الباب الثالث
الوعي النبوي
3.1 الاختبار الأول
في السنة العربعين من عمره خبر محمد أول وعي النبوة. وتختلف الجزئيات بحسب الرواية.
قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير. قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا يا عبيد ، كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل عليه السلام ؟ قال فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا ، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرز. (1: 235)... وذلك الشهر (شهر) رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. (1: 236) وهذا يناسب ما قيل في القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة 185). إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر 1). إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (الدخان 5).
ملاحظة: وليلة القدر غير معينة، فيظن البعض أنه في 27 من رمضان، أو في الأيام العشر الأخيرة للشهر أو في 17 من رمضان:
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان. قال ابن إسحاق: ثم تتام الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مهما كان اليوم، كان محمد وحده في حراء فاختبر شيئاً مروعاً. ويروي ابن إسحاق والطبري عدة روايات هذه الاختبار، الواحدة بجانب الأخرى، وهي من ثلاث أعناع.
- فالأولى التالية:
...سمعت النعمان بن راشد، يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أول ما ابتدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحؤ الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إليه الخلاء، فكان بغار بحراء يتحنث فيه اللياني دوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يقجع إلى أهله، فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال يا محمد، أنت رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجثت لركبتي وأنا قائم، ثم زحفت ترجف بوادري،، ثم دخلت على خديجة، فقلت: زمّلوني، زمّلوني! حتى ذهب عني الروع. (الطبري، التأريخ 1147)
ملاحظة: وفي هذه الرواية تذكر كلمه الحق، والحق اسم الله، وليس بجبريل. وتشابه هذه الرواية الرواية المنقولة في ابن اسحاق:
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، وكان واعية عن أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله. قال فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث. (1: 234-235)
- ولكن في الرواية التانية يكلمه جبريل:
ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله. ثم قال: اقرأ... (الطبري، التأريخ، 1147، ويتواصل كما يلي في ابن إسحاق.) قال قلت: ما أقرأ ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قال قلت: ما أقرأ ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني ، فقال اقرأ قال قلت: ماذا أقرأ ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال فقلت: ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي ، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي ، فكأنما كتبت في قلبي كتابا (1: 236-237)
ملاحظة: أما ذكر اسم جبريل في هذا الوقت فإنه مشكوك فيه ومؤثر عن الحديث المتأخر، لأن اسم جبريل لا يُذكر في القرآن إلا في السورات المدنية.
- وفي رواية ثالثة لم يسمع محمد شيئاً:
قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء قال فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني (1: 235)
ملاحظة: ويظهر كأن الرواية السابقة محاولة تفسير سورة النجم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18). ولكن السورة يذكر "عبده"، ويلزم أن الضمير يعود إلى الله. فإذاً لم ير محمد جبريل، ولكنه رأى تجلي الله. ولا يُذكر جبريل إلا في السورة البقرة المدينية: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (البقرة 97). وقبل تلك السورة يُذكر"الملائكة والروح" (القدر) أو "رسول كريم" (العبس): ومن العبس: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29). ومن القدر: وهذا لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4). والكلمة "وحي" تدل على تمليح إلى فكرة أو إملاع إلى خاطرة، ولا إملاء كلمات على المستمع. ولو لم نستطع أن نضبط كيف ولأي سبب وعن من أوحي إليه، فإنه واضح أن الاختبار كان مروعاً غريباً يجربه إلى الاستشارة.
3.2 تعضيد خديجة
وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها: فقالت يا أبا القاسم أين كنت ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمها ، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل ، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها ، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله. (1: 237-238)
ملاحظة: ويظهر جهل ورقة لدينه في أخذه الناموس كمُرسل من عند الله، بينما هو اللفظ العربي للكلمة اليونانية νόμος، يعني شريعة الله التي أبلغها موسى. ويظهر ان ورقة بقي مسيحياً، أما خديجة، فيقول ابن إسحاق عنها:
وآمنت به خديجة بنت خويلد ، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء منه. فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس رحمها الله تعالى. (1: 240)
3.3 فترة الوحى
يقول الطبري: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري، قال: فَتَرَ الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، فحزن حزناً شديداً، جعل يغدو إلى بؤوس شواهق الجبال ليتردى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبرئيل فيقول: إنك نبي الله، فيسكن لذلك جأشه، وترجع إليه نفسه. (2: 305 = 1155)
الباب الرابع Early Islam الباب الثاني