما يفعلون من الرأي والتدبير، إلى أن اتفقوا على تولية كنفار محمود ابن أسكي إسماعيل بن أسكي محمد، وهو يومئذ بنكفرم، وكان شيخهم وأكبرهم سناً.
ونادوه وهو في منزله من تلك المحلة، وأرسلوا إليه بأن أسكي يناديه. وقام مسرعاً مجيباً إلى أن أتى إليهم، ووجدهم في خباء أسكي. وأدخلوه وأخبروه بموته، وكشفوا الثوب له عن وجهه، ورآه، وقالوا له: يا محمود هذه مصيبة نزلت بنا وبلاء عظيم شملتنا كلنا، ونظن هذا اليوم هو آخر أيام دولة أهل سنغي ويوم فنائهم. وقد رأيت بلمع صادق قتل كنفار صالح أخاه، وقتل كبرفرم علوا. ثم جهز الجيش إلى قتال محمد بان، وخرج هو بجيشه للقائه. وها هو محمد بان قد نزل به قضاء الله وقدره، وها هنا أبناء أبيهم كلهم حاضرون. ولا يسلم أحد منهم لأحد في هذه السلطنة، وألقى الله العداوة والبغضاء بينهم. وما كان لأحد منهم لأخيه قوة إلا قتله على هذه السلطنة. وما كنا إلا عبيد لهم فماذا ترى؟ وما رأيك في هذا؟ فإنا كلنا لا نرضي إلا عليك، ولا نتفق على أحد سواك لما فيك من الصبر والحلم وحسن التدبير، ومع ذلك كله إنك كبيرهم وشيخهم، فنرى نحن أن تولى السلطنة الساعة قبل أن يفطنوا بموته وتنادى جميع المعاندين منهم وعفاريتهم وأشرار الناس فيهم. وترسل لكل واحد منهم رسولاً ويقول أسكي هو الذي يناديه، وكل من جاء منهم تأمرنا بقبضه وثفقه بالحديد، ومن يستحق القتل منهم فنقتله الآن بأمرك، حتى يتموا. ثم نضرب عليك طبل السلطنة فنطلعك، فتكون أسكي بلا منازعة أحد. ثم نسير إلى قتال بلمع صادق فنقتله. فهذا ما رأينا، وهو الصواب، وبذلك يكون سلامة أرواحنا. وأما أولاد أسكي داوود وحفدته فلا نرضي بأحد منهم أن يكون والياً علينا أبداً لشرهم وطغنانهم ولكونهم قاطعوين الرحم. وسكت محمود ملياً. ثم أجاب وقبل راضياً.
وأولاد أسكي داوود وحفدته وأسباطه الذين يحضرون هنالك حينئذ أكثر من سبعين فارساً، وأكبرهم إسحاق الزغراني ومحمد كاع ونوح والمصطفى. وإسحاق الزغراني أسن منهم، وهو يومئذ فارمنذ. واتفقوا على هذا الرأي، وأرسلوا واحداً من الخصي المسى تبكل إلى إسحاق أولاً، وأمروا المرسول أي يقول له أن أسكي محمد بان يناديه. فأتاه تبكل، وألقاه جالساً على حصيرة صلاته. وخلى به ونم له، وأخبره تبكل المذكور بموت أسكي محمد بان، وأعلمه بما كان عليه القوم، وبما ينادونه بسببه، وكشف له أسرارهم، ووصاه بأن يحذرهم. فقال له إسحاق: ارجع إليهم وقل لهم أني أجيء. فرجع الرسول وأخبرهم بأنه يأتي.
ثم أمر إسحاق بإخوانه وأحبائه وأولاد إخوانه وإحوته، وأخبرهم بما جرى وما كان عليه القوم لهم وبما عزموا عليه وهموا به. ثم ركب وركب أهاليه معه، وهم على نحو مائة بسلاحهم محزمين بتروسهم.
فما راع القوم إلا رهج خيولهم. فداروا بخباء أسكي الذي في القوم على جنازة محمد بان وحاطوا بهم. ونادى هيكي وشع فرم وباريكي، وأجابوهم في داخل الخباء، ومحمود بن أسكي إسماعيل معهم. فخرجوا إليهم خاضعين طائعين خائفين مروعين القلوب، وقد ضاق بهم ذرعاً.
وقال لهم إسحاق قد علمنا ما جرى وسمعنا ما عقدتم عليه من عداوتنا وبغضنا، فقد كشف الله لنا السر الذي عقدتم عليه، فقد أفضحكم الله. إما أن تسلموا لنا، أو يكون هذا اليوم آخر أيامكم في الذنيا يخرب الله فيها بيوتكم ويصيروا أولادكم فيها يتامى وأزواجكم أرامل. وتعلموا أن الله قد أخزاهم له، ورموا أنفسهم على الأرض ورجعنا ناكصين، يحملوا التراب على بؤوسهم له، ومحمود معهم في ذلك. قالوا كلهم: أمر الله، ثم أمرك السمع والطاعة لله ثم لك، وأنت أميرنا وسلطاننا، ولا نطيع لأحد إلا أنت، وحبلك في أعناقنا، فاعف عنا، ودخلنا لك في حرمة أسكي محمد وبحرمة قدمه التي وقف بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضته الشريفة. انزل الآن على فرسك فنطلعك ونضرب عليك طبل السلطنة وتكون سلطاننا، فتغسل جنازة أخيك محمد بان الهالك وتدفنه، ونرحل غداً لقتال بلمع صادق أخيك، وندفع عليك باسه. فنزل ونزل أصحابه، وحينئذ تفطن الجيش بموت أسكي محمد بان، وحضروا جميعاً، وضربوا الطبل على إسحاق، وأمروه وتسلطن، وحملوا له التراب على بؤوسهم، وجاؤوا بالمصحف وحلفوا له به بأن لا غدر ولا غش ولا خدع.
وأمر بغسل جنازة محمد بان، وغسلوه وكفنوه، وإسحاق جالس على سرير ملكه. وأمر بحمله إلى كاع، وأتبعه بعض أعيانه وبكر لنبار أسكيا الفع الذي هو الكاتب، ودفنه ورأء جده أسكي محمد المرحوم. وكر راجعاً إلى المحلة في بقية تلك الليلة. وفي بعض التواريخ أنه أقام في كاع بعد دفن أخيه يوماً أو يومين.
وقام أسكي إسحاق وبكر وافتكر، وتوجه إلى لقاء أخيه بلمع صادق وأشبع الجيش في تلك الليلة، وقسم لهم العطايا وأفاض عليهم المنح وأرضاهم، فرضوا. وكان أسكي إسحاق كريماً جواداً.
الباب الرابع عشر
أسكي إسحاق الثانيوسار إلى بلمع صادق وذلك يوم ثالث عشر جمادي الأولى عام ست وتسعين وتسعمائة، ولا علم عند بلمع صادق بموت محمد بان، ولا بطلوع إسحاق. وهو في البيداء بجيشه يسير ويأتي ويحسب أن قلوب أهل كاع تميل إليه بالمحبة مع ما يسند إليه من كثرة من معه ويعتقد أن لا غالب إلا هو.
فما فاجأه إلا بأربعمائة فارس فرسان الشباب، ليس فيهم سوى لابسين القلنسوة من أولاد الأساكي، وغيرهم يهرول بهم خيولهم. فلما أبصر بلمع صادق وقومه، فرحوا بهم وظنوا أنهم جاءوا إليه مطيعين خارجين على محمد بان، حتى إذا دنوا منهم نزلوا كلهم ووقفوا على الأرض وحيوه: تنكر تنكر بلمع تنكر تنكر، أسكي إسحاق أخوك يسلم عليك، ويقول أن الله قبض أسكي محمد بان أمس بموت الفجأة، وأعطاه الله دار أبيه، وجعلوه كافة أهل سنغي سلطاناً، وتولى بإذن الله. ومن أطاع فليس له عنده إلا خيراً ومحبة وصلة، ومن خالف فقد خالف أمر الله وعصاه. ومن عصى أمر الله فلا يلوم فيما أصابه في ذلك إلا نفسه.
فأمر بلمع صادق رجلاً من قومه أن يسألهم أحق ما تقولون. فحلفوا له بذلك. فدخل الروعة والخوف والخشية في قلوب جيشه. وضرب بلمع صادق الطبل، وأمر تلك الساعة بالرحلة والركوب إلى ملاقاة إسحاق ومحاربته أصحابه أربعمائة فارس الذين أرسلهم منذرين به. وركب بلمع صادق ومن معه منكسرين قلوبهم وأطرأ عليهم غاية الفتور والكسل.
