فلسفة العالم الإسلامي
الفلاسفة وأهم مواضيع كتابتهم

الباب اخامس
سبيل السعادة


5.1 السعادة الإنسانية

5.1.1 ألكندي

ينتحل الكندي الفكر الأفلاطوني بأن النفس الإنسانية جوهر كامل خالد مميز عن البدن كالراكب على الفرس. "إن النفس بسيطة ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن، جوهرها من جوهر البارئ عز وجل، كقياس ضياء الشمس من الشمس."[1] وسعادته في هذه الدنيا في فعل العقل يسيطر على الشهوات والغضب. "وإذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة، رأت في النوم عجائب من الأحلام، وخاطبتها الأنفس التي قد فارقت الأبدان، وأفاض عليها البارئ من نوره ورحمته."[2] وبهذا "يمكنها الوصول إلى التشبه بالبارئ سبحانه."[3] "وإذا تجردت وفارقت هذا البدن وصارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارئ ورأت البارئ عز وجل وطابقت نوره وجلت في ملكوته."[4]

وليس كل نفس تفارق البدن تصير من ساعتها إلى ذلك المحل، لأن من الأنفس ما يفارق البدن وفيها دنس وأشياء خبيثة، فمنها ما يصير إلى فلك القمر فيقيم هناك مدة من الزمان، فإذا تهذبت ونقيت ارتفعت إلى فلك العطارد فتقيم هناك مدة من الزمان، فإذا تهذبت وتقيت ارتفعت إلى فلك كوكب أعلى فتقيم في كل فلك مدة من الزمان، فإذا صارت إلى الفلك الأعلى ونقيت غاية النقاء وزالت أدناس الحس وخيالاته وخبثه منها ارتفعت إلى عالم العقل وجازت الفلك وصارت في أجلّ محل وأشرفه وصارت بحيث لا تخفى عليها خافية، وطابقت نور البارئ.[5]

"فإن الإنسان إذا تطهر من الدنس صارت نفسه مصقولة تصلح وتقدر أن تعلم الخفيات من الغيوب،" [6] "وقد تعمل هذه القوة أعمالها في حال النوم واليقظة، إلا أنها في النوم أظهر فعلاً وأقوى منها في اليقظة."[7] ثم يمكن الأنقياء أن يفهموا المخفيات ويروا الأشياء في عللها قبل كونها.

5.1.2 الرازي

من محمد الرازي عندنا رسالة كاملة في الأخلاق، الطب الروحاني، الذي يشرح سلسلة الفضول، ومقالة صغيرة، السيرة الفلسفسية. والرازي يؤكد التوسط، يرفض التنسك لسقراط المفرط. ويلزم على النفس أن تطهر نفسها بدراسة الفلسفة. والنفس التي تفعل ذلك سنلتذ بعد مفارقتها البدن، ولكن النفس غير المطهرة ستعاقب من عدم اللذات الجسدية التي تعودتها.[8]

5.1.3 ابن مسرة

في رسالة الاعتبار فقرة تبين أفكار ابن مسرة في السعادة:

ولم يأت نبأ عن الله بيناً إلا وفي العالم آية دالة على ذلك النبأ وليس في العالم آية دالة على نبأ إلا والنبوة قد نبأت به ونبهت عليه، إما تفصيلاً وإما مجملاً. فلما اتفق البرهان، وتصدق النبأ الموصوف بالأثر المفهوم، لزم العقل ضرورة الإقرار بأن هذه القوة حاصرة له محيطة به، عالية عليه. إن عمى عنها ورام الخروج عن حوزتها، خرج عن الكنف كله، فلم يكن له مأوى إلا النار السفلى، لانقطاعه عن ولاية الله. وإن تمسك بها، وترقى في أسبابها، اقترب من الله المعين، واستزاد من ولايته قدماً حتى يتجلى على القدمين، ويثبتوا في جوار الله تعالى الذي كنف فيه أولياءه الناظرين إلى كنفه بابتغاء معرفته، وعلت بهم الهمم العالية السامية إلى جوار ربهم، والساكنة إلى الأمل المعقود لهم بوعد "الصدق الذي كانوا يوعدون" (الأحقاف، 16). فبؤساً للغافلين "الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري" (الكهف، 101). "وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم" (الكهف، 101).[9]

5.1.4 الفارابي

حصول المعقولات الأولى للإنسان هو استكماله الأول. وهذه المعقولات إنما جعلت له ليستعملها في أن يصير إلى استكماله الأخير. وذلك هو السعادة. وهو أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وهي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً. إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال.[10]

هنالك لا يحتاج إلى البدن.[11] وتحفظ النفس المفارقة شخصيته الفردية:

ولما كانت هذه الأنفس التي فارقت أنفساً كانت في هيوليات مختلفة وكان تبين أن الهيئات النفسانية تتبع مزاجات الأبدان، بعضها أكثر وبعضها أقل، وتكون كل هيئة نفسانية على نحو ما يوجبه مزاج البدن الذي كانت فيه، فهيئتها لزم فيها ضرورة أن تكون متغايرة لأجل التغير الذي فيها كان. ولما كان تغاير الأبدان إلى غير نهاية محدودة، كانت تغايرات أنفس أيضاً إلى غير نهاية محدودة.[12]

ولذلك "النفس الإنسانية، وإن كانت قائمة بذاتها، فإنها لا تنتقل عن هذا البدن إلى غيره."[13] "وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة واتصل بعضها ببعض كان التذاذ كل واحد منها أزيد. وكلما لحق بهم من بعدهم زاد التذاذ كل من لحق الآن لمصادفته الماضين، وزادت لذات الماضين باتصال اللاحقين بهم لأن كل واحدة تعقل ذاتها وتعقل مثل ذاتها مراراً كثيرة، ويزيد ما يعقل منها بلحاق الغابرين بهم في مستقبل الزمان. فيكون تزيد لذات كل واحد في غابر الزمان بلا نهاية. وتلك حال كل طائفة. فهذه هي السعادة القصوى الحقيقية التي هي غرض العقل الفعال."[14] ولكن السعادة ليست للكل:

أما أهل المدن الجاهلية، فإن أنفسهم تبقى غير مستكملة، ومحتاجة في قوامها إلى المادة ضرورة، إذ لم يرتسم فيها رسم حقيقة بشيء من المعقولات الأول أصلاً. فإذا بطلت المادة التي بها كان قوامها، بطلت القوى التي كان شأنها أن يكون بها قوام ما بطل... وهؤلاء هم الهالكون والصائرون إلى العدم، على مثال ما يكون عليه البهائم والسباع والأفاعي.

وأما أهل المدينة الفاسقة، فإن الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من الآراء الفاضلة، فهي تخلص أنفسهم من المادة... فإذا الفرد دون الحواس شعر بما يتبع هذه الهيئات من الأذى... فيبقى الدهر كله في أذى عظيم. فإن الحق به من هو في مرتبته من أهل تلك المدينة، ازداد أذى كل واحد منهم بصاحبه، لأن المتلاحقين بلا نهاية تكون زيادات أذاهم في غابر الزمان بلا نهاية. فهذا هو الشقاء المضاد للسعادة.

وأما أهل المدن الضالة، فإن الذي أضلهم وعدل بهم عن السعادة لأجل شيء من أغراض أهل الجاهلية وقد عرف السعادة، فهو من أهل المدن الفاسقة، فذلك هو وحده دون أهل المدينة شقي. فأما أهل المدينة أنفسهم فإنهم يهلكون وينحلون على مثال ما يصير إليه حال أهل الجاهلية.

وأما أهل المدن المبدّلة، فإن الذي بدل عليهم الأمر وعدل بهم إن كان من أهل المدن الفاسقة شقي هو وحده، فأما الآخرون فإنهم يهلكون وينحلون أيضاً مثل أهل الجاهلية. وكذلك كل من عدل عن السعادة بسهو وغلط.

وأما المضطرون والمقهورون من أهل المدينة الفاضلة على أفعال الجاهلية، فإن المقهور على فعل شيء، لما كان يتأذى بما يفعله من ذلك، صارت مواظبته على ما قُسر عليه لا تكسبه هيئة نفسانية مضادة للهيئات الفاضلة، فتكدر عليه تلك الحال حتى تصير منزلته منزلة أهل المدن الفاسقة، فلذلك لا تضره الأفعال التي أكره عليها، وإنما ينال الفاضل ذلك متى كان المتسلط عليه أحد أهل المدن المضادة للمدينة الفاضلة، واضطر إلى أن يسكن في مساكن المضادين.[15]

في التقليقات يلاحظ الفارابي أن "النفس الإنسانية ليست هي صورة مادية، إذ هي غير منطبعة في المادة،" ولكن في الكتاب نفسه يرجع إلى الموقف أن "النفوس الإنسانية، إذا أخذت من القوة الخيالية مبادئ علومها حتى لا تحتاج في شيء مما تحاول معرفتها إلى أخذ مبادئه من القوة الخيالية، تكون قد استكملت. وإذا فارقت كانت متخصصة الاستعداد لقبول فيض العقل الفعال."[16] ويضيف أن النفس مائتة بالطبع وإنما تبقى بعون العقل الفعال: "رأى القدماء أنه تتولد من هذه النفوس الإنسانية ومن العقول الفعالة نفوس تكون تلك الباقية، والنفس الإنسانية فانية."[17] وفي مصنفات الفارابي إنما الدعاوي القلبية تثبت أن نفس كل الإنسان باقية وخالدة.

كم من العلم يجب النفس أن تتحصل عليه لاستكمالها؟.   في فلسفة أرسطوطاليس يبين الفارابي كيف الإنسان ينبغي أن يتعلم جميع العلوم في الموسوع الأرسطي: المنطق، والطبيعيات، ونظم المجتمع، وعلم النفس والعقل، وخاصة العقل الذي جوهره فعله. وبالكلمة إن هذا العلم الفلسفة جميعها. وفي مبادئ أراء أهل المدينة الفاضلة يبين ذلك بأكثر تفصيل ويواجه المشكلة أن قليلاً من الناس يستطيعون أن يتعلموا ذلك:

فأما الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها جميع أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء، أولها معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به، ثم الأشياء المفارقة للمادة وما يوصف به كل واحد منها بما يخصه من الصفات والمرتبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعال، وفعل كل واحد منها، ثم الجواهر السماوية وما يوصف به كل واحد منها، ثم الأجسام الطبيعية التي تحتها، كيف تتكون وتفسد، وأن ما يجري فيها يجري على أحكام واتقان وعناية وعدل وحكمة، وأنها لا إهمال فيها ولا نقص ولا جور ولا بوجه من الوجوه، ثم كون الإنسان، وكيف تحدث قوى النفس، وكيف يفيض عليها العقل الفعال الضوء حتى تحصل المعقولات الأول، والإرادة والاختيار, ثم الرئيس الأول وكيف يكون الوحي، ثم الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من الأوقات، هم المدينة وأهلها والسعادة التي تصير إليها أنفسهم، والمدن المضادة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت: إما بعضهم إلى الشقاء وإما بعضهم إلى العدم، ثم الأمم الفاضلة والأمم المضادة لها.

وهذه الأشياء تعرف بأحد وجهين: إما أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة، وإما أن ترتسم فيهم بالمناسبة والتمثيل، وذلك أن يحصل في نفوسهم مثالاتها التي تحاكيها. فحكماء المدينة الفاضلة هم الذين يعرفونه هذه ببراهين وببصائر أنفسهم. ومن يلي الحكماء يعرفون هذه على ما هي عليه موجودة ببصائر الحكماء اتباعاً لهم وتصديقاً لهم وثقة بهم. والباقون منهم يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها لأنهم لا هيئة في أذهانهم لتفهمها على ما هي موجودة إما بالطبع وإما بالعادة، وكلتاهما معرفتان. إلا أن التي للحكيم أفضل لا محالة، والذين يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها، بعضهم يعرفونها بمثالات قريبة منها، وبعضهم بمثالات أبعد قليلاً، وبعضهم بمثالات أبعد من تلك، وبعضهم بمثالات بعيدة جداً. وتحاكي هذه الأشياء لكل أمم ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم الأعرف فالأعرف، وربما اختلف عند الأمم إما أكثره وإما بعضه، فتحاكي هذه لكل أمة بغير الأمور التي تحاكي بها الأمة الأخرى. فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف ملتهم، فهم كلهم يؤمّون سعادة واحدة بعينها ومقاصد واحدة بأعيانها.[18]

والذين يقبلون الحكمة بصيغة رمزية مخيلة يسمون "الملة".[19]

وبجانب آخر يقول الفارابي: "الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر. نحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواص واللوازم والأعراض، ولا نعرف الفصول المقومة لكل واحد منها الدالة على حقيقته، بل نعرف أنها أشياء لها خواص وأعراض،"[20] "الإنسان لا يعرف حقيقة الشيء البتة، لأن مبدأ معرفته الأشياء هو الحس، ثم يميز بالعقل بين المتشابهات والمتباينات، ويعرف حينئد بالعقل بعض لوازمه وذاتياته وخواصه، ويتدرج من ذلك إلى معرفة مجملة غير محققة."[21] "الفصول المنوّعة لا سبيل إلى معرفتها البتة وإدراكها. وإنما يدرَك لازمٌ من لواٌمها، فلا سبيل إلى معرفة ما يفصل النفس النباتية عن النفس الحيوانية وعن الناطقة. والأشياء التي يؤتى بها على أنها فصل فإنها تدل على الفصول وهي لوازمها، وذلك كالناطق، فإنه شيء يدل على الفصل المقوم للإنسان، وهو معنى أوجب له أن يكون ناطقاً."[22] أما في فلسلة أرسطوطاليس فيميز بين التعريف الذي يدل على الجوهر بالإطلاق وبين الذي يدل على الجوهر بالإضافي إليه.[23]

