العمري

مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

والذي نقول الآن: إنّ الجبال كلَّها متشعِّبة من الجبل المستدير بغالب معمور الأرض. وهو المسمّى بجبل قاف، وهو أُمّ الجبال. كلُّها تتشعب منه. فتتصل في موضع، وتنقطع في آخر. وهو كالدائرة، لا يُعرف له أوّل على التحقيق. إذ كانت الحلقة المستديرة، لا يُعرف طرفاها. وإن لم تكن استدارته استدارة كُريَّة، ولكنّها استدارة إحاطة، أو كالإحاطة.
فلمّا لم نقف له على أوّل التحقيق، قدّرنا له أوّل، وهو: كتف السدّ الجنوبيّ. ونديره بالمعمور. يتّصل في موضع اتّصاله، وينقطع في موضع انقطاعه، إلى كتف السدّ الشماليّ: حيث الفرجة التي ساوى الاسكندر ذو القرنين فيها، كما قال تعالى (بَيْنَ الْصَّدَفَيْنِ) وأقام السدّ وعمل الباب، على ما هو مرسوم في لوح الرسم.
ومجموع هذا الجبل "متّصلة ومنقطعة في كل مكان، شرقا وغربا وجنوبا وشمالا" وهو جبل قاف. وهذا هو المستفيض على الألسنة، الطائر بين العالم، بما يعبر عنه به عند كلٍّ منهم، على ما يقتضيه اختلاف الألسنة واللغات.
وقد زعم بعضهم أن أُمّهات الجبال جبلان: خرج أحدهما من لدن البحر المحيط في المغرب، وأخذ جنوبا؛ وخرج الآخر من لدن البحر الروميّ وأخذ شمالا؛ حتّى تلاقيا عند السدّ. وسمَّوا الجنوبيَّ قاف، وسمَّوا الشماليَّ جبل قاقونا. والأظهر "والله أعلم" أنه جبل واحد محيط بغالب بسيط المعمور لا كما هو البحر، محيط بجميع كرة الأرض، وأنّه هو الذي تصدق عليه التسمية بجبل قاف في كل قطر ومكان؛ ولا يُعرف في الجنوب إلاّ بهذه التسمية، ويُعرف في الشمال بجبل قاقونا. وبهذا تزول شبهة من ضنَّ أنّ كلاًّ منهما غير الآخر. والله أعلم.
والذي نقول، وبالله التوفيق! إنّ هذا الجبل المحيط بغالب المعمور مبدؤه من كتف السدّ آخذا من وراء صنم الخطا المحجوج إليه، إلى شعبته الخارجة منه المعمول بها باب الصين، آخذاً على غربيّ صين الصين، ثُمَّ ينعطف على جنوبيّه مستقيماً في نهاية الشرق، على جانب البحر المحيط، مَع الفُرْجة المنفرجة بينه وبين البحر الهنديّ الداخلة، ثم ينقطع عند مُخْرَج البحر الهنديّ مع خطّ الاستواء، حيثُ الطولُ مائة وسبعون درجة "عَلَّم عليها في لوح الرسم قع بحساب الجُمَّل"، ثم يتَّصل من شعبة البحر الهنديّ الملاقي لشعبة المحيط الخارجة على بحر الظلمات من المشرق، بجنوب كثير من وراء مُخْرج البحر الهنديّ في الجنوب؛ وتبقى الظلمات بين هاتين الشُّعبتين: شعبة المحيط الجائية على جنوب الظلمات شرقا بغرب، وشعبة البحر الهنديّ الجائية على الظلمات شرقا بغرب، حتى تتلاقى الشعبتان عند مُخرج هذا الجبل، كتفصيل السراويل. ثم ينفرج رأس البحرين المتلاقيين شعبتين على مبدإِ الجبل، ويبقى الجبل بينهما كأنّه خارج من نفس الماء. ومبدأ هذا الجبل قه هنا وراء قبَّة أرِين، عن شرقها. وبعده منها خمس عشرة درجة. وقد علَّم صاحب جغرافيا قُبالة مبدإ هذا الجبل في القسم الشرقيّ طولا. وذلك بعد أن انتهت درجات القسم الغربيّ عند قبَّة أرِين إلى تسعين درجة، علَّم عليه في لوح الرسم ص فكان هذا المقدار يه. وهو تفاوت ما بين العددين.

ويقال لهذا الجبل في أوّله المُجَرَّد. ثمَّ يمتدُّ حتّى ينتهي في القسم الغربيّ إلى طول خمس وستين درجة من أوّل المغرب. وقد علَّم عليها في لوح الرسم سه.

وهناك يتشعَّب من الجبل المذكور جبل القمر، وينصبُّ منه النيل. ويقال إنّ به أحجارا برّاقة كالفضة البيضاء، تتلألأ، تسمى صَنْجَة الباهت: كلُّ من نظرها، ضحك والتصق بها، حتّى يموت. وتسمى مغناطيس الناس. قال صاحب جغرافيا، وقد ذكره أرسطو في كتاب الأحجار.

وتتشعَّب منه شعب تسمى آسيفي. يقال إنه مسكون، وإن أهله كالوحش. والله أعلم بصحة ذلك.

ثمَّ ينفرج منه فُرجة، ويمرُّ منه شُعب إلى نهاية المغرب في البحر المحيط، تسمّى جبل وحشيّة: به سباع لها قرون طوال، لا تطاق.

وينعطف دون تلك الفُرجة من جبل قاف شُعب، منها شعبتان إلى خط الاستواء يكتنفان مجرى النيل، من الشرق والغرب.
فالشرقيّ، يُعرف بجبل قاقولي، وينقطع عند خط الاستواء. والغربيّ، يُعرف بأدمدمة. يجري عليه نيل السودان، المسمّى في جغرافيا ببحر الدمادم. وينقطع تلقاء مجالات الحبشة ما بين مدينتي سمغرة وجيمي.

وراء هذه الشعبة، تمتدُّ شعبة منه، هي الأُمّ من الموضع المعروف فيه الجبل بآسيفي المتقدِّم الذكر إلى خط الاستواء، حيث هو الطول هناك عشرون درجة. وقد علَّم عليها في لوح الرسم ك. ويُعرف هناك بجبل كرسقانة. وبه هناك وحوش ضارية. ثم ينتهي إلى البحر المحيط وينقطع دونه بفُرجة مفروجة. وذلك وراء التكرور، عند مدينة قلتبو. ووراء هذا الجبل هناك سودان، يقال لهم تمتم، يلأكلون الناس. وستأتي جملة من أخبارهم في موضعها، إن شاء الله!.

ثمَّ تتَّصل الأُمُّ من شاطئ البحر الشاميّ في شماله، شرقيّ رومة الكبرى، مسامتا للشُّعبة المسماة آدمدمة المنقطعة بين سمغرة وجيمي لا تكاد تخطيها، حيث الطول خمس وثلاثون درجة علامتها في لوح الرسم له. ويقع منشأ اتِّصال هذه الأُمّ في رسم خط العروض على ف. رسمها في لوح الرسم. وكذلك تقع شعبتها آخذا في الجنوب إلى الخط المُعلَّم عليه الأطوال في لوح الرسم، عند أخذها ما بين سردانية وبلنسية على ف. وتتناهى وصلة هذه الأم إلى البحر المحيط في نهاية الشمال، قُبالة جزيرة بِرِطانية. وتبقى سوسية داخل الجبل.