وساروا إلى أن أتوا مكاناً سمعوا فيه أصوات طبول أسكي وعاينوا رهج خيولهم وسمعوا بلغتهم ورأوا شجعان أسكي الذين كان يصطفيهم ويقدمهم أمام الجيش، ضج أصحاب بلمع وأيقنوا أن قد شملهم الهلاك والتلف.
ووثب بهم أصحاب أسكي وثبة الذئب الضري على الخروف، ونظروا إليهم نظرة ليث العرينة إلى الفريسة ومثلوهم في أعينهم كأنهم أفراخ الدجاجة التقوا مع الباز. وحملوا عليهم وستتوا شملهم شذر مذر وولوا القوم مدبرين. وما منهم من وقف ليعلم ما الخبر، بل كسروا وفزوا عن بلمع. وكثير منهم من نزل عن فرسه ونزل في البحر وعام وقطع البحر عرياناً إلى كرم. ومنهم من دخل في حفرة الثعالب، ومنهم من صعد فوق الشجر. وشرد خيوله، إذ لا قبل لهم بجند أسكي، ولا يقدرون على مبارزة جيشه، ولا يقف.
فلما رأى ذلك بلمع رمى نفسه بين القوم يتتبع الصفوف يطلب إسحاق، ولا يبالي بمن لقي منهم ومن أتاه منهم. هرب منه ولا يتعرض له. وصاح به إخوانه الذين كانوا مع أسكي: ماذا تطلب يا عدو نفسه، اخرج من بيننا، ولا تكن قاتل النفس. أينك بأسكي الذي تزعم أنك تطلبه؟ وهو في منعة وثورة أربعة آلاف من الرجال يحملون الحريش أمامه وألفين من العبيد الخصيان وراءه. وإن أدركك خصيانه هنا قتلوك وصيروك غذاء العقبان والنسور.
ثم أتاه ابنا أبيه لنتن فرم بكر وأريفرم هارون، ابني أسكي داوود، وأخرجاه كأنهما يريدان طعنه، ومرادهما أن تهرباه. وخرج هارباً، وتبعه من قومه أحبابه إلى منزلة محلته، وهما معه يطردانه، وهو على فرسه المعروف المسمى بامرس في قوة غضب وغيظة يأنف على الهروب، ولا يبغيان له الموت. فلما أتى محلته، وله هنالك ثلاثة من جواريه أي سرياته وأربعة عشر نسوة من الحداديات الزامرات، وكان معه أربع وثلاثون جمالاً، وحمل عليهم سرياته وحدادياته ونفائس بضاعاته وكسواته وشيئاً مما أتى به من الأزواد، وجعلهم أمامه، ومعه من الفرسان سبعة عشر على خيول مختارين، وخمسة خيول عليهم السروج يقادهم أمامه. وتأخر عليهم خلفهم مع بعض فرسانه يساقهم أمامه هاربين.
فلما وصل أسكي إلى موضع محلته الذي خرج فيه هارباً، نزل هنالك وبات فيه، واختار من قومه خمسين فارساً وأمر عليهم حصل فرم علوا ولد سبيل وعبده الخصي أتكرم زكت، وأتبعهم بلمع صادق، وأمرهم أن لا يرجعوا إليه إلا بنفسه أسيراً أو برأسه قتيلاً.
وتبعوه يقتفون آثاره وأين بات. وارتحل من عنده يأتي حصل فرم تلك الموضع عشية يومه حتى أتاه إلى مكان يقال له زنزن في قبلة منزلة بلد بنب وأعيا عليه بعض جماله التي يحملون بعض نسوته والرجال يمشون على أقدامهم من حملة الحريش وبعض الخيول تركهم هنالك، وأمر بحمولهم وعديلاتهم، فرُميت في البحر. ومر. ثم لم يزل في إدلاج وتأويب وإيجاف وتقبيب حتى جاء تنبكت بعد صلاة العشاء. وقد سبقه الخبر بنعي أسكي محمد بان والأراجيف المكاذبة بأن بلمع صادق هو الذي تولى مكانه، وفرح به أهل تنبكت فرحاً عظيماً.
فلما دخل تنبكت قصد دار السيد الفقيه محمد بغيع رحمه الله ودخل عليه. وشاع إتيانه في البلد تلك الليلة، وأرسل رسله إلى أحبابه، وأتوه هنالك ومكث عنده بقية ليلته. ثم خرج وقت السحر، وزودوه بعضهم. وأدركه الليل بقرية كندم، ونزل خارج البلد.
فعقبه حصل فرم في تنبكت، ودخله وقت المغرب. وأخذ تنبكت منذ وثقفه في الحديد، ومر في تلك الليلة وبات.
ثم قام بلمع من مبيته آخر الليل ودخل تندرم وقت الضحى ومر، وما يراه أحد، وقصد مرسى بلد سن. وتلقى بالقوارب هنالك، وأخذوها وقطعوا تلك البحر بهم. فلما وصلوا البر مروا. ولم يلبثوا وساروا إلى أن نزلوا ببلدة كيم تحت الشجرة الكبيرة الكائنة لها من ناحية القبلة، وجاء أهل كيم، وسألهم علف الخيل، وأتوهم بصنية الدخن، وقطعوها وقسموها على خيولهم العاجزين.
فعقبه حصل فرم في تندرم، ودخله وقت الظهر، وسأل الناس عنهم. فأخبروا بأنه مر عليهم ضحى هذا اليوم. ومروا في إثره، وجازوا إلى مرسى كرم وقطعوا بحرها ومروا راكضين حتى وصلوا إلى قرب كيم، ومعهم الدفوف يضربوها، وسمع بذلك. نهض حينئذ وركب وحده على فرسه بامرس. ولحقهم حصل فرم هنالك وخيول أصحاب بلمع في المرعى يأكلون الحشيش. ودخل حصل فرم وقومه بينهم وبين خيولهم وجمالهم، وهنالك أخذوا جميع من معه وما معه من الجواري والبسط.
وقبضوا جميع من تبعه إلا بلمع وحده، فإنه رمى فرسه في بحيرة كيم وقطعها. ثم وقف وراء البحير على ضفتها وهم ينظرونه، وعليه دائرة ملف الحمراء وفرسه هذا المسمى بامرس، وهو ولد رمكة رجل من بلدة دندكر اسمه محمد سابن. وقد بلغ ذلك الفرس في القوة والجرى غاية ونهاية بحيث لا يجاري ولا يباري.
ثم قطع حصل فرم وقومه تلك البحيرة بعد ذهابه بقليل. وسبقهم بلمع إلى كيب، ورمى فرسه في البحر الذي كان هنالك، وقطع به البحر عند غروب الشمس ذلك اليوم. ووصل حصل فرم إلى كيب بعد العشاء وسمع الخبر وأسرعوا في طلب السفن. وما حصل لهم السفن إلا الصبح، وقطعوا البحر ودخلوا في إثره يقفون آثاره.
وجاء بلمع إلى قرية تسمى لنف بقرب بوي وهناك ولده أسكي محمد بنكن، وهو صغير عند أمه زنب كاو، ووقف ببابها ونادوها. وخرجت بولدها محمد بنكن المذكور ودفعته إليه. وأخذه ووضعه معه في سرجه، ووضع يده على رأسه وبكي. ومضى وتوجه إلى بلد بوي. وهنالك أعيا عليه فرسه بامرس وعجز ووقف، ونزل عنه. وكان هناك فرس حمدي لبعض عبيد أسكي، أخذه هنالك ووضع عليه سرجه وركب عليه وانصرف. ولم يتعرض له أحد هنالك، وتوجه إلى الحجر وحده.
وبعد انصرافه دخل حصل فرم وقومه في ذلك البلد. وقد عجزوا أفراسهم وانسلخ ظهورهم، ووقفوا. ونزلوا بباب دار بنكي وأخذوه وشتوه وسبوه وكادوا أن يقتلوه لِم تركه حتى مر عليه ولم يقبضه. ثم كروا راجعين على آثارهم إلى كاع حين علموا متحققين أنهم لا يدركونه، وأيسوا من لحوقه انتهت القصة.
