الباب التاسع

انقلابات

9.1 يوم الأحد

التّحْرِيضُ عَلَى غَزْوِ الرّسُولِ

لَمّا أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ ، وَرَجَعَ فَلّهُمْ إلَى مَكّةَ ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، مِمّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَكَلّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنّا ، فَفَعَلُوا. (2: 60)

اجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ لِلْحَرْبِ

فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ حَرْبٍ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ. وَكَانَ أَبُو عَزّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْجُمَحِيّ قَدْ مَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ وَكَانَ فِي الْأُسَارَى فَقَالَ إنّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ قَدْ عَرَفْتَهَا فَامْنُنْ عَلَيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْك وَسَلّمَ فَمَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: يَا أَبَا عَزّةَ إنّك امْرُؤٌ شَاعِرٌ ، فَأُعِنّا بِلِسَانِك ، فَاخْرُجْ مَعَنَا; فَقَالَ إنّ مُحَمّدًا قَدْ مَنّ عَلَيّ فَلَا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ قَالَ (بَلَى) فَأَعِنّا بِنَفْسِك ، فَلَك اللّهُ عَلَيّ إنْ رَجَعْتُ أَنْ أُغْنِيَك ، وَإِنْ أُصِبْتَ أَنْ أَجَعَلَ بَنَاتِك مَعَ بَنَاتِي، يُصِيبُهُنّ مَا أَصَابَهُنّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ. فَخَرَجَ أَبُو عَزّةَ فِي تِهَامَةَ. (2: 60-61)

رُؤْيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ

( قَالَ) فَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ نَزَلُوا ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُسْلِمِينَ إنّي قَدْ رَأَيْت وَاَللّهِ خَيْرًا ، رَأَيْتُ بَقَرًا ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا ، وَرَأَيْتُ أَنّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوّلْتُهَا الْمَدِينَةَ.

مُشَاوَرَةُ الرّسُولِ الْقَوْمَ فِي الْخُرُوجِ أَوْ الْبَقَاءِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مُقَامٍ وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا. وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرَى رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَأَلّا يَخْرَجَ إلَيْهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمّنْ أَكْرَمَ اللّهُ بِالشّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرِهِ مِمّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ اُخْرُجْ بِنَا إلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنّا جَبُنّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَوَاَللّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إلَى عَدُوّ لَنَا قَطّ إلّا أَصَابَ مِنّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلّا أَصَبْنَا مِنْهُ فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ وَرَمَاهُمْ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا. فَلَمْ يَزَلْ النّاسُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبّ لِقَاءِ الْقَوْمِ حَتّى دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَهُ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ الصّلَاةِ. وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو ، أَحَدُ بَنِي النّجّار ِ فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النّاسُ وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ. فَلَمّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَكْرَهْنَاك وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَأَمْته أَنْ يَضَعَهَا حَتّى يُقَاتِلَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الصّلَاةِ بِالنّاسِ. (2: 63-64)

انْخِذَالُ الْمُنَافِقِينَ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ. قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ.

نُزُولُ الرّسُولِ بِالشّعْبِ وَتَعْبِيَتُهُ لِلْقِتَالِ

قَالَ وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ الشّعْبَ مِنْ أُحُدٍ ، فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إلَى الْجَبَلِ فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إلَى أُحُدٍ ، وَقَالَ: لَا يُقَاتِلُنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتّى نَأْمُرُهُ بِالْقِتَالِ. وَقَدْ سَرّحَتْ قُرَيْشٌ الظّهْرَ وَالْكُرَاعَ فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصّمْغَةِ مِنْ قَنَاةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْقِتَالِ أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ وَلِمَا نُضَارِبُ وَتُعَبّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِ مِئَةِ رَجُلٍ وَأَمّرَ عَلَى الرّمَاةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُبَيْرٍ ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مُعْلَمٌ يَوْمئِذٍ بِثِيَابِ بِيضٍ وَالرّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا ، فَقَالَ: <66> انْضَحْ الْخَيْلَ عَنّا بِالنّبْلِ ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا ، إنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا ، فَاثْبُتْ مَكَانَك لَا نُؤْتَيَنّ مِنْ قِبَلِكِ. وَظَاهَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الدّارِ...

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَعَبّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ مِئَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا ، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ. (2: 66)

المعركة

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَاقْتَتَلَ النّاسُ حَتّى حَمِيَتْ الْحَرْبُ: وقُتل عدة المسلمين، حتى حمزة المقاتل الكبير.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ فَحَسّوهُمْ بِالسّيُوفِ حَتّى كَشَفُوهُمْ عَنْ الْعَسْكَرِ وَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ لَا شَكّ فِيهَا.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ الزّبَيْرِ أَنّهُ قَالَ: وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنْظُرُ إلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَة وَصَوَاحِبُهَا مُشَمّرَاتٌ هَوَارِبُ مَا دُونِ أَخْذِهِنّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذْ مَالَتْ الرّمَاةُ إلَى الْعَسْكَرِ حِين كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ وَخَلّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا، وَصَرَخَ صَارِخٌ أَلَا إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ ; فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللّوَاءِ حَتّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصّارِخُ أَزَبّ الْعَقَبَةِ، يَعْنِي الشّيْطَانَ. (2: 77-78)

9.2 كاد محمد يُقتل

مَا لَقِيَهُ الرّسُولُ يَوْمَ أُحُدٍ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَأَصَابَ فِيهِمْ الْعَدُوّ ، وَكَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ أَكْرَمَ اللّهُ فِيهِ مَنْ أَكْرَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالشّهَادَةِ حَتّى خَلَصَ الْعَدُوّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَدُثّ بِالْحِجَارَةِ حَتّى وَقَعَ لِشِقّهِ... كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَشُجّ فِي وَجْهِهِ فَجَعَلَ الدّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدّمَ وَهُوَ يَقُولُ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى رَبّهِمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ (آل عمران 128). (2: 79-80)