في كتاب تحصيل السعادة يبين الفارابي أن الإنسان لا يقدر أن يحصل على السعادة وحده:

وإن فطرة كل إنسان أن يكون مرتبطاً فيما ينبغي أن يسعى له بإنسان أو ناس غيره، وكل إنسان من الناس بهذه الحال. وإنه كذلك يحتاج كل إنسان فيما له أن يبلغ من هذا الكمال إلى مجاورة ناس آخرين واجتماعه معهم. وكذلك في الفطرة الطبيعية لهذا الحيوان أن يأوي ويسكن مجاوراً لمن هو في نوعه، فلذلك يسمى الحيوان الإنسي والحيوان المدني.[24]

إن السعادة أعظم الخيرات، وتحتاج إلى الفضائل النظرية والأخلاقية.[25] فأهل المدينة، وخاصة رؤساءها، يلزم أن يقتنوا الفضائل كلها، وعظماها الحكمة. وهذه فضيلة نظرية، صاحبها الفيلسوف. أما واضع النواميس فيلزم أن يمتاز بالفضيلة الفكرية، بينما الرئيس الأول (أو الإمام أو الملك) يلزم أن يمتاز بالفضيلة العملية. ولكن هذه الوظائف الثلاث مجتمعة في شخص واحد: الملك الفيلسوف.[26]

إن الفلسفة والنبوة تتشابه بأن اثنتيهما تحصل بفيض العقل الفعال. وإن يمس الفيض المتخيلة يجعل الإنسان نبياً، وإن يمس العقل يجعله فيلسوفاً.[27]

5.1.5 مسكويه

في طلب الحكمة يقول مسكويه: "فإن الحكمة أعظم المواهب التي وهبها الله لعباده وأفضل الكرامة التي أكرم بها أولياءه، هي المال الذي من أحرزه استغنى به ومن عدمه لم يغنه شيء سواه." وفي طلب الحكمة يلزم تطهير القلب: "فكل إفراط له مفسد وكل تقصير به مضر، فخير أحواله أن تقصر به عن الغنى وتدفع عنه الفاقة وتصرف عنه الطمع وتبذل له الكفاف ويمنع من الكظة ويقتصر به على القوت ولا يزال من أمره في قصد بين الغلو والنقصان." وفي وصف الحكمة يقول: "ينبغي للعاقل أن يحفظ ما يحكم عليه عقله ويتقنه حتى لا يتسلط عليه النسيان بأن يديم تعهده. وقد سمى قوم إدامة نظر العقل إلى ما حصله ذهناً، وقال إن الذهن لا ينام ولا يعقل ولا يسكن ولا يغيب عنه عقله ولا يحتاج إلى تذكير وهي هذه الدرجة العليا التي بها يشبه من كانت فيه الملائكة والأرواح، لأن العقل للبشر والذهن للملائكة، فلذلك لا يعقل الإنسان الشيء إلا بعد التفكر والتطلب والتمييز. وأما الملائكة فإنها تنظر بالذهن كما تنظر نحن بالعين بلا حاجة إلى تفكير وتمييز وطلب."[28]

والسعادة في هذه الحياة تفترض أيضاً معرفة العوالم الثلاث: العالم الجسماني، والعالم الروحاني الذي يحيطه، وعالم آخر محيط العالم الثاني وهو العلة الأولى، الواحد البسيط.[29] "وإن للنفس جهتين من الحركة: إحداهما... تسودها إلى سعادتها وبقائها اللائق بها، والأخرى تحطها وتخرجها عن ذاتها، وقد أطلق الأوائل على هاتين الجهتين العلو والسفل."[30] ويسرد مسكويه المعارضة: "فأما قول روفس الطبيب: أنه ليس يمعن أحد في الفكر في علم ما إلا وينتهي به ذلك إلى مالخوليا." ويجيب أن سبب المالخوليا ليس الفكر بل إنه الأوهام: "وكلما أمعن في هذا الضرب كان أبعد من الأمر الموجود. وهذه حال الوهم والعلوم الوهمية وتتبعها التخيلات الباطلة والوسواس المكروهة وربما ترقى إلى المحالات من الأماني واستشعار مخاوف ومهالك لا حقائق لها، وهذه هي صورة الماليخوليا"[31]

ويصف مسكويه دور العقل الفعال في السعادة كغاية الإنسان:

وربما قويت النفس واستغنت عن الأمور الطبيعية وعرفت عيوبها ونقصها، فألقت بصره نحو العقل الفعال، ثم اتحدت به وأيدها حينئذ العقل الفعال، وجذب بصيرتها، فقربها من تلك الصور الإلهية التي كانت عشائقها وأشواقها، فاتجهت بها من غير توسط لحمي ولا صوت ولا نغم، وسكنت السكون التام والتذت اللذة التامة، إذ قد أدركت غاية مطلوبها، فتصير عند ذلك مشوقة معشوقة بعد أن كانت شائقة عاشقة، وصارت تحبب وتحرك الأشياء إليها وهي ساكنة بعد أن كانت تتحرك إلى الأشياء، وتحرك كل شيء بعد أن كانت متحركة من كل شيء. فما ظنك بتلك اللذة إذا قايستها بهذه اللدة السماعية التي هي إحدى لذات الدنيا مهما يقاربها من الآلام بالحركة الدائمة.[32]

والنفوس المفارقة عن الأبدان تقبل الفيض من العقل (الفعال) بالنسبة إلى استعدادها. وحال النفس عند العقل هو حال العقل عند البارئ تعالى. "ولأن كل مقام من المقامات الخيرة له نسبة ما بالمشاركة إلى غيره، فهو يلتذ بما يتصل به من النفوس التي لها مثل مقامه لأجل المناسبة والمشاكلة، ويلتذ أيضاً بنفسه وما حصل له من صورة الكمال وما يستفيده بذلك من الفيض والكون في جوار الله. وليس تضاده إلا الشريرة التي ليس لها نسبة إليه، ولا هي معه في مقامه، فأما الشريرة فهي تضاد الخيرة وتضاد بعضها بعضاً، وهي عادمة صورتها التي هي كمالها، فهي لذلك متأذية بأنفسها، متأذ بعضها ببعض، منقطع عنها الروح بالفيض لأجل أنها غير قابلة ولا مستعدة ولا متهيأة لقبوله، فالعذاب متصل بها غير منقطع عنها."[33] وإذا تأملنا في سعادة الآخرة سنحتقر اللذات الموجودة على الأرض وسنجانب عوائق الشهوة والغضب. "فذلك الانتكاس في الخلق والخروج عن طاعة العقل الذي هو رسول الله إلى خلقه، وعقبى ذلك البعد من جوار الله في دار البقاء والمصير إلى الشقاء الدائم والعذاب الأليم." وكل هذا "ليس يتحققها العامة لأنهم إنما يعرفون الحس وما يلمزه أعني الوهم... ولعمري أنه معدوم غير موجود في الحواس التي يطلبونه فيها، ولكنه موجود حق الوجود."[34]

5.1.6 ابن سينا

"فالنفس بعد الموت إما شقية وإما سعيدة: وذلك هو المعاد."[35] "فإذن النفس بعد الموت تبقى دائماً غير مائتة متعلقة بهذا الجوهر الشريف، وهو المسى بالعقل الكلي، وعند أرباب الشرائع بالعلم الإلهي."[36] "إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال، لم يضرها فقدان الآلات، لأنها تعقل بذاتها — كما علمت — لا بآلتها."[37] ولكن يرفض ابن سينا القول: "واتصال النفس بالعقل الفعال، هو أن تصير هي نفس العقل الفعال، لأنها تصير العقل المستفاد، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس، فتكون العقل المستفاد."[38] وجيب: "فيظهر لك من هذا أن كل ما يعقل، فإنه ذات موجودة، تتقرر فيها الجلايا العقلية، تقرر شيء في شيء آخر."[39]

"وأنت تعلم عن قريب أن العقل الفعال واهب الصور ومفيضها وأن النفوس والعقول فائضة عنه فهو الذي يفيدها التعقلات لاتصال بينها وبينه بما ينتقش فيها من صور المقولات التي تختص باستعداداتها الخاصة لأحكام خاصة."[40] وفي دور العقل الفعال في الصلاة يقول: "الصلاة... تضرع واشتياق وحنين من هذا الجسم الجزئي المركب المحدود السفلي إلى فلك القمر المتصرف بعقله الفعال في عالمنا هذا، أعني عالم الكون والفساد، ومناجاة بلسان البشرية معه، فإنه مربي الموجودات المتصرف في المخلوقات واستعاذة به وسؤال منه أن يحفظ العقل الفعال ويراعي نظام الشخص المتضرع المصلي بتعبده وتشبهه ليبقى مصوناً محروساً مدة بقائه في هذا العالم عن آفات الزمان... والأمر العقلي والفيض القدسي ينزل من سماء الفضاء إلى حيز النفس الناطقة بهذه الصلاة."[41] أما الدور المشرف الشمولي الذي يفضي ابن سينا إلى العقل الفعال واتكافه إليه فيبدوان لنا كمرادفة الشرك. ولكن في الدعاء يناجي الله قائلاً: "واطلع على ظلماتها (= نفسي) شمساً من العقل الفعال."[42] وفي رسالة في السعادة يقول في النفس السعيدة: "وشاكلت في طبعها الملائكة وصلحت لصحبتها أعنى الملائكة المدبرة للجزئيات في الأرض... وظاهر ما تكلم فيه الإلهيون أن صورة بعض الملائكة لا تلتبس على بعض بل بعضها لبعض كالمرايا فلذلك تدرك بعضها أفاعيل بعض و تعرف بذلك الغايات الحاصلة من أفاعيلها في الأمور الجزئية. ثم إن هذه النفس الزكية إذا اطلعت على ما في ذا تها... سنحت للوحي والإلهام في حال النوم واليقظة في الدنيا." [43] وكذلك إن رسالة في تزكية النفس تحتوي دعاءاً يطلب الحكمة بفيض الكواكب: "وأرتجي زحلاً ونفس عطارد والمشتري... امنحني فيضاً من العقل الفعال."[44] ولكن في الرسالة الأحضوية في المعاد، يجتنب هذه الظواهر الباطنية:

ولا سبيل إلى الارتقاء عن ذلك إلا بالعدالة. فإن المعتدل قد سلب عنه الطرفان جميعاً، وبقي جوهره خالياً عن الطبيعتين معاً. فليس المعتدل في الحر والبرد إلا والذي لم يسخن ولم يبرد البتة واحداً في المعنى. ولهذا أمروا بالعدالة. ومما ينزه النفس عن لطخات الطبيعة العبادة الإلهية واستعمال ما يدعو إليه الشريعة النبوية، فإنها حصن وجنة للنفس عن هذه الآفة.[45]

"إن النفس الناطقة كماله الخاص بها أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل، مبتدئاً من مبدأ الكل، وسالكاً إلى الجواهر الشريفة التي هي مبدأ لها الروحانية المطلقة... والشقاوة ليست تكون لكل واحد من الناقصين، بل للذين اكتسبوا للقوة العقلية الشوق إلى كمالها، وذلك عند ما يبرهن لهم أن من شأن النفس إدراك ماهية الكل بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل... وأما النفوس والقوى الساذجة الصرفة فكأنها هيولى موضوعة لم تكتسب البتة هذا الشوق"[46] "البدن هو الشاغل عن الإحساس بألم هذا الفقد أو بألم وجود يضاد عن الحق مثل ما يحسّن من الألم يذوق مضاد الحلو، فإذا زال البدن اشتدت لذة الواجد وعظم ألم الفاقد اشتداداً لا يقاس إلى حال التذاذ بحلو أو بألم بمر."[47] وكثيراً ما يتكلم ابن سينا كيف ستصطدم النفس بالحق عندما تجد نفسها مجردة عن البدن.[48]

في رسالة في السعادة يأكد ابن سينا أن السعادة الحقيقية "هي البقاء السرمدي في الغبطة الخالدة في جوار من له الخلق والأمر تبارك وتعالى." وليضبط ماهي السعادة في الدنيا، يتبع أسلوب أرسطو بفحص كل الأصول المظنونة للسعادة، يحاشيها واحداً بعد واحد.[49] كذلك في الرسالة الأحضوية في المعاد يبين أنه توجد لذات بدنية وروحية مختلفة، وأنها غير متساوية. أما السعادة الحقيقية هي معرفة الله والملائكة وطبيعات المخلوقات السماوية والأرضية.[50]

وأما على الإطلاق فلا سبيل إليها (تلك اللذة) إلا في الآخرة. فالسعادة الآخرية عند تخلص النفس عن البدن وآثار الطبيعة وتجرده كامل الذات ناظراً نظراً عقلياً إلى ذات من له الملك الأعظم وإلى الروحانيين الذين يعبدونه، وإلى العالم الأعلى وإلى وصول كماله إليه. واللذة الجليلة عند ذلك والشقاوة الأخيرة عند ضد ذلك. وكما أن تلك السعادة عظيمة جداً، فكذلك الشقاوة التي تقابلها أليمة جداً.[51]

كم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات حتى يجاوز به الحد الذي في مثله تقع هذه الشقاوة، وفي تعديه وجوازه ترجى هذه السعادة، فليس يمكنني أن أنص عليه نصاً إلا بالتقريب.