تذييل: اسم من بنا بلد بوي هي امرأة اسمها يانو، وكانت تملكها قديماً. وبنا أختها المسمات ببير بلد أنكند. وبلد أبيهما همبر، وبلد أمهما دعنكع. وجلست يانو المذكورة أولاً في تلك القرية، وقد كانت واصلاً في الحجر بين دعنكع وهنبر. ووقع حرب وقتال بينها وبين شي عال، وهزمها شي وسبى ابنة أختها جت. ثم استجاش مائتي سفن لقتال أهل أنكند، وحصرهم بتلك السفن، فلا يدخل داخل ولا يخرج خارج، إلى أن هزمهم شي.
ووجد يومئذ في تلك البلد ثلاثة قبائل: سنغي وجم كري والزناجية. وقتل جميع من وجد من القبيلتين الأولتين إلا قليلاً منهم، وأخذ ذلك القليل وجميع من وجد من الزناجية. ثم أفلت من الأسارى سبعة رجال: ثلاثة من الزناجية، وأربعة من جم كري، وأسماؤهم: محمد كرب، ومحمد تي، وبريم، وكبر سكنم، وما بايعم سبري، وبكر ميك، وأنكيد ميطع. وهربوا إلى مكانهم أنكند، وجلسوا هناك مدة ثلاثة أعوام، وليس لهم زوجات. ولما شق عليهم ذلك قاموا إلى الإمام أسكي الحاج محمد رحمه الله، ووافق ذلك بدخوله في السلطنة، يطلبون عنده زوجات. فزوجهم سبع إماء من زناجيته، وهن عائش كرمات، وتات مريم، وزنب مك، ولمي عال، وخديج سرك، وسفية جنجن، وأمنة كاي. فلما زوجهم إياهن شرط عليهم غلة من يابس الحيتان، على كل أحد منهم حزمة منها، وألا يتزوج ذرية بعضهم لذرية بعض. فقبلوا ذلك ورضوا به، وذهبوا بزوجاتهم إلى أنكند.
ولنرجع إلى ما كنا بصدده. ثم لما سبى شي جت المذكورة أعطاها لأهل بلدة مور كير، وتزوجها أخو مور هوكار، وولدت له منس علوا ميدع. ثم رحلت يانو بعد انقراض شي عال إلى بودر وسكنتها، وعظم ملكها هنالك. وكانت الفتنة التي ذكرناها بين يانو وشي عال عام سبع وتسعين من القرن التاسع في اليوم الثاني عشر من المحمرم.
وكان في أرض بر حداد اسمه مندجم من جهة كرنكن، قام على بركي منس مس وطغى وتغلب على تلك الجهة، حتى خطب على بركي ابنته ليتزوجها. واستعان بركي بيانو المذكورة بأن يقاتله، وشرط عليها أن يعطيها من أرضه إن فعلت ما شاءت. فأتتهم في خمسين فارس فقاتلتهم وقتلت مندجم واستأصلتهم وتبعهم إلى بركب. وخيرها بركي فاختارت أرض بوي فسكنتها. ثم ماتت يانو، وما تركت ابناً إلا ابن أختها جت منس علو. وذهبوا وحملوه من موركير، وقدموه عليهم سلطاناً. وكان بنكي هو أول من تسمى بنكين، ولذلك ينسبونهم إلى ميدع.
وكان بين منس علو المذكور وبين كنفار عمر صحبة وكان يزوره في تندرم كل عيد ويصلي العيد عنده وكان ذلك سبباً لملكه إياهم انتهى.
ولنرجع إلى مقصودنا من كلام بلمع. ورأيت بخط خالنا الفقيه يوسف كعت بن الفع محمود كعت رحمهما الله أنه جاءه مرسول الأمير عشية الأربعاء يوم عيد الفطر إلى القاضي عمر بن محمود رحمهما الله بأن الجبليين وقعوا علا بلمع صادق وأخذوه غيلة انتهى.
ومن خطه أيضاً قال وكانت هذه الفتنة من أولها إلى آخرها أربعة أشهر. وأما أسكي إسحاق متى انصرف من قتال بلمع ورجع إلى كاع أجتمع عليه جند سنغي، واتفقوا عليه وأسادوه، وأطاعوه قبض كل من تبع بلمع صادق. وجاءوا معه في عسكره من كرمن وبلمعي وبر ودرم، وأسر من أسر، وقتل من قتل، وضرب من ضرب، ومات أكثر المضروبين، وسجن من سجن، وعزل من عزل، ولم يبق بأرض بر بلد لم يبلغه شره، إلا أنكند لأن زناجيتها ملك الشرفاء. وكانوا هؤلاء الزناجية وديعة في ذلك الزمان لملك فات وبنكي علي. ومن الذين سجنهم أسكي في ذلك الأمر بركي عمر وأسكي بكر وبكر بن الفك وغيرهم مما لا يحصى.
وهذه الفتنة هي أول خسارتهم وهلاكهم وفناءهم قبل مجيء جيش مولاي أحمد الذهبي، وهي سبب خرابة بلد تندرم. وكل من خرج منها مع كنفار صالح لم يرجع منهم إلا قليل من أسافلهم.
وكان أسكي إسحاق كريماً سماحاً جواداً جميل الوجه، بلغ غاية في التصدق والعطاء. وكان محباً للعلماء مكرماً لهم. ومن إكرامه إياهم وعند مبالاته بالمال ما ذكرنا شيخي الفقيه محمود بن محمد أنه كان جالساً عشية يوم السبت بحذاء مسجد كاع، إلى أن وفد إليه وفد قليل من أرض بر يريدون أن يعطوه أنفسهم. فسألهم أسكي إسحاق من أين قدموا. فقالوا: بلد أنكند. فقال: فما أسماؤكم؟ قال كبيرهم: أما أنا فاسمي حمد بن بكر، وأما هذه المرأة، وأشار إلى امرأة من نسائهم، فهي زوجتي اسمها سون بنت سر. وأما صاحبي هذا فاسمه حمد بن جنك كو، وأما زوجته هذه، فهي أختي اسمها بنا بنت تـي. وأما ثالثنا فاسمه صالح بن بت. ثم قال لهم أسكي: من أي قبيلة أنتم؟ فقال كبيرهم: وأما أنا فمن سنغي، وأما هذا فمن زنج بكبير، وأما هذا فمن جم كري. قال وندع: صدقت ولكن أمه زنجية من زناجة أنكند.
ثم التفت أسكي إلى الجالسين حوله وقال لهم: هل تعرفونهم؟ أما كان أنكند ملكاً للشريف ابن القاسم. فقالوا: بلى. وقال: فهل بقي باقية سنغي في أنكند؟ فقالوا: لا، أفناهم قتال شي عال، وإنما هذا الكذاب غاصب لنفسه من الشريف ابن القاسم. ثم التفت إلى حمد جنك وقال له: ما حملك يا هذا على مناكحة أهل أنكند؟ أما كان الجد أسكي الحاج محمد رحمه الله شرط عليهم ومنعهم عن مناكخة غيرهم، وهل ما سمعت ذلك؟ قال: بلى، قد سمعت، تمل تمل. فقال لهم/ أنتم عاصون لله ورسوله. ثم أمر بأخذهم وسجنهم وثقفهم في الحديد إلى الصباح. ثم أمر بإطلاقهم وردهم إلى مالكهم.
ومن كرمه وجوده أنه أفاض على أهل سنغي كلهم سيبه وجوده، ويعطي ولا يبالي. وذكر عن أسكي الفع بكر بن لنبار كاتبهم أنه لما تولى ودخل في دار المملكة وبات فيها أول ليلة ملكه أمر بخصي هنالك الذي كان عنده أثواب أسكي، وبيده مفتاح بيت لباسه. ونودي بحضرة أسكي الفع بكر المذكور، وأمره رإخراج الأثواب جميعاً. وأخرج إليه سبعين شكارة من جلود النمر، في كل واحدة منها ثلاثون ثوباً من كتان دب والحرير والملف، وكل مع قميصه السراويل الكبيرة وعمامة. وأمر ذلك الخصي الخازن أن يعد الشكارات، وعدها واحداً بعد واحد إلى عشرة. فإذا بلغ العاشر، أمره بنعزاله وإخراجه من جملتهم، إلى سبعين. وجاءت عشره، سبع شكارات، وأعطاها لأسكي الفع المذكور، وقال: هذا زكاتهم، خذها موهوباً لله تعالى.
فلما تمت من مدة ملكه سبعة أيام أطلع محمود ابن أسكي إسماعيل وجعله كنفار. وأطلع أخاه مارنف محمد كاع وجعله بلمع.