ابْنُ السّكَنِ وَبَلَاؤُهُ يَوْمَ أُحُدٍ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ غَشِيَهُ الْقَوْمُ مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ؟ كَمَا حَدّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مَعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: فَقَامَ زِيَادُ بْنُ السّكَنِ فِي نَفَرٍ خَمْسَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَبَعْضُ النّاسِ يَقُولُ إنّمَا هُوَ عُمَارَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ - فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا ثُمّ رَجُلًا ، يُقْتَلُونَ دُونَهُ حَتّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادَ أَوْ عُمَارَةَ فَقَاتَلَ حَتّى أَثَبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ ثُمّ فَاءَتْ فِئَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَجْهَضُوهُمْ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ أَدْنُوهُ مِنّي ، فَأَدْنَوْهُ مِنْهُ فَوَسّدَهُ قَدِمَهُ فَمَاتَ وَخَدّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَرّسَ دُونَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو دُجَانَة بِنَفْسِهِ يَقَعُ النّبْلُ فِي ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ حَتّى كَثُرَ فِيهِ النّبْلُ. وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ دُونَ رَسُولِ اللّهِ. قَالَ سَعْدٌ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُنَاوِلُنِي النّبْلَ وَهُوَ يَقُولُ ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، حَتّى إنّهُ لَيُنَاوِلُنِي السّهْمَ مَا لَهُ نَصْلٌ فَيَقُولُ ارْمِ بِهِ

بَلَاءُ قَتَادَةَ وَحَدِيثُ عَيْنهُ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتّى انْدَقّتْ سِيَتُهَا ، فَأَخَذَهَا قَتَادَةَ بْنُ النّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ وَأُصِيبَتْ يَوْمئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ، حَتّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّهَا بِيَدِهِ فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدّهُمَا. (2: 82)

شَأْنُ أَنَسِ بْنِ النّضْرِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رَافِع أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النّضْرِ ، عَمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ (قُومُوا) فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ. وَبَهْ سُمّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. (2: 83)

أَوّلُ مَنْ عَرَفَ الرّسُولَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَوْلُ النّاسِ قُتِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ عَرَفْت عَيْنَيْهِ تَزْهَرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا ، هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَشَارَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَنْصِتْ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَضُوا بِهِ وَنَهَضَ مَعَهُمْ نَحْوَ الشّعْبِ ، مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ وَرَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. (2: 83)

مَقْتَلُ أُبَيّ بْنِ خَلَفٍ

قَالَ: فَلَمّا أُسْنِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ أَيْ مُحَمّدُ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَوْتَ فَقَالَ الْقَوْمُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَيَعْطِفُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ دَعُوهُ فَلَمّا دَنَا ، تَنَاوَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَرْبَةَ مِنْ الْحَارِثِ بْنِ الصّمّةِ يَقُولُ بَعْضُ الْقَوْمِ فِيمَا ذُكِرَ لِي: فَلَمّا أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُ انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إذَا انْتَفَضَ بِهَا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الشّعْرَاءُ ذُبَابٌ لَهُ لَدْغٌ - ثُمّ اسْتَقْبَلَهُ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَدَأْدَأَ يَقُولُ تَقَلّبَ عَنْ فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَتَدَحْرَجُ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ ، كَمَا حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، يَلْقَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ فَيَقُولُ يَا مُحَمّدُ إنّ عِنْدِي الْعَوْذَ فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُك عَلَيْهِ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ أَنَا أَقْتُلُك إنْ شَاءَ اللّهُ. فَلَمّا رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ فَاحْتَقَنَ الدّمُ قَالَ قَتَلَنِي وَاَللّهِ مُحَمّدٌ قَالُوا لَهُ ذَهَبَ وَاَللّهِ فُؤَادُك وَاَللّهِ إنْ بِك مِنْ بَأْسٍ قَالَ إنّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكّةَ أَنَا أَقْتُلُك، فَوَاَللّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوّ اللّهِ ِسَرِف وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكّةَ. (2: 84)

انْتِهَاءُ الرّسُولِ إلَى الشّعْبِ

( قَالَ ): فَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى فَمِ الشّعْبِ خَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، حَتّى مَلَأَ دَرَقَتَهُ مَاءً مِنْ الْمِهْرَاسِ، فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَشْرَبَ مِنْهُ فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا ، فَعَافَهُ فَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدّمَ وَصَبّ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَى مَنْ دَمّى وَجْهَ نَبِيّهِ. (2: 85)

حِرْصُ ابْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَلَى قَتْلِ عُتْبَة

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ سَعْد بْنِ أَبِي وَقّاصٍ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا حَرَصْت عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطّ كَحِرْصِي عَلَى قَتْلِ عُتْبَة بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لِسَيّئِ الْخَلْقِ مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ وَلَقَدْ كَفَانِي مِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَى مَنْ دَمّى وَجْهَ رَسُولِهِ. (2: 86)

صُعُودُ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ وَقِتَالُ عُمَرَ لَهُمْ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالشّعْبِ مَعَهُ أُولَئِكَ النّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ إذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ عَلَى تِلْكَ الْخَيْلِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: اللّهُمّ إنّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى أَهْبَطُوهُمْ مِنْ الْجَبَلِ. (2: 86)

ضَعْفُ الرّسُولِ عَنْ النّهُوضِ وَمُعَاوَنَةُ طَلْحَةَ لَهُ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ لِيَعْلُوَهَا، وَقَدْ كَانَ بَدُنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فَلَمّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَطِعْ فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فَنَهَضَ بِهِ حَتّى اسْتَوَى عَلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ الزّبَيْرِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمئِذٍ يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ، حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ. (2: 86)