  1. وأظن أن ذلك بأن تتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً، وتصدق بها تصديقاً يقينياً، لوجودها عنده بالبرهان، وتعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهي، وتتقرر عنده هيئة الكل ونسبة أجزائه بعضها إلى بعض، والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات والواقعة في ترتيبه، وتصور العناية وترتيبها وكيفيتها... ونقول أيضاً إن هذه السعادة الحقيقية لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس...
  2. ثم النفس إنما كان البدن يغمرها ويلهيها ويغفلها عن الشوق الذي يخصها، وعن طلب الكمال الذي لها، أو الشعور بألم الكمال إن قصرت عنه... فإذا فارقت وفيها ملكة الاتصال به، كانت قريبة الشبه من حالها وهي فيه. فما ينقص من ذلك لا بغفلها عن حركة الشوق الذي له إلى كمالها، وبما يبقى منه معها يصدها عن الاتصال الصرف لمحل سعادتها، ويحدث هناك من الحركات المتشوشة ما يعظم أذاه... لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر ذاتي، بل لأمر عارض غريب، والعارض الغريب لا يدوم ولا يبقى، ويزول ويبطل مع ترك الأفعال التي كانت يثبت تلك الهيئة بتكررها. فيلزم إذاً أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة، بل تزول وتنمحى قليلاً قليلاً حتى تزكو النفس، وتبلغ السعادة التي تخصها.
  3. وأما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق، فإنها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات البدنية الردية، صارت إلى سعة من رحمة الله تعالى ونوع من الراحة... فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتتعذب عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق إليه... وهذه النفوس إن كانت زكية وفارقت البدن، وقد رسخ فيها نحو من الانعقادات... فإنهم إذا فارقوا البدن ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة, بل كل هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل، منجذبة إلى الأجسام.[52]

وفي هذا يقترب ابن سينا من موقف الأشاعرة: "ولذلك لم ير أهل اسنة خلود أهل الكبائر من المؤمنين (في النار)."[53]

أما في رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها يبين هذا التقسيم:

  1. الكاملون في العلم والعمل، وهم السابقون والمقربون (الواقعة: 10)، فيلتحقون من العوالم الثلاثة بعالم العقول.
  2. الكاملون في العلم ناقصون في العمل أو بالعكس، وهم أصحاب اليمين، في عالم النفس، يتصلون بنفوس الأفلاك ويتطهرون عن دنس عالم العناصر، يتنعمون باللذات السماوية المحسوسة. "ولا يبعد أن يتمادي أمرهم إلى أن يتعدوا للفوز بوصول الدرجة العليا فينغمسوا في اللذات الحقيقية، واصلين إلى السابقين، بعد انقضاء دهور تأتي عليهم."
  3. أصحاب الشمال، وهم النازلون في المرتبة السفلى، المنغمسون في بحور الظلمات الطبيعية، المنتكسون في قعر الأجسام العنصرية، المنتحسون في دار البوار.[54]

وفي رسالة في السعادة نجد قسماً رابعاً: نفوس الأطفال، وهي "بين الجنة والنار، أي لا عديمة السعادة على الإطلاق ولا مصيبة لها على الإطلاق."[55] وتقول رسالة في علم الأخلاق أن من "وفّى إنسانيته حقها من الكمال المستعد به للسعادة الدنيوية والأخروية يجب عليه تكميل قوته النظرية بالعلوم المحصاة المشار إلى غاية كل واحد منها في كتب إحصاء العلوم.[56] وهذا للفارابي، ولابن سينا رسالة في أقسام العلوم العقلية. "وسعادة النفس في كمال ذاتها من الجهة التي تخصها هو صيرورتها عالماً عقلياً، وسعادتها من جهة العلاقة التي بينها وبين البدن أن يكون لها الهيئة الاستعلائية."[57] وهيئة النفس في البدن ستبقى بعد مفارقتها عن البدن. فإذاً إن الكمال العلمي و الكمال العملي ضروريان، وللأسف يوجد من ينقص أحدهما أو اللآخر.

النفس التي كانت قواها "العرافة فاسدة، إذا اطمأنت النفس إليها ثم فارقتها عرض لها من السوء ما قدمنا ذكره. والنفس الإنسانية غير متخلصة من حالة هذه القوة إلا بعد تقديم يعرف بالحقائق باتقان العلم الفلسفي. فالواجب أن لا يتقاعد عن تحصيل الفلسفة التي هي المنجاة عن خدعة هذا القسم من القوى النفسانية الضارة بذات النفس النطقية."[58]

وفي الرسالة الأحضوية في المعاد يسرد ابن سينا ست أقسام: "والنفوس المفارقة للأبدان على طبقات:[59]

  1. نفوس كاملة منزهة، ولها السعادة المطلق.
  2. ونفوس كاملة غير منزهة، وهي في برزخ بينها وبين ابتغائها وتمام تجردها وتخلصها. ولأن أفعالها الشاغلة انقطعت بمفارقة البدن، تكون النفس آخدة في الشعور بالسعادة، وممنوعة عنها بالهيئة الرذيلة: فيؤذيها ذلك أذى شديداً. إلا أن هذه الهيئات غير جوهرية لها، فلا تؤذيها الدهر كله، بل تنمحي عنها، وتخلص آخر الأمر إلى السعادة الحقيقية. ولأن هذه الهيئات ثابتة من الحركات إلى أنواع من الخير والشر، وجوهرها طلب اللذيذ الحيواني، وقد فقد، فذلك أيضاً من آلام النفس في الحياة الآخروية.
  3. نفوس ناقصة منزهة وقع عندها في حياتها أن كمالاً لها، فلم تطلبه أو جحدته وناصبته، واعتقدت غير الحق. فهي متألمة بنقصانها الألم السرمدي.
  4. ونفوس ناقصة منزهة لم يقع عندها أن كمالاً لها البتة وحالة غير ما لها من العقد الملقى إليها من المرسلين فلم تطلبه، ولا خوطبت به فجحدته.
  5. ونفوس ناقصة منزهة لم يقع عندها ذلك ولا خطر ببالها أن كمالاً لها، وهو معدوم لها، كأنفس البله والصبيان. فهاتان الطائفتان تبقى كل واحدة منهما لا لها السعادة المطلقة ولا الشقاوة المطلقة لأنها لا تشعر بالكمال فتحس إليه وتطلبه بالجوهر، فيؤلمها نقصان ذلك الكمال وفقدانه، كما يؤلم الجائع الجوع. ولا يؤلمها أيضاً الآثار والهيئات الطبيعية المضادة لجوهر النفس لأنها منزهة. والطبقة الأولى، بقدر ما شعرت بالمبادئ، يكون لها أثر يسير من آثار السعادة.
  6. ونفوس ناقصة غير منزهة، فلها الشقاوة، إن كانت شاعرة أن لها كمالاً ما، على الإطلاق لا زوال لها، وإن كان نقصانها خالياً عن الشعور بأن لها ذلك، فلها الألم بحسب الهيئات الرديئة التي ورثتها من عالم الطبيعة."

"وقد تبين في العلوم الطبيعية أن الأخلاق والعادات تابعة لمزاج البدن... وكلما كان المزاج أقرب إلى الاعتدال كان الشخص أكثر استعداداً لقبول الملكات الفاضلة العلمية والعملية... وأكثر استعداداّ لقبول الفيض الإلهي."[60]

قال عليه السلام "اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه"، تيقناً منه أن حسن الصورة لن يوجد إلا عند جودة التركيب الطبيعي وأن جودة الاعتدال والتركيب مما يفيد طيباً في الشمائل وعذوبة في السجايا. وقد يوجد أيضاً واحد من الناس قبيح الصورة حسن الشمائل، وذلك لا يخلو من عذرين، إما أن يكون قبح الصورة لم يحصل بحصول قبح الاعتدال في أول الأمر داخلاً بل لفساد عارض خارجاً، وإما أن يكون حسن الشمائل لا بحسب الطبع بل بحسب الاعتياد، كذلك قد يوجد حسن الصورة قبيح الشمائل، وذلك أيضاً لا يخلو من عذرين، إما أن يكون قبح الشمائل عارضاً لعوارض في الطباع بعد استحكام التركيب، أو يكون ذلك لاعتياد قوي.[61]

ويعتقد ابن سينا أن تحصيل السعادة ليس بعمل الإنسان وحده، ولكن الاستكمال العقلي والعملي أولاً هبة الله:

من البين أن أفعال النفس الصادرة مستفادة من الجود الإلهي إذ كمال كل شيء بجوده وحرمان الأشياء من الاتصال بفيض جود الله تعالى الواسع، ما لم يضر ذلك بما فوقها من المرتبة، فحينئذ تقصير أيديها أصوب.[62]

ولذلك نلاحظ في كل مؤلفات ابن سينا اغتلاط الفلسفة والتصوف.[63] إن التعليقات تبين النسبة بين عمل الإنسان وعون الله، دائماً بواسطة العقل الفعال:

نسبة الأفعال الجميلة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة التأملات والأفكار إلى وجود اليقين. فكما أن التأملات والأفكار لا توجد اليقين بل تعد النفس لقبول النفس فكذلك الأفعال الحسنة تعد النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور.[64]

إن رسالة في ماهية العشق تضع طلب السعادة في تنسيق العشق الطبيعي الموجود في كل شيء لكماله. وكل عشق طبيعي مفيد. "وكتكليفه القوة الشهوانية المباضعة من غير قصد ذاتي إلى مفرد اللذة بل للتشبه بالعلة الأولى في استبقاء الأنواع وخصوصاً أفضلها أعني النوع الإنساني، وكتكليفه إياها الطعم والشرب لا كيف اتفق بل على الوجه الأصوب من غير قصد إلى مجرد اللذة لكن لإعانة الطبيعة المسخرة على استبقاء شخص أفضل الأنواع أعني الشخص الإنساني."[65] "إن كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقاً غريزياً، وإن الخير المطلق متجلّ لها لذاته... وإن وجود الأشياء تجليه."[66] "وأيضاً كل شيء تحقق أن شيئاً من الموجودات يفيده التشبه به والتقرب إليه والاختصاص به زيادة فضيلة ومزية، فإنه يعشقه بطباعه عشق العبد لمولاه. ثم النفوس الإلهية من البشر والملائكة لا يستحق إطلاق التأله عليها ما لم تكن فائزة بمعرفة الخير المطلق."[67]

"فواجب على ما أوضحناه سالفاً أن يكون الخير المطلق معشوقاً لها، أعني لجملة النفوس المتألهة، وأيضاً فإن الخير المطلق لا شك أنه سبب لوجود ذوات هذه الجواهر الشريفة... والنفوس البشرية بحالة الاستعداد لها شوق غريزي إلى معرفة المعقولات التي هي كمالها وخاصة ما هو أقود للكمال عند تصوره وأهدى إلى تصور ما سواه... ولا محالة أن لها عشقاً غريزياً في ذاتها للحق المطلق أولاً ولسائر المعقولات ثانياً."[68] وفي الكلام في تجلي الله للناس، يقول: "هو المعنى الذي تسميه الصوفية "الاتحاد" — المصطلح الذي سيرفض الغزالي فيما بعد.[69]

إن السعادة والشقاوة في الآخرة ليستا بجزاءين منقولين من الخارج، ولكنهما نتيجتا اطلاع النفس المفارقة على حالها كما هي هي، إما مطهرة مستعدة لتواجه الحقائق الإلهية وإما مكدورة عاجزة عن هذا.[70]

ماذا مكان رؤية الله في السعادة؟ في نهاية رسالة حي بن يقظان، في كلتي إصداريها، يرفع ابن سينا المسألة. ويبدو أنه يتكلم في سعادة هذه الحياة عندما يقول: "ومتى همّ بتأمله أحد من الحافين حول بساطه غض الدهش طرفه فآب حسيراً يكاد بصره يختطف قبل النظر إليه، وكان حسنه حجاب حسنه وكان ظهوره سبب بطونه وكان تجليه سبب خفائه كالشمس لو انتقبت يسيراً لاستعلنت كثيراً فلما أمعنت في التجلي احتجبت وكان نورها حجاب نورها. وإن هذا الملك لمطلع على ذويه بهاءه لا يضن عليهم بلقائه. وإنما يؤتون من دنو قواهم دون ملاحظته، وإنه لسمح فياض، واسع البر، غمر النائل، رحم الفناء، عام العطاء. من شاهد أثراً من جماله وقف عليه لحظه ولا يلفته عنه غمزة. ولربما هاجر إليه أفراد من الناس فيتلقاهم من فواضله ما ينوبهم."[71]