ومما يؤثر من كرم أسكي إسحاق وجوده أنه قال في مجلسه يوماً، وهو يوم عيد الفطر وسنغي كله حاضرون، وأعيان بلد كاع وخاصتها وعامتها، وقال لترجمانه وندع: قل لهذه الجماعة: هل بقي أحد من أهل كاع من لم يدخل يده إعطائي؟ فليقم ويذكر ذلك فنعطيه الآن. فقالها وندع، وهو قائم على رجليه ينادي به ويكرره، ولم يخرج منهم أحد يذكر أنه لم يصله منحه. وشاع ذلك القول في البلد، وكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، ولم يقل أحد أنه لم ير خيره ولا وصله إعطاؤه في ذلك. وكفى بهذا كرماً وحلماً وجوجاً وسعة ملكه وكثرة ذات يده. فانظر كاع وعظمها وكثرة سكانها. وقد حكى لي الشيخ محمد بن علي درام أن أناساً من أهل السودان تجادلوا مع أناس من أهل كاع. وقال السودانيون: كَنوا أعظم من كاع وأكبر منها. وبلغوا في أمر ذلك وجداله نهاية وغاية، وذلك في مدة سلطنة أسكي الحاج. ودخل أولاد تنبكت المرجفون وبعض أهل كاع، وأخذوا ورقة ودواة وقلماً، ودخلوا بلد كاع، وابتدأوا من أول بيت بمغربها يعدون القصور ويزممونها واحداً بعد واحد إلى ثلاث أيام، دار فلان ودار فلان إلى انتهاء بنيان البلد من المشرق. فجاءت سبعة آلاف دار وستمائة وست وعشرون غير بيوت مبنيات بالحشيش. وحسبك هذا من كرمه، وكيف يمكن من تعميم هؤلاء بالعطاء في شهر واحد إلا بالقوة العظيمة.
ومكث في السلطنة ثلاث سنين. وفي أيامه ظهر النقص بدولتهم وتبين فيه القلق والاضطراب. ثم نزل عليه جيوش أمير المؤمنين مولاي أحمد الذهبي. وقدم عليه مملوكه الباشا جودر مع ثلاثة آلاف من الرماة هذا، ما قاله صاحب درر الحسان، باب كور بن الحاج محمد بن الحاج الأمين كانوا. وقيل أربعة آلاف.
وتحركت المحلة وقامت وخرجت من بلد مراكش آخر ذي الحجة من آخر الثامن التسعين بعد تسمعماشة، وقدموا كاع في أول جمادي الأولى سنة تسع وتسعين بعد تسعمائة يوم الجمعة لخمس منه. وملاقاتهم مع أسكي إسحاق كان يوم الثلاثاء في موضع يسمى سنكي، قريباً من تندبي، وهو موضع معروف. وكان مع طراد الأيمن، وهو بند الأعلوج، خمسمائة صباحية مع كاهيتهم. ومع طراد الأيسر، بند الأندلس، خمسمائة صباحية مع كاهيتهم. فلما تقابل الجيشان حمل عليهم أصحاب الصباحية من اليمين والشمال وتلقاهم فرسان سنغي وتخالطا. وقتلوا من سنغي تلك أربعة وثلاثين، وطعن أهل سنغي منهم ثلاثة عشر، وسقط منهم خمسة. وغشي القوم الرهج والدخان، وألقى الله الرعب والخوف في أهل سنغي.
سمعت ممن أثق به يحكيه عن من حضر هنالك يومئذ، فقال أن أسكي لقيهم بثمانية عشر ألف فارس مقاتل، فيهم كنفار وبلمع وبنكفرم وجنودهم، وتسعة آلاف راجل وسبعمائة، منهم انثي عشر سونة بعصيهم.
فلما دنى منهم رجلية الرماة جثوا على ركبتهم يرمون بالرصاص. وقد ساق ألف بقرات معه حين صف قتالهم، وجعلها بينه وبين القوم، وينزل عليهم الرصاص ويتبع رجاله البقرات حتى تخالطوا بهم. فلما أحس البقرات بأصوات مدافعهم ولوا على أصحاب أسكي حازمين متحيرين، وصدم منهم كثيراً ومات أكثرهم.
وعند ذلك نزل أسكي الفع بكر لنبار وأخذ بلجام أسكي وقال له: اتق الله يا أسكي. فقال له: كأنك تأمرنا بالهروب والهزيمة، فحاشى، فلست ممن يولي ظهره. ومن أراد أن يفر بروحه فليهرب. وولد بان يمسك بركابه، وقد علق بسيفه وترسه يريد وسط القوم، ودار بهم خيول الرماة وأرادوا أن يحاطوا بهم. ثم قال أسكي الفع المذكور: اتق الله ولا تقتل نفسك وتقتل إخوانك وتهلك سنغي كلها مرة واحدة في موضع واحد، ومن هلك هنا اليوم يحاسبك الله بأرواحهم لأنك سبب هلاكهم إن لم تهرب بهم. ولا نأمرك بالهروب وإنما نقول لك أن تخرج بهم من مقابلة هذه النار اليوم، ثم ننظر في الرأي ما نفعل ونرجع إليهم غداً بعزم وحزم إن شاء الله. فاتق الله.
وهو ومن معه من شجعانه ورؤساء قومه يأبون إلا القتال والهجوم فيهم والمخالطة معهم، ويموت من ثم أجله، وينجو من لم يقرب أجله. ثم لم يزل أسكي الفع به حتى غلبه وبيده عنان فرس أسكي يقوده ويهربه. فلما رأى أصحاب أسكي أنه أدبر وتولى لم يقف بعده أحد منهم بل اتبعوه، سوى الذين يقال لهم سونة، وهم تسعة وتسعون لم يتحرك أحد منهم وبقوا جالسين تحت تروسهم، وأدركهم أصحاب جودر قاعدين وقتلوهم أجمعين.
وحين أبصرهم أصحاب جودر يتهيئون للهروب وعرفوا ما حاق بهم من الرعب والاضطراب وقفوا وصاحوا ورفعوا عقيرتهم بلا إله إلا الله اشكروا الله الدائم الدوم.
وأشجع أهل سنغي يومئذ وأجرأهم وأقواهم قلباً بلمع محمد كاع بن أسكي داوود، وعمر بن أسكي إسحاق بن أسكي محمد، وكري فرم علو بن دندفار بكر بن سيلي، وباريكي تبكل الخصي. وما زالوا بعد هروب القوم يرمون أنفسهم في المهالك ويدخلون ويخرجون ويحمون وراء قوم أسكي ويدافعون عنه ما أراد لحوقهم، والرصاص يطير على رؤوسهم ويضرب الناس أمامهم ووراءهم ويمينهم وشمالهم حتى خرجوا سالمين.
وهو يحسبون أن الرماة يتبعونهم، بل نزلوا هنالك وما جاوزوها، ونصبوا خباءهم وضربوا العطن بها. ورجع أسكي إسحاق حتى دخل مدينة كاع مهزومين. واجتمع به قومه كأنه لم يمت أحد منهم. ودخل في أهل كاع في تلك الليلة مصيبة وكرب ولبلاء ضاق بهم درعهم، لا مقعد ولا مفر.
وفي تلك الحالة أرسل الأمير مولاي أحمد الذهبي رسولاً إلى أخيه الشريف محمد بن القاسم يأمره بالرحلة من تلك الأرض، إذ لايليق بأمثاله الجلوس بأرض القتن. فأرسل هو إلى جميع عبيده الزناجية الذي بكوي وكان له هنالك يومئذ سبعون بيتاً، وإلى الذين بكين وهو يومئذ أربعون بيتاً وغلة كل بيت ثلاثة آلاف كل عام، وإلى الذين بطوتل وهم يومئذ خمسة وستون بيتاً وغلتهم بعد كل ثلاثة أشهر أن يعطي كل بيت حزمة من الحيتان اليابسات، والذين بكوم وهم يومئذ اثنان وسبعون بيتاً و غلتهم في كل عالم أن يصلح بعضهم سفناً وغلة باقيهم العاج، والذين بأنكند وهم يومئذ ثلاثون بيتاً غلة كل أحد منهم كل عام حزمة من يابس الحيتان، والذين بدمب وهم يومئذ عشرون بيتاً وليس عليهم غلة إلا ملاحة السفن.