9.3 نهاية القتال

هِنْدُ وَتَمْثِيلُهَا بِحَمْزَةِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَة ، كَمَا حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ ، وَالنّسْوَةُ اللّاتِي مَعَهَا ، يُمَثّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَجْدَعْنَ الْآذَانَ وَالْأُنُفَ حَتّى اتّخَذَتْ هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرّجَالِ وَآنُفِهِمْ خَدَمًا وَقَلَائِدَ وَأَعْطَتْ خَدَمَهَا وَقَلَائِدَهَا وَقِرَطَتَهَا وَحْشِيّا ، غُلَامَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ ، فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا ، فَلَفَظَتْهَا، ثُمّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتِ سُعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَة لِي مِنْ صَبْرِ وَلَا أَخِي وَعَمّهِ وَبَكْرِي
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي شَفَيْتَ وَحْشِيّ غَلِيلَ صَدْرِي
فَشُكْرُ وَحْشِيّ عَلَيّ عُمْرِي حَتّى تَرُمّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي (2: 91)

شَمَاتَةُ أَبِي سُفْيَانَ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أُحُدٍ وَحَدِيثُهُ مَعَ عُمَرَ

ثُمّ إنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَقَالَ أَنْعَمْتَ فَعَالِ وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ يَوْمٌ بِيَوْمِ أُعْلُ هُبَلُ أَيْ أَظْهِرْ دِينَك ; فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: قُمْ يَا عُمَرُ فَأَجِبْهُ ، فَقُلْ اللّهُ أَعَلَى وَأَجَلّ ، لَا سَوَاءَ قَتَلَانَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النّار. فَلَمّا أَجَابَ عُمَرُ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ هَلُمّ إلَيّ يَا عُمَرُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعُمَرِ ائْتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ; فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْشُدُك اللّهَ يَا عُمَرُ أَقَتَلْنَا مُحَمّدًا ؟ قَالَ عُمَرُ اللّهُمّ لَا، وَإِنّهُ لَيَسْمَعُ كَلَامَك الْآنَ قَالَ أَنْتَ أَصْدَقُ عِنْدِي مِنْ ابْنِ قَمِئَةَ وَأَبَرّ. لِقَوْلِ ابْنِ قَمِئَةَ لَهُمْ إنّي قَدْ قَتَلْت مُحَمّدًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ ابْنِ قَمِئَةَ عَبْدُ اللّهِ. (2: 93-94)

تَوَعّدُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُسْلِمِينَ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ: إنّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ مُثُلٌ وَاَللّهِ مَا رَضِيت ، وَمَا سَخِطْت ، وَمَا نَهَيْتُ وَمَا أَمَرْت. وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى: إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ. (2: 94)

خُرُوجُ عَلِيّ فِي آثَارِ الْمُشْرِكِينَ

ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ قَالَ عَلِيّ: فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ. (2: 94)

حُزْنُ الرّسُولِ عَلَى حَمْزَةَ وَتَوَعّدُهُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُثْلَةِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي ، يَلْتَمِسُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ وَمُثّلَ بِهِ فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ. فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ رَأَى مَا رَأَى: لَوْلَا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيّةُ ، وَيَكُونُ سُنّةً مِنْ بَعْدِي لَتَرَكْته ، حَتّى يَكُونَ فِي بِطُونِ السّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطّيْرِ وَلَئِنْ أَظْهَرنِي اللّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فِي مَوْطِنٍ مِنْ الْمَوَاطِنِ لَأُمَثّلَنّ بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ. فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حُزْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَغَيْظَهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِعَمّهِ مَا فَعَلَ قَالُوا: وَاَللّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللّهُ بِهِمْ يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ لَنُمَثّلَنّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثّلْهَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ. (2: 95-96)

مَا نَزَلَ فِي النّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلّا بِاللّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (النحل 126). فَعَفَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَبَرَ وَنَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ. (2:96)

صَفِيّةُ وَحُزْنُهَا عَلَى حَمْزَةَ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ أَقْبَلَتْ فِيمَا بَلَغَنِي ، صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لِتَنْظُرَ إلَيْهِ وَكَانَ أَخَاهَا لِأَبِيهَا وَأُمّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِابْنِهَا الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ: الْقَهَا فَأَرْجِعْهَا، لَا تَرَى مَا بِأَخِيهَا; فَقَالَ لَهَا: يَا أُمّهُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَرْجِعِي ، قَالَتْ وَلِمَ ؟ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنْ قَدْ مُثّلَ بِأَخِي ، وَذَلِك فِي اللّهِ فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَأَحْتَسِبَن وَلَأَصْبِرَن إنْ شَاءَ اللّهُ. فَلَمّا جَاءَ الزّبَيْرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ خَلّ سَبِيلَهَا ، فَأَتَتْهُ فَنَظَرَتْ إلَيْهِ فَصَلّتْ عَلَيْهِ وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ ثُمّ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدُفِنَ. (2: 97)

دَفْنُ الشّهَدَاءِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ قَدْ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتْلَاهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدَفَنُوهُمْ بِهَا ، ثُمّ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيّ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ ، قَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ ، إنّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللّهِ إلّا وَاَللّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى جُرْحُهُ اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرّيحُ رِيحُ مِسْكٍ اُنْظُرُوا أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ فَاجْعَلُوهُ أَمَامَ أَصْحَابِهِ فِي الْقَبْرِ - وَكَانُوا يَدْفِنُونَ الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ. (2: 98)

عَدَدُ الشّهَدَاء

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. خَمْسَةٌ وَسِتّونَ رَجُلًا. (2: 126)

عَدَدُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ قَتَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا. (2: 128)

خُرُوجُ الرّسُولِ فِي أَثَرِ الْعَدُوّ لِيُرْهِبَهُ

قَالَ فَلَمّا كَانَ الْغَدُ ( مِنْ ) يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوّالٍ أَذّنَ مُؤَذّنُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوّ فَأَذّنَ مُؤَذّنُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَنّ مَعَنَا أَحَدٌ إلّا أَحَدٌ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ. فَكَلّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي كَانَ خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ وَقَالَ يَا بُنَيّ إنّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَك أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنّ وَلَسْت بِاَلّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَفْسِي، فَتَخَلّفْ عَلَى أَخَوَاتِك ، فَتَخَلّفْتُ عَلَيْهِنّ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَرَجَ مَعَهُ.

وَإِنّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوّ وَلِيُبَلّغَهُمْ أَنّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ لِيَظُنّوا بِهِ قُوّةً وَأَنّ الّذِي أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ. (2: 100-101)

مَقْتَلُ أَبِي عَزّةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جِهَةِ ذَلِكَ قَبْلَ رُجُوعِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَهُوَ جَدّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، أَبُو أُمّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا عَزّة الْجُمَحِيّ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسَرَهُ بِبَدْرِ ثُمّ مَنّ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقِلْنِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ بَعْدَهَا وَتَقُول: خَدَعْت مُحَمّدًا مَرّتَيْنِ اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ. (2: 104)

كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ مِحْنَةٍ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ وَتَمْحِيصٍ اخْتَبَرَ اللّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَنَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ مِمّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ فِي قَلْبِهِ وَيَوْمًا أَكْرَمَ اللّهُ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ. (2: 105)

9.4 تفسير ما وقع

ذِكْرُ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي أُحُدٍ مِنْ الْقُرْآنِ

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ. قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ فَكَانَ مِمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي يَوْمِ أُحُدٍ مِنْ الْقُرْآنِ سِتّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ:

  1. وعد نصر الله: فِيهَا صِفَةُ مَا كَانَ فِي يَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَمُعَاتَبَةُ مَنْ عَاتَبَ مِنْهُمْ يَقُولُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا (122) ، أَنْ تَتَخَاذَلَا، وَالطّائِفَتَانِ بَنُو سَلَمَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ بْنِ النّبِيت مِنْ الْأَوْسِ، وَهُمَا الْجَنَاحَانِ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: وَاللّهُ وَلِيّهُمَا (122) أَيْ الْمُدَافِعُ عَنْهُمَا مَا هَمّتَا بِهِ مِنْ فَشَلِهِمَا، وَذَلِك أَنّهُ إنّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا عَنْ ضَعْفٍ وَوَهَنٍ أَصَابَهُمَا غَيْرَ شَكّ فِي دِينِهِمَا، فَتَوَلّى دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِرَحْمَتِهِ وَعَائِدَتِهِ حَتّى سَلِمَتَا مِنْ وُهُونِهِمَا وَضَعْفِهِمَا، وَلَحِقَتَا بِنَبِيّهِمَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ... قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) ، أَيْ مَنْ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَتَوَكّلْ عَلَيّ وَلْيَسْتَعِنْ بِي ، أُعِنْهُ عَلَى أَمْرِهِ وَأُدَافِعْ عَنْهُ حَتّى أَبْلُغَ بِهِ وَأَدْفَعَ عَنْهُ وَأُقَوّيَهُ عَلَى نِيّتِهِ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)، أَيْ فَاتّقُونِي، فَإِنّهُ شُكْرُ نِعْمَتِي. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ (123) وَأَنْتُمْ أَقَلّ عَدَدًا وَأَضْعَفُ قُوّةً، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوّمِينَ (124)، أَيْ إنْ تَصْبِرُوا لِعَدُوّي ، وَتُطِيعُوا أَمْرِي ، وَيَأْتُوكُمْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا ، أُمِدّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوّمِينَ. (2: 106-107).
  2. فيه محنة: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣).
  3. لا تبالوا موت محمد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦).
  4. الفشل من المعصية، أَيْ تَخَاذَلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أَيْ اخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِي ، أَيْ تَرَكْتُمْ أَمْرَ نَبِيّكُمْ وَمَا عَهِدَ إلَيْكُمْ يَعْنِي الرّمَاةَ... الّذِينَ أَرَادُوا النّهْبَ فِي الدّنْيَا وَتَرْكَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الطّاعَةِ الّتِي عَلَيْهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ (2: 114): وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)
  5. جواب للذين نقدوا الخروج من المدينة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
  6. عدد القتلى في بدر وأحد لم يصل إلى نصف قتلى قريش، ولكن الله يميز بالهزيمة المؤمنين من المنافقين: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨).
  7. مدح الشهداء: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤). (انظر ابن إسحاق 2: 106-121)

9.5 قتل المبعوثين إلى عضل والقارة

ذِكْرُ يَوْمِ الرّجِيعِ، فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ

قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارّةِ... فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ فِينَا إسْلَامًا ، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك يُفَقّهُونَنَا فِي الدّينِ وَيُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُونَنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرًا سِتّةً مِنْ أَصْحَابِهِ. وَهُمْ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ، حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ; وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللّيْثِيّ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ; وَخُبَيْبٌ بْنُ عَدِيّ ، أَخُو بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّةِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ ; وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.

وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْقَوْمِ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ، فَخَرَجَ مَعَ الْقَوْمِ.

حَتّى إذَا كَانُوا عَلَى الرّجِيعِ ، مَاءٍ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ ، عَلَى صُدُورِ الْهَدْأَةِ غَدَرُوا بِهِمْ فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا ، فَلَمْ يَرُعْ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إلّا الرّجَالُ بِأَيْدِيهِمْ السّيُوفُ قَدْ غَشُوهُمْ فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ لِيُقَاتِلُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ إنّا وَاَللّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ ، وَلَكِنّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكّةَ وَلَكُمْ عَهْدُ اللّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ لَا نَقْتُلَكُمْ. (2: 169-170)

مَقْتَلُ مَرْثَدٍ وَابْنِ الْبُكَيْرِ وَعَاصِمٍ

فَأُمّا مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالُوا: وَاَللّهِ لَا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلَا عَقْدًا أَبَدًا... وَكَانَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ يُكَنّى: أَبَا سُلَيْمَانَ. ثُمّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتّى قُتِلَ وَقُتِلَ صَاحِبَاهُ. (2: 170-171)