والربع الثاني

من هذه الأرباع المقسومة الآن هو الربع الغربيّ الآخذ إلى الجنوب. به من الجبال تحت الأمِّ الخارجة من شعبتي البحر المشبهة بتفصيل السراويل المقدّمة الذكر.

ثلاثة جبال: "الأول" منها وهو الشرقيّ جبل آخذ عن الأُمّ على جانب فرجة بينهما، ممتدّا إلى خط الاستواء حتّى وقع عليه وينقطع عنده. وتقع مدينة لقمرانة في ذيله على شرقيه، وبوشة في ذيله على غربيه.

ويليه "الثاني" على غربيه وهو جبل آخذ إلى مدينة نسويه. وينقطع هناك.
ويليه "الثالث" على غربيه وهو جبل يعرف بجبل حاقولي. ذكر صاحب جغرافيا في لوح الرسم أنه معروف عند المسافرين. يأخذ على شرقيّ النيل حتى ينتهي إلى مدينة فرقوة حيث آخر خرجة البحر الهنديّ. وقد نبهنا على ذكر هذا الجبل، عند وصفنا للأمّ المذكورة، وأشرنا إلى أن مخرج الأُمّ يقع قبالته من شماليّ البحر الشاميّ، على ما تقدم ذكره.

وعن يسرته جبل آخذ على شرقيّ النوبة.

ومن ذلك جبل يقع منه جنوبا مع تغريب كثير كأنه "لا" معلقة بالخط المغربيّ ".لا".

ومن ذلك جبل آخر منقطع ما بين خاخة وجيمي.

ومن ذلك دونهما جبلان آخران أحدهما يأخذ على الواحات والآخر يأخذ وراء غربيّ بحيرة نافون، وشرقيّ بحيرة كوكورة.

ومن ذلك وراءه في غربية جبل كأنه رأس صاد بالخط المغربيّ "ص" وسطه بطحاء سهلة، لا وصول إليها من كل جهة، إلا بعد صعود الجبل والنزول إليها جانبه الداخل. يجري منه النهر الواصل إلى القيروان المنتهي إلى البحر الشاميّ.

وسليه جبل يُرف باللمّاع كأنه فردة صولجان. عليه حصن الملح وجَزولَةُ. وتنصبُّ منه أنهار إلى المحيط.

ومن ذلك جبل يأخذ بين فاس وسجلماسة وينصبُّ منه نهر بين أَسَفِي والمزمَّة حتى يصب في البحر المحيط، شرقيّ طنجة.

ومنذ لك جبل منقطع ينشأ في أواخر خط الاستواء غربا، حيث الطول من الغرب خمس عشرة درجة، علّم عليها في لوح الرسم يه من حساب الجُمَّل. ويأخذ جنوبا إلى البحر المحيط.

ومن ذلك جبلان يُعرفان بجبل كرسقانة وجبل وحشية. وقد تقدَّم ذكرهما. وذلك كله خارج عن الأُمّ، منقول من لوح الرسم...

ونحن نذكر كيف هو، فنقول والله أعلم: ونحن نذكر كيف هو، فنقول والله أعلم: ن النيل ينصبّ عشرة أنهار من جبل القُمر المتقدّم الذكر. كل خمسة أنهار من شعبة. ثمّ تتبحّر تلك العشرة الأنهار في بحيرتين: كلّ خمسة أنهار تبحر بحيرة بذاتها. ثم يخرج من البحيرة الشرقية منها بحر لطيف يأخذ شرقا على جبل قاقولي، ويمتدُّ إلى مدن هناك، ثم يصبّ في البحر الهنديّ. ثم يخرج من تينك البحيرتين ستة أنهار. من كل بحيرة ثلاثة أنهار. ثم تجتمع تلك الستة الأنهار في بحيرة متشعّبة.

حدّثني أقضى القضاة شرف الدين أبو الروح عيسى الزواويّ، أن الأمير أبا دبوس ابن أبي العلا أبي دبوس ووالده آخر سلاطين برّ العدوة من بني عبد المؤمن حدّثه أنّه وصل إلى هذه البحيرة، في أيام هربه من بني عبد الحق، ملوك بني مرين القائمين الآن.

رجعنا إلى ذكر مجتمع تلك الأنهار الستة في تلك البحيرة وبعضهم يسميها: البطيحة. فنقول. وفي تلك البطيحة تضريسة جبل: يُفْرَق بها الماء نصفين. يخرج النصف الواحد من غربيّ البحيرة. وهذا النصف هو المعروف بنيل السودان. ويستقلّ نهرا يسمّى بحر الدمادم. يأخذ مغتربا ما بين سمغرة وغانة، على جنوبيّ سمغرة وشماليّ غانة. ثم ينعطف هناك منه فرقة ترجع جنوبا إلى غانة؛ ثم تمرُّ على مدينة برنسة، ويأخذ تحت جبل في جنوبيّها خارج عن خط الاستواء إلى رُقَيلة. ثم يتبحر في بحيرة هناك. وتستمر الفرقة الثانية مغرِّبة إلى بلاد ماليِّ والتكرور حتى تنصب في البحر المحيط، شماليّ مدينة قَلَبْتُو.

ويخرج النصف الآخر متشاملا آخذا على الشمال إلى شرقيّ مدينة جِيمِي. ثم يتشعب منه هناك شعبة تأخذ شرقا إلى مدينة سَحَرتَة. ثم ترجع جنوبا. ثم تعطف شرقا بجنوب إلى مدينة سَحَرْتَة. ثم إلى مدينة مركة، مُنتهيا في العود هناك إلى خط الاستواء ثم الطول خمس وستون درجة علّم عليها في لوح الرسم سه. ويبحِّر بحيرة هناك.

ويستمرّ عمود النيل من قُبالة تلك الشعبة شرقيّ مدينة شيمي [جيمي] مُتشاملا آخذا على أطراف بلاد حبش. ثم يتشامل على بلاد السودان إلى دُنْقلة، حتّى يرمي على الجنادل إلى أسوان إلى قُوص، منحدرا يشُقُّ بلاد الصعيد شقّا، حتى يُقابل قرية تُعرف بدَرْوة سَربام. وقد تعرف الآن بدروة الشريف: نسبة إلى الشريف ابن ثعلب، الثائر في الأيام الظاهرية الركنية بالصعيد، لِمُقامه بها...

