الباب الرابع
مباداة قريش وتعارضه
قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به. ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه ثم قال الله تعالى له: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (الحجر 94). وقال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (الشعراء 214-215). وقل إني أنا النذير المبين (الحجر 89). (1: 262-263)
4.1 بداية التعارض
موجز: إن محمداً لم يخفِ دعوته تماماً، وإلا لم يجلب كثيراً من التابعين. وبحسب ابن إسحاق كان إظهار الصلاة فرصة معارضة قريش للمسلمين. أما سبب تغير موقف القريش فيعطيه ابن سعد:
وكفار قريش غير منكرين لما يقول فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التي يعبدونها دونه وذكر هلاك أبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه. (1: 133)
موجز: ولكن لا يظهر أن المعارضة لمحمد مسببة عن تعييب الآلهة التقليدية، لأن ابن إسحاق لا يذكر أي أية من القرآن تعيب الآلهة في هذا الوقت. والذين كانوا أكثر عداوة لمحمد هم شباب يبتغون منسباً سياسياً، مثل أبي جهل. فلاحظوا شعبية محمد وفهموا المضمنات الثورية في حركته. وإن لم يطفئوها فوراً ستنمو حتى تشيل كل المضادين وتترك محمداً رب مكة. فنذكر أن أصل نمو مكة هو كونها مركز التجارة الدوّلية من سوريا في الإمبراطورية البيزانطية إلى اليمن وبالسفينة حتى الصين. فهذه الظروف الجديدة استدعت رئيس الدولة جديدا، يوحّد الجزيرة العربية ويأمّن الطريق التجاري.
قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ، ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام. (1:263)
ملاحظة: ولو لم يهجم محمد الدين التقليدي مباشرة، وعظه في قدرة الله وطلباته من الناس اختلف واضح الاختلاف عن عقائد الدين التقليدي ومعاملاته. فإن الدين التقليدي المدغم في البية الاجتماعية القبائلية، وهذه البنية ضُعفت وهُدمت بانتلاق الناس من البادية إلى المدن حيث اغتلطوا مع ناس عدة القبائل واشتركوا في التبادل التجاري والثقافي الدوّلي. ولكن الناس تعلقوا بظواهر الدين كعلامة الهوية القبيلية. ولذلك اشتكوا لأبي طالب:
فلما رأت قريش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس... وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس...وأبو البختري واسمه العاص بن هشام...والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى... وأبو جهل - واسمه عمرو... والوليد بن المغيرة بن عبد الله... أو من مشى منهم. فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ; فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه. (1: 265)
4.2 أنصار محمد يردون الاضطهاد
موجز: وضغط قريش على أبي طالب أن يسلم محمداً، ولكنه دائماً أبى، ولو لم يؤمن برسالة محمد.
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته ؟ قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا: فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ثم مضى ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح. قال فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا. قال فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع (عليهم) رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا الذي أقول ذلك. قال فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه. قال فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط. (1: 289-290)
قال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم.
فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة. فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم.
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا ، وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. (1: 291-292)
4.3 يرفض محمد تسوية مع قريش
موجز: ولأن وعيد قريش لم يسكت محمداً، لجأوا إلى الوعد، فأرسلوا عتبة إليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي، قال حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع قال يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ; وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم قال فاسمع مني ; قال أفعل فقال بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك (1: 293-294)
4.4 الآيات الشيطانية
موجز: وبرغم هذا الجواب القاسي كان محمد يميل إلى تسوية مع شعبه. وفي هذا الوقت لم يتعين بعد الحكم في مكان الآلهة التقليدية، فقد تماثلت الملائكة الذين اعترفها اليهود والمسيحيون، وفيما بعد المسلمون. فكان قريش مستعداً أن يعطي محمداً أي منسب وأي مال أراد وحرية الوعظ عوض اعترافه هذه الآلهة. فإذاً ستكون لمحمد درجة كهنة الدين التقليدي، بدون تهديد لكبراء قريش. ويروي الطبري الفتنة التالية:
ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل عليه السلام إليه بوحيه
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن محمد بن إسحاق قال حدثني سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله فقالوا يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشركك في أمرنا كله فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه فأنزل الله عز وجل قل يا أيها الكافرون حتى انقضت السورة
فكان رسول الله حريصا على صلاح قومه محبا مقاربتهم وجد إليه السبيل قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقاقبتهم فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد المدني عن محمد بن كعب القرظي قال لما رأى رسول الله تولي قومه عنه وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه وكان يسره مع حبه قومه وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم حتى حدث معه ارأته رقية بنت رسول الله وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بن سهيل وجماعة أخر معهم عددهم ثلاثة وثلانون رجلا
حدثنى القاسم بن الحسن قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله في ناد منه أندية قريش كثير أهله فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه فأنزل الله عز وجل والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فقرأها رسول الله حتى إذا بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان عليه كلمتين تلك الغرانيق العلا وإن القوم معه جميعا ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود فرضوا بما تكلم ره وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويمنت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإذا جعلت لها نصيبا فنحن معك.