مَقْتَلُ ابْنِ طَارِقٍ وَبَيْعُ خُبَيْبٍ وَابْنِ الدّثِنّةِ

وَأَمّا زَيْدُ بْنُ الدّثِنّةِ وَخُبَيْبٌ بْنُ عَدِيّ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ، فَلَانُوا وَرَقّوا وَرَغِبُوا فِي الْحَيَاةِ فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَأَسَرُوهُمْ ثُمّ خَرَجُوا إلَى مَكّةَ ، لِيَبِيعُوهُمْ بِهَا ، حَتّى إذَا كَانُوا بِالظّهْرَانِ انْتَزَعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ يَدَهُ مِنْ الْقِرَانِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ الْقَوْمُ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قَتَلُوهُ فَقَبْرُهُ رَحِمَهُ اللّهُ بِالظّهْرَانِ، وَأَمّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّةِ فَقَدِمُوا بِهِمَا مَكّةَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَابْتَاعَ خُبَيْبًا حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ التّمِيمِيّ، حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَكَانَ أَبُو إهَابٍ أَخَا الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِأُمّهِ لِقَتْلِهِ بِأَبِيهِ. (2: 171)

مَقْتَلُ ابْنِ الدّثِنّةِ وَمَثَلٌ مِنْ وَفَائِهِ لِلرّسُولِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمّا زَيْدُ بْنُ الدّثِنّةِ فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَبَعَثَ بِهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ نِسْطَاسُ إلَى التّنْعِيمِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ. وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قَدِمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللّهَ يَا زَيْدُ أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِك نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنّك فِي أَهْلِك؟ قَالَ وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي. قَالَ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا ; ثُمّ قَتَلَهُ نِسْطَاسُ يَرْحَمُهُ اللّهُ. (2: 172)

مَقْتَلُ خُبَيْبٍ وَحَدِيثُ دَعْوَتِهِ

وَأَمّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ ، فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، أَنّهُ حُدّثَ عَنْ مَاوِيّةَ مَوْلَاةِ حُجَيْرِ بْنِ أَبِي إهَابٍ ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ قَالَتْ كَانَ خُبَيْبٌ عِنْدِي ، حُبِسَ فِي بَيْتِي، فَلَقَدْ اطّلَعَتْ عَلَيْهِ يَوْمًا ، وَإِنّ فِي يَدِهِ لَقِطْفًا مِنْ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ وَمَا أَعْلَمُ فِي أَرْضِ اللّهِ عِنَبًا يُؤْكَلُ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ جَمِيعًا أَنّهَا قَالَتْ قَالَ لِي حِينَ حَضَرَهُ الْقَتْلُ ابْعَثِي إلَيّ بِحَدِيدَةٍ أَتَطَهّرُ بِهَا لِلْقَتْلِ قَالَتْ فَأَعْطَيْتُ غُلَامًا مِنْ الْحَيّ الْمُوسَى ، فَقُلْت: اُدْخُلْ بِهَا عَلَى هَذَا الرّجُلِ الْبَيْتَ قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ وَلّى الْغُلَامُ بِهَا إلَيْهِ فَقُلْت: مَاذَا صَنَعْتُ أَصَابَ وَاَللّهِ الرّجُلُ ثَأْرَهُ بِقَتْلِ هَذَا الْغُلَامِ فَيَكُونُ رَجُلًا بِرَجُلِ فَلَمّا نَاوَلَهُ الْحَدِيدَةَ أَخَذَهَا مِنْ <173> يَدِهِ ثُمّ قَالَ لَعَمْرَك ، مَا خَافَتْ أُمّك غَدْرِي حِينَ بَعَثَتْك بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ إلَيّ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ عَاصِمٌ ثُمّ خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ حَتّى إذَا جَاءُوا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ لِيَصْلُبُوهُ قَالَ لَهُمْ: إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَدَعُونِي حَتّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَافْعَلُوا ; قَالُوا: دُونَك فَارْكَعْ. فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمّهُمَا وَأَحْسَنَهُمَا، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنّوا أَنّي إنّمَا طَوّلْت جَزَعًا مِنْ الْقَتْلِ لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الصّلَاةِ. قَالَ فَكَانَ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ أَوّلَ مَنْ سَنّ هَاتَيْنِ الرّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ ثُمّ رَفَعُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ فَلَمّا أَوْثَقُوهُ قَالَ: اللّهُمّ إنّا قَدْ بَلّغْنَا رِسَالَةَ رَسُولِك، فَبَلّغْهُ الْغَدَاةَ مَا يُصْنَعُ بِنَا; ثُمّ قَالَ اللّهُمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا ، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا ، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. ثُمّ قَتَلُوهُ رَحِمَهُ اللّهُ.

فَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ حَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ حَضَرَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُلْقِينِي إلَى الْأَرْضِ فَرْقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ وَكَانُوا يَقُولُونَ إنّ الرّجُلَ إذَا دُعِيَ عَلَيْهِ فَاضْطَجَعَ لِجَنْبِهِ زَالَتْ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ: مَا أَنَا وَاَللّهِ قَتَلْت خُبَيْبًا ; لِأَنّي كُنْت أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنّ أَبَا مَيْسَرَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَجَعَلَهَا فِي يَدِي ، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِي وَبِالْحَرْبَةِ ثُمّ طَعَنَهُ بِهَا حَتّى قَتَلَهُ.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ الْجُمَحِيّ عَلَى بَعْضِ الشّامِ ، فَكَانَتْ تُصِيبُهُ غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الْقَوْمِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ وَقِيلَ إنّ الرّجُلَ مُصَابٌ فَسَأَلَهُ عُمَرُ فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ يَا سَعِيدُ مَا هَذَا الّذِي يُصِيبُك؟ فَقَالَ وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بِي مِنْ بَأْسٍ وَلَكِنّي كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ حِينَ قُتِلَ وَسَمِعْتُ دَعْوَتَهُ فَوَاَللّهِ مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ قَطّ إلّا غُشِيَ عَلَيّ فَزَادَتْهُ عِنْدَ عُمَرَ خَيْرًا. (2: 172-174)

9.6 حثيد بئر معونة

نتبع رواية الطبري الأكثر كاملة: ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، وكان من حديثهم ما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هاشم وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهم من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة─وكان سيد بني عامر بن صعصعة─على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأهدى له هدية، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها، وقال: يا أبا براء، لا أقبل هدية مشرك، فأسلِم إن أردت أن أقبل هديتك. ثم عرض عليه الإسلام، وأخبره بما له فيه، وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملجان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال مسمّين من خيار المسلمين.