وحدثني الشيخ الثبت سعيد الدُّكَّاليُّ "وهو ممن أقام بمالِّي خمسا وثلاثين سنة، مضطربا في بلادها، مجتمعا بأهلها"، قال: "المستفيض ببلاد السودان أن النيل في أصله ينحدر من جبال سود تَتَبانُ على بُعد كأنّ عليها الغمائم. ثم يتفرّق نهرين: يصب أحدهما في البحر المحيط إلى جهة بحر الظلمة الجنوبيّ؛ والآخر يصل إلى مصر حتّى يصب في البحر الشاميّ". قال الشيخ سعيد الدُّكَّاليُّ: "ولقد توغَّلتُ في أسفاري في الجنوب مع النيل. فرأيته متفرّقا على سبعة أنهر، تدخل في صحراء منقطعة، ثم تجتمع تلك الأنهر السبعة، وتخرج من تلك الصحراء نهرا واحدا مجتمعا. كلا الرؤيتين في بلاد السودان. ولم أره لما اجتمع بالصحراء لأننا لم ندخلها، إذ لم يكن بنا حاجة إلى الدخول إليها".

قلت: والأقوال في أوّل مجرى النيل كثيرة. ذكر فيها المسعودي وغيره ما لا فائدة فيه. والشائع على ألسنة الناس أنّ أحدا ما وقف على أوّله بالمشاهدة. وجعل كل واحد منهم سببا لعدم الوقوف على حقيقة أوّله.

فقال بعضهم إنه انتهى أناس وصعدوا الجبل فرأوا وراءه بحرا عجّاجا، ماؤه أسود كالليل، يشقه نهر أبيض كالنهار، يدخل الجبل من جنوبه ويخرج من شماله، ويتشعب على قبَّة هرمس المبنية هناك. وزعموا أنه هرمس الهرامسة، وهو المسمى بالمثلث بالحكمة. ويزعم بعضهم أنه إدريس عليه السلام. وبلغ ذلك الموضع وبنى به قبَّة. قالوا: وسمي بالمثلث، لاجتماع الثلاثة له: النبوّة والحكمة والمُلك.

وقال بعضهم: إن أناسا صعدوا الجبل، وبقي كل ما تقدّم منهم واحد، ضحك وصفَّق بيديه وألقى روحه إلى ما وراء الجبل. فخاف البقية أن يصيبهم مثل ذلك، فرجعوا.

وزعم بعضهم: أن أولئك إنما رأوا حجر الباهت. فبقي كل من رآه منهم، ضحك وتقدّم إليه والتصق به، حتّى مات.

وسيأتي إن شاء الله ما ذكره صاحب الجغرافيا عن أرسطو في خاصية هذا الحجر.

وقال بعضهم: أن ملكا من ملوك مصر الأُوَل جهَّز أناسا للوقوف على أوّله فانتهوا إلى جبال من نحاس، لما طلعت عليها الشمس وانعكست عليهم أشعتها، أحرقت غالبهم فرجع البقية.

وقال بعضهم: إنهم انتهوا إلى جبال برّاقة لماعة كالبلَّور. فلما انعكست عليهم أشعة الشمس الواقعة عليها، أحرقتهم.

وقال بعضهم "وهو الصحيح" والله أعلم: إنه لتوغُّل منبعه في الخراب المنقطع من وراء خط الاستواء، تعذر السلوك إليه: لبعد المسافة وشدّة الحرّ.

فإن قال قائل: فما منع قدماء الملوك، مع ولعهم بمعرفة أحوال البلاد وحقائق ما هي عليه، أن يجهزوا من يقف على حقيقة أوّله؟ قلنا له: وأيّ فائدة تفي بركوب هذا المهلك في أرض لا ينبت بها نبات ولا يعيش حيوان، ولا يُعرف مقدار ما يستعدّ له المسافر، ولا ما يستظهر به الظهر.

وإنما غالب ما يقال في هذا "والله أعلم" مما أظهره نظر العلم لا نظر العيان. والله من ورائهم محيط.

وإذ فرغنا من الكلام في النيل، فلنذكر بقية الأنهار الشهيرة الواقعة في هذا الربع الثاني. فنقول:

ومن ذلك نهران ينصبّان من الجبل المشبَّه برأس صاد بالخط المغربي "ص".
 يأخذ أحدهما مشرِّقا ويستدير في بحيرة بين كوكورة المذكورة وبين محالان جاي، شماليّ كوكورة وجنوبيّ محالان جاي. ثم يخرج مشرِّقا إلى بحيرة أخرى يتبحّر بها غربيّ مدينة زافون. ثم يخرج متشاملا شمالا بغرب، على غربيّ أرض الملح السوّاخة. ثم تتشعّب منه شعبة تأخذ جنوبا إلى مدينة أّوْذَغّسْت وتستمر سائرة نهرا مادّا إلى مدينة فاس. فيصبُّ في البحر الشاميّ.

وثانيهما ينصبّ آخذا إلى الشمال على مدينة القيروان إلى أن ينصب في البحر الشاميّ.

ومن ذلك نهر يخرج من الجبل الفاصل بين فاس وسجلماسة مارّا بين أسَفي والمزمة حتّى يصبّ في البحر الشاميّ، شرقيّ طنجة.

ومن ذلك أنهار ثلاثة تصب من الجبل المشبّه بفردة صولجان: تجري من جنوب سِجِلماسة، واحدا بعد واحد. وتصب الثلاثة مفرّقة في البحر المحيط.

ومن ذلك نهر ينصبُّ من الجبل المشبه بتعنيقة لا معلقة بالخط المغربيّ "لا" وراء خط الاستواء. يصب في المحيط.

وقد تقدّم ذكر بعض هذه الأنهار، في ضمن ذكر الجبال. وذلك جميعه منقول من خط الرسم.


مملكة مالي عند الجغرابهيين المسلمين
[تحقيق صلاح الدين المنجد، بيروت، 1963]

مملكة مالي وما معها

اعلم أن هذه المملكة في جنوب نهاية المغرب متصلة بالبحر المحيط

قاعدة الملك بها مدينة يني.

وهذه الممكلة شديدة الحر، قشفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات، وأهلها طوال في غاية السواد وتفلفل الشعور. وغالب طول أهلها من سوقهم لا من هياكل أبدانهم.

وملكها الآن اسمه سليمان، أخذ [= أخ] السلطان موسى منسا، بيده ما كان قد جمعه أخوه مما فتحه من بلاد السودان، وأضافه إلى يد الإسلام. وبنى المساجد والجوامع والمؤاذن، وأقام به الجمع والجماعات والأذان، وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وبقي بها سلطان المسلمين، وتفقه في الدين.

وصاحب هذه المملكة هو المعروف عند أهل مصر بملك التكرور، ولو سمع هذا أنف منه، لأن التكرور إنما هو إقليم من مملكته. والأحب إليه أن يقال صاحب مالي، لأنه الاسم الأكبر، وهو به أشهر.

وهذا الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين، وأوسعهم بلاداً، وأكثرهم عسكراً، وأشدهم بأساً، وأعظمهم مالاً، وأحسنهم حالاً، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النعماء.

والذي تشتمل عليه هذه المملكة من الأقاليم: غانة، وزافون، وترنكا، وتكرور، وسنغانة، وبانبغو، وزارفيطا، وتنبرا، ودرمودا، وزاغا، وكابرا، وبراغوري، وكوكو. وسكان كوكو قبائل يربا، وإقليم مالي الذي به قاعدة الملك مدينة يني. وكل هذه الأقاليم مضافة إليه.