وفي هذه النصوص يظهر أن ابن سينا يظن أن الله تعالى عن مناظرة الإنسان. ولكن العقل الفعال مناسب للإنسان، وفي اتصال به يمكن الإنسان أن يجد سعادته الأزلية. وإنما في كتاب متأخر، الرسالة الأحضوية في المعاد، يوكد أن أعظم اللذات في الجنة "زيارة رب العالمين وكشف الحجب عنه لهم. وإن أبى ذلك قوم، فإنه شرعي ثابت بحكم اتفاق السواد الأعظم عليه وتواتر الأخبار به."[72]

ماذا الشقاوة الأزلية؟ "الأشقياء ليس عذابهم الشديد بالنار الجرمانية، فإن التي تنبعث من ذات النفس من البعد عن مبدعها كما قيل: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (المطففين، 15). والملكات الردية والشوق إلى عالم الجرم مع سلب الآلات، نعوذ بالله ألم لا يناسبه ألم."[73]

وقال بعض العلماء إن النفس إذا فارقت البدن وحملت القوة المتوهمة مع نفسها، على السبيل المذكورة، محال أن تتجرد عن البدن منزهة، ليس يصحبها شيء من الهيئات الطبيعية. فهي عند الموت شاعرة بالموت، وبعد الموت متخيلة نفسها الإنسان الذي مات وعلى صورته، كما كانت في الرؤيا تتخيل، ومتخيلة نفسها مقبورة ومتخيلة الآلام الواصلة إليها على سبيل العقوبات الحسية المتعارفة وجميع ما كانت تعتقده حالة الحياة أنه يكون له أو كان متعارفاً على تلك الصورة. فإن كانت سعيدة، تخيلته على الصورة المحمودة في الصورة الحسية وعلى ما كان يعتقده ويتعارفه للسعاداء. فقالوأ: هذا عذاب القبر وثوابه. والنشأة الثانية له، قالوا، خروجه عن لباس هذه الهيئات وقبره هذه الهيئات. قالوا: فلا عجب أن يتخيل الصورة المحمودة الجميلة وتظهر له في الآخرة، قبل النشأة الثانية وبعدها، جميع الأحوال المذكورة في كتب الأنبياء من الجنان والحور العين وما يجري مجرى ذلك. وأما الرموز والألغاز الواردة لا على سبيل مذهب ذهب إليه القائل به، فأكثر من أن تحصى.[74]

وفي دواء الشقاوة، إنما يقول ابن سينا: "ومن خاف من عقوبة على ذنب وجب عليه أن يحترز من تلك الذنوب ويجتنب الأفعال الرديئة التي تسمى ذنوباً."[75]

في رسالة في إثبات النبوات (#40)، يبين ابن سينا معنى الجنة والنار والصراط: "إذ قد تبين على الاختصار معنى العقاب والثواب، فالآن نتكلم في ماهية الجنة والنار فنقول: وإذا كان العوالم ثلاثاً، عالم حسي وعالم خيالي وهمي وعالم عقلي، فالعالم العقلي حيث المقام، وهو الجنة. والعالم الخيالي الوهمي، كما بيّن، هو حيث العطب. والعالم الحسي، هو عالم القبور. ثم اعلم أن العقل يحتاج في تصور أكثر الكليات إلى استقراء الجزئات. فلا محالة أنها تحتاج إلى الحس الظاهر. فتعلم أنه يأخذ من الحس الظاهر إلى الخيال إلى الوهم إلى الفكرة، وهذا هو من الجحيم، طريقاً وصراطاً دقيقاً صعباً حتى يبلغ إلى ذاته العقل فيعقل. فهو إذن يرى كيف أخذ صراطاً وطريقاً في عالم الجحيم. فإن جازه بلغ عالم العقل، فإن وقف فيه وتخيل الوهم عقلاً وما يشير إليه حقاً، فقد وقف على الجحيم وسكن في جهنم وهلك وخسر خسراناً عظيماً. فهذا معنى قوله في الصراط."

5.1.7 ابن جبير (Gabirol)

في مناقشة قصيرة في السعادة، يقول ابن جبير أنها معرفة العالم الإلهي. وهذا حاصل بالفهم السابق لعالم المادة والصورة، ثم بفهم الإرادة. ونتيجة هذه الهجرة من المحسوسات إلى المعقولات هي النجاة من الموت والاتصال بينبوع الحياة (מקור חיים).[76]

5.1.8 ابن باجة

يتبع ابن باجة لغز المغارة لأفلاطون ليميز الناس بحسب علمهم:

  1. فحال الجمهور من المعقولات تشبه أحوال المبصرين في مغارة لا تطلع عليهم الشمس فيها فيرونها، بل يرون الألوان كلها في الظل. فمن كان في فضاء المغارة رأى في حال شبيهة بالظلمة، ومن كان عند مدخل المغارة رأى الألوان في الظل. وجميع الجمهور فإنما يرون الموجودات في حال شبيهة لحال الظل، ولما يبصروا قط ذلك الضوء. فلذلك كما أنه لا وجود للضوء مجرداً عن الألوان عند أهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور ولا يشعرون به.
  2. وأما النظريون فينزلون منزلة من خرج من المغارة إلى البراح فلمح الضوء مجرداً عن الألوان، ورأى جميع الألوان على كنهها.
  3. وأما السعداء فليس لهم في الأبصار شبيه، إذ يصيرون هم الشيء. فلو استحال البصر فصار ضوءاً، لكان عند ذلك ينزل منزلة السعداء.[77]

وحال السعداء هذه يعني إدماج وجودي في العقل الفعال. وفي هذه الحياة هذا حاصل بتعلم ما بعد الطبيعة، "فأولئك، وهم أرسطو وسائر السعداء، واحد بالعدد لا فرق بينهم بوجه... وبهذا وحده يكون المتقدم والمتأخر في الزمان واحداً بالعدد. فأما الوجوه التي تسبق إلى بادي الرأي فكلها، لو أمكنت، كان المتقدم غير المتأخر، فلا يكون هرمس مثلاً وأرسطو واحداً بل اثنين متجاورين. وهذا بيّن بنفسه، إذا تدبر أيسر تدبر. فقد بان بهذا القول على أي جهة قيل في المتأخر أنه يكون والمتقدم واحداً بالعدد وأن ذلك الوجه أكمل في التوحد من جميع أصناف التوحد المشهورة التي تطلب في بادي الرأي."[78]

أما عاقبة المرتبتين الأولتين فمستنبط مما يقول الفارابي، الذي كثيراً ما ينقل منه ابن باجة.

5.1.9 ابن طفيل

يميز ابن طفيف ثلاث أصناف الناس:

  1. فإنه إذا أطرح البدن بالموت، فإما أن يكون قبل ذلك — في مدة تصريفه للبدن — لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود، ولا اتصل به، ولا سمع عنه، فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده.
  2. وإما أن يكون قبل ذلك — في مدة تصريفه للبدن — قد تعرف بهذا الموجود، وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والقدرة والحسن إلا أنه أعرض عنه واتبع هواه، حتى وافته منيته وهو على تلك الحال، فيحرم المشاهدة، وعنده الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل وآلام لا نهاية لها. فإما أن يتخلص من تلك الآلام بعد جهد طويل ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك، وإما أن يبقى في آلامه بقاء سرمدياً، بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين في حياته الجسمانية.
  3. وأما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل أن يفارق البدن، وأقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسنه وبهائه ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من الإقبال والمشاهدة بالفعل، فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها وغبطة وسرور وفرح دائم، لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود، وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب، ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي — بالإضافة إلى تلك الحال — آلام وشرور وعوائق.[79]

أما تمييز هذه الأصناف لا يناسب نفي البقاء الفردي الذي قد عبر عنه ابن طفيل آنفاً. وفي السياق يظهر كترديد الأفكار المشهورة في المجتمعة المسلمة.

في هذه الحياة التصريف لحواج البدن ضروري، ولكن الهدف الرئيسي هو مشاهدة الله وتحصل على تشبه صفاته.[80] ويلزم التشبه بالأرواح السماوية والاقتداء بها في العناية بالعالم الطبيعي، وهكذا حي بن يقظان "ألزم نفسه أن لا يرى ذا حاجة أو عاهة أو مضرة أو ذا عائق من الحيوان أو النبات، وهو يقدر على إزالتها عنه، إلا ويزيلها."[81]

5.1.10 ابن رشد

السعادة في هذه الحياة، بحسب ابن رشد، هي الاتصال بالعقل الفعال.[82] وهذا ممكن، بحسب رسالة اتصل العقل بالإنسان، لأن العقل الهيولاني أزلي، "ويمكن الأزلي أن يفهم الأزلي".[83]

كما الصور العنصرية التي تصل إلى المادة الأولى، لحق إليها استعداد ثان لقبول صور المتشابهة الأجزاء، وكما هي تصل إلى الفعل ولحق إليها استعداد ثالث لقبول النفس الغذائية، واستعداد رابع لقبول الصور المحسوسة، ولحق بالصور المحسوسة استعداد خامس لقبول الصور الخيالية، ولحق للصور الخيالية استعداد سادس لقبول المعقولات النظرية، كذلك يلزم ضرورياً أن يلحق بالصور المعقولات النظرية استعداد سابع لقبول صورة سابعة. (مترجم من العبرية:)

שכמו שצורות היסודות כאשר הגיעו בחמר הראשון תחובר בה הכנה שנית לקבול צורות המתדמה ההלקים. כאשר הגיעו לפעל תחובר בם הכנה שלישית לקבול הנפש הזנה. הכנה רביעית לקבל צורות מוחשות. ותחובר בצורות המוחשות הכנה חמישית לקבול הצורות הדמיוניות. ותחובר בצורות הדמיוניות הכנה ששית לקבול המושכלות העיוניות. כן יחוייב בהכרת עתחובר בצורות המושכלות העיוניות הכנה שביעית לקבול צורה שביעית.[84]

وهذا الاستعداد فعل العقل الهيولي ليكون مستفاداً، ويحصل بالدراسة والتأمل وتزكية النفس والذكر والصوم والصمت.[85]

ولكن كل هذا الاستعداد، المكتسب بجهد شديد، يلزم أن يفسد ويفني حين الاتصال بالعقل الهيولي، "كطبيعة النار المقتربة بجرم قابل الاحتراق أن يحرقه ويغيره إلى طبعها."[86] وحينئذ العقل الفعال سيكون عقله بدون فسد أو تلاش.[87] ويلزم أن نفهم بضبط "اتصال" في معناه الاصطلاحي في فلسفة أرسطو وابن رشد. فإنه يعني أن شيئين طرفاهما ليس إنما تتماسان ولكن أنهما اتحدا في موجود واحد.[88]

فإن القوة العقلية التي في الإنسان ليست العقل بالفعل بنفسها ولا بطبيعة ذاتها، ولكن العقل الفعال يجعله بالفعل ويسمح أن تكون الأشياء الأخرى معقولة له. ولأن القوة العقلية تعرض أن تكون عقلاً بالفعل، سيصعد حينئذ ذلك العقل بالفعل إلى إدراك المفارقات، فيعقل وجوده الذي هو العقل بالفعل. ثم وجوده المعقول سيبقى عاقلاً، وسيكون العقل والمعقول والعاقل واحداً بعينه، ويصير ذات درجة العقل الفعال. فحينئذ العاقل سيكون العقل الهيولاني، والمعقول هوالفعال، والعقل هو العقل الهيولاني. وهذه واحد في الوجود، ثلاث في الحال... ولذلك اندمج كل هذه الثلاث في واحد، إذا كانت بالفعل. وما كان منتسب إلى الهيولى صير وجوداً إلهياً. وهذا ما يفعل فينا العقل الفعال، ولذلك يسمى فعالاً. وإذا قد وصلنا إلى هذه الدرجة، استكملت سعادتنا. (مترجم من اللاتينية:)

Nam virtus rationalis, quae est in homine, non est ipsa eadem in se intellectus in actu, nec per naturam suae essentiae: sed intellectus agens reducit eam in intellectum in actu, et concedit quod alia sint sibi intelligibilia in actu. Et, cum rationali virtuti acciderit ut sit intellectus in actu, ascendet tunc ille intellectus in actu ad assimilationem rerum abstractarum, et intelliget suum esse, quod est actu intellectus: et tunc relinquetur suum intelligibile esse intelligens: et etiam intellectus, intelligibile, et intelligens erit tunc unum et idem in hoc, et reducetur in essentiam gradus intellectus agentis. Nam erit tunc intelligens intellectus materialis, res intellecta est agens, et intellectus erit intellectus materialis. Et haec sunt unum in esse, et tria in dispositione
Igitur reducuntur omnia haec, quae tria sunt, in unum, quando sunt in actu: et res, quae erat attributa materiae reducit ad esse divinum. Et haec est actio quae facit in nobis intellectus agens: et hinc vocatus est agens. Et quando quidem ad hunc pervenimus gradum, completa est nostra beatitudo.[89]

وإن هذه السعادة ينبغي أن تحصل في هذه الحياة. وابن رشد ينقد الفارابي في نفيه إمكانية تحصيل السعادة باتصال العقل الفعال:

ولعل هذا مشكوك فيه مما يفرض أبو نصر (الفارابي) في كتابه في الأخلاق، وهذا أن العقل بالقوة هو شيء لا يمكن أن ينسب له طبيعة العدم وإنه محدث. ولأنه محدث، يتجدد ضرورياً من جانب قبوله، إذا يعرض له هذا القبول. ولو قبل صورة العقل المفارق واتحد به، لكان واحداً. فإذاً لكان ممكناً أن الفاسد يصير أزلياً. ولأن هذا من البديهيات مستحيل، حكم أبو نصر أن اتصالنا بالعقل المفارق قول عجائز. (مترجم من اللاتينية:)