فلما قدموا إليه أمرهم بالرحلة جميعاً. فاستشفعوا بأعيان ذلك البلد، فقبل شفاعتهم فيهم كلهم إلا أهل أنكند. فقال: يا أهل أنكند إني أحب أن ترحلوا من مكانتكم لأن ذلك المكان جزيرة ضيقة بالماء، وفيه مردة الجن والشياطين. ومع ذلك كله لم يرضوا بتلك الرحلة، وقال لهم الشريف: اذهبو فلعل الله أن يريكم ذلك بغير هلاك. فكان كما قال رحمه الل،ه كل من ولد بذلك البلد فإنه يكون مجنواً، والعياذ بالله.
وكان أسكي يوم عزم على الخروج لملاقاة جودر وقتالهم جمع أشياخ كاع وأعنان جيشه والقاضي الخطيب وكبراء شهوده، وسألهم عن الرأي والتدبير. وحضر هنالك بعض علماء تنبك، وأشار له بلمع محمد كاع: أني أرى من الرأي أن تقطع لي مائة فارس ومائة عبد ونصعد ونعور كل بئر كان لهم في الطريق وندفنه. ثم نرجع ونقوم للقاءهم، تجدهم طماءنين قد أشرفوا على الهلاك، ونقع عليهم. هذا هو الرأي. وصوبه بعضهم وأبى عليه البعض. وكل من ذكر ما عنده ردوه.
وقال العالم التنبكتي: وأحسن ما رأيك وأقول به وأظنه هو أصوب أن تأمر أهل هذه المدينة بالانتقال والارتحال إلى وراء هذا البحر وتبقى أنت وجيشك هنا. وإن جاء وأنت على بصيرتك إن غلبتهم فالحمد لله، وإن غلبوك فاخرحج إلى المغرب فتحمل من كان هنالك يتبعك منهم أكثر من مائة ألف وتقبلهم بهم، وأنت في وسع وأهلك وأولادك ومالك في وراء البحر مكان المنع حتى ينصرك الله عليهم.
وكاد أن يميل إلى قوله، وقام سع فرم وقال: تمل تمل أصلح الله أمرك، الفقهاء لا يعرفون أمور الحرب ولا يعرفون إلا الكتاب واقراءة. فكيف يمكن ترحيل كاع بعظمها وكثرة سكانها؟ أين السفن يحملهم إلى وراء البحر؟ لا يتفق ذلك إلا بعد ثلاثة أشهر. وقام كيمكي داوود بن إسحاق وقال: فكيف لا؟ يمكن في ثلاثة أيام، بل يمكن فيه بلا شك. والذي عندي لأسكي من قوارب كنت التي هي سفن السفر والسير أربعمائة كنت، يحملون دار أسكي وأمتعته ونساءه وبضاعاته وماله ثلاثة أيام. وأما غير كنت من السفن الكبار من مماليك أسكي من كيم إلى كدي تكون ألف سفينة، ما عدى سفن التجار وسفن بنات أسكي وسفن سكان البلد ومن السفن الصغار الكائنين هنالك، يبلغ عددها ستمائة أو سبمعمائة على ظني، بل لم أر الرأي أحسن من رأي هذا الفقيه، فلا تعرضوا عنه.
فقال ذلك الفقيه: إن عرضوا عن رأي هذه ونبذوه سيأتيهم يوم عبوس، ترى امرأة تأخذ بيد ولدها وبيدها طست مليء من الذهب، تطلب من يحملها وأولادها بتلك الذهب ويرميها وراء البحر، ولا تجد من يحملها.
فكان ذلك يوم رجع اليهم أسكي من قتالهم هازماً، ترى امرأة وبيدها طست مليء من ذهب وغيره تنادي صاحب سفينة باكية: احملني ولك هذا، ولا تجد من يلفت إليها.
وأخبرني الشيخ محمد زغيت حفيد الخطيب محمد زغيت: إن هذا الفقيه المشار إليه الذي أمر بانتقال أهل كاع إلى وراء البحر هو الفع كعت. فلما أرض القوم عن استعمال رأيه، بكر في غده قافلاً إلى بلده، وزوده أسكي مائة ألف ودعاً وعشر خدام. ومشى بعد ما لح أسكي عليه أن يصبر حتى يرجع من قتال القوم. فلم يرض، وأدركه الخبر بهزيمة جيش أسكي ببلد كنت. وذكر الشيخ محمد زغيت أنه أتاه في بكرة ذاك اليوم وقال: لي يا محمد لو أخذ أسكي بقولي لا يكون عليه مثل هذه الخسارة. ثم بكي وحوقل واسترجع.
ورأيت بخط الفقيه الإمام أبي بكر سن بن عمر أن القتال بين أسكي إسحاق وأهل مراكش في سنكي في طرف تندبي ضحى الثلاثاء سادس عشر جمادي الأولى عام تسع ونسعين وتسعماشة، قائلاً من خط القاضي محمود بن الحاج المتوكل كعت رحمه الله أن أول القتال والمضاربة بينهما كان في سنكي وهو أول المواضع الثلاثة الذي تضاربا فيها. والذي في حفظي قبل، سنكي هو مكان المضاربة الثانية التي وقع عليهم بالليل.
ولما فسد أمر سنغي وشتت الله شملهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون بتضييع حقوق الله وظلم العباد والتكبر وشموخ الأنف، وكانت بلد كاع في أيام إسحاق في غاية الفسق وإظهار الكبائر والمنكرات وفشو القاذورات، حتى اتخذوا الزنات رئيساً، وصنعوا له طبلاً ويتحاكمون فيها، وغير ذلك مما يعيب به ذاكره والمحمدث به ذو المروات. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم هرب أسكي إسحاق إلى أن نزل بمكان يقال له برهة، وأراد أن يتوجه إلى دند. فخالفه قومع. ورجع وقطع البحر ومعه جيشه، إلى أن نزل بمكان يقال له برهة. وأخرج ألف فارس وأمر عليهم أخاه بلمع محمد كاع، وأمرهم بالوقوع على جيش جودر.
فلما خرجوا من عنده بيوم وليلة عزلوا أسكي إسحاق، وطلّعوا محمد كاع وجعلوه سلطان سنغي. وتسلطن ومكث هنالك.
ولما وصل الخبر إلى أسكي إسحاق بأنهم عزلوه وطلعوا محمد كاع، خرج متوجهاً نحو كرم، ومعه شرذمة قليلة من أحبائه، منهم ولد بعن. وحمل من مال السلطنة الذي كان معه هنالك من الذهب والفضة كثيراً. واختار من أفراس السلطنة ثلاثين فرساً مختارين ما بين بر والحمدية تقاد معه، وأربعين عبداً من الخصيان، والعلامات، وهن اثنا عشر بند السلطنة وطبل السلطنة وسيف أسكي محمد الذي أتى به من حجه. وقد قدمنا أصله وما قيل فيه واختلاف أقاويل الناس فيمن صار بيده من الأساكي.
فلما خرج هارباً شيعه من معه هنالك من أهل جنده حتى بعدوا معه. فلما أرادوا الانصراف والرجوع نزلوا على أفراسهم يتباكون على ذهابه وودعوه. ثم قال له هيكي: يا أسكي إنك تذهب بمال أسكي الجديد وتذهب بأشياء لم يذهب به ملك عزل أو طرد قبلك من الأساكي، ونحن مسؤولون به ومعاقبون على ذلك ممن يتولى بعدك. فقال: وما هي؟ قال: هؤلاء البنود. فقال: صدقت، وردها. ثم قال: هل بقي عندي شيء؟ فقال: هؤلاء الخيول، وهم خيول سرج أسكي. فرد منها خمسة عشر، وأمسك خمسة عشر. ثم قال: فما تريد بعد ذلك؟ فقال: هذا دنتور، فردها. ثم سأله: هل بقي شيء؟ فقال: ولدك البرك، فلا لك أن يذهب به، ولم يكن ذلك عادة، لأن كل من عزل إذا هرب فلا يهرب بولده، بل يتركه لأنه ملك السلطان الذي يتولى بعده، وهو ولده. فقال له أسكي إسحاق: هذا الذي تذكره ما خفي علي، ولا أجهل أن أسكي المعزول لا يذهب بولده، وذلك إذا كان لا يتولى بعده إلا أحد أولاد أبيه فيبقى عنده وهو ولده، واليوم لا يتولى بعدي إلا جودر، ولا أترك ولدي له ليملكه أو يبيعه، وإن طلبت أن تغصب منه ولدي وتعطيه لجودر فقد رمت شططاً. إما إن تقتلني أو أقتلك.