والاسم المطلق عليه في هذه الأقاليم كلها مالي قاعدة أقاليم هذه المملكة، ذوات المدن والقرى والأعمال أربعة عشر إقليماً.

حدثني الشيخ الثقة الثبت أبو عثمان سعيد الدكالي، وهو ممن سكن مدينة يني خمسة وثلاثين سنة، واضطرب في هاذه المملكة: أنها هي مربعة، طولها أربعة أشهر أو أزيد، وعرضها مثل ذلك. تقع جنوب مراكش ودواخل بر العدوة، وجنوباً بغرب إلى المحيط. وطولها من مولي إلى طورا وهي على المحيط. وجميعها مسكونة إلا ما قل. وأن في طاعة سلطان هاذه المملكة بلاد مفازة التبر، يحملون إليه التبر في كل سنة، وهم كفار همج، ولو شاء أخذهم، ولكن ملوك هذه المملكة قد جربوا أنه ما فتح أحد منهم مدينة من مدن الذهب ونشأ فها الإسلام، ونطق بها داعي الأذان، إلا قل وجود الذهب، ثم يتلاشي حتى يعدم، ويزداد فيما يليه من بلاد الكفار. وأنه لما صح هذا عندهم على التجريب، أبقوا بلاد التبر بأيدي أهلها الكفار، ورضوا منهم ببذل الطاعة وحمول قررت عليهم.

وليس في مملكة صاحب هذه المملكة من يطلق عليه اسم ملك إلا صاحب غانة، وهو كالنائب له وإن كان ملكاً.

وفي شمال بلاد مالي قبائل من البربر بيض تحت حكم سلطانها، وهم: ينتصر وشغراس ومديونة ولمثونة. ولهم أشياخ تحكم عليهم، إلا ينتصر فإنهم يتداولهم ملوك منهم تحت حكم صاحب مالي.

وكذلك في طاعة قوم من الكفار، ومنهم من يأكل لحوك بني آدم، ومنهم من أسلم، ومنهم من هو باق على هذا. وقد ذكر هاذا في موضعه.

ومدينة يني ممتدة طولاً وعرضاً، تكون طول بريد تقريباً، وعرضها كذكلك. لا يحيط بها سور. وأكثرها متفرقة. وللملك عدة قصور يستدير بها سور محيط بها. وفرع من النيل يستدير بهذه المدينة من جهاتها الأربع. وفي بعضها يخاض ويمشى فيه عند قلة الماء، وفي بعضها لا يعبر إلا بالمراكب.

وبناء هذه المدينة بإياد من الطين، مثل جدران بساتين دمشق. وهو أن يبنى تقدير ثلثي ذراع بالطين، ثم يترك حتى يجف، ثم يبنى عليه مثله، ثم يترك حتى يجف، ثم يبنى عليه مثله، هكذا حتى يتناهي.

وصقوفها بالأخشاب والقصب، وغالب سقوفها قباب أو جمانات كالأقباء.

وأرضها تراب مرمل.

وشرب أهلها من ماء النيل، وآبار منحفرة.

وجميع هاذه البلاد مخضرة نخيلة، وجبالها ذوات أشجار برية مشتبكة غليظة السوق إلى غاية يكون منها الشجرة الواحدة تظل خمس مئة فارس.

وغالب أقواتهم الأرز، والفوتي - وهو دق مزغب يدرس فيخرج منه شبيه حب الخردل أو أصغر - وهو أبياض يعسل ثم يطحن ثم يعجن، ويؤكل.

وعندهم الحنطة، وهي قليلة، والذرة وفيها لهم قوت وعليق خيلهم وطعم دوابهم.

وعندهم الخيل من نوع الأكاديش التترية، والبغال كلها صغار المقادير جداً. وكذلك كل دابهم من البقر والغنم والحمر ليس يوجد منها إلا ذميم الخلق صغير الجثة.

ويزرع عندهم شيء اسمه القافي، وهو قرون دقاق تدفن في الأرض فتزكو حتى تصير غلاظاً، طعمها شبيه بالقلقاس، لكنه ألذ من القلقاس. وهو يزرع في الخلاء، فإن اطلع الملك على أن أحداً سرق شيئاً منه قطع رأسه وعلق مكانه ما قطعه، هاذه سنة عندهم يتوارثها كابر عن كابر لا ترخصها مسامحة ولا تنفع فيها شفاعة.

ويزرع عندهم اللوبيا، والقرغ، واللفت، والبصل، والثوم، والباذنجان، والكرنب. لكن الباذنجان والكرنب قليل عندهم. وتطلع الملوخيا برية.

وعندهم من الفواكه البستانية الجميز، وهو كثير عندهم. وتطلع عندهم أشجار برية ذوات ثمر مأكولة مستطابة فيها شجر يسمى تادموت يحمل مثل القواديس، وفي كبرها وفي داخلها شيء شبيه دقيق الحنطة، ساطع البياض، مز، طعمه لذيذ. ويعمل منه إذا جف في الحناء فيسوده مثل النوشادر. وهو يدخر عندهم للأكل والحطاب.

ومنها شجر يسمى زبيزور تخرج ثمرته مثل قرون الخروب، تخرج منه شبيه بدقيق الترمس، حلو، لذيذ الطعم، وله نوى.

ومنها شجر يسمى قومي يحمل شبيه السفرجل، طعمه لذيذ، يشبه طعم الموز، وله نوى شبيه بغضروف العظم يأكله.

وشجر اسمه قايتي يحمل شبيه الليموه، وطعمه شبيه طعم الكمثري، بداخله نوى ملحم. يؤخذ ذلك النوى وهو طري ويطحن فيخرج منه شبيه السمن، ويجمد مثله. تبيض به البيوت، وتوقد منه السرج والقناديل، ويعمل منه صابون. وإذا أريد أن يؤكل ذلك الدهن يحرق بتدبير، وصورة تدبيره أن يوضع على نار لينة ويغطى ويترك إلى أن يقوى غليانه، ويبقى الذي يدبره يسارقه مسارقة في اختباره، ويرضعه بالماء قليلاً قلايلاً مرات، وهو مغطى مخترز عليه إلى أن يتناهي على مقدار القوة، ثم يترك حتى يبرد، ويستعمل في المأكل كالسمن. ومتى فوجئ بكشف الغطاء فار وطلع وتصاعد إلى السقف، وربما انعقد منه نار فأحرقت الدار، وربما زاد فأحرقت البلد. وهاذا الدهن يحرق كل جلد وضع فيه، ولا يحمله إلا ظروف القرع.

ويوجد لها من الثمرات البرية ما هو شبيه بكل الفواكه البستانية على اختلاف أنواعها، لكنها حريفة لا تستطاب ولا يأكلها إلا السودان، وهي قوت كثير منهم.

عندهم الملح يوجد بخلاف الجوانيين والمسامتين بسلجماسة وما وراءها.