Et si quis dicere vellet esse forte dubium quod in Ethica sua Auennasar mouit, videlicet quod intellectus qui est in potentia est una res quae non potest dici ut naturam habeat priuationis et est nouum: et, cum hoc est nouum, renouabitur etiam ex necessitate ex parte receptionis huius, si ei accidat haec receptio: et, si reciperet formam intellectus abstracti, et vniretur cum eo, fieretque vunum: igitur possibile esset corruptibile effici aeternum. Et, qui hoc impossibile est de rebus notis per se, sententiatus est Auennasar verba dicentium quod uniemur cum intellectu abstracto, esse verba vetularum.[90]

ويظهر أن هذا الكمال يصل لكثير نحو فراقهم من هذا الدهر، لأنه كمال مضاد الكمال البدني. ولكن، كما رأيت، الفارابي ناقض هذه المسألة في كتيبه، و لأنه احتسب أنه كامل في نهاية عمره ولم يصل إليه، عرض بعض مشاكل بديهية. ولكن الكمال الناتج من هذا صعب جداً. ومن شروطه ألا يكون خطأ في الإيمان. ولذلك من المظنون أنه خاص للنخب. (مترجم من اللاتينية:)

Et videtur quod adueniat haec perfectio multis hominibus prope separationem eorum ab hoc seculo, quoniam est perfectio contraria perfectioni corporali. Alpharabius autem, ut vidisti, contradixit in suo libello huic interrogationi, et, cum reputauit se esse perfectum in fine suae aetatis et non peruenit illud ad eum, adduxit inconvuenientia ex rebus per se notis, et ideo dixit de eis quod sunt vanitates senectutis. Perfectio vero, ex qua prouenit hoc, ut diximus, est nimis difficilis. Nam ex conditionibus eius est vt non sit peccatum in credulitate sua. Et ideo existimatur de eo quod sit proprium hominibus excelsis.[91]

وبعد هذه الحياة تصل النفس إما إلى العدم النهائي وإما إلى الشقاوة غير النهائية.[92] ولا يحصر ابن رشد هذا الحكم لصنف خاص من الناس، ولكن يبدو أنه يعكس ابن باجة في كلامه في عاقبة الذين لا يصلون إلى اتصال بالعقل الفعال. ولكن الذين اتصلوا به، كما يقول في تهافت التهافت، سيحصلون على الخلود، ولكنه لا شخصي.

في المسألة الأولى في تهافت التهافت، يفرض ابن رشد أن النفس خالدة، ولكن، ضد ابن سينا، ينفي شخصيتها لحجتين: والأولى أنه، إن كان العالم قديماً، كان عدد لامتناه من نفوس مفارقة، ولكن العدة غير المتهاه مستحيل. وكذلك يلزم أن هذه النفوس تنفد جميع الأرض المتناهية لمادة أجسامها. والثاية أنه، إذا أزيلت المادة لم تبق إلا نفس واحدة مفارقة.[93]

وفي هذا السياق نلاحظ أن النفس، في معنى ابن رشد، هي العقل، لأنه يقول صراحاً في تهافت التهافت أن الإنسان يكون بذاته عقل.[94] أما النفس فنسبتها "إلى الهيولى هي نسبة لا يمكن فيها أصلاً أن تتصور المفارقة فيها من جهة ما هي صورة هيولانية."[95] وكل قواها الحسية، وفيها المتخيلة أو العقل الهيولاني، فاسدة.[96]

فإذاً، رغم بعض الغموض في النصوص، إن النص الأخير، تلخيص كتاب النفس، واضح أن الإنسان لا يملك عقلاً انفعالياً ولا فعالاً شخصياً، ولا عقلاً انفعالياً واحداً مشتركاً، بل كل الناس يشاركون في عقل واحد أزلي، وهو العقل الفعال. وهذا جوهر مفارق عن النفس، يعلم كل شيء وإنه الموضوع الحقيقي للعلم الذي ننسب إلى الأشخاص. وإن ما هو شخصي لكل إنسان هو حلول هذا العقل أو شبهه معكس، بحسب المعاني في مخيلة كل شخص. وهذا الشبه، الموجود في العقل الهيولاني أو في العقل بالملكة أو في العقل بالفعل، إنه فاسد، مثل النفس التي هي الصورة الجوهرية للبدن. كلاهما يفنيان مع البدن.

في تلخيصه لرسالة الاتصال لابن باجة، الذي ذيل في مختصر كتاب النفس بعد إكمال شرح كتاب النفس، يوافق سلوك ابن باجة في هذا المطلب ويبين مراتب المعرفة التي شرحها ابن باجة:

  1. أولها مرتبة الجمهور، وهو المعقولات العملية. وهذا بيّن من أمرها أنها كائنة فاسدة، إذ كانت مرتبطة بالصور الخيالية كما تقدم.
  2. والمرتبة الثانية المعقولات النظرية. وهذه أيضاً مراتب: فمنها معقولات الأمور التعاليمية، وهو معقولات ناقصة، إذ كانت لا تتصور على ما هي عليه في وجودها. وهي إنما تستند إلى مثالات أشخاصها. ولذلك تكاد أن تكون معقولاتها كالمخترعة. ومنها معقولات العلم الطبيعي، وهي أشرف من تلك...
  3. فإذا ارتقى صاحب العلم الطبيعي مرتقى آخر، فنظر في المعقولات التي ليست موجودة (في المادة)، وهي الصور المفارقة، عقل في ذلك الوقت معقولات غير فاسدة أصلاً، إذ كان ما يعقل من هذه ليس يستند إلى موضوعات ولا لها موضوعات. (وهذا في علم ما بعد الطبيعة الذي يتأمل جواهر مفارقة، وهي معقولة شخصية.)

ومعرفة المرتبتين الأولتين "تتعدد بتعدد شخص شخص. وأما السعداء الذين على كمالهم الأخير، فالأمر فيهم بالضد. أعني أنه لا يمكن أن يوجد سعيد من الناس اثنين بالعدد من جهة ما هما على كمالهم الأخير، وذلك أنه إن فرضنا أن السعادة إنما هي حصول العقل الذي بالفعل والملكة على كماله الأخير، وكان قد تبين أن هذا عقل يتعدد بتعدد الأشخاص، وأنزلنا سعيدين بهذه الصفة، لزم ضرورة أن يكون لعقل هذا وعقل هذا معقول واحد عند كل واحد منهما. وذلك أن كل اثنين بالعدد فلهما معقول واحد. فإن كان المعقول من ذلك عند أحد السعيدين غير المعقول عند الآخر، لزم أيضاً أن يكون لذينك المعقولين معقول عند كل واحد منهما. فإن وضعنا ذلك المعقول ليس لهما، لزم فيه ما لزم في الأول، ومر الأمر إلى غير نهاية، أو ينتهي بالضرورة تصور السعداء على تصور واحد بالعدد من جميع الجهات، ليس فيه كثرة أصلاً."[97]

من ثم يجيب ابن رشد على المعارضة أن علم ما بعد الطبيعة يعتمد على مقدمات حصلت لنا من المعقولات الهيولانية. — "وإذا. كان ذلك، وكنا إنما نتصور تلك المصور المفارقة بالمناسبة والمقايسة أن هذه المعقولات الهيولانية، والمقايسة إنما هي إضافة ما." وبطريق سلب اللواحق والأحوال التي نرى أنها إنما لحقت المعقولات الهيولانية، نتقدم شيئاً فشيئاً. "ولذلك ما كان علم النفس ضرورياً في أن يتقدم في المعرفة لذلك العلم. ولذلك قيل: اعرف ذاتك تعرف خالقك." ومن هذا نتقدم إلى معرفة الله والجواهر المفارقة. واتصال العقل الفعال بالإنسان ليس بكمال طبيعي، بل طما إلهي. والإنسان المكمل مركب مما هو أزلي وفاسد. "وكان هذا الوجود (الاتصال) مباياً للوجود الذي يخص الإنسان بما هو إنسان... وهو بالجملة موهبة إلهية."[98]

في تهافت التهافت يبحث ابن رشد عن النفس المفارقة ويقول: "فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم."[99] ويتجنب تصريح موقفه الخاص، ويقتبس أقوال منتصري ابن سينا الذين يدافعون عن تعدد النفوس المفارقة: "ومن ههنا نشأ القول بالجن أو تكون هي بذواتها هي التي تتعلق بالأبدان التي تكونها للشبه الذي بينها. وإذا فسدت الأبدان، عادت إلى مادتها الروحانية، وأجسامها اللطيفة التي لا تحس. وما من أحد من الفلاسفة القدماء إلا وهو معترف بهذه النفوس."[100] وبافتراض أن البعث ممكن وحقيق، يقول ابن رشد أن ما قال الغزالي جيد، أن النفوس "التي تعود هي أمثال هذه الأجسام التي كانت في هذه الدار، لا هي بعينها، لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الموجود لمثل ما عدم، لا لعين ما عدم كما بيّن أبو حامد. ولذلك لا يصح القول بالإعادة، على مذهب من اعتقد من المتكلمين."[101] ومثل سابقيه من الفلاسفة، يفسر ابن رشد الأوصاف القرآنية للجنة كمجاز: "كذلك الأمر فيما قيل في المعاد منها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، كما قال الله سبحانه وتعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار (الرعد، 35). وقال عليه السلام: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بخاطر. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس في الآخرة من الدنيا إلا الأسماء"[102]

وفي كل هذه النصوص لا أسس للقول إن ابن رشد اعتقد ببقاء النفس الشخشية.[103] ولكن في هذه المسألة يتبع مذهب ابن باجة بعينه. وإنما في الكشف عن مناهج الأدلة، في مسألة البعث، يبدو أن ابن رشد يتخذ موقفاً مختلفاً. فبعد إثبات أن السعادة الإنسانية هي في فعل العقل مع الفضائل النظرية والعملية، يقول:

وكانت النفوس يلحقها بعد الموت أن تتعري من الشهوات الجسمانية، فإن كانت زكية تضاعف زكاؤها بتعريتها من الشهوات الجسمانية، وإن كانت خبيثة زادها المفارقة خبثاً، لأنها تتأذي بالرذائل التي اكتسبت، وتشتد حسرتها على ما فاتها من التزكية عند مفارقتها البدن، لأنها ليست يمكنها الاكتساب إلا مع هذا البدن.[104]

ثم يلاحظ أن "الشرائع كلها متفقة على أن للنفوس من بعد الموت أحوالاً من السعادة أو الشقاء، ومختلفة في تمثيل هذه الأحوال وتفهيم وجودها للناس... ولهذا المعنى نجد أهل الإسلام في فهم التمثيل الذي جاء في ملتنا في أحوال المعاد ثلاث فرق:

  1. فرقة رأت أن ذلك الوجود هو بعينه هذا الوجود الذي ههنا من النعيم واللذة، أعني أنهم رأوا أنه واحد بالجنس وأنه إنما يختلف الوجودان بالدوام والانقطاع، أعني أن ذلك دائم وهذا منقطع.
  2. والطائفة رأت أن الوجود متباين وهذه انقسمت قسمين: طائفة رأت أن الوجود الممثل بهذه المحسوسات هو روحاني، وأنه إنما مثل به إرادة البيان، ولهؤلاء حجج كثيرة من الشريعة مشهورة فلا معنى لتعديدها.
  3. والطائفة رأت أنه جسماني لكن اعتقدت أن تلك الجسمانية الموجودة هنالك مخالفة لهذه الجسمانية لكون هذه بالية وتلك باقية، ولهذه أيضاً حجج من الشرع. ويشبه أن ابن عباس يكون ممن يرى هذا الرأي لأنه روي عنه أنه قال: ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأمساء. ويشبه أن يكون هذا الرأي هو أليق بالخواص. وذلك أن إمكان هذا الرأي ينبني على أمور ليس فيها منازعة عند الجميع. أحدها أن النفس باقية, والثاني أنه ليس يلحق عن عودة النفس إلى أجسام أخر المحال الذي يلحق عن عودة تلك الأجسام بعينها، وذلك أنه يظهر أن مواد الأجسام توجد متعاقبة وتنتقلة من جسم إلى جسم، أعني أن المادة الواحدة بعينها توجد لأشخاص كثيرة في أوقات مختلفة، وأمثال هذه الأجسام ليس يمكن أن توجد كلها بالفعل لأن مادتها هي واحدة. مثال ذلك أن إنساناً مات واستحال جسمه إلى التراب، واستحال ذلك التراب إلى نبات فاغتذى أنسان آخر من ذلك النبات، فكان منه منى حين تولد منه إنسان آخر.[105]

وكتب ابن رشد الكشف عن مناهج الأدلة ليبرهن أنه مسلم صحيح. فيمدح كل العبارات الموجود في القرآن كالأسلوب الأحسن لإرشاد الجمهور، ولكنه واضح أنه متجه إلى تفسير مجازي لأوصاف البعث. وقبوله لخلود النفس لا يناقض تعليمه في وحدة عقل الذين توفون في حال الكمال. والعاقبة المختلف لغير المكملين يوافق تعليمه في اتصال العقل بالإنسان أن شقاوة هؤلاء الناس العدم في الواقع.