فسكت هيكي ثم قال: فهذه خاتم أسكي محمد وسيفه وعمامته. فقال: أما الخاتم لا يصيبه إلا من كسر أصبعي، وكذلك تلك العمامة لا ينالها إلا من قطع رأسي، والسيف سيفي، فليس بسيف أسكي. واصرف وانصرفوا.
ومضى إلى كرم، وقصد مدينة بلنك التي هي دار ممكلة سلطان كرم حتى نزل بخارج المدينة، وأرسل إلى سلطان البلد بمكانه وحاله وما جرى عليه وأنه قصد حرمته. وكان إسحاق حاربهم مرتين وغار عليهم وقت سلطنته، وقتل من جنده أكثر رجالهم حتى كاد أن يستأصلهم. ثم ساقه قدر الله وقضاؤه إليهم، فرحوا بإدراك ثأرهم منه.
وخرج سلطان البلد إليه في جم غفير وتلقاه بالترحيب والتعظيم، وهم كفار، وساقهم إلى وسط البلد وأنزلوهم في دار واسع هنالك، وأضافوهم ضيافة عظيمة في تلك الليلة. ثم رجعوا إليهم وقت السحر نائمون وصعدوا فوق تلك الدار بالنشاب عليهم، وصاحوا عليهم. وما أيقظهم إلا نزول النشاب عليهم كالمطر. وهدموا بعض جدار البيت عليهم وقتلوه، وقتل ولد بعن معه وجميع أتباعه.
وقيل لما نزل النبل على إسحاق وأخذ يتمضمض لسانه، أتاه ولد بان ووقف عليه، وكان ولد بعن علق السكين على سراوله، سل ذلك السكين وقال: آليت وحلفت لأسكي إسحاق إن أتاه الموت وأنا حاضر إلا أن أموت له قبله. ثم أخد حلقومه بيده وذبح نفسه وسقط ومات قبل موت إسحاق. وهذا ما نقلته من كسردنك بكار، حدثني ببعض القصة، وحدثني به غيره ممن أثق بروايته.
الباب الخامس عشر
أسكي محمد كاع وانقراض دولة كاعفلما تسلطن أسكي محمد كاع بعث رسولاً إلى جودر سراً يطلب المصالحة معه وبدخوله في طاعة السلطان مولاي أحمد الذهبي ويعطيه الجزية والغرامة. وأجابه جودر وكتب له أنه عبد مأمور لا يقدر أن يفعل ذلك إلا بمشاورة السلطان مولاي أحمد نصره الله واستئذانه.
وبعد هروب إسحاق دخل الباشا جودر وجيشه في وسط كاع ومكث فيها خمسة عشر يوماً. ثم ارتحلوا في اليوم... من جمادي الآخرة وقصدوا بلدة تنبكت حرسها الله، وقدموا صبحة الخميس في اليوم الأول من رجب، ومكثوا على ربوة تنبكت شهراً. ثم دخلوا ديار البلد وبنوا القصبة.
وفي درر الحسان لباب كور بن الحاج محمد بن الحاج الأمين كانوا أنهم نزلوا بخارج بدينة تنبكت في الجانب الشرقي صبيحة الخميس غرة رجب عام تسعة وتسعين. وتسعمائة فتلقاهم أعيان البلد بالترحيب، وأطاعوه في البيعة وضيفوه. ثم دبر في تحصيل القصبة داخل المدينة فحصلها. ثم دخلها بجنده انتهى.
وروي أن جودراً أتى إلى الفقيه القاضي عمر بن محمود، ودخل عليه وقبل رأسه ورجليه وجلس تجاهه متملقاً وقال: جئتك أطلب منك أن تستعير لنا داراً نسكن فيها، وقد قربت وقت المطر، ومعنا بارود السلان مولاي أحمد الله ينصره، داراً أو رحبة واسعة فنبني بها قصبتنا وندخل فيها، إلى أن يأتيني أمر السلطان بالرجوع إليه، فنرجع فنتركه لمواليه. فأطرق القاضي ملياً، ثم قال: إني لست بملك ولا أقدر على إعطاء دار أحد، فادخل داري فانظرها، إن كان مرادك فيها فنخرج منها وتدخلون فيها كرامة وطاعة للسلطان نصره الله، وإلا فادخل في البلد وانظر أي المواضع منه أحب إليك ويوسعك وقومك فافعل.
ثم خرج وطاف في البلد ومعه نفر من قومه، حتى وصل إلى موضع هذه القصبة، وألقاها معمراً، بل هو أعمر ديار تنبكت، وفيها بيون التجار الكبار والأعيان، وفيها هذاالمسجد الذي يقال له مسجد خالد. ودار تباشات هذه هي طرف دار تاجر اسمه الحاج أكرجوم، وهذي الهرى هي دار تاجر كذلك يسمى سن سمووع، معناها سن لا يأكل الأرز.
وطافوا بذلك المكان وقلبوه وعجبهم وقطعوا منه مقدار هذه القصبة. ثم أمروا أرباب تلكم الديار بالانتقال والرحلة والخروج. ولا دار هنالك إلا وهي مملوة بالمال العظيم من الملح والصنيات وغيرهما مما لا يدخل تحت حصر ولا يعلمها إلا مالكها. واشتكى أهل المكان إلى القاضي عمر رحمه الله أن يستشفعون به ليطلب من جودر التاأخير لهم حتى يطلبوا من البلط بيوتاً ينتقلون فيها.
فأرسل القاضي خديمه أشرع منذ عمر ليكلمه ويصبر لهم في ذلك. وركب هو بنفسه مع نفر معه وأتى القاضي وقال: سمعاً وطاعة لأمرك، ولكن إلى كم من الأيام؟ فقال الشهر، وإن منهم من يكون الشهر في انتقاله قليلاً. فقال: لا نقدر على صبر شهر، وقد ضاقت علينا الوقت، بل نصبر خمسة عشر يوماً، فيبادرون بالخروج. ثم خرج، فأخبر القاضي أولائك القوم بما قال.
وشرعو يصبحون ويمسون فيطلب الديار، ويخرجون ما قدروا على حمله. فما راعهم في صبح اليوم السابع إلا وهم نازلون لبابهم بحمولهم وخيولهم، وهجموا عليهم بالكلام الفبيح والانتهار والضرب، وأخرجوه بالرغم والقهر وقسموا ديارهم، وهم داخلون وأربابهم خارجون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبقي جل أموالهم هنالك في ديارهم. ثم بعد خروجهم ما استطاع أحد أن يرجع إلى حمل ما بقي له. وشرعوا في تلفيق الديار والطرق وهدم بعض الديار. ولا فتنة أعظم ولا أكبر على أهل تنبكت ولا أمرّ منه.
نادى الباشا جودر علماء تنبكت وتجارها ووظف عليهم العبيد والخدام لبنائها، ونفقة العبيد منهم من كتب عليه عشرة عبد. ومنهم من وظف عليه سبعة وخمسة عشر وثلاثة عبد. وزمموا على كل منهم عدد من يأتي به وأسماءه. ويخدمون إلى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر ينادي أين شواش، ويأتيه منهم أكثر من أربعين شاوشاً، ويأمرهم بسوق كل عبد إلى مولاه، ويقول: قل لأربابهم أن يعشاهم حتى يشبعو ويبكروا بهم ويكون مع كل أحد منهم غذاه، بحيث لا يطلع شمس على أحد إلا وهو عندنا. ويشيعونهم الشواش إلى سيدهم ويعدهم له، ويجعل أيديهم في يد السيد. ويبكرون بهم قبل طلوع الشمس، ومعهم نفقتهم، حتى يقفون بهم عليه، وبعدونهم له واحداً بعد واحد. ومع هذا كله شواشهم يطوفون في البلد، وكل من التقوا بهم قبضوهم وساقوهم إلى حمل طين البناء من الصبح إلى العشي، حتى تم البناء انتهى.
وأخبرني بعض شيوخ تنبكت حرسها الله أن الباشا جودر قطعب علىتجار تنبكت وقت البناء ألفاً ومائتين صنية عند استهلال كل شهر، يأتون بها في غده، ويفرقها على جنده تفرقة المؤنة. والمخبر المذكور أظنه المعلم بض الخياط مولى زين بن بنأ انتهى.
باقتصار ولا يحاط باطراد من نزلت بتنبكت من المصائب والاتلاف عند نزولهم بها، ولا يحصروا مما أحدثوه فيها من الزور والكبيرة، وقطع أشجارها ليستعملوها سفينة. وبعد صنع ذلك أمروا بجري تلك السفينة من تنبكت إلى البحر انتهى.