قالا فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين التين ألقى الشيطان عليه قال ما جئتك بهاتين فقال رسول الله افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره إلى قولنه ثم لا تجد لك علينا نصيرا. فما زال مغموما مهموما حتى نزلت وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلى قوله والله عليم حكيم. (2: 337-340)
وفي هذا الحدث تقول سورة الإسراء: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
4.5 انفصال عن التقليديين
ملاحظة: نزلت الآيات الناسخة عندما استوعب محمد أنه لو سالح بين الإسلام والدين التقليدي لسد سبيل الإسلام، ولو اعترف الآلهة التقليدية لساواها بالله. أما اللقب "ابن الله" أو "بنت الله"، كما "ابن فلان"، لا يدل ضرورياً على النسل، بل يمكن أن يكون له معنى التصغير: ابن الله مثلاً يعني أُلَيه، أو إله صغير. ولكن محمداً اختار معنى التناسل ليهاجم عقائد الدين التقليدي. فيقول سورة النحل: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59). وكذلك سورة الصافات: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)، وسورة الزخرف: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)، وسورة الطور: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)، وسورة النجم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21). وختم محمد رفضه الدين التقليدي في سورة الكافرين: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
لم يرض قريش رفض محمد المصالحة. وتغيظ خاصة صواحب معبد اللات في الطائف وتجار ذالك المكان الذين خافوا حسر ربحهم. فيقول الطبري:
وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، ورهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم وهم قليل. (2: 328 = 1180)
ملاحظة: والمعارضة المجددة لأمة المسلمين شددت هويتها، فكانت مبنية على الاعتصام بمحمد كنبي، ولا على الدم والمناسفة القبلية التي غلبت على سياسة مكة. وفي هذه الظروف حاول محمد أن يجلب كبراء الناس إلى الإسلام، ولكن احتاج أن يتعلم أن يجانب التمييز، كما يقول ابن إسحاق:
وَوَقَفَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكَلّمُهُ وَقَدْ طَمِعَ فِي إسْلَامِهِ فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ إذْ مَرّ بِهِ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَشَقّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَضْجَرَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ شَغَلَهُ عَمّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِ. فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا وَتَرَكَهُ. فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ عَبَسَ وَتَوَلّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي صُحُفٍ مُكَرّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهّرَةٍ أَيْ إنّمَا بَعَثْتُك بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، لَمْ أَخُصّ بِك أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ مِمّنْ ابْتَغَاهُ. وَلَا تَتَصَدّيَنّ بِهِ لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ. (1: 363-364)
4.6 المنازعة العقلية
موجز: وفيما كان الإسلام ينتشر في الشعب، حاول كبراء مكة أن يسدوا هذه الحركة. ومن أساليبهم حرب الكلام. فاتهموه بعدة التهمات.