5.1.11 موشي بن ميمون

"غاية فضيلة الإنسان التشبه به تعالى حسب القدرة، يعني أن نشبه أفعالها بأفعاله كما بينوا في شرح: كونا قديسين، قالوا: هو كريم، كذلك كن أتت كريماً. هو رحيم، كن أنت رحيماً."[106] وكما إن النبوة غاية الكمال الإنساني، "إن الحلم واحد من الستين من النبوة."[107] "وجميع معاصي الإنسان وخطاياه كلها إنما هي تابعة لمادته لا لصورته. وفضائله كلها إنما هي تابعة لصورته. مثال ذلك أن إدراك الإنسان بارئه وتصوره كل معقول، وتدبيره لشهوته وغضبه وفكرته في ما ينبغي أن يؤتي وما ينبغي أن يجتنب، كل ذلك تابع لصورته. أما أكله وشربه ونكاحه وشرهه في ذلك وكذلك عضبه، وكل خلق سيئ يوجد له فإن ذلك كله تابع لمادته."[108] "هذه الشرور العظيمة الواقعة بين أشخاص الإنسان من بعضهم لبعض بحسب الأغراض والشهوات والآراء والاعتقادات كلها تابعة لعدم، لأنها كلها لازمة عن الجهل، أعني عن عدم العلم."[109] إن تشريع التورة تابع لحكمة الله ولا لمجرد مشيئته. "وإن الشرائع كلها معللة ومن أجل فائدة ما شرع بها. أما كونها كلها لها علة نحن نجهل علل بعضها، ولا نعلم وجه الحكمة فيه."[110]

5.1.12 توما الأكويني

بحسب توما الأكويني، كمال الإنسان هو معرفة ذات الله.[111] ولأن هذه المعرفة غير ممكنة بالفلسفة ولا بالإيمان ولا بفيض من العقول المفارقة، لا يستطيع الإنسان أن يتحصل على السعادة في هذه الحياة.[112] وفي الآخرة مشاهدة الله غير مكتسبة بمعرفة الملائكة أو النفوس المفارقة، وإنما الله يقدر أن يعطيها. وهذا بهبة المجد، وإن هذا تكييف النفس بالطاقة أن ترى الله.[113] أما هذه الرؤية فلا تستوعب الله كلياً، ولكنها حاضرة لكل النفس بحسب استعدادها.[114]

5.2 المدينة الفاضلة

ابن مسرة يفرض مجتمعاً مرتباً بمراتب مناسبة مراتب النفس. فتحت الله ويجد الأنبياء والعلماء والحكماء، وهم يناسبون النفس الناطقة. وتحتهم يوجد الملوك الذين يناسب النفس الحيوانية. والصناع يناسبون النفس النباتية.[115]

للفارابي، المدينة الفاضلة شرط لتحصيل السعادة في هذه الحياة. ويبين طبيعة هذه المدينة: "في جملة ما تشتمل على الأمة أو المدينة مبدأ ما أول، ثم مبادئ أخر تتلوه ومدنيون آخرون يتلون تلك المبادئ، وآخرون يتلون هؤلاء إلى أن ينتهى إلى آخر المدنيين رتبة في المدينة والإنسانية، حتى يوجد فيما تشتمل عليه المدينة نظائر ما تشتمل عليه جملة العالم."[116] ومؤسس المدينة هو فيلسوف ورئيس في شخص واحد، ويمكنه أن يكون أيضاً نبياً، والمدينة تواصل في الوجود تحت إشراف ملك حكيم.[117]

وابن سينا يقول: "فالرئيس الأول المطلق والملك الحقيقي الذي يستوجب بذاته أن يملك، هو الأول من العدة المذكورة الذي إن نسب نفسه إلى عالم العقل وجد كأنه متصل به دفعة، وإن نسب نفسه إلى عالم النفس وجد كأنه من سكان ذلك العالم، وإن نسب نفسه إلى عالم الطبيعة كان فعالأ فيه ما يشاء. والذي يتلوه أيضاً رئيس كبير بعده في المرتبة، والباقون هم أشراف النوع الإنساني وكرامه. وأما الذين ليس لهم استكمال شيء من القوى إلا أنهم يصلحون الأخلاق ويقتنون الملكات الفضيلية، فهم الأذكياء من النوع الإنساني، وليسوا من ذوي المراتب العالية إلا أنهم يتميزون عن سائر أصناف الناس."[118]

أما ابن رشد فيعبر عن أفكاره في تلخيص سياسة أفلاطون حيث يتبع أفكار كتاب الجمهورية لأفلاطون، وخاصة فكر الملك الفيلسوف.

توما الأكويني، مثل الفارابي، يعتزم أن العالم مرتب، فالترتيب السماوي يناسب الترتيب المدني. وكما. الملائكة في مرتبة عليا ينيرون الذين في مرتبة سفلى، كذلك يليق أن أذكى الناس ينيروا غيرهم ويرشدوهم. وكذلك إن للإنسان مهمة إشراف المخلوقات غير الناطقة.[119]

5.3 النبوة

5.3.1 الفارابي

كما رأينا، للفارابي، إن العلم الإنساني هو قبول الصور المعقولة من العقل الفعال. فإذاً إن النبوة إنما قبول المعقولات بمستوى أعلى من العقل الفعال.

5.3.2 الرازي

لأن كل الناس يقدرون بالفطرة أن يتعلموا كل العلم الإلهي بالفلسفة، يقول الرازي أن الأنبياء غير ضروريون، والذين يعدون أنهم أنبياء هم منحيلون. وسنرجع إلى موقف الرازي في الباب التالي.

5.3.3 مسكويه

لمسكويه، إن النبي في أفق مراتب الناس، إبتداءاً من "الترك والزنج،

فإن هؤلاء ليس بينهم وبين الرتبة الأخيرة من البهائم التي ذكرناها كبير فرق، وليسوا يهتدون بالتميز إلى شيء كثير من المنافع، وليس يؤثر عنهم حكمة ولا يقبلونه أيضاً من الأمم التي تجاورهم. فلذلك ساءت أحوالهم وقل تنعمهم، وحصلوا غير مغبوطين ولا مستصلحين لغير العبودية والاستخدام فيما تستخدم فيه البهائم. ثم لا يزال أثر النطق يظهر ويزيد إلى أن يصير إلى وسط المعمورة في الأقليم الثالث والرابع والخامس، فحينئذ يكمل هذا الأثر ويصير بحيث تراه من الذكاء والفهم والتيقظ للأمور والكيس في الصناعات واستخراج غوامض العلوم والاتساع في المعارف، ثم يقع التفاوت في هذه الرتبة حتى يبلغ بها إلى حيث يومي إلى الواحد بعد الواحد في قوة الحدس وسرعة الهاجس واستقامة النظر وصحة الفكر وجودة الحكم على الأمور الكائنة والأخبار بالأحوال المستقبلة، حتى يقال فلان اللمعي وفلان محدس ونقاب وكأنما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق... فإذا بلغ الإنسان هذه الرتبة فقد قارب البلوغ إلى غاية أفقه الذي يتصل به بأفق الملائكة، أعني الوجود الذي هو أعلى من الوجود الإنساني ولم يبق بينه وبين مرتبة الأعلين إلا درجات يسيرة. نذكرها إذا رتبنا قوى العالم الصغير وشرحنا اتصال قواه بعضها ببعض، وكيف ترتقي قوة الحواس منه إلى ما هو أعلى منها، ومنها إلى ما بعدها حتى تجاور الفلك وتناسبه وتستمد منه، فهناك تتبين غاية أفق الإنسانية ونهاية شرفه وكيفية مرتبته، واتصال الروح المسمى في القرآن روح القدس، وبه يطلع الناظر في هذه المراتب على صورة الوحي ويفهمه ويعرف شرف الرسالة وعلو درجة النبوة."[120]

والأنبياء مثل الفلاسفة يصلون "إلى الإله الأول مبدع الأشياء كلها... إلا ما يعطاه الأنبياء — صلاوات الله عليهم — فإنهم بمزاج لهم خاص وبعناية إلهية بمصالح هذا العالم تبدع فيهم هذه القوة إبداعاً بغير تدريج فيها ولا ارتياض بها ولا معاناة لها ولا سعي إليها ولا حرص عليها."[121] أما الكهانة فإنها ليست إلا التخمين من ظواهر النجوم.[122]

5.3.4 ابن سينا

العقل الهيلاني في الدرجة الأعلى من استعداد يسمى العقل القدسي. "يجب أن ينتهي أيضاً في ظرف الزيادة إلى من له حدس في كل المطلوبات أو أكثرها، وإلى من له حدس في أسرع وقت وأقصره. فيمكن إذن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل حاساً، أعني قبولاً لها من العقل الفعال في كل شيء وترتسم فيه الصور التي في العقل الفعال، إما دفعة وإما قريباً من دفعة، ارتساماً لا تقليدياً، بل بترتيب يشتمل على الحدود والوسطى. فإن التقليديات في الأمور التي إنما تعرف بأسبابها ليست يقينية عقلية. وهذا ضرب من النبوة، بل أعلى قوى النبوة والأولى أن تسمى هذه القوة قوة قدسية، وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية."[123]

وبعد ذلك، في أحوال النفس، يبتدئ ابن سينا مناقشة النبوة بمقدمة القدر الإلهي الذي يشمل كل المحدثات، كما رأينا في الباب الثالث. ومقدمته الثانية هي أن الجواهر المفارقة في السماوات تدرك جميع الأحوال المتقدمة والمتأخرة معاً في عللها. والمقدمة الثالثة هي أن العقل الإنساني يستطيع أن يتصل بالعقول المفارقة. ولكن تختلف الاستعدادات للقبول جميعاً في الأنفس:

  1. فبعض الأنفس يضعف فيها ويقل هذا الاستعداد أصلاً لضعف القوة المتخيلة أيضاً.
  2. وبعضها يكون هذا فيها أقوى، حتى إن الحس إذا ترك استعمال القوة المتخيلة وترك شغله بما تورده عليه، جذبتها القوة العملية إلى تلك الجهة، حتى انطبعت فيها تلك الصور. إلا أن القوة المتخيلة، لما فيها من الغريزة المحاكية والمنتلقة من شيء إلى غيره، تترك ما أخذت.
  3. وطبقة أخرى يقوى استعداد نفسها حتى تستثبت ما نالته هناك، ويستقر الخيال عليه، من غير أن يغلبه الخيال، وينتقل إلى غيره عنها، فتكون الرؤيا التي لا تحتاج إلى تعبير.
  4. وطبقة أخرى أشد تهياً من تلك الطبقة، وهم القوم الذين بلغ من كمال قوتهم المتخيلة وشدتها أنها لا تستغرقها القوى الحسية في إيراد ما يورد عليها، حتى يمنعها ذلك عن خدمة النفس الناطقة في اتصالها بتلك المبادئ الموحية إليها الأمور الجزئية، فتتصل كذلك في حال اليقظة، و تقبل تلك الصور. ثم إن المتخيل ايضاً تفعل مثل ما تفعل في حال الرؤيا المحتاجة إلى التعبير، بأن تأخذ تلك الأحوال وتحاكيها، وتستولي على الحسية، حتى يؤثر ما يُتخيل فيها من تلك في قوة بنطاسيا، بأن تنطبع الصور الحاصلة فيها في البنطاسيا للمشاركة، فتشاهد صوراً إلهية عجيبة مرئية، وأقاويل إلهية مسموعة هي مثل لتلك المدركات الوحيية. فهذه إذن درجات المعنى المسى بالنبوة.
  5. وأقوى من هذا أن تُستثبت تلك الأحوال والصور على هيئة مانعة للقوة المتخيلة عن الانصراف إلى محاكاتها بأشياء أخر.
  6. وأقوى من هذا أن تكون المتخيلة تستمر في محاكاتها، والعقل العملي والوهم لا يخليان عما استثبتاه، فتثبت في الذاكرة صورة ما أخذت، وتقبل المتخيلة على البنطاسيا، وتحاكي منه قبلت بصور عجيبة مسموعة ومبصرة، ويؤدي كل واحد منها على وجهه. فهذه طبعات النبوات المتعلقة بالقوة العقلية العملية والخيالية. ولا يتعجبن متعجب من قولنا إن المتخيل ينطبع في النطاسيا فيشاهد، فإن المجانين قد يشاهدون ما يتخيلون، ولذلك علة تتصل بإبانة السبب الذي لأجله يعرض للمرورين أن يخبروا بالأمور الكائنة فيصدقون في الكثير.[124]

أما في رسالة في إثبات النبوات، مصنف متأخر، فيحط النبوة بين العقل الهيولاني والعقل الفعال. والنبي يقبل الوحي كفيض من العقل الفعال، وهذا الفيض إضافة عقله بالعرض، لا بالذات، كما هي الحال في العقل الفعال: "والصور المادية التي هي الأجسام، إما نامية أو غير نامية، والأول أفضل. والنامية إما حيوان أو غير حيوان، والأول أفضل. والحيوان إما ناطق أو غير ناطق، والأول أفضل. والناطق إما بملكة أو بغير ملكة، والأول أفضل. وذو الملكة إما خارج إلى الفعل التام أو غير خارج، والأول أفضل. والخارج إما بغير واسطة أو بواسطة، والأول أفضل، وهو المسمى بالنبي وإليه انتهى التفاضل في الصور المادية."[125]

وفي كلمات الصوفية يصف ابن سينا النبي بدون الاسم في اصطلاحات صوفية: "فالكلمة (النفس) إذا تم ذكاؤها أو تأيدت بالقدس، فلا عجب من أن تزداد قوتها بحيث تكون كأنها نفس العالم. وإدراك العلوم دون التعلم الكثير ليس بممتنع، بعدما شاهدت تفاوت أشخاص نوعك في الذكاء. فمن بليد غير منتفع بالفكر أبداً ومن شديد الحداس يحدس في كثير من المسائل، وليس ههنا حد يجب الوقوف عنده. فيجوز أن تكون كلمة قوية الجوهر تدرك المعقولات في زمان قصير لكمال جوهرها وقربها من مبدأها، كما قال الله تعالى: علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى (النجم، 5-6)." وإن هذا بالضبط ما يسميه توما الأكويني "النبوة الطبيعي".[126] ويبينها ابن سينا في العلم اللدني:

والله تعالى، بحسن عنايته، يقبل على تلك النفس إقبالاً كلياً، وينظر إليها نظراً إلهياً، فيتخذ من تلك النفس لوحاً ، ومن النفس الكلي قلماً، وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس القدسي كالمتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر، ومصداق هذا قول الله تعالى لنبيه: وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً (النساء، 113).

