الباب الثالث

الوعي النبوي

3.1 الاختبار الأول

في السنة العربعين من عمره خبر محمد أول وعي النبوة. وتختلف الجزئيات بحسب الرواية.

قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير. قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا يا عبيد ، كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل عليه السلام ؟ قال فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا ، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرز. (1: 235)... وذلك الشهر (شهر) رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. (1: 236) وهذا يناسب ما قيل في القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة 185). إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر 1). إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (الدخان 5).

ملاحظة: وليلة القدر غير معينة، فيظن البعض أنه في 27 من رمضان، أو في الأيام العشر الأخيرة للشهر أو في 17 من رمضان:

قال ابن إسحاق: وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان. قال ابن إسحاق: ثم تتام الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مهما كان اليوم، كان محمد وحده في حراء فاختبر شيئاً مروعاً. ويروي ابن إسحاق والطبري عدة روايات هذه الاختبار، الواحدة بجانب الأخرى، وهي من ثلاث أعناع.

  1. فالأولى التالية:

    ...سمعت النعمان بن راشد، يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أول ما ابتدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحؤ الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إليه الخلاء، فكان بغار بحراء يتحنث فيه اللياني دوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يقجع إلى أهله، فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال يا محمد، أنت رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجثت لركبتي وأنا قائم، ثم زحفت ترجف بوادري،، ثم دخلت على خديجة، فقلت: زمّلوني، زمّلوني! حتى ذهب عني الروع. (الطبري، التأريخ 1147)

    ملاحظة: وفي هذه الرواية تذكر كلمه الحق، والحق اسم الله، وليس بجبريل. وتشابه هذه الرواية الرواية المنقولة في ابن اسحاق:

    قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، وكان واعية عن أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله. قال فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث. (1: 234-235)

  2. ولكن في الرواية التانية يكلمه جبريل:

    ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله. ثم قال: اقرأ... (الطبري، التأريخ، 1147، ويتواصل كما يلي في ابن إسحاق.) قال قلت: ما أقرأ ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قال قلت: ما أقرأ ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني ، فقال اقرأ قال قلت: ماذا أقرأ ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال فقلت: ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي ، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي ، فكأنما كتبت في قلبي كتابا (1: 236-237)

    ملاحظة: أما ذكر اسم جبريل في هذا الوقت فإنه مشكوك فيه ومؤثر عن الحديث المتأخر، لأن اسم جبريل لا يُذكر في القرآن إلا في السورات المدنية.

  3. وفي رواية ثالثة لم يسمع محمد شيئاً:

    قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء قال فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني (1: 235)

    ملاحظة: ويظهر كأن الرواية السابقة محاولة تفسير سورة النجم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18). ولكن السورة يذكر "عبده"، ويلزم أن الضمير يعود إلى الله. فإذاً لم ير محمد جبريل، ولكنه رأى تجلي الله. ولا يُذكر جبريل إلا في السورة البقرة المدينية: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (البقرة 97). وقبل تلك السورة يُذكر"الملائكة والروح" (القدر) أو "رسول كريم" (العبس): ومن العبس: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29). ومن القدر: وهذا لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4). والكلمة "وحي" تدل على تمليح إلى فكرة أو إملاع إلى خاطرة، ولا إملاء كلمات على المستمع. ولو لم نستطع أن نضبط كيف ولأي سبب وعن من أوحي إليه، فإنه واضح أن الاختبار كان مروعاً غريباً يجربه إلى الاستشارة.

3.2 تعضيد خديجة

وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها: فقالت يا أبا القاسم أين كنت ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمها ، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل ، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها ، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله. (1: 237-238)

ملاحظة: ويظهر جهل ورقة لدينه في أخذه الناموس كمُرسل من عند الله، بينما هو اللفظ العربي للكلمة اليونانية νόμος، يعني شريعة الله التي أبلغها موسى. ويظهر ان ورقة بقي مسيحياً، أما خديجة، فيقول ابن إسحاق عنها:

وآمنت به خديجة بنت خويلد ، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء منه. فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس رحمها الله تعالى. (1: 240)

3.3 فترة الوحى

يقول الطبري: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري، قال: فَتَرَ الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، فحزن حزناً شديداً، جعل يغدو إلى بؤوس شواهق الجبال ليتردى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبرئيل فيقول: إنك نبي الله، فيسكن لذلك جأشه، وترجع إليه نفسه. (2: 305 = 1155)

ملاحظة: وهذه الرواية تتواصل بإنزال سورة المدثر، ولكن في رواية ابن إسحاق هي سورة الضحى: وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5). ثم، تقول الرواية الأولى،: تتابع الوحي.