فحدثني ابن جميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو في سبعين راكباً، فساروا حتى نزلوا بئر معونة─وهي في أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهو إلى حرة بني سليم أقرب─فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، قد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عُصَية ورعلاً وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف، ثم قاتلوهم حتى قُتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قُتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا إليه، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتى قُتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً. فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وخز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كان على أمه. فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقالا: من بين عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً. فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.ּ (تاريخ، 545-547: 1442/1-1444/1 = ابن إسحاق 2: 184-186)

9.7 إجلاء بني النضير

خُرُوجُ الرّسُولِ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ قَتْلَى بَنِي عَامِرٍ وَهَمّهُمْ بِالْغَدْرِ بِهِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِك الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، لِلْجِوَارِ الّذِي كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقَدَ لَهُمَا ، كَمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النّضِير ِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِر ٍ عَقْدٌ وَحِلْفٌ. فَلَمّا أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِك الْقَتِيلَيْنِ. قَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ نُعِينُك عَلَى مَا أَحْبَبْت ، مِمّا اسْتَعَنْت بِنَا عَلَيْهِ. ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ فَقَالُوا: إنّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ - وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ - فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحُنَا مِنْهُ ؟ فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشِ بْنِ كَعْبٍ ، أَحَدَهُمْ فَقَالَ أَنَا لِذَلِكَ فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيّ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمْ. (2: 189-190)

انْكِشَافُ نِيّتِهِمْ لِلرّسُولِ وَاسْتِعْدَادُهُ لِحَرْبِهِمْ

فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمّا اسْتَلْبَثَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابُهُ قَامُوا فِي طَلَبِهِ فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ رَأَيْته دَاخِلًا الْمَدِينَةَ. فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى انْتَهَوْا إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ ، بِمَا كَانَتْ الْيَهُودُ أَرَادَتْ مِنْ الْغَدْرِ بِهِ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالتّهَيّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالسّيْرِ إلَيْهِمْ. (2: 190)

حِصَارُ الرّسُولِ لَهُمْ وَتَقْطِيعُ نَخْلِهِمْ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ سَارَ بِالنّاسِ حَتّى نَزَلَ بِهِمْ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَتَحَصّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَطْعِ النّخِيلِ وَالتّحْرِيقِ فِيهَا ، فَنَادَوْهُ أَنْ يَا مُحَمّدُ قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ ، وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ فَمَا بَالُ قَطْعِ النّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟ (2: 191)

تَحْرِيضُ الرّهْطِ لَهُمْ ثُمّ مُحَاوَلَتُهُمْ الصّلْحَ

وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْهُمْ (عَدُوّ اللّهِ) عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ (و)وَدِيعَةُ وَمَالِكُ بْنُ أَبِي قَوْقَلٍ وَسُوَيْدُ وَدَاعِسٌ قَدْ بَعَثُوا إلَى بَنِي النّضِيرِ: أَنْ اُثْبُتُوا وَتَمَنّعُوا، فَإِنّا لَنْ نُسَلّمَكُمْ إنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ فَتَرَبّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَقَذَفَ اللّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ وَسَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفّ عَنْ دِمَائِهِمْ عَلَى أَنّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلّا الْحَلْقَةَ فَفَعَلَ. فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلّتْ بِهِ الْإِبِلُ فَكَانَ الرّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ. فَخَرَجُوا إلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إلَى الشّامِ. (2: 191)

تَقْسِيمُ الرّسُولِ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ

وَخَلّوْا الْأَمْوَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَاصّةً يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ فَقَسّمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ. إلّا أَنّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ ذَكَرَا فَقْرًا، فَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. (2: 192)

مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي النّضِيرٍ

وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النّضِيرِ إلّا رَجُلَانِ يَامِينُ بْنُ عُمَيْرٍ ، أَبُو كَعْبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ ; وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ ، أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا. (2: 192)

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ - وَقَدْ حَدّثَنِي بَعْضُ آلِ يَامِينَ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِيَامِينَ: أَلَمْ تَرَ مَا لَقِيتُ مِنْ ابْنِ عَمّك ، وَمَا هُمْ بِهِ مِنْ شَأْنِي؟ فَجَعَلَ يَامِينُ بْنُ عُمَيْرٍ لِرَجُلِ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ لَهُ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، فَقَتَلَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ. (2: 192)

مَا نَزَلَ فِي بَنِي النّضِير ِ مِنْ الْقُرْآنِ

وَنَزَلَ فِي بَنِي النّضِير ِ سُورَةُ الْحَشْرِ بِأَسْرِهَا، يَذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمْ اللّهُ بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ. وَمَا سَلّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ فَقَالَ تَعَالَى (الحشر): هُوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنّوا أَنّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وَذَلِكَ لِهَدْمِهِمْ بُيُوتَهُمْ عَنْ نُجُفِ أَبْوَابِهِمْ إذَا احْتَمَلُوهَا. فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ (3). وَكَانَ لَهُمْ مِنْ اللّه نِقْمَةٌ لَعَذّبَهُمْ فِي الدّنْيَا، أَيْ بِالسّيْفِ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النّارِ (3) مَعَ ذَلِكَ. مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا وَاللّينَةُ مَا خَالَفَ الْعَجْوَةَ مِنْ النّخْلِ فَبِإِذْنِ اللّهِ، أَيْ فَبِأَمْرِ اللّهِ قُطِعَتْ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا ، وَلَكِنْ كَانَ نِقْمَةً مِنْ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) (2: 192-193)

9.8 الزواج من زينب بنت خزيمة (5) أنظر الرواية الكاملة في ملفة زينب.