وفي الرسالة العرشية يحدد ابن سينا حقيقة كلام الله: إنه "فيضان العلوم منه على لوح قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة القلم النقاش الذي يعبر عنه بالعقل الفعال والملك المقرب."[127]

وفي رسالة الفعل والانفعال يبين: "حقيقة الوحي هو الإلقاء الخفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول مثل هذا الإلقاء، إما في حال اليقظة ويسما الوحي، وإما في حال النوم ويسمى النفث في الروع." ويضيف بياناً كيف النبي يختص بالمعجزة، وعباد الله المخصوصون تظهر منهم الكرامات، كما "إن الرؤيا الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"[128]

وفي رسالة في بيان المعجزة والكرامات والأعاجيب يبين ابن سينا إمكانية الكرامات: "إن نفس الإنسان قد تصدر عنها أمور وحوادث من غير واسطة، بل ولا إرادة، وذلك بمجرد التصور... فإن كان بعض النفوس قوية جداً غير منجذبة إلى البدن بالكلية، إما بسبب مزاج أصلي يوجب اختصاص تلك النفس بمثل هذه الهيئة أو المزاج، حادث بعد الأصلي تخيل ذلك، أو بسبب مجاهدة في تزكية النفس وتصفيتها وقطع علاقاتها بقدر الإمكان عن البدن وكدورات الطبيعة، كما هو لأولياء الله الأبرار، أمكن أن يتعدي تأثيرها إلى غير بدنها، فيحدث عنها انفعالات في عناصر العالم، حتى يشفي المريض باستشفائه ويسقي الأرض باستسقائه، ويحدث الخسف والزلزلة والطوفان والصواعق، أو يبدل الطيور وطيرانها بالهدوء والوقوع، وسورة السباع بالسكون والخضوع، إلى غير ذلك من فوارق العادات التي تحكى عن الأنبياء والأولياء المتقين.

وقد نرى من هذا القبيل ما ليس بنادر، وهو الإصابة بالعين، فإن العائن إذا تعجب من شيء، كان حالته النفسانية عند التعجب منهمكة للتعجب منه بخاصيه لا توقف عليها، وإنما يستعد هذا من بعض التأثير فيما بين الأجسام من الملاقاة، وتعود كيفيته في جسم في غيره، سبب قرب وبعد، أو محاذاة، أو نسبة بينهما، إما من تأمل ما قلناه من طاعة العناصر وتصورات النفوس. عزل هذا الشرط عن ولاية الاعتبار."[129] وخوف العين الضارة منشور في عوام دار الإسلام حتى اليوم.

والنبوة ليسة بتبليغ مباشر إلى العقل، ولكن تمر في المخيلة أو الوهم، كما يشرح ابن سينا في كلمات الصوفية: "ولما كانت الحواس الباطنة ممكناً توهنها دون ابطالها بالكلية، فقال القائل الحق سبحانه وتعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً (الكهف، 109). فإن الإنسان ما دام في هذا العالم لا ينقطع عنه وسواس الخناس، الذي سلطه الله تعالى عليه، والوهم هو إبليس لم يسجد لخليفة الله وكلمته حين سجدت ملائكة القوى كلها: أبى واستكبر وكان من الكافرين (البقرة، 34). ولهذا كل ما يحكم به العقل من الأمور المجردة عن المادة ينكره الوهم، وهو إلى يوم البعث من الناظرين. فإذا خرج الإنسان من القبر حضر أجله، وقال الشارع عليه السلام: ما منكم من أحد إلا وله شيطان."[130]

هنا ابن سينا لا يستنبط النتيجة أن الخطأ ممكن في النبوة، ولكن إنما يقول إن الوهم هو وسيل النبوة ولو يضاد أحياناً الحقيقة الصافية. أما في التعليقات يقول بالعكس: "النفس إذا طالعت شيئاً من الملكوت فإنها لا محالة تكون مجردة غير مستصحبة لقوة خياليه أو وهمية أو غيرهما ويفيض عليها العقل الفعال ذلك المعنى كلياً غير مفصل ولا منظم دفعة واحدة. ثم يفيض عن النفس إلى القوة الخيالية فتخيله مفصلاً منظماً بعبارة مسموعة منظومة — ويشبه أن يكون الوحي على هذا الوجه: فإن العقل الفعال لا يكون محتاجاً إلى قوة تخيلية فيه إفاضة الوحي على النفس فيخاطب بألفاظ مسموعة مفصلة."[131]

في العلم اللدني يقبل ابن سينا تمييز المتكلمين بين النبي الذي يوحى عليه وبين رسول الذي يبلغ ما أوحي عليه — برغم أن النبي في القرآن منحصرللأنبياء اليهود، بينما الرسول يشتمل اليهود وغير اليهود.[132]

وقد تبين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النفس الكلي. والنفس الكلي أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات. فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الوحي، ومن إفاضة النفس الكلي يتولد الإلهام. والوحي حلية الأنبياء، والإلهام رتبة الأولياء، كما أن النفس رمز العقل.

فالولي دون النبي، وكذلك الإلهام دون الوحي، وهو ضعيف بنسبة الوحي، قوي بإفاضة الرؤيا. واعلم أن الإلهام علم الأنبياء والأولياء، وأما الوحي فخاص بالرسل، موقوف عليهم، كما أن آدم وموسى وإبرهيم ومحمد وغيرهم، صلوات الله عليهم أجمعين من الرسل.

وفرق بين الرسالة والنبوة، فإن النبوة هي قبول النفس القدسية حقائق المعلومات والمعقولات عن الجوهر الأول، والرسالة تبليغ تلك المقبولات إلى المستعدين والتابعين. وربما يتفق القبول لنفس من النفوس ولا يتأتي له التبليغ لعذر من الأعذار ولسبب من الأسباب.

والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما حصل للخضر عليه اسلام حيث أخبر الله تعالى عنه فقال: وعلمناه من لدنا علماً (الكهف: 65)...

فالله تعالى أغلق باب الوحي وهداية العباد، وأفتح باب الإلهام رحمة بالعبد، فهيأ الأمور ورتب المراتب لتعلم أن الله لطيف بعبده: يرزق من يشاء بغير حساب (البقرة: 212).[133]

5.3.5 ابن طفيل

النبوة، لابن طفيل، هي القبول الكامل لفيض الروح أو العقل الذي يصدر من الله. وقد رأينا ماذا هذه الروح في الباب الرابع.

5.3.6 ابن رشد

في تهافت التهافت يلاحظ ابن رشد أن العلم الإلهي، يعني ما بعد الطبيعة، عجيب جداً، حتي "بعضهم ينسبها إلى الجن، وبعضهم ينسبها إلى الأنبياء، حتى لقد زعم ابن حزم أن أقوى الأدلة على وجود النبوة هو وجود هذه الصنائع.[134] والمضمون في هذا القول إن الفلسفة لا تفترق عن النبوة في جوهرها.

وفي مكان آخر يقول: "كل ما قصرت عن إدراكه العقول الإنسانية فواجب أن نرجع فيه إلى الشرع. حق، وذلك أن العلم المتلقى من قبل الوحي إنما جاء متمماً لعلوم العقل — أعني أن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى للإنسان من قبل الوحي. والعجز عن المدارك الضروري علمها في حياة الإنسان ووجوده: منها ما هو عجز بلإطلاق، أي ليس في طبيعة العقل أن يدرك بما هو عقل، ومنها ما هو عجز بحسب طبيعة صنف من الناس، وهذا العجز: إما أن يكون في أصل الفطرة، وإما أن يكون لأمر عارض من خارج من عدم تعلم. وعلم الوحي رحمة لجميع هذه الأصناف."[135]

على كل حال، يدافع ابن رشد عن نبوة محمد المثبوت بمعجزة القرآن التي تبنى على حكمته النظرية والعملية.[136]

5.3.7 موشي بن ميمون

يعطي موشي بن ميمون ثلاث آراء في النبوة:

  1. الرأي الأول: وهو رأي جمهور الجاهلية ممن يصدق بالنبوة وبعض عوام شريعتنا أيضاُ تعتقدونه، وهو أن الله تعالى يختار من يشاء من الناس فينبئه ويبعثه. لا فرق أن يكون ذلك الشخص عندهم عالماً أو جاهلاً، كبير السن أو صغير السن، لكنهم يشترطون فيه أيضاً خيرية ما، وصلاحية أخلاق، لأن الناس إلى هذه الغاية ما قالوا إنه قد ينبئ الله رجلاً شريراً، إلا بأن يرده خيراً أولاً بحسب هذا الرأي.
  2. والرأي الثاني رأي الفلاسفة، وهو أن النبوة كمال ما في طبيعة الإنسان. وذلك الكمال لا يحصل للشخص من الناس إلا بعد ارتياض يخرج ما في قوة النوع للفعل إن لم يعق عن ذلك عائق مزاجي أو سبب ما من خارج، كحكم كل كمال يمكن وجوده في نوع ما. فإنه لا يصح وجود ذلك الكمال على غايته ونهايته في كل شخص من أشخاص ذلك النوع، بل في شخص ما. ولا بد ضرورة، وإن كان ذلك الكمال مما يحتاج في حصوله لمُخرج، فلا بد من مخرج. وبحسب هذا الرأي لا يمكن أن يتنبأ الجاهل ولا يكون الإنسان يمسي غير نبي ويصبح نبياً كمن يجد وجدة، بل يكون الأمر هكذا. وذلك إن الشخص الفاضل الكامل في نطقياته وخلقياته، إذا كانت قوته المتخيلة على أكمل ما تكون وتهيأ التعيؤ الذي ستسمعه، فإنه يتنبأ ضرورة، إذ هذا كمال هو لنا بالطبع ولا يصح بحسب هذا الرأي أن يكون شخص يصلح للنبوة ويتهيأ لها ولا يتنبأ، إلا ما يصح أن يغتذي شخص صحيح المزاج بغذاء محمود، فلا يتولد من ذلك الغذاء دم جيد، وما أشبه هذا.
  3. والرأي الثالث، وهو رأي شريعتنا وقاعدة مذهبنا، هو مثل هذا الرأي الفلسفي بعينه إلا في شيء واحد، وذلك أنا تعتقد أن الذي يصلح للنبوة المتهيئ لها قد لا يتنبأ. وذلك بمشيئة إلهية. وهذا عندي هو شبه المعجزات كلها وجارٍ في نفسها.[137]

"وحقيقة النبوة وماهيتها هو فيض يفيض من الله عز وجل بوساطة العقل الفعال على القوة الناطقة أولاً ثم على القوة المتخيلة بعد ذلك. وهذه هي أعلى مرتبة الإنسان وغاية الكمال الذي يمكن أن يوجد لنوعه. وتلك الحالة هي غاية كمال القوة المتخيلة... وقد علمت أن كما هذه القوى البدنية التي من جملتها القوة المتخيلة إنما هو تابع لأفضل مزاج يكون لذلك العضو الحامل لتلك القوة... فقد أخبرنا تعالى بحقيقة النبوة وماهيتها، وأعلمنا أنه كمال يأتي في الحلم أو الرؤيا."[138] أما النبوة فقد وقفت، "وهذا صحيح بيّن العلة، لأن الآلة قد تعطلت، وهو السبب أيضاً في رجوع النبوة لنا على معتادها في أيام المسيح، لعله يظهر قريباً كما وعد."[139]

ومن اختلاف الفيض تنتج مهنات مختلفة: وإن كان الفيض على القوة الناطقة فقط ولا على المتخيلة، هذا هو صنف العلماء، أهل النظر. وإن كان ذلك الفيض على القوتين جميعاً ، أعني الناطقة والمتخيلة، كان نبياً. وإن كان الفيض على المتخيلة فقط، "فإن هذا الصنف هم المدبرون للمدن وواضعو النواميس والكهان والزاجرون وأرباب الأحلام الصادقة."[140]