فلما تمت بناء تلك القصبة، وارتحل بجيشه كله إليها. فما لبث إلا قليلاً حتى نزل عليه الباشا محمود بن علي بن زرقون في نفر قليل، فارتحل مع جودر بجنودهما إلى كاع، وقاتلوا أهل سنغي وفتحوا بلادهم، وقبضوا على أولاد السلاطين منهم. وهرب عامتهم إلى بلاد دند، فسكنوها إلى هلم جراً. ونزل الباشا جودر في مدينة كاع ببعض الجند، ونزل محمود بالبعض في تنش، وضربوا العطن فيه.
وأرسل أسكي محمد كاع إليه، وهو نازل بجنده في مكان يسمى برهة كما تقدم، يروم عقد الصلح بينه وبينهم. ورضي محمود، وتغفل بالغرور، وفرح برسله وأعطاهم الهدايا، وكتب إلى محمد كاع بأنه على ذلك الصلح، وأمره أن يأتيه بنفسه حتى ينظران ما هو الرأي وما يعقدان الصلح عليه.
فبعث أسكي محمد كاع إليه أسكي الفع بكر لنبار وهيكي. ومتى وصلا إليه، لقيهما بالترحيب والتعظيم، وضرب لهما الفسطاط، وبسط لهما الفرش وضيفهما. ومكثا عنده ثلاثة أيام. ثم كساهما بأحسن الكسوة والهدايا، وبعث لأسكي ما بعث، وكتب له يأمره بالمجيئة بنفسه، وحلف له بالأمانة التامة، وأمره بالتعجيل والإسراع بالقدوم، وأنه لا ينتظر إلا قدومه، وأنه مستعجل يريد الرجوع. ورجعا إلى أسكي بكتاب الباشا محمود. وقرأه، وحثه أسكي الفق على الذهاب وحضه عليه، وأنه يغدره وغره بأن الباشا حلف بالمصحف بأنه ليس له عنده إلا أمانة الله. قيل أنه أطلع أسكي الفع على جميع أسراره وجعله حبيباً وخليلاً، وباع له أسكي محمد كاع، ووعده له بأمور أن يتسبب لإتيان أسكي إليه.
وبعد سبعة أياام بعد قدوم أسكي الفع من عند محمود جمع أسكي أهل سنغي وشاورهم وأعلمهم بأنه ذاهب غداً إلى مجيبة الباشا محمود. وما فاه أحد منهم بكلمة لا ولا معم. ثم قال له هيكي: أنت ما رأيت محمود وما عرفته، وما رآه إلا أنا وأسكي الفع، وإنا ما نظن معه إلا الشر، وما ترك لنا من التعظيم والتملق شيئاً، وإنه كان يقبّل رأسنا ويحمل لنا المأكول بنفسه ويخدمنا ويأتينا بالماء ويقف بها على رؤوسنا حتى نفرغ من الأكل. وحين رأيت ذلك تحققت أن له مراداً إياك إياك تم إياك. فلا تذهب، فإن خالفت وذهبت والله لا ترجع أبداً. هذا ما ذكرت لك.
فالتفت إلى أسكي الفع فقال: ما تقول أنت يا الفقيه؟ فقال: والله ما نرجو فيه أنا إلا خيراً ووفاء. وسكت أسكي. وانصرف كل من الجماعة إلى منزله.
فلما أصبح ضرب طبله وركب مع من معه وأسكي الفع، وكان أخوه أسكي سليمان وطائفة من قومه هربوا منه إلى المحلة ودخلوا على محمود وأطاعوه ونزلوا عنده في المحلة، وأعطاه الخباء. وأسكي محمد كاع لا يشعر بذلك، فسار محمد كاع وجيشه كله متزيناً بأنواع اللباس حتى وصل اثناء الطريق، وكان معه كنفار محمود بن أسكي إسماعيل وبنكفرم تمن درفن، لحقه كنفار محمود ونزل عن فرسه وقال: اسمع وصيتي ووعظي واتبع قولي، فإني لك ناصح أمين. فقال له بما ذا توصيني وتعظ وتنصح؟ فقال: إن كنت عزمت على الذهاب وحملك الجراءة عليه، فاذهب أنت، وحدك ويتبعك أربعون فارساً. وإن رجعت فلله الحمد، فقد رأيت من محمود ما رأيت. فإن قبضك فذلك قضاء الله وقدره. وإن شئت فاجلس أنت وأذهب أنا وكافة كرمن، فان قبضونا فذاك قسميتنا، وتسلم أنت وتنجو أنت ومن معك، فهو خير من ذهابنا كلنا صغيرنا وكبيرنا، ونصل في أيدي العدي ويستأصلونا، فنفنا مرة واحدة في موضع واحد. فنصير أثراً بعد عين. فهذا قولي.
فالتفت إلى كاتبه أسكي الفع المذكور فقال له: ما تقول أنت؟ فإني أظن أن قوله هذا صواباً. فقال أسكي الفع بكر: لا تسألني، فانظر في رأيك، فقد كثر الكلام في حل وربط، وذلك لا يليق بالسلطنة.
فوقف قليلاً، ثم مضى على وجهه، وقد سبق من أمر الله ما سبق. وركب كنفار محمود وتبعه وساروا. فلم يكن إلا قليلاً حتى تلقوا بالقائد الحروشي، ومعه ثلاثون خيلاً من أصحاب صباحية. فلما التقوا بهم حمل عليهم القائد الحروشي وأصحابه ودفعوا عليهم بمكان حلتهم وضربوا عليهم. ثم نزلوا على الأرض، وبايعوا أسكي وتبندقوا له قائلين: بسمل بسمل يا أسكي محمد، الفرح بك، يسلم عليك الباشا. ثم ركبوا، ودفع عليهم بعض أولاد أسكي اللاعبين بهم كذلك. ثم كر الحروشي وقومه راجعين إلى محلتهم.
وركب كنفار محمود يهرول حتى وصل أسكي، ونزل على الأرض وقال: يا أسكي ليس الخبر كالمعاينة، فاعلم أن هؤلاء الفرسان ما جاءوا إلا للتجسس، فإن كنا لا تحب لنا الموت والفناء فقد رضينا بأنا لا نهرب، فدعنا ندفع على هؤلاء الفرسان ونقتلهم ونمر إلى محلتهم ونقع عليهم، لأنهم إذا رأوانا يظنوننا فرسانهم أصحاب الحروشي، حتى نختلط بهم. ومن يموت فليمت على متن فرسه، وهو أحسن من دخولنا في أيديهم هكذا ونحصل بحيث لا رجوع لنا. فقال أسكي: حاشى ما نبتدأ بالخيانة والخداعة ونقض العهد بعد إبرامه. ومضى فلم يقف، وتبعه كنفار محمود حتى عثروا على المحلة وطلعوا عليهم وعلى خباياتهم الكبيرة.
وحين وصلهم الحروشي وبلغ إليهم وأخبرهم بمجيئهم، دخلوا في الخزامة وصفوا باليمين والشمال، وما منهم أحد إلا واقف مسند على مكحلته ممتلئ الفم بالرصاص. وحين وصل أسكي وقومه، خرج محمود والقائد مامي ماشينن على رجلهم مسرعين. ونزل أسكي محمد، وعانقه محمود والعائد مامي والكبراء كافة ورحب بهم، وأخذ بيده وساقاه إلى خبايا وأجلساه على مرتبتهما بين نمرقته أو جلس تحته.
وحياه الجيش كافة اثنين اثنين يأتيان ويتبندقان له السلام ورحمة الله. وأصحاب الشغل والرباب والنزوا والغياط جالسين وراءهم تحت خباياه يشتغلون. ولم يبق أحد من أصحاب أسكي إلا نزل عن فرسه ودخل في حلقتهم، وجلسوا مدهوشين من حيث رأوا قوماً وجوهم لا يشبه وجوههم بعدّ غفيرهم وزيهم الرقطى، وقد دخلهم الوجل والرعب والخوف.
وأمر محمود ومن معه من سلسلة وأهل الدائرة وحلوا غرائر التمر والزبيب والكور، وفي أيدي بعضهم طيفور، وبعضهم في أيديهم المناديل، يتبعون صفوف أصحاب أسكي، ويناولهم. ثم أخرجوا إليهم الموائد واللحوم المشويات، وأكلوا. وبعضهم واقفون على رؤوسهم بالماء في طست، ومنهم من يناولهم الماء بعد الفراغ من الأكل، ومنهم من يحمل الماء لغسل الأيدي، والمناديل يمسحون أيديهم فيها.