3.4 إبداء الوعظ بين الأصدقاء

قال ابن إسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، رضوان الله وسلامه عليه وهو يومئذ ابن عشر سنين. (1: 245)

موجز: وتبعه الشيخ أبو بكر. وكان لكل منهما دور مهم في تطور الإسلام فكان أبو بكر الخليفة الأول بعد موت محمد وكان علي الرابع. ثم أسلم زيد بن حارثة مولى محمد. وأسلم غيرهم من قريش، حتى أربعون. وكانوا يعبعون محمداً في الصلاة كما كانت في ذلك الوقت: ركعتات في الصبح وركعتان في المغرب، وصلاة زائدة في الليل: من سورة طه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132). ومن ق: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39). ومن هود: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114). ومن الإسراء: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

ويذكر ابن إسحاق هنا رواية أخرى يوصي جبريل اصلوات الخمس، ولو لا بد أن هذا تطور متأخر:

لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام ، فصلى به الظهر حين مالت الشمس ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق ثم قال يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس. (1: 245)

موجز: واستمر محمد يعلم جماعة المسلمين هذه، لا يدعو سائر قريش إلى الإسلام. ولكن أهل قريش يلاحظ ما يفعل، كما يقول ابن سعد:

أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا جارية بن أبي عمران عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال أمر رسول الله أن يصدع بنا جاء من عند الله وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعوهم إلى الله فكان يدعو من أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا إلى أن أمر بظهور الدعاء أخبرنا هوذة بن خليفة أخبرنا عوف عن محمد ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صامحا وقال إنني من المسلمين قال هو رسول الله

أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني معمر بن راشد عن الزهري قال دعا رسول الله إلى الإسلام سرا وجهرا فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به

وكفار قريش غير منكرين لما يقول فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التي يعبدونها دونه وذكر هلاك أبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه

أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس قال لما أنزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد رسول الله على الصفا فقال يا معشر قريش فقالت قريش محمد على الصفا يهتف فأقبلوا واجتمعوا فقالوا مالك يا محمد قال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا يسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني قالوا نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله قال يقول أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فأنزل تبت يدا أبي لهب وتب السورة كلها. (ابن سعد، 1: 133)

ملاحظة: أما تعليم محمد في هذه السنوات فنعرفه من آيات القرآن المكية القديمة التي لا تشير إلى النزاع مع قريش في الوقت التالي. فإن هذه النصوص تدور على خمس مواضيع أساسية:

  1. قدرة الله وجودته، الواضحتان في خلق الإنسان وسائر المخلوق وعنايته لها. وتفرض هذه النصوص وجود الله، لأنه عقيدة من عقائد العرب التقليدية، وعضدها تأثير اليهود والمسيحيين. ولكن ظن العرب أن الله الأول بين جماعة الآلهة فإذاً مقصور القوة، ولذلك تؤكد هذه الآيات عظمة الله. ولا تذكر وحدته، لأن هذه نقطة ظهرت في ما بعد من الخصام مع قريش.

    من سور هذه الوقت سورة العلق. ومثلها سورة البلد: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10). ومن المعارج: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22). ومن الأعلى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)، وسورة الرحمن كلها. ومن الغاشية: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20).

  2. ثم رجوع الإنسان إلى الله للحكم، بحيث سُبعث الإنسان في اليوم الأخير وسيبدو كل ما فعل من الخير والشر، ثم سيتوجه جزاءه. ولكن لا يوجد وصف جزئيات عذاب الجهنم إلا في السور المتأخرة. فههنا بعض النصوص:

    من سورة العلق: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8). وسورة المدثر كلها، ومن سورة العبسة: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23). ومن سورة البروج: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12).

  3. إيجاب الإنسان لله بالشكر والعبادة. فإن الكفر عكس الشكر، والكافر هو الغير الشاكر. ويُدان أيضاً الاستكبار والتفخر بالمال وإهانة حدود الله واستهزاء قدرته. أما الشكر فيظهر في العبادة وخاصة في الصلاة وركوعاته أمام الله.

    من سورة الانشقاق: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25). ومن سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17). ومن سورة الإنسان: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4).

  4. وإيجاب الإنسان لله بالكرامة للناس. والنص الأول التالي من سورة الضحى من السور المبكرة، والسائرة من وقت معارضة قريش، ولكن تظهر تعليماً أقدم. فبرغم أن لا تحدد حقوق الملكية والوراثة وغيرها من قوانين الاجتماع، تظهر أن محمداً كان يهتم باحتياجات الاجتماع من البداية.

    من سورة الضحى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11).

    ومن سورة الحمزة: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4). ومن سورة الليل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11). ومن سورة القلم: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33).

    ومن سورة العاديات: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11). ومن سورة الفجر: وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22). ومن سورة الحاقة: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35).

    ومن سورة الذاريات: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19).

  5. دور محمد في الإسلام. فنسمع من سورة المدثر: يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)، ومن سورة الأعلى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11). ومن سورة ق: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45). وفي هذا الوقت لم يدرّس محمد إلا ما قد عرف الناس الكل، مثل عظمة الله وحكمه في اليوم الأحير، ولا الغيوب المجهولة لهم.

وكان من الطبيعة أن محمداً يكون إمام الجماعة التي قبلت رسالته. وفي نظام مكة المبني على أحلاف القبائل كل نظام مبني على شيئ آخر، مثل الدين، أبدى مناسفة للنظام القائم. ومعارضة قريش التابعة أكدت فصل النظامين وجعلت محمداً رئيساً لجماعته ومن ثم رئيس دولة مستقلة.
الباب الرابع Early Islam الباب الثاني