وفي صحاريها الجواميس، برية، تصاد كالوحش. وصورة صيدهم لها أنهم يحملون من بطوسها الصغار وما يربى عندهم في البيوت، فإذا أرادوا صيد الجواميس أخرجوا واحداً منها إلى موضع الجواميس لتراه وتقصده وتتألف به للجنسية التي هي علة الضم. فإذا تألفت بها رموها بنشاب مسموم عندهم، ثم يقطعون مواضع السم، وهو موضع الرمية وما حوله، ثم يؤكل ما فيه.

وأغنامهم ومعزهم لا مرعى لها، وإنما هي جلالات على القمامات والمزابل.

وتلد الواحدة من المعز في بطن واحد سبعة وثمانية.

وصحاريهم أنواع الوحش من الحمر والبقر والغزلان والنعام وما يجري مجراها. والفيلة والآساد والنمور، وكلها لا تؤذي إلا من تعرض لها أو تحرش بها، وربما مر الرجل إلى جانبها فلا تعترضه ما لم يفجئها.

وعندهم وحش يسى تُرمّى بضم التاء المثناة والراء المهملة وتشديد الميم، ولا يكون إلا خنثى له ذكر وفرج مولد بين الذئاب والضباع. قال الشيخ سعيد الدكالي: رأيته بعيني، وهو خنثى، قدر الذئب، متى وجد في الليل آدمياً صغيراً أو مراهقاً خطفه وأكله، وأما بالنهار فلا يؤذي، ولا له إقدام على الرجل التمام. وهو ينعر كنعار الثور إذا أراد النطاح. وهو ينبش الموتى ويأكلهم. وأسنانه كأسنان التمساح مصفحة، ذكر في أنثى.

وفي مجرى النيل عندهم تماسيح كبار هائلة المقادير، يوجد منها ما يكون طوله عشرة أذرع وأزيد. قال الدكالي: وصيد منها تمساح وضع في قلبه رمح طوله عشرة أشبار. ومرارته سم، وهي تحمل إلى خزانة ملكهم.

قال: والفيل يصاد في بلاد الكفار المجاورة لهم بالسحر حقيقة لا مجازاً.

والسحر بهذه البلاد كلها كثير إلى الغاية، وخصوصاً ببلاد غانة، وفي كل وقت يتحاكمون عند ملكهم بسببه، ويقال: إن فلاناً قتل بالسحر أخي أو ولدي أو ابنتي أو أختي. ويحكم على القاتل بالقصاص، ويقتل الساحر.

وسلطان هذه المملكنة يجلس في قصره على مصطبة كبيرة تسمى عندهم بنبى، بالباء الموحدة، والنون، والباء الموحدة، على دكة كبيرة من أبنوس كالتخت، يكون قدر المجلس العظيم المتسع، عليها أنياب الفيلة في جميغ جوانبها، الناب إلى النال. وعنده سلاحة من ذهب كله: سيف ومزراق وتركاش وقوس ونشاب، وعليه سراويل كبير مفصل من نحو عشرين نصفية لا يلبسه أحد، ويقف خلفه نحو ثلاثين مملوكاً من الترك وغيرهم ممن يبتاع له من مصر، بيد واحد منهم جتر حرير عليه قبة، وطائر من ذهب، والطير صفة بازي يحمل على يساره، وأمراؤه جلوس حوله من تحت سماكين يميناً ويساراً ثم دونهم أعيان من فرسان عسكره جلوس، وبين يديه شخص يغني له وهو سيافه، وآخر سفير بينه وبين الناس، يسمى الشاعر، وحولهم أناس بأيديهم طبول يدقون بها، وبين يديه أناس يرقصون، وهو يتفرج عليهم ويضحك منهم، وخلفه صنجقان منشوران، وقدامه فرسان مشدودان محصلان لركوبه متى شاء.

ومن عطس في مجلسه ضرب ضرباً مؤلماً، ولا يسامح أحداً في هاذا، وإنما إذا جاء أحدهم العطسة انبطح على الأرض وعطس حتى لا يعلم به.

وأما الملك فإنه إذا عطس ضرب الحاضرون على صدورهم.

ولباسهم عمائم تحنك مثل العرب. وقماشهم بياض من قطن يزرع عندهم، وينسج، في نهاية الرفع واللطف، يسمى الكميصاً.

وزيهم شبيه بزي المغربة: جباب ودراريع بلا تفريخ. ويلبس أبطالهم الفرسان أساور ذهب، فمن زادت فروسيته لبس معها أطواقاً من ذهب، فإن زادت لبس معها خلاخل ذهب. وكلما زادت فروسية البطل منهم ألبسه الملك سراويلاً متسعاً. وكلما زادت فروسية الفارس يزيدون في كبر سراويله. وصفة سراويلاتهم ضيق أكمال الساقين وسعة السرج.

ويمتاز الملك في زيه بأنه يرخى له عذبة بين يديه. ويكون سراويله من عشرين نصفية. لا يتجاسر على لبس هذا أحد غيره. وملوك مذه المملكة يجلب إليها الخيل العراب. وتبذل الأثمان الكثير فيها.

ومقدار عسكره مئة ألف نفر. منهم عشرة آلاف فارس فرسان خيالة. وسائرهم رجالة لا خيل لهم، ولا مراكب. والجمال عندهم موجودة، ولا يعرف بها ركوب كور.

والشعير عندهم بعدوم بالجملة الكافية، لا ينبت بها البتة.

ولأمراء هاذا الملك وجنده إقطاعات وإنعامات. من أكابرهم من يبلغ جملة ماله على الملك في كل سنة خمسين ألف مثقال من الذهب. ويتفقدهم بالخيل والقماش. وهمته كلها في تجميل زيهم، وتمصير مدنه.

ولا يدخل أحد دار هاذا الملك إلا حافياً، كائناً من كان. فمن لم يخلع نعليه ساهياً كان أو عامداً قتل بلا عفو.

وإذا قدم القادم على هاذا الملك من أمرائه أو غيرهم أوقفه زماناً قدامه. ثم يؤمي القادم بيده اليمنى مثل من يضرب الجوك ببلاد توران وإيران. فإذا أنعم على أحد إنعاماً أو وعده بجميل، أو شكره على فعل تمرغ ذلك المنعم عليه بين يديه من أول المكان إلى آخره. فإذا وصل إلى آخر ذلك المكان أخذ غلمان ذاك المنعم عليه أو من هو من أصحابه من رماد يكون موضوعاً في آخر مجلس الملك معداً هناك دائماً لأجل مثل هاذا. فيذر في رأس المعم عليه. ثم يعود متمرغاً إلى أن يصير إلى بين يدي الملك. ويضرب جوكاً آخر بيده كما تقدم، ثم يقدم.

وأما صورة هاذا المشبه بضرب الجوك أن يرفع الرجل يده اليمنى إلى قريب أذنه، ثم يضعها وهي قائمة منتصبة، ويلقيها بيده اليسرى فوق فخذه، واليد اليسرى مبسوطة الكف لتلتقي مرفق اليمنى مبسوطة الكف مضمومة الأصابع معضها إلى جانب بعض كالمشط يماس شحمة الأذن.

وأهل هذه المملكة يركبون بالسروج العربية، وهم في غالب أحوالهم كأنهم منهم، ولكنهم يبدأون في الركوب بالرجل اليمنى خلاف الناس جميعاً.