وخبرها الأكمل في ابن سعد (الطبقات الكبرى، 8: 115): زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، كانت تسمى بذلك في الجاهلية.

كانت زينب بنت خزيمة الهلالية تدعى أم المساكين، وكانت عند الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فطلقها. فتزوجها عبيدة بن الحارث، فقُتل عنها يوم بدر شهيداً.

خطب رسول الله زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، فجعلت أمرها إليه، فتزوجها رسول الله. وأشهد وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وكان تزويجه إياها في شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة. فمكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت في آخر شهر ربيع الآخر على رأس تسعة وثلاثين شهراً. وصلى عليها رسول الله ودفنها بالبقيع.

أخبرنا محمد بن عمر قال سألت عبد الله بن جعفر من نزل في حفرتها؟ فقال إخوة لها ثلاثة. قلت كم كان سنها يوم ماتت؟ قال ثلاثين سنة أو نحوها.

9.9 أم سلمة (6) أنظر الرواية الكاملة في ملفة أم سلمة.

وخبرها الأكمل في ابن سعد (الطبقات الكبرى، 8: 86-95): أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية واسمه سهيل زاد الركب بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن جذيمة بن علقمة جذل الطعان بن فراس بن غنم بن مالك بن كنانة. تزوجها أبو سلمة واسمه عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وهاجر بها إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعاً. فولدت له هناك زينب بنت أبي سلمة، وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة بني أبي سلمة.

قال عمر بن أبي سلمة: خرج أبي إلى أحد فرماه أبو سلمة الجشمي في عضده بسهم، فمكث شهراً يداوي جرحه. ثم بريء الجرح وبعث رسول الله أبي إلى قطن في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً، فغاب تسعاً وعشرين ليلة. ثم رجع فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنة أربع. والجرح منتقض، فمات منه لثمان خلون من جمادي الآخرة سنة أربع من الهجرة. فاعتدت أمي وحلت لعشر بقين من شوال سنة أربع. فتزوجها رسول الله في ليال بقين من شوال سنة أربع. وتوفيت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين.

قال أبو سلمة قال رسول الله إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فآجرني فيها وأبدلني بها ما هو خير منها. فلما احتضر أبو سلمة، قال اللهم اخلفني في أهلي بخير. فلما قبض، قلت إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فآجرني فيها وأردت أن أقول وأبدلني بها خيراً منها، فقلت من خير من أبي سلمة؟ فما زلت حتى قلتها. فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر، فردته. ثم خطبها عمر فردته. فبعث إليها رسول الله فقالت مرحباً برسول الله... فكلمني بيني وبينه حجاب، فخطب إلي نفسي. فقلت أي رسول الله وما تريد إلي؟ ما أقول هذا إلا رغبة لك عن نفسي. إني امرأة قد أجبر مني سني وإني أم أيتام وأنا امرأة شديدة الغيرة وأنت يا رسول الله تجمع النساء. فقال رسول الله فلا يمنعك ذلك. أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله. وأما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك سناً. وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله. فأذنت له في نفسي فتزوجني... لما بنى رسول الله بأم سلمة قال لها حين أصبح ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك و سبعت عندهن يعني نساءه، وإن شئت ثلاثاً عندك ودرت قالت ثلاثاً.

قالت عائشة: لما تزوج رسول الله أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها. قالت فتلطفت لها حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وصفت لي في الحسن والجمال. قالت فذكرت ذلك لحفصة وكانتا يداً واحدة فقالت لا والله إن هذه إلا الغيرة، ما هي كما يقولون. فتلطفت لها حفصة حتى رأتها، فقالت قد رأيتها ولا والله ما هي كما يقولون ولا قريب، وإنها لجميلة. قالت فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غيرى.

كان رسول الله في بعض أسفاره ومعه في ذلك السفر صفية بنت حيي وأم سلمة. فأقبل رسول الله إلى هوجد صفية بنت حيي وهو يظن أنه هودج أم سلمة، وكان ذلك اليوم يوم أم سلمة. فجعل رسول الله يتحدث مع صفية فغارت أم سلمة، وعلم رسول الله بعد أنها صفية، فجاء إلى أم سلمة فقالت تتحدث مع ابنة اليهودي في يومي، وأنت رسول الله. قالت ثم ندمت على تلك المقالة. فكانت تستغفر منها. قالت يا رسول الله استغفر لي، فإنما حملني على هذا الغيرة. قال محمد بن عمر أطعم رسول الله أم سلمة بخيبر ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً أو قال قمح.

ماتت أم سلمة زوج النبي في سنة تسع وخمسين، فصلى عليها أبو هريرة بالبقيع... فكان لها يوم ماتت أربع ثمانون سنة.

ملاحظة: وكان الزواج من أم سلمة بداية التفرقة بين نساء محمد. فعطفت عائشة على أبيه أبي بكر وحصة مع أبيها عمر بن الخطاب. أما ضدها فعطفت أم سلمة على فاطمة وعلي. وأصبحت هذه التفرقة بداية المعارضة بين شيعة علي وحزب معاوة.

9.10 زينب بنت جحش (7) أنظر الرواية الكاملة في ملفة زينب.

والخبر من ابن سعد (الطبقات الكبرى، 8: 101-114): زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وأمها أميمة بنت عبد ابمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي.

قدم النبي المدينة وكانت زينب بنت جحش ممن هاجر مع رسول الله إلى المدينة، وكانت امرأة جميلة، فخطبها رسول الله على زيد بن حارثة. فقالت يا رسول الله لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم قريش. قال فإني قد رضيته لك. فتزوجها زيد بن حارثة.