ثم قام محمود ودخل تحت خباء كبيرة مضروبة وراء الخبايا التي تجمع فيها. ثم أمر بالقائد مامي ونودي وخرج إليه وقال: ما تقول في هؤلاء القوم؟ وقد جاءونا بأمانة الله، دعوناهم فأجابونا طائعين، وما كان مع أحد منهم سلاح. فالذي كان عندي أن نتركهم اليوم ويرجعون، وهم قوم حمقاء لا يعرفون الشر، ومتى أردناهم ما نريد يأتون، ويأتونا إن دعوناهم، فما تقول أنت؟ وقال مامي: نادوا الكواهي والباشوطات، وجاءوا. وقال مامي لمحمود: أعد عليهم كلامك التي قلت في هؤلاء القوم. وأعاده عليهم. وقالوا كلهم لمامي ايش قلت أنت يا القائد؟ ومولانا أحمد نصره الله ما أرسلك معنا إلا للحرب والرأي والمكية. فقال: الله ينصر السلطان، ما بعثني إلا لذلك، ولاكن يا الباشا الله يقويك ويعمل البركة فيك، كلامك هذا ما فيه بأس، ولاكن هذا الناس قد دهشوا وخافوا ودخل فيهم الرعب، وإن خرجوا في أيدينا اليوم لا يرجعون إلينا أبداً لما خامرهم من خوفنا، ولا يجيبون بعد هذا اليوم إن دعوناهم. ما جاء بهم غير سعادة السلطكان نصره الله. ومن دخل عدوه في يده فلا بد ضمان بقوته، فلا يتبع العاقل الأثر بعد العين، وإن فاتنا فيهم هذا اليوم لا نصيب مثله أبداً.
فقبل الباشا محمود يد القائد مامي وصوب رأيه. ثم قال القائد مامي: إن قبضناهم نشاور في أمرهم السلطان ونعلمه بحالهم. وإن أمر بإطلاقهم طلقناهم ولا نقتل واحداً منهم، وإن أمر بقتلهم قتلناهم. واتفقوا على رأيه.
ورجع القياد والكواهي والباشوطات إلى مكانهم من ذلك المجلس، وبقي هناك محمود ومامي، ونادوا شاوش باش وأمره أن ينادي أسكي وحده. وأتاه شاوش باش وقبل ركبتيه وقال: أحب الباشا. ونهض أسكي قائماً وحده وذهب إليه معه حتى دخل عليهما. وقاما له وأجلساه معهما، وأتوه بقميص الحرير، وأمره أن يخلع عمامته. فخلعها كأنهما ينزلان القميص في عنقه. ورموه على رأسه وكبوا عليه، وقبضوه وجعلوا طرف عمامته في عنقه، وأمسكه شاوش باش.
ثم أمر الباشا محمود أن ينادي الرماة ويصيح بهم: ما أينه ما أينه. وقلعوا أوتاد الخبايات اللواتي تحتهم أصحاب أسكي وكبت عليهم، وقبضوهم أجمعين. ثم نادى المنادي وقال: كرلي كبيس، ومعنى كرلي كبيس في اصطلاحهم على ما فسرها لنا الكاهية محمد بن المصطفى الهندي: من رفع يده فاتلوه. ثم أمروا بهدرباش على القوم الذي بقوا عند خيول أصحاب أسكي يمسكونهم من خدامهم وصبيانهم، وركبوا خيولهم وهربوا. وتبعهم فرسان الرماة وأدركوا بعضهم ولحقوا بهم، ونجوا بعضهم وانصرفوا.
ثم جاءوا بسلسلتهم الكبيرة الطويلة وجلعوا فيها أعناقهم، وهي سلسلة واحدة اشتمل الكل إلا أسكي وحده، ما وثقوه وما ربطوه وما مسوه بحديد، بل فرشوا له تحت خبيئة هنالك، وجعلوا عليه الحرس والحفظة. ثم ما قلع من أحد لباساً لا قميصاً ولا سروالاً ولا عماماة ولا قلنسوة، وجعلوا عليهم قوماً كثيراً يحرسونهم. وإن قام أحد منهم للبول قام الكل معه. لإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفرقوا بينهم وبين أسكي، ولا يعرف أسكي لهم الخبر، ولا يعرفون له خبراً، وأسكي سليمان في المحلة، ثم الباشا يخفيه.
بعد عشرة أيام أخرجوهم، وهم في تلك السلسلة، والعياذ بالله من غلبة الرجال وصولة الزمان، إلى سفينة هنالك. وفرشوا لهم فيها، وذبح لهم بقرات، وأدخلوا لحومها معهم، وزودوهم. فلما حصلوهم في تلك السفينة، أخرجوا أسكي وركبوه على برذون، ومحمود يمشي معه ويحدثه ويحمل معه عود الكور إلى أن وصله إلى السفينة، وأمر بفرش زربيتين والحيفة من الحرير والوسائد، وأنزله على فرسه، وأمر بحمله إلى الفراش تحت هنك، ووعدع وعانقه، وجلع عليهم شاوشاً واحداً يتبعهم ويخدمهم إلى أن يمكنهم بيد الباشا جودر، وهو في مدينة كاع.
وسار معهم، وإذا أصبح يأتي ذلك الشاوش إلى أسكي ويخرجه من السفينة إلى البر، ويأتيه بالوضوء ويصلي ويسلم على أصحابه، ويأتيه الشاوش بالفطور ويفطرون، ويقسم عليهم الكور. ومن القوم من ما أكل وما شرب منذ قبض إلا يسيراً يسد به الرمق. فلما كانوا في اثناء طريقهم بلغوا لأسكي رسالة إسحاق يوم يذهب بأن أمرهم أن يقولوا له: هذه المصيبة التي نزلت بنا تكون إن شاء الله أفضل من المصيبة التي سيأتيه. فلما بلغوا إليه الرسالة بكي.
ثم قال أصحابه له: فما رأيك، فلا بد أن نسألك بها. نحن بجماعتها يسوقنا شاوش واحد، وإن كنا في سلسلة إن شئنا نقتله وندبر في إخراج هذه السلسلة في أعناقنا ونهرب على أرجلنا. فما تقول أنت؟ فقال: ما وافقت رأيي ولا كان الصواب في فمي، فكل ما عملته من الرأي ما نفع منها واحد، ما تتبعوا قولي. وأما أنا إن سألتموني بهذا الرأي لا آمركم به، وأظنه لا يصلح، إن فعلتم ذلك وهربتم على أرجلكم أدركوكم فيفعلون بكم ما هو أقبح من هذا. فاصبروا، وما في ظني أن السلطان مولاي أحمد لعله إن سمع بخبرنا ودخولنا تحت طاعته طوعاً ومجيباً دعوته وإتياننا لقومه، عسى أن يأمر بإطلاقنا وتسريحنا. فتبعوا قوله وصوبوه.
ثم بكر عليه ذلك الشاوش يوم دخولهم في كاع، ومعه كبل، وقال لأسكي: هات برجلك وقد أمرنا الباشا بقيدك يوم دخولك في البلد. ومد رجليه إليه وكبله في حضرة قومه. وحينئذ كسر قلبه ويئس من نفسه وقطع رجاءه من النجاة. وحين رسوا في المرسى عشية يوم الثلاثاء بأكبالهم ولبوسهم، وهم ثلاثة وستون، ساقوهم موثقين في القيود والسلاسل من تنش إلى كاع، وسجنوهم هنالك نحو شهر. ثم حفروا في تلك الدار حباً عميقاً واسعاً، وقتلوهم جميعاً، ورموهم في تلك الحب أجمعين، وردوا عليهم التراب، رحمهم الله.
وما قتلوهم إلا حين قتل ابن بنش أهل محلتهم الذين يخرجون من مراكش، فيهم القائد يقال له قندبور-يقول أهل السنغي يوم قندبور-وفيهم أربعمائة رام، وقع عليهم ليلاً واستأصلهم. ولو لا ذلك لم يقتلهم، لأنهم أرسلوا للسلطان مولاهم يشاورونه في أمرهم هل يقتلوهم أو يتركوهم. ولم يرجع المرسول حتى كان هذا الأمر. وقندبور في لغتهم عظيم البطن، كان بطن ذلك القائد عظيماً.