ومن عادتهم أن لا يدفن عندهم ميت إلا إذا كان ذا قدر وحشمة، وإلا فكل من كان سوى هاؤلاء ممن لا قدر له، والفقراء والغرباء، فإنه يرمى رمياً في الفلاة مثل ما يرمى باقي الميتات.

وهي بلاد يسرع فيها فساد المدخورات، وخصوصاً السمن فإنه ينتن ويجيف في يومين.

قلت: وليس هذا غريباً لأن أغنامهم جلالات تأكل القمامات والمزابل. وبلادهم شديدة الحر سريعة التحليل.

وملك هاذه المملكة إذا قدم من السفر يحمل على رأسه الجتر، راكباً، وينشر على رأسه علم، ويضرب قدامه الطبول والطنابير والبوقات بقرون لهم فيها صناعة محكمة.

ومن عادتهم أنه إذا عاد إليه أحد ممن بعث به في شغل أو مهم يسأله عن كل ما تم له من حال، من حين مفارقته إلى حين عوده مفصلا.

والشكاوي والمطالم تنهى إلى هاذا الملك فيفصلها بنفسه، وفي الغالب لا يكتب شيئاً، بل أمره بالقول غالباً، وله قضاة وكتاب ودواوين. هاذا ما حدثني به الدكالي.

وحكى لي الأمير أبو الحسن علي بن أمير حاجب أنه كان كثير الاتجماع بالسلطان موسى ملك هذه البلاد لما قدم مصر حاجاً. وكان هو نازلاً بالقرافة، وابن أمير حاجب والي مصر والقرافة إذ ذاك، واتحدت بينهما الصحبة. وأن هاذا السلطان موسى حدثه بكثير من أحواله وأحوال بلاده ومن يجاوره من أمم السودان.

قال: ومما حدثني به أن بلاده متسعة اتساعاً كثيراً، وهي متصلة بالبحر المحيط، فتح فيها بسيفه وجنده أربعاً وعشرين مدينة ذوات أعمال وقرى وضياع. وهي كثيرة الدواب من البقر والمعز والغنم والخيل والبغال، وأنواع الطير الدواجن كالإوز والحمام والدجاج، وأن أهل بلاده عدد كثير وجم غفير، وهم بالنسبة إلى من جاورهم من أمم السودان المتوغلين في الجنوب كالشامة البيضاء في البقرة السوداء.

وفي مهادنته أهل بلاد الذهب - وله عليهم القطيعة - قال: فسألته: كيف نبات الذهب؟

فقال: يؤخذ على نوعين: نوع في زمان الربيع ينبت عقيب الأمطار في الصحراء، وله ورق شبيه بالنخيل أصوله التبر. والنوع الآخر يوجد في جميع السنة في أماكن معروفة على ضفاف مجاري النيل. فتحفر هناك حفائر فتؤخذ أصول الذهب كالحجارة والحصى. وكلاهما هو المسمى بالتبر، والأول أفحل في العيار وأفضل في القيمة.

قال: وحدثني السلطان موسى أن الذهب حمي له، تجمع متحصله كالقطيعة إلا ما يأخذه أهل تلك البلاد منه على سبيل السرقة.

قلت: والذي قاله الدكالي إنما يهادي بشيء منه كالمصانعة، ويتكسب عليهم في المبيعات، لأن بلادهم لا شيء بها. وقول الدكالي أثبت.

قال ابن أمير حاجب: وشعار هاذا السلطان أصفر في أرض حمراء تنشر عليه الأعلام، حيث يركب. وهي ألوية كبار جداً.

وخدمة القادم عليه أو المنعم عليه أن يكشف مقدم رأسه، ويضرب بيده اليمنى جوكاً إلى الأرض نحو ما يعمل التتار، فإذا احتاج إلى أكثر من هاذه الخدمة تمرغ بين يديه.

قال: ومن عادة هاذا السلطان أنه لا يأكل بحضور أحد من الناس كائناً من كان، بل يأكل دائماً وحده بمفرده.

ومن عادة أهل مملكته أنه إذا نشأ لأحد منهم بنت حسناء قدمها له أمة موطوءة، فيملكها بغير تزويج، مثل ما ملكت اليمين، مع ظهور الإسلام بينهم وتمذهبهم بمذهب المالكية.

قال ابن أمير حاجب: هاذا مع كون هاذا السلطان موسى كان متديناً محافظاً على الصلاة والقراءة والذكر.

قال: فقلت له: إن مثل هاذا لا يجوز، ولا يحل لمسلم شرعاً ولا نقلاً.

فقال: ولا للملوك؟

فقلت: ولا للملوك. وسل العلماء.

فقال: والله ما كنت أعلم. وقد تركت هاذا، ورجعت رجوعاً كلياً عنه.

قال ابن أمير حاجب: ورأيت هاذا السلطا موسى محباً للخير، وأهله. وترك مملكته واستناب بها ولده محمداً، وهاجر إلى الله ورسوله فأدى فريضة الحج، وزار النبي صل الله عليه وسلم، وعاد إلى بلاده على أن يقرر لابنه الملك، ويتركه له بالكلية، ويعود إلى مكة المظمة، ويقيم مجاوراً لها. فأتاه أجله رحمه الله تعالى.

قال ابن أمير حاجب: وسألته إن كان له أعداء بينهم حروب؟

فقال: نعم لنا عدو شديد هم في السودان، كالتتار لكم. وبينها وبين التتار مناسبة من جهات أنهم وساع الوجوه، فطس الأوف، يجيدون الرمي بالنشاب، وخيولهم أكاديش، مسقفة الأنوف ولنا ولهم وقائع، ولهم بأس شديد بإصابة رميهم بالنشاب، وبيننا وبينهم نوَب، والحروب بيننا تارت.

قلت: وقد ذكر ابن سعيد في المغرب طائفة الدمادم الذين خرجوا على أصناف السودان فأهلكوا بلادهم. وهم يشبهون بالتتر. وكان خروج الفريقين في عصر واحد. انتهى كلامه في هاذا المعنى.

قال ابن أمير حاجب: سألت السلطان موسى كيف انتقلت إليه المملكة.

فقال: نحن أهل بيت يتوارث الملك، وكان الذي قبل لا يصدق أن البحر المحيط لا يمكن الوقوف على آخره، وأحب الوقوف على هذا، وولع به، فجهز مئين مراكب مملوءة من الرجال، وأمثالها مملوءة من الذهب والماء والزاد، ما يكفيهم سنين، وقال للمتقدمين فيها: لا ترجعوا حتى تبلغوا نهايته، أو تنفد أزوادكم وماؤكم. فساروا، وطالت مدة غيبتهم، لا يرجع أحد منهم، حتى مضت مدة طويلة. ثم عاد مبكب واحد منها. فسألنا كبيرهم عما كان من أثرهم وخبرهم. فقال: نعم، أيها السلطان. إنا سرنا زماناً طويلاً حتى عرض في لجة البحر واد له جرية قوية، وكنت آخر تلك المراكب، فأما تلك المراكب فإنها تقدمت، فلما صارت في ذلك المكان ما عادت ولا بانت، ولا عرفنا ما جرى لها. وأما أنا فرجعت من مكاني ولم أدخل ذالك الوادي.