- وقد رأينا أن التهمة الأولى هي العداوة للدين التقليدي. أما غيرها من التهمات، فيقول سورة الأنبياء: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
أما التهمة الثانية هي أنه كاهن أو شاعر. فيجيب سورة الطور: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠). فيبين هذه التهمة ابن إسحاق: ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سنيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ; قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا: نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا: فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا: فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا: فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة (1: 270)
ملاحظة: ويصح القول بأن سور القرآن ليست في أوزان الشعر المعروفة، إلا بعض الآيات. ولكن تشابه الشعر بوزن سارح وبقافيات مترددة، في "ين" و"يم"، أو "ة"، إلى آخرها، كما هي معروفة. وشبه الشعر هذا يسهّل ويستدعي الترتيل. وطراز الكلام هذا يسمى سجع، وهو نوع بين الشعر وبين النثر. واستعمله الكهنة التقليديون، وهذا في شكل سلسلة أقسام غامضة الذاهبة إلى قول في المستقبل أو في غيب آخر. وبعض الآيات المكية تشابه أقسام الكهنة، مثل سورة الصافات: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤)، وسورة الذاريات: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨)، وسورة المرسلات: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)، وسورة النازعات: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)، وسورة العاديات: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦).
وتوجد أقسام أخرى ذوات شكل آخر، مثل سورة الطور: وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)، وسورة القيامة: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠)، وسورة التكوير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)، وسورة الانشقاق: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)، وسورة الفجر: وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)، وسورة الشمس: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠).
ولكن أغلب القرآن، وخاصة السور المدنية، تجانب الأقسام ولها شبه الشعر السارح لا تتبع الأشكال الموروثة.
أما مركز النقد أن محداً كاهن أو ساحر أو شاعر لم يكن طراز ألفاظ كلام القرآن. ففي سورة الصافات: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)، عبارة "الشاعر المجنون" تدل على أن عامة الشعب ظنت أن الشاعر، مثل الساحر، ملهوم من الخارج، إن لم يكن مجنوناً. أما محمد فكثيراً ما غشي عليه في قبوله سورة جديدة. ولذلك افترض الناس أنه يقبل نوعاً من الإلهام. ولأن قريش لم يوافق أنه من الله، استنبط أنه من الجن. وتشير إلى هذا سورة الأعراف: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)، وسورة الحجر: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦)، وسورة الحاقة: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢).
أما التهمة الثالثة فهي أن القرآن إنما هو جملة الأساطير مستعارة، كما تقول سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)، وسورة القلم: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥)، و سورة النحل: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣). ولا شك كانت لمحمد فرصة المناقشة في أمور الدين مع اليهود والمسيحيين. فيقول ابن إسحاق:
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلَى مَبْيَعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيّ فَكَانُوا يَقُولُونَ وَاَللّهِ مَا يُعَلّمُ مُحَمّدًا كَثِيرًا مِمّا يَأْتِي بَهْ إلّا جَبْرٌ النّصْرَانِيّ، غُلَامُ بَنِي الْحَضْرَمِيّ. فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مُبِينٌ. (1: 393)
ويزيد الطبري، في جامع البيان في تفسير القرآن، روايات أخرى:
كانوا يزعمون أن الذي يعلم محمداً هذا القرآن عبد رومي... فقال بعضهم كان اسمه بلعام... وقد قالت قريش إنما يعلمه بشر عبد لبني الحضرمي يقال مه يعيش... وقال آخرون بل كان اسمه جبر... وقال آخرون بل كانا غلامين اسم أحدهما يسار والآخر جبر... فكانا يقرآن التوراة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهما فقال كفار قريش إنما يجلس إليهما يتعلم منهما... وقال آخرون بل كان ذلك سلمان الفارسي... أخبرني سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله إنما يعلمه بشر إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سميع عليم أو عزيز حكيم وغير ذلك من خواتخ الآي ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله وسلم وهو على الوحي فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أعزيز حكيم أو سميع عليم أو عزيز عليم فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ذلك كتبت فهو كذلك ففتنه ذلك فقال أن محمداً يكمل ذلك إلي فأكتب ما شئت. (في سورة النحل، 103)
وما عدا العبيد، تكلم محمد مع ورقة بن عام خديجة، وكانت له الفرصة أن يقابل المسيحيين من قبائل العرب الشرقية وعرب اليمن والزوار من الحبشة، وخاصة في الموسم السنوي. وكذلك تقالب اليهود من مدينة وخيبر. وفي أسفاره إلى الشام اتصل برهبان وأحبار. فإنه غير معقول أن يكون محصوراً عن أفكار الدينية المنتشرة في بيئته في ذلك الوقت وأساطيرها.