والأنبياء الحقيقيون يمتازون بالإقدام بالشجاعة والشعور في عقلهم ومتخيلتهم.[141] أما الأنبياء الكاذبون "فلا نطقيات لهم أصلاً ولا علم، إلا مجرد خيالات وظنون. ولعلها أيضاً أعني تلك التي يدركونها أولئك إنما هي آراء كانت لهم وبقيت آثارها مرتسمة في خيالاتهم مع جميع ما في قوتهم المتخيلة. فلما عطلوا خيالات كثيرة وأبطلوها، بقيت آثار تلك الآراء وحدها. فظهرت لهم، فظنوها شيئاً طارئاً وأمراً جاء من خارج."[142] "وبقي أن تعلم هل مدعي ذلك هو الكامل الذي أوحى إليه بها أو هو شخص ادعى تلك الأقاويل وانتحلها. ووجه امتحان ذلك هو اعتبار كمال ذلك الشخص وتعقب أفعاله وتأمل سيرته، وأكبر علاماتك إطراح اللذات البدنية، التهاون بها. فإن هذا أول درجات أهل العلم. فناهيك الأنبياء وبخاصة الحاسة التي هي عار علينا كما ذكر أرسطو. ولا سيما فذارة النكاح منها. ولذلك فضح الله بها كل مدع ليتنين الحق للمحققين، ولا يضلوا ولا يغلطوا."[143]

وتوجد مراتب النبوة:[144]

  1. أن تصحب الشخص معونة إلهية تحركه وتنشطه لعمل صالح عظيم ذي قدر، مثل تخليص جماعة فضلاء من جماعة أشرار.
  2. أن يجد الشخص كأن أمراً ما حل فيه وقوة أخرى طرأت عليه فتنطقه، فيتكلم بحكم أو بتسبيح أو بأقاويل وعظيمة نافعة أو بأمور تدبيرية أو إلهية. وهذا كله في حال اليقظة وتصرف الحواس على معتادها.
  3. أن يرى النبي مثالاً في الحلم، وفي نفس ذلك الحلم يبين له معنى ذلك المثل.
  4. أن يسمع كلاماً في الحلم للنبوة مشروحاً مبيناً ولا يرى قائله.
  5. أن يكلمه شخص في الحلم.
  6. أن يكلمه ملاك في الحلم.
  7. أن يرى في الحلم للنبوة كأنه تعالى يكلمه.
  8. أن يأتيه وحي بمرأى النبوة ويرى أمثالاً.
  9. أن يسمع كلاماً في الرؤيا.
  10. أن يرى شخصاً يكلمه في مرأى النبوة.
  11. أن يرى ملكاً يكلمه في الرؤيا.

"لا شك أنه قد تبين واتضح أن معظم نبوة الأنبياء بالأمثال، إذ الآلة في ذلك هذا فعلها أعني المتخيلة... والشرائع إنما هي حق محض."[145]

5.3.8 توما الأكويني

مضاداً لاتجاه الفلاسفة العرب لتخفيض النبوة إلى مجرد ظاهرة طبيعية موجودة في قمة الأذكياء، زعم توما الأكويني أن النبوة الصحيحة إنما هي هبة الله تجاوز قوة النبي عليها، ولا يقدر النبي أن يتصرف بها كلما يشاء. ولأنها هبة إلهية، لا تعتمد على عقلية النبي الطبيعية، ولكن استعداد عقل النبي لقبول التنوير الإلهي هو أيضاً هبة الله.[146]


NOTES

[1] رسالة، القول في النفس المختصر من كتاب أرسطو وفلاكن وسائر الفلاسفة، ص 273.

[2] ص 277.

[3] ص 274.

[4] ص 275.

[5] ص 278.

[6] ص 278.

[7] رسالة في ماهية النوم والرؤيا، ص 295.

[8] الطب الروحاني، فصل 2. المناظرات بين أبي حاتم الرازي و أبي بكر الرازي.

[9] رسالة الاعتبار، ص 72-73.

[10] مبادئ أراء. أهل المدينة الفاضلة، #23. انظر السياسة المدنية، 32:8.

[11] رسالة في العقل، #45-46.

[12] مبادئ أراء. أهل المدينة الفاضلة، #29 (ص 113). dir=LTR>

[13] التعليقات، #32.

[14] السياسة المدنية، ص 82.

[15] مبادئ أراء. أهل المدينة الفاضلة، #32. السياسة المدنية، 82:16. رسالة في إثبات المفارقات.

[16] الععلثقات، #51. dir=LTR>

[17] التعليقات، #54.

[18] آراء أهل المدينة الفاضلة، فصل 33.

[19] كتاب تحصيل السعادة، #56.

[20] التعليقات، #6.

[21] التعلثقات، #48.

[22] اتعليقات، #84. انظر إحصاء العلوم، فصل 4 (ص 114-115)

[23] فلسفة أرسطوطاليس، #3، ص 88.

[24] كتاب تحصيل السعادة، #16.

[25] تنبيه على سبيل السعادة.

[26] كتاب تحصيل السعادة، #36 والتالية، #41، #58.

[27] مبادئ آراء، #25 & 27.

[28] وصية.

[29] الفوز الأصغر، ص 96-97.

[30] الفوز الأصغر، ص 88-89.

[31] مقالة في النفس والعقل، ص 59-57. انظر ص 48-47.

[32] رسالة في اللذات والآلام، ص 67.

[33] الفوز الأصغر، ص 104-106.

[34] الفوز الأصغر، ص 106-110.

[35] الرسالة الأحضوية في المعاد، ص 189.

[36] مبحث عن القوى النفسانية، فصل 10. انظر رسالة في الكلام على النفس الناطقة. كتاب النكت والفوائد في العلم اطبيعي، ص 168.

[37] الإشارات والتنبيهات، نبط 7، فصل 2.

[38] الإشارات والتنبيهات، نبط 7، فصل 9.

[39] الإشارات والتنبيهات، نبط 7، فصل 12.

[40] النكت والفوائد في العلم الطبيعي، ص 166-169.

[41] رسالة في الصلاة، ص 11-12.

[42] الدعاء (عاصي)، ص 297.

[43] رسالة في السعادة، ص 20.

[44] ص 393-394.

[45] الرسالة الأحضوية في المعاد، ص 207.

[46] أحوال النفس الناطقة، فصل 15. مكتوب ابي السعيد إلى الشيخ وجوابه.

[47] عيون الحكمة، ص 53. انظر النكت والفوائد في علم الطبيعي، ص 164-165. الرسالة الأحضوية في المعاد، ص 201-207. التعليقات، ص 81.

[48] التعليقات، ص 23-24 مثلاً.

[49] رسالة في السعادة، ص 2-5.

[50] الرسالة الأحضوية في المعاد، ص 191-201.

[51] الرسالة الأحضوية، ص 205.

[52] أحوال النفس، فصل 15. انظر رسالة في السعادة، ص 16-18.

[53] رسالة في السعادة، ص 17.

[54] رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، فصل 3.

[55] رسالة في السعادة، ص 16.

[56] رسالة في علم الأخلاق، ص 369.

[57] رسالة في علم الأخلاق، ص 376.

[58] رسالة في السعادة، ص 18.

[59] الرسالة الأحضوية في المعاد، ص 209-213.

[60] رسالة في الكلام على النفس الناطقة، ص 197.

[61] رسالة في ماهية العشق، ص 19.

[62] رسالة في السعادة، ص 19.

[63] انظر حاصة فسالاة في الحث على الذكر.

[64] التعليقات، ص 37.

[65] رسالة في ماهية العشق، ص 16.

[66] رسالة في ماهية العشق، ص 25.

[67] رسالة في ماهية العشق، ص 21.

[68] رسالة في ماهية العشق، ص 24.

[69] رسالة في ماهية العشق، ص 25.

[70] أحوال النفس، فصل 15. مبحث عن القوى النفسانية، فصل 10.

[71] رسالة حي بن يقظان — جامع البجائع، ص 113. انظر في عاصي، ص 335.

[72] رسالة الأصحوية في المعاد، ص 89-91.

[73] كلمات الصوفية، ص 167. انظر رسالة في السعادة، ص 16-17. رسالة في الموت، ص 382.

[74] رسالة الأحضوية في المعاد، ص 223-225.

[75] رسالة في الموت، ص 382.

[76] מקור חיים ، 5:73-74.

[77] اتصال العقل بالإنسان، ص 167-169.

[78] رسالة الاتصال، ص 171. رسالة الوداع، ص 171.

[79] حي بن يقظان، ص 181-182.

[80] حي ان يقظان، ص 101-194، 201.

[81] حي بن يقظان، ص 198.

[82] تفسير ما بعد الطبيعة، ص 1602-1613. The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect. تلخيص ما بعد الطبيعة، ص 145-146. Tractatus de animae beatitudine; Epistola de connexione intellectus abstracti cum homine.

[83] The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect، ص 108.

[84] The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect ، ص 109.

[85] The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect ، ص 137-141.

[86] The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect ، ص 54: כמו שמטבע האש כשתקרב מגשם יקבל השרפה שתשרוף הגשם ההוא ותשנהן טבעה

[87] The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect ، ص 152.

[88] جوامع السماع الطبيعي، ص 85-87، 103-105.

[89] Tractatus de animae beatitudine, p. 153a.

[90] Tractatus de animae beatitudine, p. 152a-b; cf. p. 150a.

[91] Epistola de connexione intellectus abstracti cum homine, p. 158a.

[92] The epistle on the possibility of conjunction with the active intellect ، ص 145.

[93] تهافت التهافت، ص 92-98، 443، 856.

[94] تهافت التهافت، ص 160-161.

[95] مختصر كتاب النفس، ص 9. انظر تلخيص كتاب النفس، ص 50، 56.

[96] تلخيص كتاب النفس، ص 23-24.

[97] تلخيص رسالة أبي بكر بن الصائغ — في آخر مختصر كتاب النفس، ص 90-92. انظر ابن باجة: اتصال العقل بالإنسان، ص 164-165. ومراتب العلم هذه موجودة أيضاً في حفيد بن رشد، أبو محمد بن عبد الله بن الوليد محمد بن محمد بن رشد: مقالة هل يتصل بالعقل الهيولاني العقل الفعال وهو ملتبس بالجسم.

[98] تلخيص رسالة أبي بكر بن الصائغ — في آخر مختصر كتاب النفس، ص 93-95.

[99] تهافت التهافت، ص 834.

[100] تهافت التهافت، ص 862.

[101] تهافت التهافت، ص 871-872.

[102] تهافت التهافت، ص 870.

[103] كما تزعم B.H. Zedler in "Averroes and immortality," The New Scholasticism, 28 (1954), pp. 436-453. وكتبت عرضاً أحسن لتعليم ابن رشد في العقل الانفعالي في Proceedings of the American Catholic Philosophical Association, 25 (1951), pp. 164-178.

[104] الكشف عن مناهد الأدلة، ص 151.

[105] الكشف عن مناهج الأدلة، ص 153-154.

[106] دلالة الحائرين، ص 135.

[107] دلالة الحائرين، ص 405.

[108] دلالة الحائرين، ص 488.

[109] دلالة الحائرين، ص 499.

[110] دلالة الحائرين، ص 574.

[111] Contra gentiles, III, nos. 25, 37.

[112] Contra gentiles, III, nos. 38-48.

[113] Contra gentiles, III, nos. 49-54.

[114] Contra gentiles, III, nos. 55-58.

[115] خواص الأحرف، ص 95.

[116] تحصيل على السعادة، #20.

[117] تحصيل على السعادة، #48، 57-61. السياسة المدنية، 79:3.

[118] أحوال النفس، فصل 14، ص 125-126.

[119] Contra gentiles, III, nos. 78-81.

[120] الفوز الأصغر، ص 116-118.

[121] مقالة في النفس والعقل، ص 23.

[122] الفوز الأصغر، ص 136-138.

[123] الشفاء، النفس، مقالة 5، فصل 6. انظر العلم اللدني، ص 197.

[124] أحوال النفس، فصل 13، ص 117-120. وفي انفعالات المجانين انظر: رسالة في بيان المعجزات والكرامات والأعاجيب، ص 408.

[125] رسالة في إثبات النبوات، ص 46.

[126] Quaestiones disputatae de Veritate, 12, a. 3

[127] الرسالة العرشية، ص 12.

[128] رسالة الفعل والانفعال، ص 3.

[129] رسالة في بيان المعجزات والكرامات والأعاجيب، ص 410-412.

[130] كلمات الصوفية، ص 169.

[131] التعليقات، ص 82.

[132] Cf. Willem Bejlefeld, "A prophet and more than a prophet," Muslim World, 59 (1969), 1-28.

[133] العلم اللدني، ص 198-200.

[134] تهافت التهافت، ص 347.

[135] تهافت التهافت، ص 415.

[136] الكشف عن مناهج الأدلة، ص 121-134.

[137] دلالة الحائرين، ص 392-394.

[138] دلالة الحائرين، ص 404-406. انظر ص 422، ومشنع توره، حيث يفقض ثلاث عشر مبادئ يجب على كل يهودي أن يقبلها.

[139] دلالة الحائرين، ص 409.

[140] دلالة الحائرين، ص 410.

[141] جلالة الحائرين، ص 412-413.

[142] دلالة الحائرين، ص 414-415.

[143] داللة الحائرين، ص 421.

[144] دلالة الحائرين، ص 436-447.

[145] دلالة الحائرين، ص 452، 455.

[146] Summa theologiae, II-II, qq. 171-174.