قال: فأنكر عليه.

قال: ثم إن السلطان أعد ألفي مبركب، ألفاً له ولرجال استصحبهم معه، وألفاً للماء والزاد. ثم استخلفني وركب بمن معه البحر المحيط وسار فيه. وكا، آخر العهد به وبجميع من معه. واستقل لي الملك.

قال ابن أمير حاجب: ولقد كان هذا السلطان موسى مدة مقامه بمصر، قبل توجهه إلى الحجاز الشريف وبعده على نمط واحد في العبادة والتوجه إلى الله عز وجل كأنه بين يديه لكثرة حضوره، وكان هو وكل من معه على مثل هاذا، مع حسن الزي في الملبس والسكينة والوقار. وكان كريماً جوداً كثير الصدقة والبر. خرج من بلده بمئة وسق من الذهب أنفقها في حجته على القبائل بطريقه من بلاده إلى مصر، ثم بمصر، ثم من مصر إلى الحجاز الشريف، في التوجه والعود حتى احتاج إلى القرض من مصر. فاستدان على ذمته من التجار بمكاسب كثيرة وافرة جعلها لهم، بحيث حصل لهم في ثلاث مئة دينار سبع مئة دينار ربحاً، ثم بعثها إليهم بالراجح.

قال ابن أمير حاجب: وبعث لي خمس مئة مثقال ذهباً على سبيل الافتقاد.

وأخبرنا ابن أمير حاجب أن المعاملة في بلاد التكرور بالودع، وأن التجار أكثر ما تجلب لهم الودع وتستفيد به فائدة جليلة. انتهى كلام ابن أمير حاجب.

قلت: قد كان بلغني أول قدومي مصر وإقامتي بها حديث وصول هاذا السلطان موسى حاجاً، ورأيت أهل مصر لهجين بذكر ما رأوه من سعة إنفاقهم. فسألت الأمير أبا العباس أحمد ابن الحاكي المهمندار رحمه الله عنه، فذكر لي ما كان عليه هاذا السلطان من سعة الحال والمروة والديانة.

وقال: لما خرجت لملتقاه، أعني من جهة السلطان الأعظم الملك الناصر أكرمني إكراماً بليغاً. وعاملني بأجمل الآداب، ولكنه ما كان يكلمني إلا بترجمان، مع إجادة معرفته التكلم باللسان العربي. ثم إنه قدم إلى الخزانة السلطانية جملاً كثيرة من الذهب المعدني الذي لم يصغ وغير ذلك. وحاولته أن يطلع للقلعة ويجتمع بالسلطان فأبى علي وامتنع.

وقال: أنا جئت لأحج لا لشيء آخر. وما أريد أخلط حجي بغيره. وشرع في الاحتجاج بهاذا وأنا أفهم أنه يرى الحضور نقصاً عليه لما يضطر إليه من تقبيل الأرض أو اليد. وبقيت أحاوله، وهو يتعلل ويعتذر. والمراسم السلطانية تتقاضاني في إحضاره. فما زلت به حتى وافق. فلما وصل إلى حضرة السلطان قلنا له: قبل الأرض. فتوقف وأبى إباء ظاهراً. وقال: كيف يجوز هاذا؟ فأسر إليه رجل عاقل كان معه كلاماً ما نعلمه. فقال: أنا أسجد لله الذي خلقني وفطرني. ثم سجد. وتقدم إلى السلطان. فقام له بضع قيام وأكرمه، وأجلسه إلى جانبه. وتحادثا حديثاً طويلاً. ثم خرج السلطان موسى. فبعث إليه السلطان بعدة من الخلع الكاملة له ولأصحابه، ولكل من حضر معه، وخيلاً مسرجة ملجمة له ولأعيان من معه. وكانت خلعكته طرد وحش مقصب كبير، بسنجاب مقندس مطرز بزركش على مفرج اسكندري، وكلوتة وزركش، وكلابيب ذهب، وشاش بحرور، ورقم خليفتي، ومنطقة ذهب مرصعة، وسيف محلي، ومنديل بذهب خز، وأعلام، وفرسين، مسرحين ملجمين بمراكب مصل محلاة. وأجرى عليه الأنزال والإقامات الوافرة مدة مقامه.

فلما آن أوان الحج بعث إليه بمبلغ كبير من الدراهم، وجمال، وهجن خاص، كاملات الأكوار والعدد لمراكبه، وأتباع لأصحابه ومن حضر معه، وأزواد جمة، وركز له العليق في الطرق، ورسم لأمراء الركب بإكرامه واحترامه.

ثم لما عاد تلقيته وأنزلته، واستمر على علوفاته وإنزاله، وبعث إلى السلطان متبركاً من هدايا الحجاز الشريف، فقبله السلطان مه، وبعث إليه بالخلع الكوامل له ولأصحابه، والألطاف والغوالي من البز الآسكندري، والأمتعة الفاخرة. ثم عاد إلى بلاده.

قال المهمندار: ولقاد أفاض هاذا الرجل بمصر فيض الإحسان، لم يدع أميراً مقرباً ولا رب وظيفة سلطانية حتى وصله بجملة من الذهب. ولقد كسب أهل مصر عليه وعلى أصحابه في البيع والشراء والعطاء والأخذ ما لا يحصر، وبدلوا الذهب حتى أهانوا في مصر قدره، وأرخصوا سعره.

قلت: ولقد صدق المهمندار، فإنه حكى مثل هاذا غير واحد، ولما مات المهندر وجد الديوان فيما خلفه آلافاً من الذهب المعدني مما أعطاه له، باقياً على حاله في ترابه لم يصغ.

وحدثني خلق من تجار مصر والقاهرة عما حصل لهم من المكاسب والربح عليهم، فإن الرجل منهم كان يشتري القميص أو الثوب والإزار وغير ذلك بخمسة دنانير وهو لا يسوى ديناراً واحداً، وكانوا في غاية سلامة الصدور والطمأنينة، يجوز عليهم مهماً حزر عليهم، ويأخذون كل قول يقال بالقبول والصدق، ثم ساءت ظنونهم بأهل مصر غاية الاستياء لما ظهر لهم من غشهم لهم في كل قول، وفي تزاحمهم المفرط عليهم في أثمان ما يباع عليهم من الأطعمة والسلع، حتى إنهم لو رأوا اليوم أكبر أئمة العلم والدين، وقيل لهم إنه مصري أمهنوه، وأساؤوا به الظن، لما رأوا من سوء معاملتهم.

وحدثني مُهنّا بن عبد الباقي العجرمي الدليل أنه كان في صحبة السلطان موسى لما حج، وأنه أفاض على الحجيج وأهل الحرمين سجال الإحسان. وكان في غاية التجمل وحسن الزي في سفره هو ومن معه، وتصدق بمال كثير.

قال: ونابني منه نحو مائتي مثقال من الذهب. وأعطى رفاقي جملاً أخرى. وبالغ مهنّاً في وصف ما رآه منه من الكرم وسعة النفس ورفاهية الحال.