أما سورة العكبوت يقول: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨). فإن محتويات القرآن تظهر أن هذا صحيح. فالكتب المقدسة لم تُرجمت بعد إلى العربية ولم يتل منها إلا من عرف العبرية أو اليونانية أو السورية. والعوام لم يتعلموا إلا ملتقطات منها مروية شفهياً باللغة العامية، ويستمعونها في الليالي كما كانوا يستمعون الشعر العربي والأساطير المنقولة. أما مادة هذه الملتقطات فاتخذت شكلاً جديداً تماماً في القرآن، تأكد التوحيد وسائر أركان الإسلام. وهكذا تشابه سور القرآن بعض نصوص الكتب المقدسة المسيحية في بعض المادة، وتختلف في أهمية النقط الأساسية. وزيادة على ذلك، كثير من أقوال القرآن في المسيح أو في مريم لا يشابه روايات الإنجيل البطة، ولكن تشابه روايات الكتب المزورة المعروفة لليهود المسيحيين، كما رأينا في الباب الأول.
وإلى التهمة أن محمداً استعار من آخرين في أسطور مريم، تجيب سورة آل عمران: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤). وفي أسطور نوح تقول سورة هود نفس الشيء: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩). وفي أسطور يوسف تقول سورة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢). وفي أسطور موسى تقول سورة القصص: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦). ولا بد أن مستمعي هذه السور من فم محمد يعترفوا فيها الأساطير التي قد سمعوا من الرواة العرب الذين سمعوها من اليهود أو المسيحيين. والشيء الجديد في الروايات القرآنية هو تأكيدها أركان الإسلام والشكل اللغوي العربي. فلم يسمع أحد هذه الأساطير من قبل في هذا الشكل.
والتهمة الرابعة هي أن محمداً افترى القرآن. وتجيب سورة الطور: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤). وبعد ذلك تغير التحدي في سورة الهود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣). وتقول سورة يونس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) أو، بسورة القصص: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٩). وطلب المعجزة كان من جوانب هذه التهمة، وتعرض القرآن نفسه كمعجزة والمعجزة الكبرى أو الوحيدة تبرهن أن محمداً نبي حقيقي مرسول من عند الله. فتقول سورة الإسراء: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (٩٣) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (٩٥).
والتهمة الخامسة هو أن محمداً لا يعرف الغيب فإذاً ليس بنبي. فامتنحاه أعداءه بثلاث أسئلة، كما يقول ابن إسحاق: فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ; وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا: وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة: ثم جاءه جبريل من الله - عز وجل - بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الله الفتية والرجل الطواف والروح. (1: 301-302)
والسؤال الأول تدل على قصة النائمين السبعة المسيحيين الذين استشهدوا في مدينة أفسوس في زمن الإمبراطور نيرو. وافتتح قبرهم وقت الاجتماع الممتردين في أفسوس في سنة 449 م، وقيل أن الشهداء بُعثوا إلى الحياة بعض المدة. وكان أسطورهم معروفاً في كل الشرق الأوسط وأقيمت معبدة كثيرة في ذكرهم. فيشير ابن إسحاق إلى "أفسوس، قرية الفتية" (2: 608). وبنماسبتهم تقول سورة الكهف: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦).
أما الرجل الطواف في السؤال الثاني فهو ذو القرنين. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه (1: 307). وتقول فيه سورة الكهف: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨).
أما للسؤال عن الروح، في تقول سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥). وهذا الجواب غير واضح. والتفسير المتأخر يقول أن الروح هو جبريل.
4.7 الاضطهاد المجدد
موجز: وبعد ما رأى قريش أن حرب الكلام التي شن ضد المسلمين لم تفلح لهم شيئاً، التفتوا إلى الاضطهاد الصريح. فعذب العبيد والناس الغير محميين. وبعضهم ماتوا عن المحنة، وآخرون استسلموا للضغط ونفوا إيمانهم. قال ابن إسحاق:
وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير ، قال قلت لعبد الله بن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له آللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول: نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له أهذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول نعم افتداء منهم مما يبلغون من جهده. (1: 321)
ونفس القضى تعطي سورة النحل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦).
الباب الخامس Early Islam الباب الثالث