جاء رسول الله بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد. فربما فقده رسول الله الساعة، فيقول أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده. وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلاً، فأعرض رسول الله عنها، فقالت ليس هو هاهنا يا رسول الله. فادخل بأبي أنت وأمي. فأبى رسول الله أن يدخل،وإنما عجلت زينب أن تلبس لما قيل لها رسول الله على الباب، فوثبت عجلى فأعجبت رسول الله، فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا ربما أعلن سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله أتى منزله. فقال زيد ألا قلت له أن يجخل؟ قالت قد عرضت ذلك عليه فأبى. قال فسمعت شيئاً؟ قالت سمعته حين ولى تكلم بكلام ولا أفهمه، وسمعته يقول سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد حتى أتى رسول الله فقال يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها. فيقول رسول الله أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم. فيأتي إلى رسول الله فيخبره رسول الله أمسك عليك زوجك، فيقول يا رسول الله أفارقها، فيقول رسول الله احبس عليك زوجك. ففارقها زيد واعتزلها وحلت يعني انقضت عدتها. قال فبينا رسول الله جالس يتحدث مع عائشة إلى أن أخذت رسول الله غشية فسري عنه، وهو يتبسم وهو يقول من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء. وتلا رسول الله: وإذ يقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك (الأحزاب 37) القصة كلها. قالت عائشة فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع لها زوجها الله من السماء. وقلت هي تفخر علينا بهذا. قالت عائشة فخرجت سلمى خادم رسول الله تشتد فتحدثها بذلك فأعطتها أوضاحاً عليها.

لما انقضت عدة زينب بنت جحش قال رسول الله لزيد بن حارثة: ما أجد أحداً آمن عندي أو أوثق في نفسي منك. ائت إلى زينب فاخطبها علي. قال فانطلق زيد فأتاها وهي تخمر عجينها. فلما رأيتها عظمت في صدري، فلم أستطع أن أنظر إليها حين عرفت أن رسول الله قد ذكرها، فوليتها ظهري و نكصت على عقبي، وقلت يا زينب أبشري، إن رسول الله يذكرك. قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها و نزل القرآن. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها. قال فجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن.

سمعت أمي أم سلمة تقول وذكرت زينب بنت جحش فرحمت عليها، وذكرت بعض ما كان يكون بينها وبين عائشة، فقالت زينب إني والله ما أنا كأحد من نساء رسول الله. إنهم زوجهن بالمهور وزوجهن الأولياء، وزوجني الله رسوله، وأنزل في الكتاب يقرأ به المسلمون لا يبدل ولا يغير: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه الآية. قالت أم سلمة وكانت لرسول الله معجبة وكان يستكثر منها وكانت امرأة صالحة صوامة قوامة صنعاً تتصدق بذلك على المساكين.

قال وكان تزوجها بالمدينة، فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار. فجلس رسول الله وجلس معه رجال بعدما قام القوم. ثم خرج رسول الله يمشي ومشيت معه حتى بلغ حجرة عائشة. ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم. فرجع ورجعت معه الثانية حتى بلغ حجرة عائشة، فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد قاموا فضرب بيني وبينه بالستر. وأنزل الحجاب.

ثم نجد رواة تعيد ما جرى بين عائشة وحفصة، وهذه المرة بينها وبين زينب بتت جحش: سمعت عائشة تزعم أن النبي كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً. قالت فتواصيت أنا وحفصة أيتنا ما دجل عليها النبي، فلتقل إني أجد منك ريح مغافير. فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، لن أعود له. فنزل: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله أن تتوبا إلى الله يعني عائشة وحفصة، وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً، قوله، بل شربت عسلاً.

قال النبي لأزواجه يتبعني أطولكن يداً. قالت عائشة فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد النبي نمد أيدينا في الجدار، نتطاول. فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش. وكانت امرأة قصيرة يرحمها الله، ولم تكن أطولنا. فعرفنا حينئذ أن النبي إنما أراد بطول اليد الصدقة. قالت وكانت زينب امرأة صناع اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله.

كان عطاء زينب بنت جحش اثني عشر ألف درهم، ولم تأخذه إلا عاماً واحداً، حمل إليها اثنا عشر ألف درهم فجعلت تقول اللهم لا يدركني قابل هذا المال، فإنه فتنة. ثم قسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه. فبلغ عمر فقال هذه امرأة يراد بها خير. فوقف على بابها وأرسل السلام. وقال قد بلغني ما فرقت. فأرسل عليها بألف درهم يستنفقها. فسلكت بها طريق ذلك المال.

لما توفيت زينب بنت جحش وكانت أول نساء النبي لحوقاً به، فلما حملت إلى قبرها قام عمر إلى قبرها فحمد الله وأثنى عليها... صلى عمر على زينب بنت جحش، فكبر عليها أربع تكبيرات. قال فأراد أن يدخل القبر، فأرسل إلى أزواج النبي، فقلن إنه لا يحل لك أن تدخل القبر. وإنما يدخل القبر من كان بحل له أن ينظر إليها وهي حية.

تزوج رسول الله زينب بنت جحش لهلال ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وهي يومئذ بنت خمس وثلاثين سنة. سئلت أم عكاشة بن محصن كم بلغت زينب بنت جحش يوم توفيت؟ فقالت قدمنا المدينة للهجرة وهي بنت بضع وثلاثين سنة، وتوفيت سنة عشرين. قال عمر بن عثمان كان أبي يقول توفيت زينب بنت جحش وهو ابنة ثلاث وخمسين سنة.

ملاحظتان:

كان أقرباء زينب بتت جحش أولياء أبي سفيان. فزواجها هذا ضغط على قريش أن يستسلم لمحمد ويقبل رئاسته.

منعت العادة العربية الزواج من امرأة كانت لمولى الذي كان يقال ابن محمد. وتغيير هذه العادة بجواز منزل من السماء طلب من أصحابه أكثر تصديق له. فقد تطورت مهنته من المنذر والمذكر إلى مبلغ قضاء الله في أي مسألة. وهذا مرن أصحابه أن يقبل كل ما قال لا يرتابون بشيء منه.

9.11 ما نزل في الحجاب

كان الزواج من زينب بنت جحش سبب قواعد جديد في حماية النساء، كما يُرا في سورة الأحزاب:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣).

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩).

ومن سورة النور: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
الباب العاشر Early Islam الباب الثامن