قلت: ولقد كان الذهب مرتفع السعر بمصر إلى أن جاء إليها في تلك السنة. كان المثقال لا ينزل عن خمسة وعشرين درهماً، وما زاد عليها في الغالب. فمن يومئذ نزلت قيمته ورخص سعره، واستمر على الرخص إلى الآن لا يتعدى المثقال اثنين وعشرين درهماً وما دونها، هاذا من مدة تقارب اثني عشر سنة إلى اليوم لكثرة ما جلبوا من الذهب إلى مصر وأنفقوه بها.

قلت: ولقد جاء كتاب من هاذا السلطان إلى الحضرة السلطانية بمصر، وهو بالخط المغربي في ورق عريض، السطر إلى جانب السطر، وهو يمسك فيه ناسوتاً لنفسه مع مراعاة قوانين الأدب، كتبه على بعض يد خواصه ممن جاء يحج ومضمونه السلام والوصية بحامله. وجهز معه على سبيل الهدية خمسة آلاف مثقال من الذهب.

وبلاد مالي وغانة وما معها يسلك إليها من غربي صعيد مصر، على الواحات، في بر مقفر يسكنه طوائف من العرب، ثم من البربر، إلى عمران يتوصل منه إلى مالي وغانة. وهي مسامته جبال البربر في جنوب مراكش وما يليها في قفار طويلة، وصحار ممتدة موحشة.

حدثني الفقيه العلامة أبو الروح عيسى الزواوي قال: حدثني السلطان موسى منسى أن طول مملكته نحو سنة.

وبمثل هاذا أخبرني عنه ابن أمير حاجب.

وأما ما قاله الدكالي فقد تقدم ذكره، وهو أنها أربعة أشهر طولاً في مثلها عرضاً. وقول الدكالي أثبت، لأن موسى منسى ربما عظم شأن ملكه.

وقال الزواوي: قال لي هذ السلطان موسى أن عنده في مدينة اسمها زكري معدن النحاس الأحمر، يجلب منه قضبان إلى مدينة يني.

وقال: ليس لي في مملكتي شيء ممكس سوى هاذا النحاس المعدني الذي يجلب، فإنه يؤخذ منه خاصة لا غير، ونحن تبعثه إلى بلاد السودان الكفار نبيعه وزن مثقال بثلثي وزنه من الذهب. فنبيع كل مئة من هاذا النحاس بستة وستين مثقالاً وثلثي مثقال من الذهب.

قال: وقال لي إن عنده أمماً من الكفار في مملكته وهو لا يأخذ منهم جزية، وإنما يستعملهم في استخراج الذهب من معادنه.

وقال لي: إن معادن الذهب تحفر الجورة عمق قامة أو ما يقاربها، فيوجد الذهب في جنباتها، وربما يوجد مجتمعاً في سفل تلك الحفائر.

وملك هذه المملكة في جهاد دائم وغزو ملازم لمن جاوره من كفار السودان، وهم أمم لا يستوعبهم الزمان.

قال لي الدكالي: وأهل هاذه المملكة كثير فيهم السحر والسم، ولهم عناية بهما وتدقيق فيهما. وعندهم حشائش وحيوانات يركبون منها السموم القتالة، ولا سيما من نوع من السمك يوجد عندهم، ومرارات التماسيح فإنها سموم لا دواء لها.

وحدثني الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن الصابغ الأموي قال: حدثني الوزير أبي عبد الله محمد بن راعنوه من أهل بلدنا المرية بالأندلس، وهو ثقة من الفقهاء العلماء قال: ركبت في مركب تجارة لي مع جملة تجار من فم الأبلابه وهو مدخل البحر المحيط قاصدين بعض بلاد العدوة. فلعبت بنا الريح، وتقاذفت بنا الأمواج إلى أن عدينا المكان المقصود وتمادى بنا الحال إلى أن عجزنا عن الإرساء إلى البر، ولم نزل على هاذا نتغلغل في المحيط إلى الجنوب، إلى أن دفعنا في ظلمات ممتدة إذا أخرج الإنسان بها يده لم يكد يراها. وأيقنا بالهلاك لوقوعنا في الطلمات. ثم لطف الله تعالى بسكون الريح. فدارينا المركب ووقفنا بها، وقصدنا ناحية البر إلى أن وصلنا إلى البر وأرسينا به وخرجنا نطلب الخلاص لأنفسنا. فرأينا أعلام مدينة فقصدناها، فوجدنا بها أمة من السودان. لما رأونا بيضاً عجبوا منا واعتقدوا أنا صبغنا جسومنا بالبيض، فحكّوا جسومنا بالليف، فلما ظهر لهم أنه خلقة بقي كل واحد منهم يتعجب، ويتحدثون بذلك بعضهم بمع بعض.

فأقمنا عندهم فوجدنا غالب أكلهم لحم الثعابين والحيات. وهي كثير في أرضهم جداً يتصيدونها ويأكلون لحمها. ليس بأرضهم نبات ولا مرعى، فأقمنا عندهم مدة حتى خرج منهم أناس إلى بلاد مجاورة لهم في بعص أشغالهم، فخرجنا معهم. ثم تنقلنا من مكان إلى مكالن إلى أن وصلنا إلى بر العدوة.

وحدثني أبو عبد الله بن الصابغ أن الملح معدوم في داخل بلاد السودان. فمن الناس من يغرر ويصل به إلى ناس منهم يبذلون نظير كل صبرة ملح مثله من الذهب.

قال: وحدثت أن من أمم السودان الداخلة من لا يظهر، بل إذا جاء التجار ووضعوا الملح ثم غابوا فيضع السودان إزاءه الذهب. فإذا أخذ التجار الذهب أخذوا هم الملح.

وحكى لي عيس الزواوي قال: حدثت أن رجلاً دخل بملح ووصل إلى مدينة من مدن كفار السودان، قال: فأهديت إلى ملكها شيئاً من الملح فقبله، وبعث إلي بجاريتين من أحسن السودان صورة. ثم حضرت عنده بعد أيام فقال: بعثنا إليك بتكل الجاريتين فاذبحهما وكلهما. فإن لحمها أطيب ما يؤكل عندنا، فلأي شيء ما ذبحتهما؟

فقلت: ما يحل هاذا عندنا.

فقال: فأي شيء تأكل؟

قلت: لحم البقر والغنم.

فبعث ببقر وغنم.

قال: وحدثت أيضاً أن في بلاد هاؤلاء السودان جبلاً عالياً لا يمكن الصعود إليه، فيه أنواع من القواكه والثمار ولا سبيل لهم إليها إلا بما ألقت الرياح إليهم بما يتساقط من أوراقها وثمارها.

قلت: ولم يذكر هاذا عن بلاد الكفار، وإن كان ليس من شرطنا، لكني ذكرته لغرابته، وزيادة فائدة، ولأنه يتعلق ببلاد السودان. وأما ما أقوله فهو أنه كثر القول عممن يأكل من السودان لحوم الناس، وهم الذين بلادهم موغلة في غاية الجنوب ومنهم من الزنج.